التراث الأدبي في رواية «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» لـ «إميل حبيبي»
The Arab heritage in the novel “Al-waqae’ Al-ghariba fe-khtefa’ Saeid Abi-nnahs Al-motasha’el” by Emile Habibi |
بشرى سادات ميرقادري ـ کلية الآداب والعلوم الإنسانية؛ جامعة شيراز، إيران
Boshrasadat Mirghaderiـ Faculty of Literature and Humanities, Shiraz University, Shiraz, Iran
أعظم السادات ميرقادري ـ کلية الآداب والعلوم الإنسانية؛ جامعة خوارزمي، طهران، إيران.
A’zamossadat Mirghaderi ـ Faculty of Literature and Humanities, Khuarazmi University, Tehran, Iran.
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 80 الصفحة 97.
Abstract:
The heritage is the cultural, social and material, written and oral, official and popular, linguistic and non-linguistic heritage, that has reached us from the distant and recent past. The novel “Al-waqae’ Al-ghariba fe-khtefa’ Saeid Abi Al-Nahs Al-motasha’el”(1974AD), also known as “The Pessimist” by its writer Emile Habibi (1921-1996 AD), was founded on a structure that mixes the old with the new, and heritage with modernity, and its style is sarcastic and tragic at the same time. “The Pessimistic” contains implications from ancient and modern Arabic poetry and is also full of styles of Maqams, letters, ancient stories, history and rhetoric. This article sheds light -using the descriptive/analytical method and for the first time- on the hidden technical side of these uses and tries to clarify it. The results show us the writer’s mastery of Arabic literature and history. Some results also indicate the narrator’s ability to integrate the old narrative methods with the specifications of the new novel and provide a few analogous model of the narrative text.
Keywords : Arab heritage, the novel “Al-waqae’ Al-ghariba fe-khtefa’ Saeid Abi Al-Nahs Al-motasha’el”, Emile Habibi, the Palestinian novel.
الملخص:
التّراث هو الموروث الثقافي والاجتماعي والمادي، المكتوب والشفوي، الرسمي والشعبي، اللغوي وغير اللغوي، الذي وصل إلينا من الماضي البعيد والقريب.(الجابري، 1999، 23) فرواية «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»(1974م) التي تُعرف أیضاً بـ«المتشائل» لكاتبها «إمیل حبیبي» (1921-1996م) أسست علی بنية تمزج فیها القدیم بالجدید والتّراث بالحداثة وأسلوبها ساخر وتراجیدي في آن واحد. تحتوي «المتشائل» علی تضمینات من الشعر العربي القديم والحديث كما أنها ملیئة بأسالیب المقامات والرسائل والقصص القدیمة والبلاغة إلا أنّ تفنُّن «حبيبي» في هذا الاستخدام أدی إلی عدم انتباه النقاد والقراء إلی جزء كبیر من هذا الاستخدام الفني.
سلطت هذه المقالة الضوء –باستخدام المنهج الوصفي /التحلیلي ولأول مرة – علی الجانب الفني الخفي في هذه الاستخدامات وحاولت تبیینها.
تدلنا النتائج علی تمكّن الكاتب من الأدب والتاریخ العربیّین. كما یشیر بعض النتائج إلی قدرة الراوي علی دمج الأسالیب الحكائية القدیمة مع مواصفات الرواية الجدیدة وتقدیم نموذج قلیل النظیر من النص الروائي.
الكلمات المفتاحية: التّراث الأدبيّ، رواية «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، إمیل حبیبي، الرواية الفلسطينية.
مقدمة:
ظهر التّراث في الرواية العربيّة المعاصرة ظهوراً ملفتاً فقد وقفت وراء وجوده بواعث كثيرة منها حرب حزيران 1967م وما تمخض عنها من نتائج سلبية ظلّت تحفر عميقاً في وجدان أبناء الأمة العربيّة ولاسيما الفلسطینیین. لقد استجابت الرواية العربيّة عامّة والرواية الفلسطينية خاصّة بوصفها أحد مظاهر الثقافة في المجتمع لما فرضته حرب حزيران من العودة إلى التّراث ولا يعني هذا أن الرواية العربيّة لم تعرف توظيف التّراث قبل نكسة حزيران بل إن التوجه إلى التّراث بعد النكسة تميز أكثرمن قبل، فقدمهدت جهود الأدباء والباحثين لتوظيف التّراث في الرواية العربيّة المعاصرة والعودة إلى الجذور التّراثية. وقد وجد هؤلاء الباحثون أن كتب التّراث تنطوي على ألوانٍ كثيرةٍ من القصص كالقصص الدينية والقصص البطولية وقصص الفرسان والقصص الإخبارية والمقامات والقصص الفلسفية.[1]
رواية «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» التي تعرف باختصار باسم «المتشائل» للكاتب «إمیل حبیبي» (1921-1996م) هي أول تجربة روائية لصاحبها ولكنها أثارت منذ صدورها عام 1974م اهتمام النقاد والباحثين والقراء وعدّت علامة فارقة في السرد الحكائي العربيّ. فصار بطلها «المتـــــــــــشائل» مصطلحاً شعبياً دارجاً. كما أنها مندرجة ضمن عشرة الأوائل في قائمة أفضل مئة روایات عربية اختارها اتحاد الكتاب العرب[2].
صدرت رواية «المتشائل» من تأليف الروائي الفلسطيني «إميل حبيبي» عام 1974وهي رواية ساخرة تدور أحداثها حول «سعيد أبي النحس المتشائل» وهو من فلسطينيي الداخل في فترة الحكم العسكري الذي فرضه الكیان الصهیوني على المواطنين العرب. أوجد حبيبي كلمة جديدة ليصور حالة عرب الداخل وهي «التشاؤل» التي هي تحمل معنيي التفاؤل والتشاؤم مندمجين. الرواية مكونة من ثلاثة أجزاء: الكتاب الأول يعاد، الكتاب الثاني باقية،الكتاب الثالث يعاد الثانية. وجوهر الرواية هو وصول بطلها «سعيد» إلى حتمية صيغة الفداء والمقاومة المسلحة. هو في «الكتاب الأول» باحث عن التكيّف، ملتمس للأمن والأمان، مستعـد لتقديم كلّ التنازلات التي تطلبها منه الدولة العنصريّة الباطشة. ثم يقف في نهاية «الكتاب الثاني» ممزقاً في ازدواجيته اللعينة،وقد حمل ابنه السلاح ضد الدولة ولاذ بكهف بعيد. وفي «الكتاب الثالث» ينتهي الأمر بسعيد إلى الجلوس على قمة عمود يرفض النزول عنه لأنه عاجز عن مشاركة الناس في نضالهم. ولا يجد أمامه سوى الاستنجاد بالكائن الفضائي،الذي يستجيب له،فيحمله معه.
لم یدرس التراث في رواية المتشــائل كما ینبغي ومن هذا المنطلق تحــاول هذه المقــالة الإجابــة عــلی الســؤالين الرئيسـيّين: 1. كیف وظف حبیبي التراث الأدبي في روايته؟ 2. ماهي دلالات هذا الاستخدام في هذه الرواية؟
1.خلفية البحث
حظیت رواية المتشائل بإقبال كبیر من قبل النقاد والدارسین إذ كتبت عنها دراسات عدة من أبرزها؛ كتاب «مكونات السرد في الرواية الفلسطينية» للكاتب یوسف حطیني الذي ألمّ بعناصر الشخصية والزمن والفضاء والحدث واللغة في عدد من الروایات الفلسطينية منها «المتشائل» وكتاب «نشـيد الزيتــون قضـية الأرض في الروايـة الفلســطينية» لنضـال الصـالح الذي خصص قسماً بسیطاً من كتابه لدراسة «المتشائل» من منظار قضیة الأرض والوطن. كما یمكننا أن نذكر مقالة فاطمة المحسن بعنوان« المتشائل في ذكراه العاشرة» التي تطرقت إلی مواقف حبیبي السیاسیة في حیاته وفي أدبه وخاصة في رواية «المتشائل». ومقال لصبري حافظ بعنوان «إميل حبيبي و سرد إحياء الذاكرة الفلسطينية» الذي يتحّدث الكاتــب في قسم منه عن بنية رواية «المتشائل» ومضامينها. كما نرى مقالة «جدليـة الأنا والآخر رواية المتشائل نموذجاً» لسعید محمـد الفيـومي تهدف إلـی التعـرف علــی رؤيــة الكاتـــب إميــل حبيــبي في التعامـــل مــع الواقــع الجديـــد في الأراضي المحتلة. كما يقول فخري صالح في كتابه «في الرواية الفلسطينية» عن هذه الرواية بأن الكتابة فيها لاتسقط في نمط اللعب اللغوي بل توظف في موقعها. وكل هذه الأعمال و إن أصابت في دراسة هذه الرواية من جوانب عدة إلا أنها لم تدرس التراث الموجود في هذه الرواية بشكل من الأشكال.
أما بالنسبة إلی التراث في الرواية؛ فمن الدراسات السابقة التي اهتمت بهذا العنصر في هذه الرواية یمكن الإشارة إلی كتاب «توظيف التّراث في الرواية العربيّة المعاصرة» لـ «محمد رياض وتار» الذي ألمّ بعنصر التّراث في عدد من الروایات المعاصرة منها «المتشائل» و هذه الدراسة أفادتنا في بحثنا هذا ومهدت لنا الطریق إلا أنها تفتقر إلی بحث عمیق في زوایا استخدام التّراث في هذه الرواية.
تحتوي «المتشائل» علی استخدام أسالیب المقامات والرسائل والقصص القدیمة و نجد فیها التاریخ العربيّ العریق و زخرفة البلاغة الفاخرة. إلا أن قدرة الكاتب علی مزج التّراث بنص روایته حالت دون استیعاب هذه التضمینات من قبل النقاد في أغلب الأحيان، فالجانب التّراثي في هذه الرواية لم یدرس كما یستأهل، من قبل.
تحاول هذه المقالة من خلال المنهج الوصفي-التحلیلي، أن تغور في الجوانب الفنية التّراثیة المجهولة في هذه الرواية قدر الأمكان و تبیین معالم التّراث العربيّ الموجودة في هذه الرواية وكیفیة استخدام هذه العناصر لإغناء النص من جهة وإبراز براعة الكاتب وسِعة علمه بالتّراث من جهة أخری.
2.التراث:
جاء في لسان العرب في مادة «ورث» « الوِرثُ والوَرثُ والإرثُ والوِراثُ والإراثُ والتّراث واحد.» لن تدل مادة «ورث» في معاجم اللغة العربيّة على المال الذي يورثه الأب لأبنائه فحسب بل تتعداه إلی أمور أخری إذ جاء في المادة نفسها تحت الآیة الكریمة(وورث سلیمان داوود)؛« قال الزجاج: جاء في التفسیر أنه ورَّثه نبوته وملكه. وروي أنه لداوود علیه السلام تسعة عشر ولداً فورثه سلیمان علیه السلام من بینهم النبوة والملك.» فالنبوة والملك هما تراث داوود لسلیمان أما بقیة أولاده فورثوا المال منه دون النبوة.
انطلق بعض الباحثين في تحديد مقومات التّراث من قاعدة أن الحاضر هو غير الماضي، وأن ثمة مستجدات ومتغيرات حدثت في الحاضر، وأدت إلى سقوط جوانب من التّراث، لأنها لم تعد صالحة للبقاء والعيش في الحاضر، في ضوء هذه القاعدة ميّز الدكتور نعيم اليافي بين نمطين من التّراث:
1- ما وافق عصره وصلح له، وانقضى بانقضائه. 2- ما وافق الإنسان واستمر به ولمصلحته، وعاش حتى الوقت الراهن. (اليافي،1993، 50)
أما الدكتور فهمي جدعان فرأى أن ما يسقط من التّراث يتحدد على أصعدة ثلاثة هي:
1- المفاهيم والعقائد والأفكار. 2- المصنوعات أو المبدعات التقنية. 3- القيم والعادات. (جدعان،1985 ، 36)
لقد ظل التّراث لفترة طويلة يتحدد بفترة زمنية تنتمي إلى الماضي، ولكن هذه النظرة بدأت تتغير، «وأصبح التّراث لا يدل على فترة زمنية محددة بل يمتد، حتى يصل إلى الحاضر، ويشكل أحد مكونات الواقع/ الحاضر، كالعادات والتقاليد والأمثال الشعبية»(السابق، 25) التي تعيش في وجدان الشعب، وتكون مجمل حياته الخاصة. إذن فالتّراث هو النتاج الثقافي الاجتماعي والمادي لأفراد الشعب. وإذا كان لابد من تحدید تعریف للتراث فإننا نختار التعريف التالي: «التّراث هو الموروث الثقافي والاجتماعي والمادي، المكتوب والشفوي، الرسمي والشعبي، اللغوي وغير اللغوي، الذي وصل إلينا من الماضي البعيد والقريب.»(وتار، 2002، 17) وقد وقع اختيارنا على هذا التعريف لأنه يراعي الشمولية في تحديد التّراث.
فالتّراث الذي نشیر إلیه في هذه المقالة لیس من قبیل الأمور المادية بل هو ما وصل إلینا من الثقافة العربيّة. للتراث مساحة لا بأس بها في رواية «المتشائل».«لعل مواجهة حبيبي الأدبية تمثلت باشكال شتى، بينه الاستقواء بالتّراث، والتّراث عنده ما كان مجرد ذاكرة لغوية، كما قيل، بل هو تغريب للعربية في رحلتها نحو تخوم الكوميديا الجديدة، مسرحتها كي تبلغ جماليات منبريتها الهجائية. بواسطة العربيّة أعاد حبيبي قراءة نظام تمثل موقعه الفلسطيني كمنتمٍ الى دولة اسرائيل، وهو ما يهرب منه السياسيون الفلسطينيون من عرب 48.»(المحسن، 2006، 2) ولكي يخرج إميل حبيبي الشكل العربيّ للرواية إلی العالم، «امتزج لغته بعبق تراث متجذر فامتص رحيق ألف ليلة حینا، وشملته روح الجاحظ الساخرة المتفاكهة حينا آخر»(الصبري، 2022)، وصدر في روايته عن طريقة كتابة الرسائل في التّراث العربيّ.
2.1.التراث الأدبي:
نالت رواية «المتشائل» حصة وافرة من التّراث اللغوي العربيّ الذي نسجه الكاتب إمیل حبیبي مع خیوط الرواية الحدیثة. ومن مظاهر هذا التوظيف استثمار هذا التّراث في تشكيل نصوص روائية تتجاوز الحداثة الغربية وتسعى لإرساء معالم كتابة جديدة تستمد هويتها من سياقها الثقافي الأصيل للإفادة من الإمكانيات التعبيرية التي تتيحها تلك النصوص. «يقيم عمل إميل حبيبـي في الوقت نفسه وشائج وصلات قربى مع النثر العربيّ القديم، وكتب السير والتاريخ وألف ليلة وليلة والمقامات، بحيث تكثـر فـي نصوصه الأشعار المقتبسة والحكايات والمواد التاريخية والطرائف والأمثال في نوع من المحاكاة الساخرة التـي تكشف عن المعنـى الضمني الثانوي فـي الحكاية الأصليةالتي يفتتح بها نصه الروائي.»(صالح، 2006، 1)
نتطرق هنا إلی بعض معالم هذا التّراث الموجود في الرواية من الشعر والمثل والمقامة والقصة حتی نبین مدی براعة الكاتب في مزج هذه الفنون معاً.
2.2.الشعر:
للشعر مكانته في هذه الرواية ویذكر الكاتب بین فینة وأخری أبیاتاً من التّراث العربيّ القدیم أو القصائد الحدیثة؛«ومن مظاهر كسر الحدود بين الرواية والأجناس الأدبية الأخرى تضمين النصوص الشعرية المختلفة داخل المتن الروائي للإفادة من الإمكانيات التعبيرية التي تتيحها إذ تتصدر أجزاء الرواية مقاطع شعرية لشعراء فلسطينيين.»(بلغول، 2013، 87) كما نراه جاء بمقطع قصیدة لسميح القاسم كمقدمة لراویته. عرض حبیبي بهذه الصورة، اطلاعه علی التّراث الشعري العربيّ القدیم والجدید كما برز قدرته علی مزج القدیم والجدید منه مع نص روائي موحد دون أن یفقد النص رونقه أو یترهّل بسبب كثرة الشواهد. لفتت براعة حبیبي في دمج الأشعار مع نص الرواية انتباه النقاد فأشار یوسف حطیني في كتابه إلی هذه الظاهرة ویقول: «وثمة ظاهرة أخری في الرواية […]وهي ظاهرة تضمین الأشعار ضمن نسیج لغة الرواية یتطلب من الشاعر [والصحیح الراوي] أن یبلغ في لغته مستوی یقارب مستوی الشعر الذي یضمّنه حتی لا یبدو المقطع الشعري وردة في صحراء، وتمكن الإشارة إلی حضور الشعر في روایات إمیل حبیبي بشكل منسجم مع منطق الشخصیة ومع رؤیة الرواية برمتها.»(حطيني، 1999، 198)
فالأبیات الشعرية في هذه الرواية مواقف لانشراح روح القارئ وتلذذه بالشعر العربيّ «فإمیل حبیبي یوفر لقارئه جمیع العلامات التي تسمح له بتكوین ألفة مع الشاهد الشعري وذلك باستدعائه لتقالید الإلقاء والنظم وطقوس الشعر الكلاسیكیة متوخیاً بذلك الحفاظ علی السیاق القدیم في نفس الوقت [كذا] الذي یظهر فیه السیاق الجدید من تلقاء نفسه.»(علوش، 51)
فكما یسقي حبیبي ذوق القارئ بالحكایات التاریخیة یأخذ المنحی نفسه في تذكـره لبعض القصائد العربیة الخالدة كذكره لقصیدة امرئ القيس بن حجر الشاعر الذي مضى إلى قيصر الروم راجیاً استعادة ملك أبيه بمطلع:
«سَما لك شوقٌ بعدَما كانَ أقصَرا | وَحَلَّت سُلیمی بطنَ ظبيٍ[3] فَعَرعَرا» (حبيبي، 1974، 48/ امرؤالقيس، 2004، 59) |
ففي الرواية یتذكر سعید كیف غضب أستاذ العربيّة في المدرسة منه بسبب ضحكته في الصف وحكم علیه بأن ینسخ هذه القصیدة حتی البیت:
«فَقُلتُ لَهُ لا تَبك عَینُك إنّما | نُحاولُ مُلكاً أو نَموتَ فَنَعذَرا (امرؤالقيس، 64) |
عشرین مرة.»(حبيبي، 43)
یضمن «حبیبي» هذه الذكری وهذه القصیدة في روایته حین كان یتكلم «سعید» عن سفره من بیروت إلی عكا لأول مرة بعد هجرته القسرية إلی ماوراء الحدود الفلسطينية وهو یفتش عن عمل ینجیه من الموت حتی یتمكن من البقاء في فلسطین. فمجيء المصراع الأخیر«نحاول ملكا أو نموت فنعذرا» لیس عن طریق الصدفة بل هو لسان حال سعید وهو یتمسك بكل من یعرف حتی یصل إلی منصب ووظیفة.
ولا يفتأ السارد يستعيد في روايته، قصصاً قديمة رسخت في ذاكرته فیروي ما ثقف من حكايات واستوعب من قصص عن الشيخ الصوفي محيي الدين بن عربي الذي يشبه الكون ببحر ليس له شواطئ. ففي حدیثه عن ذكریات الطفولة یقول: «وكان أستاذنا المغضوب علیه یؤكد لنا أن العرب هم أول من استعمل الصفر للغاية نفسها التي نستعمله لها الآن، ثم قسم الواحد علی صفر فأثبت لنا أن هذا الفضاء لانهاية له، والكون فیه:
يَسبَحُ في بَحرٍ بِلا ساحِلٍ | في حَندَسِ الغَيبِ وَظَلمائِهِ[4] |
فلابد أن تكون فیه عوالم مثل عالمنا وأرقی منا فلابد أن یأتوا إلینا قبل أن نذهب إلیهم»(حبيبي، 1974، 43)
وظف حبیبي هذه الحكاية وهذا البیت لتأكیده علی أمله بمجيء منقذ من العالم اللانهائي ومهّد الكلام حتی یروي قصة التقائه بـ«الرجل الفضائي».
في موضع آخر من الرواية وفي رسالة تحت عنوان:«حكایة الثریّا التي رجعت تسفّ الثری» یحكي حبیبي قصة العجوز الفلسطينية اللاجئة «ثریا عبدالقادر مقبول» التي ترجع بعد 23 سنة من التشرد إلی بلدها«اللد» حتی تخرج مصوغاتها التي دفنتها في جدار بیتها ولكنها«لما أرادت أن تدخل بیتها القدیم في اللد لتنتشل كنزها، أغلقت وریثتها الشرعیة من عهد نوح الباب في وجهها. فلم تفاجأ حیث إن ظلم ذوي القربی أشد مضاضة»(السابق، 120)
فتضمّن مصراعاً من بیت من معلقة طرفة بن العبد وهو:
«وَظلمُ ذَوي القُربی أشَدّ مَضاضَةً | عَلَی المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ» (طرفة بن العبد، 2002، 27) |
وقال«وریثتها الشرعیة من عهد نوح» حتی یبین استهزائه لمن یدّعي بأن القضیة الفلسطينية مجرد خلاف عائلي بین أبناء الأعمام وهم الیهود والمسلمون ولیست مشكلة عالمية والیهود هم كانوا یسكنون أرض فلسطین ورجعوا إلی وطنهم بعد سنین. كما نری في نهاية حكاية ثریا، رجعت خائبة وبیدها شهادة الذهب بدل الذهب نفسه «راجعة لتسف الثری في مخیم الوحدات ولتدعو بطول البقاء لذوي القربی ولأولاد عمهم»(حبيبي، 121) فإذا كان طرفة یشتكي من ظلم ذوي القربی في حقه فثریا هي أجدر بالإشتكاء لأنها ظُلمت بید من یدعون بأنهم ذووالقربی ولكنهم أشد عداوة من كل عدو لها.
ومن النماذج الشعریة الأخری في الرواية، حین یروي حبیبي ما حدث في الناصرة بید رجال الأمن فیقول:«فطوقوا الحارة الشرقیة التي التجأت إلیها العائلة. وحشروا الرجال في الأرض الخلاء عند الجابیة وراء كنیسة الأقباط طول النهار في الحر الأوار وبدون ماء مع أن الجابية كانت تفیض تحت أقدامهم ماء مقدسة من عین العذراء المقدسة.»(السابق، 73) یذكر هذا البیت الشهیر :
«كالعَیسِ في البَیداءِ یَقتُلُها الظمأ | وَالماءُ فوقَ ظُهورِها مَحمولُ»[5] |
وفي موضع آخر حین حلت روح سعید في جسد هرة في رسالة بعنوان «كیف تحول سعید إلی هرة تموء» فهو عجز عن الكلام ولایُسمع منه سوی مواء، یتذكر بیت المتنبي[6]حین كان بشعب بوّان بإیران وماكان بإمكانه الحدیث إلی الناس بسبب اختلاف اللغة ویقول:«تصور روحك بعد موتك حلت في هرة. فبعثت هذه الهرة لتسیب في فناء بیتك. فخرج ابنك حبیبك یتلهی بما یتلهی به الصبیان من اللعب. فنادیته فمؤت فزجرك. فنادیته طویلاً فمؤت طویلاً فرماك بحجر. فذهبت في حال سبیلك وحالك كحال الفتی العربيّ في شعب بوان غریب الوجه والید واللسان.»(حبيبي، 1974، 100-101)
فیتماهی الحد بین الجد والهزل في هذا الموقف إذ لایُعقل المقارنة بین خیال سعید وهو یتقمص بهرة وبین المتنبي الشاعر و هو یحس بالغربة بین الفرس. لایكتفي الكاتب بهذا الحد بل یتعداه إلی أنه حین یتكلم عن جذور عائلة المتشائل یقول:«عائلة المتشائل عائلة عریقة نجیبة في بلادنا. یرجع نسبها إلی جارية قبرصیة من حلب لم یجد تیمور لنك لرأسها مكاناً في هرم الجماجم المحزوزة […] وفرت مع أعرابي من عرب التویسات اسمه أبجر الذي قال الشاعر فیه:
یا أبجَر بن أبجَر یا أنتَ | أنتَ الذي طلّقتَ عامَ جُعتَ[7]» (حبيبي، 18) |
یستعير«حبیبي» هذا البیت من الشواهد الشعرية في الكتب القدیمة حتی یختلق نَسَباً وهمیاً لسعید.
وفي الموضع الأخیر الذي نشیر إلیه من استخدام الأشعار القدیمة ألمح حبیبي إلی بیت من معلقة إمرئ القیس وهو:
«وَلیلٍ كموجِ البَحرِ أرخی سدولَهُ | عليّ بأنواعِ الهُمومِ لِیَبتَلي» (امرؤالقيس، 117) |
حین یصف لجوءه إلی محامٍ ویقول:« فلما أرخی اللیل سدوله تسترت بها وطرقت بابه.»(حبيبي، 66) ولكن اللیل في الرواية لایرخي سدوله بأنواع الهموم كما جاء في المعلقة بل یساعد البطل حتی یختفي في ظلامه ویطرق باب المحامي.
أما بالنسبة إلی القصائد الحدیثة فضَمَّـن الكاتب قصائد مختلفة خلال النص الروائي حتی یكسر الحدود بين الرواية والشعر وللإفادة من الإمكانيات التعبيرية التي تتيحها القصائد. «وهذاضرب من السرد يمزج بلا ريب، الجّد بالهزل، والفكاهة بالسرد، الذي يصّور الواقع بجل ما فيه من ألم، وَمَرارة.»(خليل، 2011، 3) یتصدر الرواية مقطع شعري للشاعر الفلسطيني سميح القاسم بعنوان «مسك الختام» یقول فیه:
«أنتم أيها الرجال/وأنتن أيتها النساء/أنتم، أيها الشيوخ والحاخاميون والكرادلة/وأنتن، أيتها الممرضات وعاملات النسيج/لقد انتظرتم طويلا/ولم يقرع سعاة البريد أبوابكم/حاملين إليكم الرسائل التي تشتهون/عبر الأسيجة اليابسة…/أنتم أيها الرجال/وأنتن، أيتها النساء/ لا تنتظروا، بعد، لا تنتظروا/ اخلعوا ثياب نومكم/ واكتبوا لأنفسكم/ رسائلكم التي تشتهون/ سميح القاسم:قرآن الموت والياسمين»(حبيبي، 9)
انعكست هذه القصیدة التي أختارها حبيبي كمقدمة لروایته حالة الیأس الذي حلت في نفوس الفلسطینیین إثر نكسة حزیران. وفي تسمیتها و اختیارها لمقدمة الرواية دلالة علی أن الرواية تبدأ من النهاية و تنتهي في النقطة الأولی. كما نلمس فیها إشارة إلی الأسلوب الذي اختاره حبیبي في كتابة روایته وهو أسلوب الرسائل فهو یكتب ما یشتهي في رسائل لمتلق مجهول ینادیه بـ«المحترم».
يذكر الكاتب أسماء القرى الفلسطينية والمدن التي أخرج منها الشعب الفلسطيني في الرسائل التي يبعثها إلی السيد المحترم بیدَ أنّ أكثر هذه القرى دُمّرت وامّحت بید الكیان الغاصب فذكرُ هذه الأسماء يستدعي ما وقع في هذه القرى ويثبتها في سجل الوقائع. كما یتأسف حبیبي علی جهل الفلسطینیین تجاه أرضهم وأسماء قراهم ومدنهم ویقول:«نحن أولاد حیفا كنا نعرف عن قری سكوتلنده أكثر مما كنا نعرف عن قری الجلیل.»(السابق، 33) و یذكر في هذا الصدد أبیاتاً من قصیدة شاعر جلیلي[8]لم یذكر اسمه:
«سأحفر رقم كل قسیمة/من أرضنا سلبت/وموقع قریتي وحدودها/وبیوت أهلیها التي نسفت/وأشجاري التي اقتلعت/وكل زهیرة برية سحقت/لكي أذكر/سأبقی دائماً أحفر/جمیع فصول مأساتي/وكل مراحل النكبة/من الحبة/إلی القبة/علی زیتونة/في ساحة الدار»(السابق، 34/ زيّاد، 1970، 287-291)
ثم یتسائل خائباً یائساً:«فإلی متی یحفر وتظل سنو النسیان تعبر وتمحو؟ ومتی سیقرأ المكتوب علی الزیتونة؟ وهل بقیت زیتونة في ساحة الدار؟»(حبيبي، 34) ولكنه في موقف آخر حین یشهر الجندي الإسرائیلي مسدسه في وجه إمرأة وولدها من قرية «البروة» ویجبرهما علی الإبتعاد عن قریتهم والسیر في الإتجاه المخالف لقریتهما نحو الشرق یذكر حبیبي بأن«البروة هذه هي قرية الشاعر[9] الذي قال بعد 15 سنة:
أهنئ الجلاد منتصراً علی عین كحیلة | مرحي لفاتح قرية مرحي لسفاح الطفولة»[10] (حبيبي، 26) |
ثم یخطر بباله بأن هذا الشاعر یمكن أن یكون ذلك الولد وهو أنشد هذه القصیدة متأثراً بذلك المشهد بعد 15 سنة فیتسائل حبیبي: « فهل كان هو الولد؟ وهل ظل یمشي شرقاً بعد أن فك یده من قبضة أمه وتركها في الظل؟»(السابق) فلایزال هناك أمل بأن تبقی روح المقاومة والیقظة في نفوس الأجیال القادمة.
2.3.السرد:
استخدام التّراث السردي في رواية «المتشائل» هو أبرز ظهور للتراث في هذا النص، ونعني هنا بالتّراث السردي، الأسالیب السردية الواردة في النصوص القدیمة. فمن الفنون النثریة القدیمة نجد للمقامة والقصة والرسالة نصیباً ملحوظاً في هذه الرواية سندرس كلاً منها علی حده.
2.4.المقامات:
من بین الفنون النثرية، المقامة أقربها إلى الرواية لأنها تصورحياة البسطاء في قالب قصصي وأسلوب ساخر. «ولم يتم الانتباه إلى أهمية المقامة إلا بعد الاطلاع على إمكاناتها السردية الكثيرة، والتفات الروائيين إلى التّراث السردي القصصي، والإفادة منه في التأسيس للرواية العربيّة المعاصرة، فظهرت بعض الروايات التي أفادت من فن المقامة، كرواية الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل للروائي الفلسطيني أميل حبيبي.»(وتار، 2002، 139)
تنهض البنية السردية لفن المقامة على وجود راو وبطل؛ والبطل عادةً يروي ما حدث له لراو يقوم بدوره بنقل ما رواه له البطل للقراء أما الراوي في رواية «المتشائل» لیس له حضور إلا في مستهل الرواية حیث یخبرنا عن رسالة بعثها سعیدالمتشائل إلیه و یقول: «كتب إليّ سعید أبو النحس المتشائل قال… »(حبيبي، 13) ثم یترك المنصة لسعید حتی یحكي قصته من خلال رسائله إلی من یسمیه «المحترم». فإن نقارن مستهل الرواية بجملة الاستهلال السردي في المقامة البغدادية التي استهلها بديع الزمان الهمذاني بقوله: «حدثنا عيسى بن هشام قال…»(الهمذاني، 1988، 55) فسنجد أن الجملتين السرديتين متشابهتان.
كما نری شبهاً كبیراً بین الرواية و المقامات من حیث الأسلوب فقد عرفت المقامة بأسلوبها المنمق والمزخرف وكثرة السجع والبديع فیها كما تزین رواية «المتشائل» بالزخارف اللغوية والألاعیب اللفظیة التي سنشیر إلیها فیما بعد. ويكثر في المقامات الاستشهاد بالشعر، وهذا ما فعله حبیبي في روايته، إذ نجد فیها التضمین بالشعر القديم والحديث.
2.5.القصص:
عمد حبیبي إلى تضمين بعض حكايات «ألف ليلة وليلة» في الرواية كحكاية «مدينة النحاس» التي تتماهى بشكل كبير مع حكاية القرية التي زارها سعيد بأمر «يعقوب» فوجدها خالية من أهلها الذين هجروها تفاديا للقاء الشيوعيين، إضافة إلى حكاية «السمكة الذهبية» و«الثريا التي رجعت تسف الثرى». كما تشير إلى تواريخ بعض الأحداث التي ورد ذكرها في الرواية. ولعل هذا يرجع إلى ثقافة إميل حبيبي التّراثية الواسعة وإلمامه بتاريخ المنطقة. «ومع أن الرواية ليست رواية تاريخية، إلا أن للتاريخ العربيّ الإسلاميّ فيها نصيباً مثلما لقصص ألف ليلة وليلة حضورها في نسيجها الحكائي. ففي أثناء حديث الراوي عن أسرار العائلة التي ينتسب إليها سعيد أبو النحس، وشعوره ذات مساء بالسعادة لأن الأدون سفسارشك وعده بالتوسط لدى الأمن كي يسمحوا له بالبقاء في الدولة، وعدم القذف به في الجنوب اللبناني كغيره، يتذكـّر فيما يشبه الموازنة، مصباح علاء الدين السحري.»(خليل، 2011، 3) ویقول«هل هو خاتم شبيك؟ أم هو قندیل علاء الدین؟»(حبيبي، 39)
يعتبر العثور على الكنز «من الموضوعات الرئيسة في ألف ليلة وليلة»(مومسن، 1980، 185) لقد جاب السندباد الأمصار والبلدان، وتعرض للمخاطر والصعاب في سبيل الحصول على الكنز، واكتشاف الحقيقة، والوصول إلى المعرفة بینما لم يوظف أميل حبيبي في روايته «المتشائل» حكايات العثور على الكنز توظيفاً مباشراً بل وظفها وبنـى عليها وحدات سردية روائية، أطلق عليها اسم حكاية، مثل: «حكاية الجد الأكبر للمتشائل» و«حكاية السمكة الذهبية» و«حكاية الثريا التي رجعت تسف الثرى» التي مر ذكرها وهي رمز الجيل القديم، تعود إلى بيتها وهي تأمل أن تحصل على كنزها التي تركتها في الجدار، فتفاجأ بأن بيتها تقطنه امرأة يهودية، وبأن الدولة قد وضعت يدها على الكنز، فتعود خائبة. لقد وظف أميل حبيبي منطوق الحكاية، لا الحكاية نفسها، وتعامل مع الوحدة السردية المتمحورة حول البحث عن الكنز، بوصفها رمزاً، لا حقيقة، فالبحث عن الكنز، من هذا المنظار، ليس إلا البحث عن الحقيقة.
2.6.الرسائل:
فن كتابة الرسائل أحد الفنون النثرية التقليدية في التّراث الأدبي العربيّ ولفن الترسل أنواع كثيرة كالرسائل السیاسیة والإجتماعية والدینیة والإخوانية والمدحية والإعتذارية «ويتميز فن كتابة الرسائل عن غيره من الفنون النثرية الأخرى بخصائص فنية، كالبدء والختام والتضمين والاقتباس، والزخرفة اللغوية، والجمل الاعتراضية والدعائية.»(وتار، 141)
وكما أشرنا كتب أميل حبيبي روايته «المتشائل» على شكل رسالة، بعث بها بطل الرواية إلى «المحترم« وهو من ثم يقوم بإرسال الرسالة إلى قراء الرواية. «إن تحويل المرسل إليه إلى مرسل يقوم بدوره بإرسال الرسالة من جديد، يتيح للروائي تعميم الخطاب/ الرسالة، وتوجيهه إلى القارئ الموجود خارج السرد، بدلاً من حصره في متلقٍّ واحد، كما هي الحال في الرسالة، كما يحقق انتقال الرسالة إلى الحكاية، عبر جعل الفعل سابقاً لروايته»(ابراهيم، 1992، 115) وهذا ما يتناسب وفن الرواية. وهكذا قام أميل حبيبي بتحطيم البنية السردية للرسالة.
ستُطرح هنا بعض عناصر الرسالة الموجودة في الرواية. «تبدأ الرسالة غالباً بالبسملة، أو الصلاة على النبي، أو بالدعاء للمرسل إليه، وقد تبدأ بالدخول في الموضوع مباشرة.»(القيسي، 1989، 59) أما رواية «المتشائل» فتختار الطريقة الثانية، أي الدخول في الموضوع مباشرة: «كتب إلىّ سعيد أبو النحس المتشائل، قال: أبلغ عني أعجب ما وقع لإنسان منذ عصا موسى وقيامة عيسى وانتخاب زوج الليدي بيرد رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.»(حبيبي، 9)
تضیف الجمل الدعائية والاعتراضیة توضیحاً إضافیاً إلی النص وعادة «يكثر كتاب الرسائل من استخدام الجمل الدعائية والاعتراضية في رسالتهم، كتعظيم الله تعالى، والدعاء للمرسل إليه بالعز والسعادة وطول البقاء، أو الدعاء على العدو بالهزيمة.»(القيسي، 1989، 320) تكررت في رواية «المتشائل» الجمل الدعائية مثل «رحمه الله» أما الجمل الاعتراضية فقد استخدمها صاحب الرسالة لتوضيح ما هو غامض بالنسبة إلى المتلقي مثل: «ويقال –وهذا سر عائلي- إن ذلك […]»(حبيبي، 18) و «خرج عمي لجدي من بيته في القرية الفلانية –نحن مثل الماسون، لا يمكن أن نفشي أسرارنا العائلية- وكان ينظر إلى أسفل كعادتنا.»(السابق، 40) ومن الواضح أن الجملتين المعترضتين السابقتين تستخدمان لإیضاح شخصية المتشائل المتذبذب بین الجد والهزل.
من العناصر الأخری في الرسائل هو التخلص من المقدمة إلى الغرض و «للرسالة طريقتان للتخلص من المقدمات إلى الغرض، أولاهما الابتداء بذكر ألفاظ مثل: كتبت، كتابي، كتابنا، خطابنا، خطابي، أما بعد، وثانيتهما رد الجواب باستخدام ألفاظ مثل: وصل إلي كتابك، وافاني كتابك، ورد.»(القيسي، 317) أما رواية «المتشائل» فتتخذ الطريقة الأولى، مستخدمة عبارة «أما بعد»(حبيبي، 13)
حرص كتّاب الرسائل «على الاقتباس من القرآن الكريم والحديث الشريف كما حرصوا على تضمين رسائلهم الأخبار والأمثال والحكم.»(القيسي، 327) مثلما عمدوا إلى تضمين رسائلهم أبياتاً أو قصائد من الشعر. وقد تشربت رواية «المتشائل» هذه الخصائص الرسائلية، فكثرت فيها الاقتباسات والتضمینات.
تتفاوت الرسائل من حيث الإيجاز والإطناب «فهي تقصر وتطول حسب موضع الرسالة والظرف الذي كتبت فيه، وعاطفة المرسل.»(السابق، 333) فقد مال المتشائل في عرض رسالته إلى الإطناب، وعاد إلى أيام طفولته، وأصول عائلته، وأكثر من ذكر الأحداث التاريخية، وما جرى له في ظل الكیان الغاصب، وذلك لأنه يخاطب قوماً غفلوا عنه، فأراد أن ينبههم إلى وجوده من جهة، وإلى خطورة التعامل مع العدو،من جهة أخرى.
2.7.الأمثال:
ورد في لسان العرب عن مادة «مثل» ما يلي: «مثل: كلمة تسوية، يقال هذا مثله ومثله كما يقال شبهه وشبهه»
نجد الميداني قد استهل كتابه «مجمع الأمثال» بعرض آراء بعض أهل اللغة والأدب والكلام منهم إبراهيم النظام وابن المقفع قائلا: «وقال إبراهيم النظام: يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة. وقال ابن المقفع: إذا جعل الكلام مثلا كان أوضح للمنطق وآنق للسمع وأوسع لشعوب الحديث.»(الميداني، 13)
فالمثل هو مصداق القول الشهیر: خیر الكلام ما قل ودل، فتضیف الأمثال العربيّة الواردة في هذه الرواية علی غناء النص الأدبي من جهة ومن جهة أخری تتیح للكاتب أمكانية الفرار من القول المباشر. كما أنها جاءت بعض الأحیان في غیر مكانها المعهود فتزوّد النص بنكهة الفكاهة. منها قوله في موقف مأساوي حین یهجم جنود الجیش الصهیوني في منتصف اللیل علی جامع الجزار في عكا حتی یطردوا الفلسطینیین الملتجئین إلی المسجد إلی ما وراء الحدود فیسأله أحد الفلسطینیین: فلماذا لا ینتظرون حتی الصباح؟ فیجیب المتشائل: خیر البر عاجله![11] هذا و غیره من الأمثال الفصیحة والدارجة وردت في الرواية في مواقف ساخرة أو جادة، منها: «الصباح رباح»(السابق، 42) و «اختلط الحابل بالنابل»(السابق، 81/ الميداني، 273) و«لایملكون شروی نقیر»(السابق، 114) و «في الصيف عبرت الجسر المفتوح، فضيعت اللبن»(السابق، 120/ الميداني، ج2، 68) و « زیادة الخیر خیر»(السابق، 157) و «من شب علی شيء شاب علیه»(السابق، 178) و« رب أخ لك لم تلده أمك»(السابق، 183/ الميداني، ج1، 448)
2.8.البلاغة:
عرض الكاتب في الرواية قدراته البلاغية فجاء بجمل فنیة قلما نجد لها نظیراً في النصوص الحدیثة فهي أشبه بالمقامات منها إلی الروایات؛ أما هذه اللغة التّراثية «لم تؤثر في سير الأحداث، وتدفق السرد، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى تخلي أميل حبيبي عن التزام السجع في الرواية كلها، والابتعاد عن التكلف والإكثار من المحسنات اللفظية. وما جاء من المحسنات اللفظية والسجع إنما وظف في الرواية لخلق لغة روائية تمتح من التّراث، وتتجذر فيه، وتحافظ في الوقت نفسه على خصائص لغة السرد الروائي، من حيث السهولة، والابتعاد عن التكلف والتقعر، والألفاظ الحوشية.»(وتار، 144) هذا الجانب من الرواية قدخفي عن نظر النقاد فلم یشر إلی المحسنات اللفظية في هذه الرواية بصورة دقیقة من قبل.
منها الجناس التام بین «راحة» و«راحة» حین یصف مصافحته بصدیقه الفضائي: «مد یده إليّ فصافحتها فشعرت بالراحة فلم أسحب راحتي وقلت في نفسي: إن في راحته لأسراراً.»(حبيبي، 51) فالراحة الأولی الإرتیاح والراحة الثانية والثالثة الكف.
والجناس التام بین «ذهب» و«ذهب» في:«ناولها رجل القیم علی أراضي إسرائیل شهادة بالذهب وأخذ الذهب وذهب.»(السابق، 121) فالذهب الأول والثاني هوالمعدن المعروف وأما الذهب الثالث فعل بمعنی راح.
كما یمكن أن نعتبر هذه الجملة ضمن الجناس التام حین یقول:«ولم أثب إلی رشدي إلا بعد أن وثبوا عليّ فطرحوني أرضاً فاقد الرشد.»(السابق، 135) فـ«فأثب إلی رشدي» بمعنی أنتبه ولكن العبارة یتغیر معناها حین تتجزأ إلی«وثبوا» بمعنی قفزوا و«الرشد» بمعنی الإفاقة.
وفي موضع آخر عقد جناساً غیر تام بین سحب و حبس حین یقول:« فسحبت كفي من كفه فزعا و حبست لساني.»(السابق، 50) وبين رحب وحرب و فات ومات حین یقول:« وورثنا هذا الرحب بهذه الحرب والذي فات مات.»(السابق، 165)
كما أورد جناس الاشتقاق في كلامه حیث قال: «أما الفرادسة فقد أنقذهم عصرالكـرمة في دنان یعقوب من أعاصیر الحروب.»(السابق، 104) فـ«عصر الكرمة»هنا كناية عن صنع الخمر أما «أعاصیر» جمع إعصار وكناية عن دمار الحرب و جناس الاشتقاق موجود بینهما مثلما السجع واضح بین «یعقوب» و«الحروب».
هناك أمثلة أخری لجناس الاشتقاق في الراوية مثل الجناس بین «الغاربة»و«الغربة» في قوله:«أنظر إلی الشمس الغاربة فأشعر بالغربة»(السابق، 137) وبین «سقط»و«یسقط»و«مسقط» في كلامه عن «باقية»: «حیث سقط رأسها قبل أن یسقط مسقطها بثلاثة عشر عاماً.»(السابق، 103) فهي ولدت 13 عاماً قبل احتلال قریتها الطنطورة.
واستخدم حبیبي السجع في بعض الأحيان كقول «الرجل الفضائي» : «كان أسلافنا، من إخوان الصفا، وخلان الوفاء، شبهوا الخلق من أمثالك بالبهائم العجمية. فلجموا كما تلجم البهائم بلجم الحديد الثقال، والأرسان لتقاد حيثما قيدت، وتمتنع عن الكلام بما أرادت. حتى يأذن ربها بانتباه نائمها، وبقيام قائمها.»(السابق، 101)
ومن المحسنات اللفظية الأخری تكرار حرفَي العین والقاف في هذه الجملة: «أنا واقعٌ لا محالة في القاع فأدق عنقي.»(السابق، 153)
الخاتمة:
-استلهم«حبیبي» من التّراث وطرق السرد الحديث مميزاتهما، لتوظيفهما باندماج في غاياته الإبداعية فهو من خلال توسيع دائرة الحكاية وإيراد تعليقاته عليها وإغراقها بفيض من الحكايات الموازية والاقتباسات الشعرية والنثرية یوجه القارئ إلى أصل الحكاية وهو معنى التراجيديا الفلسطينية وصراع البقاء علی الأراضي المحتلة.
-ضمّن«حبیبي» روایته أبیاتاً من التراث العربي القدیم بشكل منسجم من حیث مستوی اللغة والمفهوم إذ لاتقل نثره فخامة من الشعر المضمن كما تجاري الرواية مع القصیدة في المواقف والمفاهیم.
-ضمّن الكاتب نصه قصائد و أبیاتاً لشعراء المقاومة الفلسطينية المعاصرین حتی یكسر الحدود بین الرواية والشعر و یستفید من الإمكانیات التعبیرية التي تتیحها القصائد.
-استفاد«حبیبي»في روایته من بنیة «المقامات» و «القصص القدیمة» فنثره أشبه بهما منه إلی الروایات الحدیثة؛ حیث نجد في الرواية حضور الراوي والبطل كما یبهرنا نصها المنمّق والمزخرف والمسجّع المشبّه بـ «المقامات».
-قام«حبیبي» بدمج أسلوب الرسالة في سرد الرواية، فالرواية عبارة عن رسالة طویلة إلی من سماه بـ «المحترم» بكل ما تمتلك الرسالة من البدء والتخلص والإعتراض والاقتباس إلا أنها تعتبر نمطاً جدیداً و بدیعاً في السرد والرواية.
-تشتمل الرواية علی الأمثال العربية الشهیرة والمحسنات البلاغية التي قلما تورد في الروایات الحدیثة فدمج هذه العناصر مع سیر أحداث الرواية من دون خلل في المعنی أو تكلف، هو من ممیزات هذه الرواية ومن أسباب تأثیرها الكبیر علی القارئ. قد أشیر إلی المحسنات الرواية البلاغية في هذه المقالة لأول مرة بالتفصیل.
-أبدی«حبیبي» مدی المامه بالتاریخ العربي حین أشار في روایته إلی عناصر من التراث العربي القدیم كـ «الأثافي» و«جحا» و«داحس والغبراء» و«سوق عكاظ» فمزَج هذه العناصر القدیمة في سرد رواية حدیثة بشكل لم ینتبه إلیها الكثیرون من قبل فجاء ذكرها وشرحها في هذا المقال.
-اهتم «حبیبي» في روایته«المتشائل» إلی كلي الجزئین من هذا الإسم المنحوت وهما التفائل والتشائم. فظهر التفائل في أسالیب السرد واستذكار التّراث واستخدام الطرافة والسخرية؛ أما التشائم فیستولي علی الجو حین یظهر مغزی الرواية وهو الحیاة الكارثية التي یعیشها الفلسطینیون تحت ظل الاحتلال الغاصب.
-أبدع «حبیبي» في دمج الأسالیب الحكائية القدیمة مع مواصفات الرواية الجدیدة فقدم نموذجاً قلیل النظیر من النص الروائي كما أنه برع في مزج السخرية بالتراجیدیا والجد بالهزل.
قائمة المصادر والمراجع
- المصدر:
- المراجع :
- دواوين الشعر:
- ابن العربي، محي الدین (1996). دیوان ابن العربي. شرح: دحمد حسن بسج، دارالكتب العلمية.
- الذبیاني،النابغة (1991). دیوان النابغة الذبیاني. شرح:حنا نصر الحتي. دارالكتاب العربي.
- القاسم،سمیح (1971). قرآن الموت والياسمين. مكتبة المحتسب.
- المتنبي، أحمد أبوالطیب (د ت). دیوان أبي الطیب المتنبي. شرح: أبوالبقاء العكبري. دارالمعرفة.
- الکتب:
- ابن منظور(1988). لسان العرب. دار احیاء التراث العربي.
- الجیوسي،سلمی الخضراء (1997). موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر. المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
- الجابري، محمد عابر (1999). التراث والحداثة. مركز دراسات الوحدة العربيَّة.
- سليمان،موسى (1960). الأدب القصصي عند العرب (ط3). دار الكاتب اللبناني.
- مجموعة من الشعراء (1999). ديوان الشهيد، أشعار عن مجزرة كفر قاسم. إصدار مجلس كفر قاسم المحلي.
الیافي، نعیم (1993). أوهاج الحداثة،دراسة في القصیدة المعاصرة. اتحاد الكتاب العرب.
المواقع الإلکترونية:
http://www.qabaqaosayn.com/taxonomy/term/5/contact-us?page=110
الصبري، أروی (2022). نبذة عن رواية الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل. موقع رواية بلاس.
https://www.riwayaplus.com/books
[1] راجع الأدب القصصي عند العرب، ط3 موسى سليمان دار الكاتب اللبناني، بيروت 1960 لتعرف أكثر على هذه الألوان القصصية.
[2] نشر اتحاد الكتاب العرب بدمشق “قائمة أفضل مئة رواية عربية” في جريدة أخبار الادب العدد 426 الأحد 0 1 ديسمبر 2013 ورواية “المتشائل” في المرتبة السادسة فیها.
[3] وفي الدیوان «بطن قَوٍ»
[4] والبیت في القصيدة رقم 11136 في الدیوان ص15.
[5] البیت منسوب إلی عبدالغني النابلسي(1642-1730م) ولکن لم نجده في دیوانه.
[6] والبيت: «ولکنّ الفتی العربيّ فيها غریبُ الوجهِ والیدِ واللّسانِ» (المتنبي،ج2،ص251)
[7] ينسب هذا البيت إلى سالم بن دارة وهو من شواهد: التصريح: 2/ 164، والأشموني: “866/ 2، والهمع: 1/ 174، والدرر: 1/ 151، ونوادر أبي زيد: 163 وأمالي ابن الشجري: 2/ 79، والإنصاف: 325، 682، وشرح المفصل: 1/ 127، 130 والمقرب: 37، والخزانة: 1/ 289، والعيني: 4/ 232
[8] وهو «توفيق زياد شاعر وكاتب سياسي درس أولاً في الناصرة ثم ذهب إلى موسكو ليدرس الأدب الروسي،شارك طيلة السنوات التي عاشها في حياة الفلسطينيين السياسية في إسرائيل وناضل من أجل حقوق شعبه كان إلى يوم وفاته رئيساً لبلدية الناصرة.» (الجيوسي ، 65،1977 )
[9] محمود درويش
[10] من قصيدة «أزهار الدم» لـ «محمود درویش»في مجموعة بعنوان «دیوان الشهید» و هي مجموعة أشعار عن مجزرة كفرقاسم أصدرها مجلس كفرقاسم المحلي.
[11] أنظر حبيبي، إميل(1974)، صص 37-38.