رؤية إبراهيم رسول حول مقالات في تجارب السرد العراقي ـ دراسة أسلوبيّة
Ibrahim Rasool’s vision on articles in the Iraqi narrative experiences – a stylistic study
أ.م.د. مصعب مكي زبيبة ـ كلية الآداب ـ جامعة الكوفة، العراق
Assistant Professor Dr. Musab Makki Zabiba, College of Arts, University of Kufa, Iraq.
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 79 الصفحة 91.
أسلوبيّة نقد النقد تتحكّم بالممارسة النقديّة وصفًا وتفسيرًا وتقييمًا، من خلال إعادة القراءة النقديّة، أو ما يُعرف بقراءة القراءة، فإنّ ميدان المحاولة بدأ بالتنظير الغربي عندما أطلق المصطلح (تزيفتان تودوروف) في كتابه النقديّ القيّم (نقد النقد)، مستعرضًا الأعمال النقديّة، للتعرّف على الكيفيّة والطرائق التي تمّت بها الممارسة النقديّة، بإعادة الكشف والتنقيب والفحص والتأطير، ولكنّ الملاحظ أنّ (نقد النقد) لا يخصّ الأعمال النقديّة على وجه الخصوص، بل يتعدّاها إلى بيان الخطابات الفكريّة والفلسفيّة التي تحمل في طيّاتها المخالفة والتجديد في الآراء والتكهنات؛ لأنّ (نقد النقد) يقوم (بتفكيك مقولات النقد الأدبيّ لفحص العناصر الأيديولوجيّة الثاوية في المزاعم النظريّة، وهو يكشف عن طبيعة المؤثّرات الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي كوّنت الحاضنة السياقيّة له) ، ممّا يؤثّر على الناقد في تبنّي نمطًا نقديًا معيّنًا، لا يمكنه أن يحيد عنه، فالنقد هو صنو العمل الأدبيّ، وحليفه ونصيره الملازم، وليس جسمًا غريبًا طارئًا، فيمكن القول إنّه وحدة مكملة وملازمة للعمل الأدبيّ.
الكلمات المفتاحيّة: الأسلوبيّة، نقد النقد، السرد العراقي
Abstract:
The criticism-criticism stylistics controls the critical practice of describing, interpreting and evaluating, through critical re-reading, or what is known as reading-reading. The manner and methods in which the critical practice was carried out, by re-discovering, excavating, examining and framing, but it is noticeable that (criticism of criticism) does not pertain to critical works in particular, but goes beyond it to the statement of intellectual and philosophical discourses that carry with it contradictions and renewal in opinions and speculations; Because (Criticism of Criticism) (dismantles the categories of literary criticism to examine the ideological elements inherent in the theoretical claims, and it reveals the nature of the cultural, social and political influences that formed the contextual incubator for it), which affects the critic to adopt a specific critical pattern that he cannot abandon, Criticism is the kind of literary work, its ally and supporter, and it is not an emergency foreign body, so it can be said that it is a complementary and inseparable unit of the literary work.
key words: stylistics ـ Metacritic the experiences of Iraqi
مدخل:
إذا كانت أسلوبيّة نقد النقد تتحكّم بالممارسة النقديّة وصفًا وتفسيرًا وتقييمًا، من خلال إعادة القراءة النقديّة، أو ما يُعرف بقراءة القراءة، فإنّ ميدان المحاولة بدأ بالتنظير الغربي عندما أطلق المصطلح (تزيفتان تودوروف) في كتابه النقديّ القيّم (نقد النقد)، مستعرضًا الأعمال النقديّة، للتعرّف على الكيفيّة والطرائق التي تمّت بها الممارسة النقديّة، بإعادة الكشف والتنقيب والفحص والتأطير، ولكنّ الملاحظ أنّ (نقد النقد) لا يخصّ الأعمال النقديّة على وجه الخصوص، بل يتعدّاها إلى بيان الخطابات الفكريّة والفلسفيّة التي تحمل في طيّاتها المخالفة والتجديد في الآراء والتكهنات؛ لأنّ (نقد النقد) يقوم (بتفكيك مقولات النقد الأدبيّ لفحص العناصر الأيديولوجيّة الثاوية في المزاعم النظريّة، وهو يكشف عن طبيعة المؤثّرات الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي كوّنت الحاضنة السياقيّة له)([1])، ممّا يؤثّر على الناقد في تبنّي نمطًا نقديًا معيّنًا، لا يمكنه أن يحيد عنه، فالنقد هو صنو العمل الأدبيّ، وحليفه ونصيره الملازم، وليس جسمًا غريبًا طارئًا، فيمكن القول إنّه وحدة مكملة وملازمة للعمل الأدبيّ.
إنّ موضوع الدراسات الأدبيّة بحسب الشكلانيين هو المؤلّفات نفسها، وليس الانطباعات التي تتركها لدى قرائها([2])، وهنا يُفصل بين دراسات المؤلّفات الأدبيّة عن دراسة إنتاجها أو تلقّيها، وهم يأخذون على سابقيهم اهتمامهم بما ليس سوى انطباعات([3])، وإنّ نقد النقد قول آخر في النقد يدور حول مراجعة القول النقدي نفسه وفحصه، بمعنى مراجعة مصطلحات النقد وبنيته التفسيريّة وأدواته الإجرائيّة([4])، والخطاب النقدي هو الباحث أبدًا عن المبادئ والمصطلح والآلية والإجراء، وصولًا على الأداة التحليليّة المناسبة للنصّ الأدبيّ؛ ولهذا يستلزم هذا الفرق الجوهري بين موضوع النقد الأدبيّ، وموضوع نقد النقد بالضرورة العلميّة، العمل على فكرة استقلال نقد النقد عن النقد الأدبي، كما يترتّب على هذا الاختلاف في الموضوع أن يختلف نقد النقد، بهذه الدرجة أو تلك عن النقد الأدبي في كلّ من آلياته ومصطلحاته وأهدافه التي يتغيّاها، من منطلق أنّ نقد النقد ينطوي بالضرورة على النقد والانتقاد، ونعني به نقد الأفكار والأسس والمناهج معًا([5]).
لقد استعمل الناقد (إبراهيم رسول) الحياديّة، وهو مشروع تبنّاه وعمل عليه تطبيقيًّا، وركن إلى التحليل والتفسير والشرح، مبتعدًا عن التهجّم والهدم والانتقاص، كاشفًا عن مواطن القوّة والجمال، بدلًا من بؤر الظلام والقبح والانحطاط، مستغلًّا قراءاته كثيرة الاتجاهات والمتبنّيات في وضع الموازنات، وهي ليست بالعمل الهيّن إلّا على من له القدرة على إثارة التساؤلات، كثير الاطلاع والقراءة المتبحّر في المشروع الأدبيّ، وإذا كانت واحدة من أدوات الناقد هو تمييز المحاسن من المساوئ، فإنّ الناقد (إبراهيم رسول) ابتعد عن هذا التخصّص؛ ليفتح المجال للآخرين في الخوض فيه، فهو يلجأ إلى موهبته النقديّة بدلًا من التدقيق في كلّ ما هو سلبي، لاجئًا إلى التعمّق بالخفي الباطني؛ بدلًا من المشاع الواضح الظاهريّ؛ ليتيح الفرصة لاكتشافها للقارئ الاعتيادي.
وهو يمتلك التذوّق السليم، والتشخيص الدقيق، والاختيار المحايد؛ ولهذا تظهر الألوان الأدبيّة، والأشكال الفنيّة، والأصوات المتعدّدة؛ بارزة في دراساته النقديّة، وإن كانت الموهبة تصقل بالمعرفة والثقافة والقراءة والتبحّر والاطلاع، فإنّ الناقد (إبراهيم رسول) لا يُنقصه هذا الجانب المعرفي المهمّ، فقد درس طرائق التحليل الأدبي، واستنباط الأحكام النقديّة يمدّه في كلّ ذلك امتلاكه المعرفة الثابتة بقواعد اللغة من نحو وصرف ومعجم وغيرها.
أوّلًا: تعريف بالناقد
الناقد إبراهيم رسول من مواليد النجف الأشرف (1994)، بكالوريوس تقنيات التحليلات المرضيّة، وبكالوريوس اللغة الإنجليزيّة وآدابها من كلية الآداب ـ جامعة الكوفة الدراسة المسائيّة، يعمل حَالِيًّا تقنيًّا طبيًّا في مستشفى الأمل المخصص للأمراض الانتقاليّة الوبائيّة. صدر له:
1ـ حياة الشهيد مسلم بن عقيل، دار الرافد سنة 2016.
2ـ رواية الحب الطموح، طبعة أولى مؤسسة العطار2017، طبعة ثانية دار الفؤاد المصرية سنة 2019.
3ـ حياة السيدة زينب بنت علي (عليهما السلام)، مؤسسة الثقلين في النجف سنة 2018.
4ـ رواية طبول الظلام، دار النخبة المصرية سنة 2019.
5ـ رواية الرجوع الصادم، دار الورشة الثقافية في بغداد سنة 2020.
6ـ رواية خفافيش كورونا، طبعة أولى دار الورشة الثقافية في بغداد سنة 2021، طبعة ثانية دار الفؤاد المصرية سنة 2021.
7ـ كتاب مقالات في تجارب من السرد العراقي – القسم الأول منشورات أحمد المالكي، بغداد سنه 2022. له كتاب تحت الطبع بعنوان (عصير الكتب).
كتب في العديد من الصحف الورقية والإلكترونية، والمجلّات الورقيّة والإلكترونيّة منها: جريدة الصباح العراقية، وجريدة الدستور العراقيّة، وجريدة الزمان العراقيّة، وجريدة الحقيقة العراقيّة… وغيرها كثير.
كانت مقالات الأديب إبراهيم رسول بمرأى ومسمع المتلقّي بشكل شبه يومي يشوقه سحر لغتها وحفاوة تحليلها، ودهشة تراكيبها، فعلى الرغم من غضاضة شبابه، استطاع أن يغوص عميقًا في الدرس النقدي، متماهيًا مع النصّ المنقود، تمدّه المناهج النقديّة الحديثة من بنيويّة وثقافيّة وأسلوبيّة وسيميائيّة، ولسانيّة بالأداة والمساحة الاشتغاليّة، فلا نعدم تلكم الأدوات والرؤى، والحقول المعرفيّة، والتناغم الخصب في خطابه النقديّ نظريًّا وتطبيقيًّا، حَاثًّا الخطى في طريق الإبداع والإنتاج الثقافيّ والأدبيّ، والتفوّق لا يعترف بالعمر، وليس محكومًا بالتسلّط والثرثرة الثقافية الفارغة، والضجيج الصادم، بل محكوم بالممارسة الأدبيّة اليوميّة، والمعرفة الثقافة والقدرة والموهبة، كلّ ذلك لم يغب عن ذهنه الوقّاد، وظلّ مُسْتَمِرًّا بالعمل متفوّقًا به على الرغم من العيون الحاسدة التي شنّت هجمات البغض والهدم والعداوة، لكنّ الشجرة ثابتة الجذور باقية أمام الضربات، فلا تزيدها إلّا قوّة ورسوخًا وأصالةً، مثابرًا في محطّاته النقديّة التنظيريّة التي تتبعها القوّة التطبيقيّة.
عرفته عن قرب فوضحت صورته أمام أنظاري، ولا أبالغ إن قلت إنّ ما يبطنه وما يظهره سواء، ففي السريرة هو رحب المخيّلة، كريم الأخلاق، كلّ ذلك يظهر من دون زيف أو رياء فيما يكتب، وما يؤلف، نعم نجد ذلك حتّى في نقده، الذي يظهر على شكل لمسة إنسانيّة مليئة بالطيبة والنقاء والصفاء الروحي، يقول: يمتاز الخطاب الأدبيّ من غيره من الخطابات بكثيرٍ من المميزات التي تكفل له ماهيَّةً خاصَّة، وتَمنحه نوعًا من الاستقلاليّة التي تَجعل من تَحديده وتَمييزه عمليةً سهلةً لا تعقيد فيها، بوصفه خطابًا إبداعيًّا يتّخذ من طريقة التعبير وجَمالية الأسلوب ركنًا لا يُمكن أن يتنازل عنه، ويعتمد على أدبيّة اللغة التي تكون لَها الكلمة الفصل في تَمييز هذا النوع من الخطاب من غيره من الخطابات الإنسانيّة([6])، فهو يرى أن الخطاب الأدبيّ، والخطاب الإنساني لا يفترقان؛ لأنّهم ينبعان من منبع واحد، وهدف واحد؛ هو جماليّة الأسلوب وأدبيّته، فالقيم الإنسانيّة وتزيّن النص ببعد إنسانيّ عظيم، يهدف إلى العودة إلى الجذر الأصيل([7]).
آمن إيمانًا مطلقًا بقوّة الكتاب والمعرفة والتحصيل، وعمل بوصفه ناشطًا ثقافيًّا ترسو قواربه في شواطئ الإبداع، فهو غيور على الثقافة، وما تأليفه وعمله الصحافي إلّا دعوة للتمسك بأركان المعرفة الشديد، غلب على نقده الهدوء والاتزان والعقلانيّة، يتحرّى اللغة غير المشاكسة أو التهكميّة، وكثيرًا ما قرأت مقالاته النقديّة في هذا الكتاب، أو غير الموجودة فيه، فلم أجد لغة التهكم والانتقاص، وربّما أقول إنّ ذلك راجع إلى طبيعته الإنسانيّة المتفوّقة، فهو ذو الخلق الدمث المستقيم، وهو الرقيق المحبوب المسامح، خاض ببعض الشؤون الاجتماعيّة الإنسانيّة وأدلى بدلوه، وكان مناصرًا للقضية السوية، جاء في بعض مقولاته الاجتماعيّة المهمّة، التي تشير لخطه البيانيّ، وتوجهاته وانحيازه لقضايا المرأة وحقوقها: (المرأةُ التي تنزع الحذاء، وتضرب المتحرّش بها، هي امرأة شريفة وحرّة وشجاعة!!)، وعلى الرغم من قسوة العبارة إلّا أنّها تشير بوضوح إلى الزلازل الذي يريد أن يحدثه في المجتمع من أجل عفاف المرأة وإنصافها.
وما يميز الكتاب كذلك أنّه دائم التجوال في مرافئ الأسئلة، والبحث والتنقيب، ينذلق من قلمه حبر التوهّج والإبداع، وهو دائر في منظومة المنهجيّة لا يزيغ عنها ولا ينحرف؛ لأنّ النقد من دون المنهجيّة المنضبطة أرض جرداء لا تتجاوز حدّ الانطباعيّة البسيطة، والتأثّر الآني، فمن هنا درس بجدّ وكدّ ودأب المناهج النقدية الغربية عبر دراسته المنهجيّة في آداب اللغة الإنجليزيّة، وراح يعضد هذه الثقافة النقديّة بالموروث العربيّ النقديّ، فدرس كتب الأقدمين، وعلى رأسها كتابي الجرجاني: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، ثمّ سرعان ما عرّج إلى كتب الجاحظ، ولاسيّما كتاب (البيان والتبيين)، وهكذا شحن كتابه النقدي الأوّل هذا بتلكم الثقافة المزدوجة، واختزنها واختزلها في مقالاته المتعدّدة في الصحف والمجلّات، ولكن هذه الدراسات الثمينة لا يمكن لها أن تبقى آنية القراءة والاسترجاع، حبيسة الصحف والمجلّات، ولابدّ لها من انطلاق مخزونها الثقافي في كتاب يثري المكتبة العربيّة بمدونة نقدية خصبة الخطاب والتجربة، وربّما أدّعي بأنّها متفرّدة المنجز، نعم هي متفرّدة في تتبّعها للنتاج الروائي العربي والمحلي، ولاسيّما في بلده العراق، بلد الأدب والثقافة والشعر والنثر.
ثانيًا: منهجيّة الكتاب
تبدأ البذرة الأولى في هذا الكتاب من الاختيار، اختيار الكتاب المنقود سواء أكان مجموعة قصصيّة أو رواية أو نثرًا فنيًّا، فلم يعمد الناقد الأديب (إبراهيم رسول) بنقد جميع الكتب التي قرأها؛ وهي بالتأكيد تضمّ الصالح والطالح، فربّما يغرينا في بعض الأحيان عنوان كتاب براق بوهج عنوانه، ودلال عباراته، ورنينها، ما أن نصل إلى ذروة الشهوة في افتضاض مضمونه، حتّى نجده لا حياة فيه، ولا روح، فهو مجرّد جماد كالأزهار الاصطناعيّة، أمّا ما يستحقّ أن يعتمل فيه المبضع النقدي، فذلك النتاج الذي يفوح بالتميّز والتكامل والحيويّة، وقد درس الكتاب خمسين عملًا أَدَبِيًّا ضمّ: الروايات، والقصص القصيرة، والمسرحيّات العراقيّة والعربيّة.
والناقد مهما سعى لأن يكون محايدًا فلابدّ له من أن تنساب عليه الذاتيّة التي تظهر من أوّل الإجراءات ألا وهي الاختيار، وأن يكون اختيار العمل المنقود خاضعًا لروافد الذاتيّة في الدرجة الأولى، ومن ثمّ الروافد الأخرى التي تأتي بعدية المرحلة؛ لتخضع للجوانب الداخليّة والخارجيّة، ولكن الملاحظ على الناقد (إبراهيم رسول) أنّه لم يخضع للهيمنة الخارجيّة في نقده، وحسنًا فعل، فالنقد الخارجيّ البعيد عن أسوار النصّ يكون مجانبًا للنقد الموضوعي الصارم، وربّما نبع ذلك الابتعاد والتخطي إلى الثقافة الغربية التي تحلى بها في درسه المنهجي، هذا لا يعني بالضرورة أنّه ابتعد كُلِّيًّا عن الروافد الخارجيّة في النقد، ونلمس ذلك على سبيل المثال في نقده لرواية العربانة عندما قال: الواضحُ أنّ الرواية يساريّة الفكر، وتجلّى هذا عبر خطاب الكاتب الذي أوضح الأيديولوجيّة الخاصّة المبطّنة والظاهرة، فهو اتّخذ فكر اليسار سياسيًّا، وأراد من خلال هذا الفكر أن يسبغَ على الرواية نزعة يساريّة، اتّضحت لاحقاً بسلوك شخصيّة مظلوم، الذي حمل دلالة الظلم والتهميش والقهر في أغلب سني حياته([8]). والنقد الخارجي واضح هنا، إذ لم يتعرّض للغة الرواية، وأسلوبها الفني، وأحداثها، وحواراتها، بل ذهب إلى المهيمن السياسيّ والفكريّ الذي يؤمن به الكاتب.
كان الاختيار للأعمال الأدبيّة المنقودة على ما يراه من إبداعها ـ وإن كان لي بعض الملاحظ على اختيار بعضها؛ لضعف مستواها الأدبي ـ، وتجلّي وجهة نظرها، في قسم أوّل من المأمول أن يُخرج لنا قسمًا ثانيًا يحمل مجموعة جديدة من الروايات المدروسة، نُشرت هذه الدراسات في مجلّات عديدة، منها: العراقيّة والعربيّة، لتتاح الفرصة لقرأتها مجتمعة في كتاب واحد يضمّها، بدلًا من تشتّتها في هذه الصحف، وهي بالتأكيد لا تشتمل على منهج نقدي واحد؛ بل كانت على منهاهج متعدّدة بحسب طبيعة العمل الأدبيّ، واعتمد مبدأ التفاعل بين موقفينِ متجاورينِ، فلا يستطيع جانب من الجوانب التنازل للآخر، هما: موقف الناقد، وموقف القارئ، وهذينِ الموقفينِ نراهما يتنافسان في الكتاب بقوّة، يصل في بعض الأحيان إلى التزاحم والتواشج والتجانس.
وشملت النتاجات المدروسة على العنوانات الآتية:
الاشتغال الفكريّ في رواية (فضاء ضيّق)، وتوظيف الجنس في السرد الحديث ـ قراءة في رواية (البدلة البيضاء للسيّد الرئيس)، والاتّجاهات الفكريّة في رواية (قلق عتيق)، وتأويليةُ السرد والانتهازية الدينيّة ـ قراءةٌ في المجموعة القصصيّة (ما بعد جلجامش)، وقراءة في رواية (السقشخي)، وقراءة في رواية (وشم ناصع البياض)، والراوي الغائب والسرديّة المباشرة في رواية (ستاريكس)، والخيال والسرد المتقن في رواية (مزامير المدينة)، وعندما تبدعُ المخيّلة ـ قراءةٌ في رواية (الصورة الثالثة)، للروائي علي لفته سعيد.
وقراءة في رواية (في ذلك الكهف المنزوي)، وتأثير المكان في رواية (مشحوف العمّ ثيسجر)، والمدّ والجزر بين الخيال والواقع في رواية (الغول البهيَّ)، للكاتب عمّار الثويني.
والتناوب الخطابي والقصصيّ في رواية (أنت الذي عليك دللتني)، والوراثة والتربية قراءة في رواية (ملاك لا يطير)، للكاتبة سلوى أحمد. والاسترجاع والسرد الأحادي في رواية (رحلة إلى الهناك)، وقراءة في رواية (القلب لبديل)، ومكان السرد قراءة في رواية (حنين) للكاتب محمود النجار. الخطاب والرمز في رواية (طائر التلاشي) للكاتب محمّد رشيد الشمسي. التكثيف الرمزي في قصّة (العفريت)، والانتهازيّة الدينيّة والسلطة السياسيّة في رواية (آلهة من دخان) للكاتب أحمد الجنديل. والتخييل القصصي ومتلازمة الحرب والحياة في رواية (سيّدات زحل) للكاتبة لطفية الدليمي. والنقد الاجتماعيّ وصور السخرية في المجاميع المسرحيّة الثلاث: (براد الموتى، تفو، مبغى) للكاتب المسرحي علي العبادي. والفوتوغرافيّة في المجموعة القصصيّة (عربة الأمنيات) للقاصّة فرح تركي. والتداخل الخطابي في الحدث الروائي في رواية (ريم وعيون الآخرين)، والشخصيَّة الثابتة والمتغيِّرة في رواية (فتّاح فال) للروائي عبّاس الحدّاد. وسرديّات المدينة ـ رواية (العروج الدامي) للكاتب عبد الله المياليّ أنموذجًا. وتأويليّة السرد والراوي الناقد في رواية (زينب) لعارف الساعدي. وقراءة في كتاب (وللقلق نكهة) للكاتب الدكتور حيدر نزار السيّد سلمان. وملوحة النصّ وجمال القصّ في رواية (عركَشينة السيّد)، وشخصيّات ومواقفٌ وعِبر في المجموعة القصصية (مَرادي المعيَّل) للكاتب سلمان كيوش. والتناوب السرديّ وتقنية الاسترجاع في رواية (بوصلة القيامة) للروائي هيثم الشويلي. وقراءة في رواية (الآسرة.. وخاصرة التفاح) للروائي محمود جاسم عثمان النعيمي. وقراءة في رواية (الهشيم) للكاتب حسنين الحسيني. وقراءة في رواية (في حضرة لوسيفر) للكاتبة سمية علي رهيف. والتلاعب في السرد في رواية (فرانكشتاين في بغداد) للكاتب أحمد سعداوي. والمونولوج وبناء الحدث في المجموعة القصصيّة (ملاحم الذاكرة) للكاتب أمير ناظم. وألمٌ.. حبٌ.. طموحٌ قراءة في روايةِ (قسطرة) للكاتب ناظم جليل الموسوي. والحدث المتحرّك في رواية (فندق السلام) للكاتب محمّد سعد جبر الحسناوي. والمكان والزمان في رواية (دوائر الوهم) للكاتب فلاح العيساوي. وقراءة في المجموعة القصصية (ربما تصل معقوفةً) للكاتب مؤيد عليوي. وتأثير المكان في رواية (أوراق من ذاكرة بانقيا) للكاتب عبد الهادي الفرطوسي. وقراءة في المجموعة القصصيّة (عربة الصمت) للكاتب إبراهيم سبتي. وقراءة في المجموعة القصصيّة (لن يموت الياسمين) للكاتبة سعاد محمّد الناصر. والبعد التأويليّ والصورة الساخرة في المجموعة القصصيّة (انكسارات) للكاتب علي العبودي. ودراما الوجع العراقي في رواية (بهار)، وقلق الانتماء وعقدة الماضي في رواية (الأنتيكة) للروائي عامر حميو. الفعلُ المحكي والقضايا الاجتماعيّة في المجموعة المسرحيّة (خيوط الوهم)، والبناء الأسلوبيّ في رواية (زهر الرمان) للروائي عبد الحكيم الوائلي.
لقد سار الكتاب على وفق منهجيّة ثابتة، متسلسلة، إذ يبدأ الكتاب بمسح شامل لأحداث الرواية، ويعرّف القارئ بمجرياتها بصورة إجماليّة، فهو يقدّم ملخّصًا للعمل الأدبي يضعه بين يدي القارئ، فعلى سبيل المثال يقدم عرضًا لرواية (السقشخي) للكاتب علي لفتة سعيد: الرواية تتكلّم عن ذلك البطل الذي يدعى (ماجد) معلّم التربية الفنّيّة من مدينة سوق الشيوخ، ماجد رأى إرهاصات وتقلبات في الحياة سواء على صعيد المجتمع، أو الأنظمة السياسيّة وحتّى المؤسّسة الدينيّة، ماجد رأى الصراع وعايشه منذ يفاعته الأولى، كان راتبه لا يكفيه، فقرر أن يعمل في كشك بسيط على عمود من أعمدة إحدى العمارات، ولكنّه حتّى في رزقه يجد ملاحقة من أزلام النظام، يهرب إلى لبنان بعد مروره بالأردن التي كان يعيش بها قلقًا ملاحقًا، في لبنان يتعرّف على صديقته التي تعرّف عليها بمصادفة جمعتهما، زينب الفتاة اللبنانيّة الحاملة للشهادة الأمريكية، تكون حبيبةً لهذا الرجل الغريب الملاحق، يصل مع زينب إلى أمريكا، ويدخلها بوقت وتاريخ مشؤوم، وهو يرى كيف ضرب برج التجارة العالمي؟، وكيف كانت الطائرة تدخل في بعض جدرانه فتخترقها؟، يقوم بتصوير هذا المشهد الرهيب المدوّي، تلاحقه الشرطة الأمريكيّة، وتقوم بالتحقيق معه، هو يتذكّر ويقارن بين المحقّق البعثي الذي يريد أن ينتزع الاعترافات منه عنوةً، حياة البطل ماجد عبارة عن تقلّبات، وأحداث متغيرة، لكنّها تتشابه في بعض الأحيان، الغربة القاحلة التي كان يعيشها والألم الذي كان يلازمه أينما حطّ رحاله، كانت حبيبته زينب خير صديق، وأفضل من وفي له، سنوات الغربة التي عاشها والعمل المشترك مع زينب لم يُنسهِ سوق الشيوخ، كان العراق حاضرًا معه بكلّ جوارحه وسكناته، كأنّه حمل أوجاع العراق معه ليبقى يساير الوطن حتّى بلحظات غربته([9]).
وتارة نراه يفسّر عنوان الرواية الغريب، على سبيل المثال رواية (سقشخي)، يقول عنها: نرى أنّ الروائي أفصح عن عنوان الرواية الغريب المعروف، وذلك عندما أخذ المعلّم بسؤال الطلبة عن الأماكن حتّى إذا وصل سوق الشيوخ، فأجاب بطل الرواية أنّ الذي ينتمي إلى هذه المدينة يدعى (السقشخي)، التي هي اختصار دمج الكلمتين معًا، فضلًا عن بيان آلية العمل الرواية واستراتيجيّتها، فعلى سبيل المثال في المجموعة القصصية (عربة الأمنيات) للقاصّة فرح تركي، يطرح مصطلح الفتوغرافيّة، إذ تستوعب بورتريه الشوارع والحياة العاجة بالحياة، وقصص الناس البسطاء، ومشاكلهم اليوميّة، وهمومهم الشخصيّة، تصويرًا بالقلم، لا بالآلة الفتوغرافيّة؛ إذ يستوعب هذا التصوير الأحداث المتسارعة والساعات والأيّام والأماكن، وما يميّزُ أثر الفتوغرافيّة، إذ يمكن وضع هذا الكتاب النقدي ضمن إطار النقد التطبيقي الذي يستلّ تجربته من حبّ القراءة والكتابة والرؤية العلميّة النقدية المنبعثة من المنهجيّة الأكاديميّة المكتنزة بعوالم الدرس، والتحصيل، والقراءة المنضبطة، والإجابة عن الأسئلة التي تتربّص الذهن، وتكشف أقنعة النصّ من أركانه جميعًا، وزواياه وخفاياه، وفتح النار بسلاح الحرف، والقلم على الأسئلة المهمّة والخطيرة، وقد نأى بنفسه عن التحليل التقليديّ، وكان يشبع نهمه والأسئلة التي تحوم حول خلده وتفكيره، ليروي ظمأ المعرفة التي تلِحّ عليه، فامتاز من أقرانه ممن لا يمتلكون الآلية والمنهجيّة النقديّة الحديثة، فراح الأديب (إبراهيم رسول) بكلّ أريحيّة ينقد ويبدي الآراء التي كانت في بعضها خارج نطاق المألوف والسائد والمعتاد، فهو يعلم جيّدًا إذا كان النقد منحصرًا ضمن إطار السائد المجامل المحابي أصبح ميّتًا قبل ولادته، وفارغًا قبل التعرف عليه، والتعامل معه، ولهذا نكاد نستنشق في هذه النقود رائحة الحبّ للكتب المدروسة قبل الشروع بنقدها، وإبداء الآراء بإزائها، فالاختيار علاقة عشق متبادلة بين المؤلَّف والناقد، ولهذا يسري عبق الحرف وإيقاع الكلمات، وصوت المصطلحات الدقيق التي تخطو بثقة إلى ضمير القارئ، ولا شكّ ستصبح عاملًا معرّفًا بالروايات والأعمال القصصيّة، وعاملًا مساعدًا للفهم والتعمق للأعمال المدروسة، فتتحوّل الآراء والأفكار إلى كلمات وجمل وصيغ تسلط الضوء على الروايات والقصص المدروسة، وإلى عبارات نقديّة ومفهوميّة، وهذا التحويل والصيرورة ليس بالأمر البسيط، وهو من صميم عمل الناقد الحقيقي. ويمكن تلخيص أهمّ ما يضمّ الكتاب من محاور بالآتي:
1ـ الاشتغال على محور مهيمن في العمل الأدبيّ، كأن يكون: المكان أو الزمان أو الروي أو التماسك أو الرمز وغيرها من المحاور المهيمنة التي منها تكون انطلاقة البحث، والتمهيد الذي يكون بوابة للولوج إلى التقنية المستعملة في إنجاز العمل الأدبيّ.
ففي رواية (رحلة إلى الهناك) للروائي محمود جاسم النجار يتم الاشتغال على الجانب السياسي المهيمن في الرواية، وعلى التناقض الذي يعيشه المواطن جراء الديمقراطيّة والتجارب الجديدة التي تمرّ عليه؛ إذ يستشهد بالقول: حال طبيعيّة أن تكره الناس حاكمًا دكتاتوريًّا.. لكن أن يكرهوا حاكمًا ديمقراطيًّا، كرهًا لأبعد مدى! فتلك سابقة في تاريخ السياسة العراقيّة، وأن يكره الناس سياسيّين هم جاءوا بهم، فتلك نادرة في التاريخ([10])، وعلى هذا المهاد النظري يجري التطبيق لرواية (رحلة إلى الهناك)، إذ يقول: (تبدأ الروايةُ بوصفٍ لقادمِ أيّام العراق، أيّ أنّ الكاتب كان يُدرك أنّ العتمة والسواد لن يرفع على العراق، إذ يتّضح هذا في كراهية الشعب العراقي لحكامه الدكتاتوريّين والديمقراطيّين، وهذا الكره على حدٍّ سواء)([11])، الكاتبُ يقدّمُ مادّته السرديّة على صورِ الإنسان المُحبط، المكسور، الحالم، يُقدّمُ نقده على هيأة رصاصاتٍ تصل لأبعد المسافات، فهو يغادر العراق عن طريق رحلةٍ سياحيّةٍ إلى الأردن، أثناء التفتيش والجوازات وفحصها، وختم العبور بالدخول ينتفض لكرامته، ويشعر بأنَّ السلطة في العراق، قد أذلّت المواطن حينما جعلت من موظفٍ تافهٍ من موظفي الجوازات الأردنيّة، يخاطب كامل بقلةِ أدبٍ (الموظف): كلكم تقولون ذلك ولكنّكم تنسون أنفسكم، فتبقون هناك لتسيحوا في شوارعها وتذلوا أنفسكم وبلادكم([12]).
كامل: ليس هناك أعزّ من بلادي عليّ، والعراقيّ الحقيقي لا يحبُّ أن يذلّ نفسه أينما وجد، أمّا عني يا أستاذ، فلدي عملي ومصالحي في بغداد؛ والحمد لله، ويجب أن أعود إليها بعد أسبوع على الأكثر([13]).
2ـ التعريف بملخّص العمل الأدبيّ: قصّة كانت أم مسرحية أو رواية، ولفت الانتباه للأحداث التي يركّز عليها الكاتب من خلال الملخّص المقدّم في كلمات معدودة العدد، وهو هنا يضع القارئ في مواجهة العمل الأدبيّ، ويضغط الوقت أمامه، ويجنبه اللهاث وراء معرفة نهاية القصّة، وهذا ربّما يبعث على تشتّت القراءة، وعدم التركيز في فحوى القصّة، أو مغزاها، أو رؤيتها الفكريّة والأيدلوجيّة، ليدع المجال متاحًا ليتفرّغ للتنعم في التقنيات التي مارسها الأديب، والانشغال في متابعة اللغة الشعريّة التي تتضمّنها، التي تكون في طياتها.
فالملخّص الذي يكون في كلمات محدودة العدد، ويلخّص رواية تصل في بعض الأحيان إلى ثلاثمائة صفحة من القطع الكبير؛ يجعلنا مسترخين للتمتع في فنية الرواية، ولهذا سعى الناقد (إبراهيم رسول) إلى أن يكون الملخّص مركّزًا على الجمل قصيرة الامتداد، مكتنزة المحتوى، والإيجاز متكامل الأساس، الرؤية الشموليّة، وبيان شخصيّات الرواية الرئيسة، والأحداث المهيمنة في الرواية، والانطلاق مباشرة نحو الأحداث والحبكة وتطوّرها، وعلى النهاية والتعريف عقدتها وحلّها، ومغزاها أو رؤيتها.
3ـ التسلسل المنطقي والممنهج، والترابط بين الجزء الأوّل (المحور المهيمن)، والجزء الثاني (ملخّص العمل الأدبيّ)، وذلك بدعمه بالاقتباسات العلميّة الداعمة، الموثّقة، أو في بعض الأحيان غير الموثقة من المصادر والمراجع، وهذا التسلسل يضمّ التحليل والموازنة، وربّما الجدل والمشاكسة مع رؤية الكاتب في عمله الأدبيّ، وتفسير بعض الغموض إن وجد، ومتابعة الآثار والمسبّبات الأدبيّة والفكريّة.
4ـ التعليل والتسويغ لما يقوم به الأديب من تقنيات فنّيّة، أو أحداث جرت في العمل الأدبي، وهذا هو عمل الناقد الحقيقي، وهو التعليل، فعندما يقول الناقد قولًا يجب أن يكون معللًا مسوغًا، وإلّا أصبح كلامًا لا قيمة له، لأنّ عمل الناقد هو أن لا يقول لنا بأن هذا العمل حسن، أو هذا العمل سيء، وإنّما صلب عمل الناقد في أن (يستوعب هذا الخلق الفني سواء في الأدب أو النحت أو التصوير… ويقول لنا لماذا هو حسن؟ وأين موضع الحسن فيه؟، ولماذا هو قبيح؟، وأين مكان القبح فيه؟)([14]).
فعلى سبيل المثال؛ يعلّل أن مجريات الرواية (بهار) لـ (عمار حميو)، وطريقة صياغتها جرت بطريقة مسرحية؛ إذ يصوّغ لذلك بقوله: (لأنّها تريد أن تجعل من النصّ يُنقل متحرّكًا، ممثّلًا في مخيّلة المتلقّي، وهذه هي الطريقة الأفضل من حيث الرسالة، (بهار) كانت تُمثّل لنا الصور المشهديّة)([15]).
5ـ الموازنات النقديّة، فممّا نلاحظه في كتابه: (مقالات في تجارب من السرد العراقي) الموازنات التي يجريها الناقد في العمل المدروس مع أعمال أدبيّة أخرى، قد قرأها الناقد واطّلع عليها، وهذا يدلّ على الاتساع في التجربة النقديّة، وكثرة الاطلاع على الأعمال الأدبيّة. ومن هذا ما يعقده من موازنات على سبيل المثال؛ قوله: (وربّما كان لبعضهم غايات في التطرّق إلى هذه المواضيع: (مواضيع الإثارة الجنسيّة)! مثلاً نجد في رواية النبطي أنّها تخطّت الحدود كثيرًا، وبتعبيرٍ مباشر، أمّا ما نلاحظه في رواية (البدلة البيضاء للسيّد الرئيس) فأنّها متحرّرة بصورةٍ تامّة، إذ نجد كلمات وجملاً تعبّر عن أعضاء الإثارة بطريقة إيحاء وتحفيز مثير جدًا، وهذه الكلمات كانت على لسان شخصيّاته، والشخصية قد تضمر عن الآخرين ما تشعر به، إلّا إنّها لا تخفي على نفسها ولا تكذب)([16]).
6ـ عدم بناء الحكم النقدي على الذوّق الشخصي الفطري غير المعالج بالدراسة الأكاديميّة المحكّمة، وعادة ما يكون حكمه النقديّ بناءً على قواعد وأصول تحدّ من الفوضى التي يخلّفها التذوّق الشخصيّ الذي يكون مزاجيًا ووقيتًا وخاضعًا للأهواء الشخصيّة، ففي رواية (الغول البهيَّ) للكاتب عمار الثويني، يعلّل لجوء الكاتب إلى تقنية الخيال، وتقنيات الرمز، والعزوف عن التصريح، تعليلًا علميًّا بعيدًا عن التذوّق والأحكام المجرّدة عن المسبّبات السرديّة، إذ يرجعه إلى إتاحة الفرصة للنصّ في السياحة بمديات الحريّة الواسعة والتأويل، والتلميح بمكامن جمال بلاغة البيان السرديّ، ويعدّ تقنية المدّ الخيالي ميزة أخرى تضاف إلى الرواية بعيدًا عن الحشو والزوائد والفضول، بعد أن أصبحت الرواية الحديثة عمليّة إبداعية صرفة وتقنية تعتمد اللعب بخفّة ومهارة([17])، وواضح من هذا الاشتغال النقدي أنّه معتمد على المختبر النقديّ البعيد عن مزاجيّة التذوّق.
7ـ الخروج برؤية شموليّة مختصرة في نهاية المقال، أو البحث العملي، قد تتّفق مع رؤية الأديب أو تخالفه، ففي رواية (رحلة إلى الهناك) للروائي محمود جاسم النجار، يلخّص الرؤية التي طرحها في بحثه عنها بقوله: (عَودٌ على بدءٍ، نقولُ إنَّ الروائيَّ رجعَ إلى الوراءِ في كلّ روايته، وهذا الرجوع يمثّل حاجةً في نفسه، إذ كأنَّه أرادَ أن يؤرّخَ لِحقبةٍ زمنيةٍ، هذه تعني وثيقة إدانة بحقّ سُلطة مارستَ أبشع أنواع الظلم والتجبر في حقّ الشعب، والشعب وقعَ ضحية هذه السلطة، الرجوعُ إلى الوراء، وبناء السرد على آلية الاسترجاع كان هو المهيمن على تقنيات السرد، إذ لم نشهد تقنيات متناوبة، وهنا تكون الرواية حكاية شخصية)([18]). إذ تبدو الرؤية الشموليّة سائرة اتجاه بيانيّ خطيّ، يظهر باستنطاق المستوى الشكليّ والمضموني للوصل إلى السمات العامّة التي تتبنّاها الرواية، والقضايا التي تعبّر عنها، والحركة السرديّة التي تنمي إليها، وبيان التجربة التي تغذي العمل الأدبيّ في محيطها الإبداعي.
ثالثًا: النقد التنويري:
بقي الناقد (إبراهيم رسول) وَفِيًّا إلى جذور النقد التنويري، ولم يَتَخَلَّ عنها؛ لأنّ مشروعه النقدي مبني على التصالح مع المجتمع، والانطلاق من فضاءات الواقع المعيش، ولم يكن ذلك الناقد المتقوقع في صومعته الأكاديميّة، (مكتفيًا بكتابة دراسات وبحوث مليئة بلغة الرطانة التي لا تفهمها سوى نخب متخصّصة عالمة باللغة الاصطلاحيّة، والمفاهيم والمنهجيات التي توجّه هذا النوع من الكتابات النقديّة، التي لا تلقي بالًا لما تهتم به الجمهرة الواسعة من القرّاء من تعريف بالأعمال الأدبيّة والفنيّة، وتقديم إضاءات حولها وربطها بشروط إنتاجها وسياقاتها))([19])، فقد تميّز كتابه (مقالات في تجارب من السرد العراقي) بالنقد الأدبي، وتخطيه الأسلوب المنهجي الصارم، الذي يكون مُفزعًا للروح، منفّرًا لها، فنقد الأديب (إبراهيم رسول) نقد امتزج فيه الأديب والمصطلح، ولهذا كان نقدًا ماتعًا مشوّقًا، ولا أبالغ إن قلت: إنّه من السهل الممتنع، والكتابة المشوّقة نمط من التأليف لا يتقنه كثير من الكتاب، ذلك النوع من الكتابة التي يجعلك مشدودًا للكتاب، ناسيًا ما حولك من الأشياء، ويجبرك على إكماله مهما بلغ بك الوقت، والأمثلة على ما أقول وأدعي كثيرة، أي امتزاج الأدب بالنقد، والكتابة المشوقة، ومن ذلك: (هذا خطاب توجهه الكاتبة توجيهًا يتّفق والأيدولوجيا التي تنطلق وفقها، أو التي تؤمن بها، فجأة، ودون سابق إنذار أو تمهيد، يتعرّض النصّ لانعطافة تعيد للنصّ حيويّته الغضّة)([20])، فهو يصفّ النصّ بأنّه ذو حيويّة غضّة، فإنّه يأنسه ويجعله يتحاور معه، ويتّفق وما يرى، وينطق ورؤاه وغير ذلك من أوصاف تشخيصيّة.
لأنّ التفكير النقدي تغذيه الخبرة الإنسانيّة وتحقّق تطوّره، فهو لا يتوقّف عن موازنة الأفكار والانطباعات بعضها ببعض، على وفق دقّتها وتكرارها وحدتها، وفي ضوء هذه الارتباطات تتكوّن الفكرة الجديدة، التي تكون بمثابة المخلوق الجديد، الذي لم يكن له وجود من قبل، وبوساطتها يتمّ التمييز بين الصورة الصحيحة والخاطئة، والصور الحسنة والرديئة، والنافعة والضارّة([21])، ولهذا انطلق من النقد بوصفه قيمة أخلاقيّة تؤدّي أثرها المضادّ بوجه التسلط والظلم والتشتت، فنراه يسير على وفق هذا المنهج النقدي الرصين، فلا نعدم التنوير السياسيّ، فعلى سبيل المثال في تحليله لكتاب (وللقلق نكهة) للكاتب الدكتور حيدر نزار السيّد سلمان، يقول: فالكاتب ذكي لم تنطوِ عليه الشعارات التي يردّدها رجال السياسة، ولا حتّى رجال الدين، فهو يعرف هؤلاءِ، وعلى إلمام بأولئك ، الشيء الذي غلب على نصوصه هو التساؤل، والفرق واضحٌ بين السؤال والتساؤل ، فالسؤال يبحث عن إجابة، أمّا التساؤل فيحتاج إلى التفكير وتقليب أوجه النظر، وهذه حسنة كبرى تُحسب للكاتب الذي يريد أو يحاول أن يجرّ القارئ إليه؛ ليتساءل معه عن الحالات التي يشتركان بها([22])، وعلى هذا كان النقد لديه مرحلة من الانعتاق، وتحري الحرية، والانصهار في بوتقة الفضيلة، والثورة على السائد والمعتاد والرجعي، والاعتماد على الأسئلة العميقة التي ترفض الخضوع والخنوع.
وتتجلّى بذلك إنسانيّة اللغة وجوهرها، فليس بمستطاع أن تنظر إلى الإنسان من دون أن تنظر إلى اللغة التي ينطق بها، وليس بالمستطاع أن تنظر إلى الحضارة من دون أن تنظر إلى اللغة التي تعبّر عنها، فإن تكن إنسانًا بحقّ يعنِ أن تكون لك لغة من اللحظة الأولى لوجودك، ويعني أن تحيا في مجتمع، وتنتمي إلى حضارة معيّنة، والمجتمعات الإنسانيّة عندما نردّها إلى عوامل جغرافيّة ومناخيّة وفيزيائيّة وبيولوجيّة، نؤكّد وحدتها عن طريق تقاليدها العامّة، وذكرياتها المشتركة، فإن اللغة تؤلّف الرابطة الأساسيّة لكلّ أبعادها ومحاورها([23]).
وتنساب ألفاظ التحريض للثورة والخروج لرفض الهيمنة والفساد والتبعية والانجرار في فضاءات الجهل والتخلف، فيعلّق على عبارة: (أدركت نفسي أنّي نصف عارٍ) في المجموعة القصصيّة: (انكسارات) للمرحوم علي العبودي؛ قائلا: تحمل أبعاداً عدّة قد يتخيّلها المتلقّي، كأن تكون إشارة إلى وجوب الخروج للتظاهرات، ونصرة الوطن تحت أي ظرف، وبأي هيأة، أو قد تكون إشارة إلى أنّه نزعَ كلّ شيء، وأقبل للوطن بوطنيّته، وإشارة (نصف) تدلّ على أنّ القاصّ لم ينزع كلّ شيء، بل بقي نصف منه، بوصفها هوية له معروفة، نزع المذهبيّة والقوميّة والمكان، وخرج إلى الوطن، وصوت الحرية؛ ليعلن أنّه متضامنٌ مع الوطن والمواطنين، لكنّ القاصّ يستمرّ بحكايته ليتركنا في حيرة وتساؤل، إذ إنّه وجد نفسه بلا رأس، وحالما التفت إلى هذه المسألة فترك التظاهرات وراح يبحث عن رأسه.. ولتبقى القصّة بفضاء مفتوح([24])،
فمن الملاحيظ على الدراسات النقديّة في هذا الكتاب أنّها لم تخضع للتصميم الأكاديميّ الصارم، فلم تشكّل الهوامش ثقلًا في الكتاب، ولم تبوّب المصادر والمراجع، ولم تنصّص الاقتباسات، ولم تنسب الأقوال إلى قائليها إلّا نادرًا، وحسنًا فعل؛ لأنّ من طبيعة المقالة النقديّة التي تعرض في الصحف والمجلّات أن تكون خفيفة الظلّ، غير مثقلة بالهوامش والمصادر؛ ذلك لأنّ هدفها الرئيس إيصال الفكرة بأسرع الطرق وأيسرها، فلا طائل من التعقيد الكتابي والمعنوي، طالما أنّ المقالة تستهدف أكبر شريحة ممكنة من المجتمع؛ ولهذا كانت تلك المقالات واسعة القراءة؛ لأنّها عاطلة من الهمّ الأكاديميّ الثقيل، متاحة بلغتها البسيطة السهلة الممتنعة، ولقد نحج في هذا الهدف السامي؛ هدف الإيصال والتلقّي المباشر، غير المقيّد بالموانع والحواجز المعنويّة واللغويّة الاصطلاحيّة، ولكنّه ما أن يرى ضرورة في أن ينسب القول إلى قائله للأمانة علميّة لا يتورّع عن ذلك، فقد جاء في الكتاب على سبيل المثال: (الذي تنخرط فيه أيديولوجيا، إذن هي خطاب جمالي تمارس فيه الأيديولوجيا سلطتها التأثيريّة فكريًّا ونفسيًّا، ويقول الدكتور محمّد سبيلا في كتابه: (الأيديولوجيا نحو نظرة تكاملية صفحة 14): وإذا كانت الأيديولوجيات المختلفة بوصفها ظواهر فكريّة وثقافيّة عامّة تؤطّر المجتمع، تعيش واقعًا من الصراع المستمر؛ لفرض رؤاها الفكريّة والسياسيّة على الواقع الاجتماعيّ، عمار بلحسن في كتابه: (ما قبل ما بعد الكتابة، مجلة فصول العدد4ج2 1985)([25])، وهنا ينسب الأقوال إلى قائلها من مصادرها المعتمدة، لقد مارس (إبراهيم رسول) النقد الذي يزيد وعينا بالإنسان والأفراد والحياة عمقًا وتجلّيًا ورسوخًا، فمن مهام النقد الكشف عن سلبيات المجتمع وتعريتها، وتسليط الضوء على جمودها وتعصبها، ونزعاتها السوداويّة.
رابعًا: النقد الصادم:
استعمل الناقد (إبراهيم رسول) معايير نقدية هي في صلب العمل النقدي الرصين، وتجنب النقد الشخصي أو الذاتي، والمواجهة المباشرة، واعتمد النقد الإيجابي، والعمق في الطرح والمناقشة المباشرة التي تسعى إلى العلاج بعيدًا عن التجريح، والهدم والانتقاص، وهي الآلية التي تسمح بإعادة تقييم الوعي وتوقّعاته، وفي النهاية، يعبر عن هدفه للتعامل مع النقد غير المباشر، بأن تتخطّى مرحلة التخفي والمواربة، حتّى يصل بالنقد إلى أن يصبح عملية صريحة، بناءة مباشرة، وأن يتحمّل مسؤوليّة ما يقوله، ويشجع لمزيد من الإبداع، وهذا النوع من النقد يساعد على تحقيق الهدف بالأسلوب الذي يحصل به على قوّة النقد البنّاء([26]).
وهذا لا يعني أنّ النقود التي درسها الأديب (إبراهيم رسول) كانت جميعها نقودًا تصالحيّة ترحيبيّة إشاديّة، فهذا النوع من النقد لا قيمة له، خلق من أجل المجاملة، وتكون حياته قصيرة، مدّة انتهاء المصلحة أو انتفائها، فكان لا يتوانى على أن يكون انتقاده صريحًا مباشرة في بعض الأحيان، وهذا ما سيجده القارئ جليًا في أمكان عدّة من الكتاب، فعلى سبيل المثال، في معرض دراسته لرواية (العربانة)، يترك المجال للقارئ بأن يشارك في الحكم النقدي بعد أن يضع أمامه الإيجابيات والسلبيات جميعًا، وهذا مزية وسمت الكتاب بالجديد، فقد جاء قوله: (تعدّ من أكثر الروايات التي وظّفت اللغة الشعبيّة بهذه الكثافة، فقد وظّفَ الأديب اللغة المحليّة توظيفاً سرديًّا صرفًا، وهي ميزة غالبة على ثلاثيته الشهيرة، ربّما فاقت هذه الرواية الغارقة بمحليّتها روايات نجيب محفوظ على فارق بينهما))([27])، ومعلوم لدى القارِئ أنّ الرواية التي تأتي باللغة المحليّة الدارجة سرعان ما تتهاوى أمام القارئ الذي يجهل تلكم المحليّة، فنقل الأحداث اليوميّة، ونبض النّاس لا يتعارض واللغة العربيّة الفصيحة، ولا تكون بديلًا موضوعيًا عنها، بل تكون تشويها لها، وربّما الناقد إبراهيم رسول يسعفنا بالدليل الذي يثبت هذا الكلام عندما ذكر الروائي نجيب محفوظ التي كانت رواياته غارقة بالحياة اليوميّة، وتضجّ بالحارة المصريّة، ولكنّها على الرغم من ذلك لم تتخطَ مفردات المعجم العربي الفصيح، ولم تستخرج حوارها من مخزون اللغة الدارجة، ولهذا قُرِئ نجيب في دول العالم العربي جميعًا، وترجمت أعماله إلى اللغات العالميّة الحية بسهولة ويسر، في حين سقطت روايات أخرى في فخ الصعوبة وحدود القارئ المحلي الضيقة.
وفي معرض نقده المواجه يستعرض رواية (رحلة إلى الهنا) للقاصّ محمود جاسم النجّار، إذ يقول: (إلّا إنّ السردَ كان يفتقرُ إلى ما يُضفي عليه صفة الإمتاع، فنحن لا نقرأ جديدًا في مجملِ فصول الرواية، البناءُ الروائي كانَ بناءً تَتَابُعِيًّا صرفًا، ولا تداخل في أساليبهِ؛ لذا تجد هيمنة الصوت الأحادي، قد اكتفت بالأسلوب التتابعي أو التسلسلي في طريقة سرد الحكاية، وهذا ما غيَّبَ النزعة الدراميّة في الرواية، فهي روايةٌ وصفيّةٌ، وليست روايةً إبداعيّة)([28])، بعد هيمنة السرد الأحادي الذي امتنع عن التطوّر والتكثيف، وغياب عنصر التشويق والإثارة، فليس ثمة مفاجآت تكسر النمطيّة والرتابة وبطء الأحداث، ولهذا سيشعر القارئ بالملل والإحباط، والابتعاد عن مواصلة القراءة، ولهذا يقترح الناقد (إبراهيم رسول) حذف كلمة (رواية)، ووضع مكانها (سيرة ذاتية)؛ لأنّه باعتقاده لا تصلح بأن تكون رواية، ولا تحمل مقوّماتها التقنيّة([29])، وهنا الناقد يستعمل رأيه الصادم والمباشر، وملاحظاته اللاذعة، مشيرًا إلى الجوانب المظلمة في الرواية؛ لينبّه الأديب والقارئ على حدّ سواء إلى العثرات الأسلوبيّة المستعملة فيها.
خامسًا: المصطلح النقدي
إنّ المصطلح هو شفرة الخطاب النقدي، وطلعه المثمر، الذي لولاه ما كانت المعرفة، وما وقع التواصل، فهو لبنة النظرية التي تقود الفكر؛ فتنتظم من خلفه جيوش الكلام، وتفتح له قلاع الذهن والوجدان([30])،
لقد استعمل (إبراهيم رسول) في كتابه النقدي كثيرًا من المصطلحات النقديّة المهمّة في المهاد التطبيقي، وسوف نقتصر على بعضها طلبًا للاختصار، ومن تلكم المصطلحات؛ مصطلح: (الأسلوبيّة)، فلم يهتم بطبيعة المؤلّف مستقلًا عن نصّه، فالناقد ليس له منه سوى ما بداخل النصّ من تجليات أسلوبيّة مردودة إلى فعالية الجو النفسي العام المسيطر على النصّ، ليصبح هو الآخر لديه النوعان نفسهما من العلاقات داخل النصّ، الأولى هي الصفة التركيبيّة للغويّة البحتة، والثانية هي الصفة النفسيّة الوجدانيّة التي تميّز أي مؤلّف من غيره([31])، لتحقيق التوازن بين المجالينِ والمدارينِ، ففي رواية (عربة الصمت) للقاص إبراهيم سبتي، يلاحظ الناقد (إبراهيم رسول) كثرة الصور البلاغيّة التعبيريّة الفنيّة كمًا ونوعًا، فلم يستطع أن يحصي عدد هذه الصور؛ لسعتها وكثرة اعتماد القاصّ على مرجعيّته الأسلوبيّة، تردفها الصيغ الفنّيّة المتتابعة، ولكن القاصّ جعل من الأسلوب التتابعي متجدّداً في نفسه، كسراً للجمود الأسلوبيّ باعتماده على المرجع البلاغيّ واللغويّ الذي يعتصر كثيراً منه في مخيلته([32])؛ لأنّ الواقعة الأسلوبيّة سمة شخصيّة في الاستعمال اللغويّ، والنصّ الأدبيّ يُصبح متميّزًا متفرّدًا متى ما استعمل اللغة بطريقة خاصّة، ولهذا سعى الناقد (إبراهيم رسول) إلى فحص الظاهرة الأسلوبيّة لدى النصوص المدروسة جميعًا، محاولًا إفراد قوانين خاصّة لكلّ أديبٍ على انفراد.
ويناقش الأسلوبيّة البنائيّة في رواية (زهر الرمان) للأديب عبد الحكيم الوائلي، مركّزًا على الهيكل الخارجيّ للرواية على وفق معماريّة البناء الفنّي لها، وهذا يعني أنّ الرواية ستلجأ إلى هيكليةٍ ستتخذها في طريقة حكيها، وهنا تكمنُ مهارة السارد؛ لأنّه يعطي الانطباع الشكلي للعمل الفني أو الهندسيّ، وبما أن الروايةَ شكلٌ فنيٌ، وجبَ أن يكون الإطار والهيكل متقنًا، ويحملُ الفنيّة في هيكليّته البنائيّة، ففي الرواية تداخلت الأساليب بعضها مع بعض بصورةٍ فنيةٍ واشتغال إبداعيّ، إلّا أنّ الغالبَ هو تداخل أسلوب التتابع والتضمين، لذا ركّز على تداخل هذينِ الأسلوبينِ، فقد تجلّى هذا التداخل بأن يكون هناك لعبة؛ لإثارة عنصر التشويق في المتلقّي، والأسلوب التسلسلي أو التتابعي هو أسلوب الروايات عامةً، ولا تخلو رواية منه إطلاقاً؛ لأنّ الترتيب يكون ضرورةً في أحيانٍ كثيرةٍ؛ لئلّا يشعر المتلقّي بالرتابة والتشتت، وضياع الفكرة، فاحتفظت الرواية بتسلسلها التتابعي أو أسلوبها التتابعي، فيما كان التضمين يأتي على لسان الشخصيّات، وعلى بثّ رسائل الراوي، في صياغة الأفكار، وإيصال الرسائل إلى المتلقّي، على الرغمِ من كلاسيكيّة أسلوب التتابع، إلّا أنَّه ضروري في كلّ رواية، ولابدّ أن تكونَ البداية الاستهلالية مكتوبة بأسلوب التتابع؛ لكي يستجمع المتلقّي خيوط الحكاية([33])، وهو هنا يصل إلى النسق الأكبر للدلالة في الرواية والجوهر المكنون لدى القارئ المتخصّص، باستخراج مفتاح الرؤية الوجوديّة، النافذة التي تطلّ منها الرواية على القارئ.
يعرج إلى مصطلح: (الكتابة النسويّة): الذي يقول عنه: الكتابة فيه في مرحلة اكتمال الوعي المشترك بين الجنسين (الرجل والمرأة)، يحتاج إلى وعي جديد في عملية معقّدة تتخلّلها عوامل كثيرة، وأثر الواقع real effect، الذي استعمله الناقد (رولان بارت) على جزئيّات أو تفاصيل تذكر في سياق القصّة، فقد يؤثّر الواقع بما يحمله من أثر كبير في عملية تبادل الخلق أو إعادة الخلق، فالكاتب يكون مصورًا، وليس خالقاً مبتكراً، والسرديّة النسويّة عامةً تكاد تتشابه في التقنيّة السرديّة([34])، مقررًا أنّ اللغة النسويّة تكون متماثلة في كثيرٍ من الأحيان، وهنا نرى أن الأتون يكون مستعرًا في حال الكتابة التي تأتي كردّة فعل على حادثةٍ حدثت ( سابقة أو حديثة)، وما يميّزُ أثر الواقعيّة أنّها متأثرة، وردّة الفعل واضحة عليها، إذ كثيرًا ما تأتي الجمل والثيمات كأنّها نقل مباشر، وقد تتميّز بعض القاصّات فتسلك طريقاً آخر، عسى أن تضع لنفسها خطًّا تُعرفُ به، وهذا واضحٌ في هذه المجموعة القصصيّة: (عربة الأمنيات)، فلو تأملناها بعينٍ ناقدةٍ، وعقلٍ مُنقّبٍ مفكّرٍ، لأدركنا الواقعيّة الحياتيّة مؤثّرة على البناء القصصي، والصياغة التي كانت واضحة على أغلب قصص المجموعة، إذ يعزوه بالدرجة الأساس إلى الطريقة التي تسلكها القاصّة، قبل وأثناء مرحلة الكتابة، فعملية التخييل تكون سريعةً بالقياس وحجم الأثر الذي أحدثه حدثٌ ما. إنّ عمليةَ التدوينُ تأتي كإطلاق ما يجيش في النفس من مشاعرٍ سلبيةً أو إيجابيةً حول الحدث الذي حصل على مرأى الكاتبة ومسمعها، فنلمسُ القاصّة تأتي إلى التدوين وهي مشحونة بأدلجة فرضها الحدث الذي أثّر، وتأتي الكتابة في كثيرٍ من الأحيان حاملة لهذه العاطفة بتوترها وشحنتها، المميزُ أن الحدث الذي أثّر في القاصّة قد لا يكون مؤثّراً عند المتلقّي، فنراه قد تكون باردًا بإزاء حال الغليان السرديّة التي تكتبها القاصة([35])، فالنقد النسوي يصوّر الإبداع النسائيّ، ويحدّد هويته وملامحه الخاصّة، وعلاقته بجذور ثقافة المبدع وموروثه الاجتماعيّ والثقافيّ، وتجاربه الخاصّة نفسيّة وفكريّة تؤثّر في فهمه للعالم من حوله، والمرحلة التاريخيّة التي يعيشها، ويشمل الأدب الذي تكتبه المرأة، ويعبّر عن نظرة مغايرة عما يكتبه الذكور([36]).
وقد استعان بمصطلحات العلوم المجاورة منها: علم النفس على سبيل المثال في تحليله لرواية: (الصورة الثالثة) للروائي علي لفته سعيد، من أجل فهم بعض شخصيّات الرواية، من الداخل مثل شخصيّة (سلوى)، فشخصيّتها المشمئزة لدى القارئ تُصبح محبّبة بحسب علم النفس، فتفكيك الشخصيّة، والغوص في أعماقها يمنحنا التفسير الصحيح للشخصيّة، وما تعانيه من اضطرابات نفسيّة عاصفة، جعلت منها فتاة منحرفة تتقاذفها الأمواج، وهو هنا وفي نصوص أخر، يحاول تحليل الشخصيّات الروائية بعدسة نفسية مكتشفا دوافع الكاتب التي تؤثّر على ظروف السيرة الذاتية للشخصية الروائية، فسلوى؛ تتحول بتحليله النقدي من جانية إلى ضحية قد عصفت بها الظروف، فلم تنصفها.
وكان الظهور الأكثر إلحاحًا في الكتاب هو المنهج الوصفيّ التحليليّ، القائم على معطيات الاستنطاق والمناقشة والاستطلاع والكشف، وهنا يظهر مصطلح المكان بارزًا جليًا، فمدينة النجف الأشرف بعبقها التاريخي وأرثها الحضاريّ والدينيّ لم تغب عن سرديته النقدية مستعرضًا سرديات المدينة في رواية (العروج الدامي) للروائي السيّد عبد الله الميالي، فالنجف المدينة التي شكّلت متواليةً سرديّة في عموم فصول هذه الرواية، وكانت الصوت المهيمن في الرسائل الخطابيّة التي بثّها الكاتب، وهذه النزعة في استنطاق الأمكنة ليست جديدة، بل لدينا أمثلة كثيرة يصعب عدّها في هذه التقنية السرديّة، نجد في كلِّ فصلٍ من الفصول، بداية تمهيديّة عن النجف، وكأنّ القاصّ يبتدأ كلّ البدايات بالمدينة؛ ليرسل رسالة سرديّة مبطنة بأّنّ الراوي الأبرز هو المدينة، إذ جعل من هذا المكان روحًا حيّة متفاعلة، ولها عواطف ومشاعر، وبثّ عبرها رسائل كثيرة، إنّ النزوع الذي يذهب إليه هو أن يترك المدينة تتحدّث عن نفسها بنفسها، وهذا تمّ عبر توظيف قرائن تُبنى مع السرد صعودًا وهبوطاً، وشداً أو واسترخاءً([37])، فقد نجحَ الروائيُّ في هذه التقنية السرديّة، باستنطاق المكان وتوظيفه سردياً، المدينة في كلّ جوانبها، العمرانيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والنفسيّة، وكانت ممثّلةً عبر تفاعل شخوصها ودراما الحدث؛ لأنّ النصّ يتمثّل تمثلاً درامياً، ولعلّ حركة الشهداء وتحديهم السلطة مثّل حراك التاريخ بصورة عامّة، إذ دوماً هناك سلطة تخالف عقيدة الشعب الذي تحكمه([38]).
يلاحظ في اتّساع هذه القراءات النقديّة في تجربة الأديب (إبراهيم رسول) وجود الإشكاليّة النقديّة، بمعنى أنّه لم يقبل بجميع القيود التي يحدّها النقد على الناقد، وحاول أن يرتسم لنفسه الإطار النقدي الذي يسير عليه من دون وصاية أو حدود صارمة أو قوالب جامدة قد لا تتلاءم والمادة المنقودة، محاولًا أن يمزج الإطار النقدي بالأطر المعرفيّة والفلسفيّة، وعندما ننظر في المناهج النقديّة التي استعملها بفاعليّة في النقود الموضوعيّة في الكتاب نجد حقولًا منها: الأدبيّة والمعرفيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والنفسيّة والأيدلوجيّة، وحاول أن يقرب النقد من برجه العالي إلى عامة الناس لتفهمه، وهذا الأمر يحسب للمؤلّف الناقد إبراهيم رسول.
نتائج البحث
ـ البحث ينطلق من التوجّه الميتانقدي، دارسًا أسلوبيّة كتاب (مقالات في تجارب من السرد العراقي) للناقد إبراهيم رسول، معرّفًا بالقراءة النقدية والمنهجيّة التي تمّ بها الخطاب النقدي، واضعًا أمام القارئ مشروع ناقد واعد حصيف، مارس العمليّة النقديّة مؤمنًا بمشروعه الثقافي والفكري، فالبحث بوابة للولوج في منهجيّة القراءة النقدية الرصينة التي تبتعد عن المجاملة والمصالحة على حساب الكشف الصحيح والتنقيب المتريّث.
ـ كان للكتاب منهجيّة منضبطة يجعل من النصّ الأدبيّ محور استنطاقه، ويدور حول مهيمناته الأسلوبيّة وتقنياته المنجزة، فكان لتفسير الرؤية وتعليلها مجال ولوج إلى آليات عمل الأديب، ومهاداته التنظيريّة، ، تعريفًا وتنبيهًا وإثارةً للمتلقّي، مستعملًا التسلسل التراتبي الممنهج، والترابط بين أركان الموازنات المعتملة في جدلية الرؤية والأفكار والسرديات المدروسة، يمدّ كلّ ذلك التعليل والتسويغ والتوثيق المشارك في عملية البحث والتوجيه النقديّ الرصين، ولم تكن الموازنات بين أعمال مختلفة بعيدة عن متناول يد النقد الحصيف المطّلع والمثابر على قراءة كلّ ما تصدره المكتبة الأدبية والنقدية، ولهذا كانت دراسته بمثابة دراسة مقارنة تشتغل على حطام الأعمال الأدبية المماثلة والمتشابكة، مبتعدًا على الآراء الذوقيّة المتعجّلة المنصدمة مع الواقع المشعة بالأسباب البسيطة التي لا تتصل بالحقيقة النقديّة الساطعة بسبب الاعتمال العلميّ الرصين.
ـ كانت المحطّة الأولى للكتاب، والقدحة التي أوقدت جذوة الكتاب هي الاختيار، واعتمد في اختياره على فطنته النقدية المتمرّسة، وما يراه أنّه جيّد، ويستحق الدرس، ولم يكن بطبيعة الحال دارسًا لجميع ما يقع تحت يده من غث وسمين، بل ما يراه من استحقاق وفنيّة في الدرس، والمتابعة، والتحصيل النقديّ المثابر، معتمدًا في كلّ ذلك على موقف الناقد الذي في داخله، وموقف القارئ المتخصّص النموذجي.
ـ مارس النقد التنويري، بوصفه علامة مضيئة تنير للمجتمع طريق الحرية والثورة والفكر، فمن دون الفعل الأدبي يتعثّر الشعور بالوطنيّة، وتخمد نيران الرفض، وتُصبح عملية الكتابة عملية نمطيّة متعالية لا طائل منها، ولهذا كان أمينًا على الرهان التثقيفي وجدانًا وعقلًا، وأمدّ هذا النقد بمقوّمات عدّة، منها: ترك التعقيد المعنوي واللفظي، واللجوء إلى شرائح المجتمع المهمشة في كتابته وتوجهه الثقافي.
ـ لم يتوانَ الناقد (إبراهيم رسول) في تأشير مكامن التراجع، وبعض الأماكن المظلمة في الأعمال المدروسة، مستعملًا الأسلوب الإصلاحي، وليس التهكمي العدائي، فكان مشيرًا لموضع المرض، مقترحًا العلاج، وهنا تكمن فاعلية النقد، والقراءة التشخصيّة السلمية.
ـ سعى الناقد (إبراهيم رسول) إلى تقصي الظاهرة الأسلوبيّة في النصوص المدروسة، وبيان القوانين الخاصّة التي أطّرت نصوصهم الأدبية؛ وذلك بتتبّع الصور البيانيّة، والصيغ الفنيّة، والأحداث والأفكار والاتّجاهات النفسيّة التي حدّدت مسار الأديب داخل نصّه الأدبيّ.
ـ في نقده النسويّ صوّر الإبداع النسائيّ، واللغة الخاصّة التي حدّد ملامحها وأساليبها وتجاربها الفكريّة والإنسانيّة، وقد أثبت أنّ للمرأة نظرة خاصّة للحياة، وأسلوبًا متفرّدًا، يكاد أن يكون ذا شخصيّة متقصية للمرجعيّات العاطفيّة، والأنساق الثقافيّة التي انتهلت منها أدبها النسويّ، فهو أكثر وضوحًا في تصوير الواقع الحياتي لها، متناولًا نصوصًا كثيرة أبدعتها المرأة في استنباطها للجملة القصصيّة المنحازة لثقافتها.
ـ حاول الناقد (إبراهيم رسول) أن يخطّط لنفسه مسارًا نقديًا متفرّدًا في بعض الأحيان، ولم يذعن للوصاية المنهجيّة الصارمة؛ بل حاول أن يكون مطاوعًا لظروف النصّ المدروس، مبتعدًا عن التشنج الأكاديمي الصارم غير المسوّغ في أحيان كثيرة.
المصادر:
- إبراهيم رسول، مقالات في تجارب من السرد العراقي (القسم الأوّل)، إصدار منشورات أحمد المالكي، بغداد، ط1، 2022م.
المراجع:
المراجع العربية:
- باقر جاسم محمّد، نقد النقد أم الميتانقد؟ محاولة في تأصيل المفهوم، مقالة في مجلة (عالم الفكر)، العدد/ 3، 2009م.
- جابر عصفور، قراءة في نقاد نجيب محفوظ، ملاحظات أوليّة، مجلة فصول، م1،ع3، أبريل، 1981.
- حفناوي بعلي، مدخل في نظرية النقد النسوي، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2009م.
- عزّت محمّد جاد، نظرية المصطلح النقديّ، الهيأة المصريّة العامّة للكتاب، 2003م.
- قاسم حسين صالح، الشخصيّة العراقيّة من السومريّة إلى الطائفيّة، دار العرب، ط1، 2016.
- محمد مجدي الجزيري، نقد التنوير عند هيردر، دار الحضارة للطباعة والنشر والتوزيع، طنطا، 1999.
- محمود جاسم النجّار، رحلة إلى الهناك، منشورات دار أوطان، ط1، 2015م.
المراجع المترجمة:
- تزفيتان تودوروف، نقد النقد ـ رواية تعلم، تر: سامي سويدان، دار الشؤون الثقافية العامة، ط2، 1986م.
- رونان ماكدونالد، موت الناقد، تر: فخري صالح، دار العين للنشر، ط1، (1435هـ/ 2014م).
- هندري ويسينجر، قوة النقد البنّاء، مكتبة جرير، ط1، 2001م.
- وليام هازلت، مهمّة الناقد، تر: نظمي خليل، الدار القومية للطباعة والنشر، (د.ت)، القاهرة.
([1]) باقر جاسم محمّد، نقد النقد أم الميتانقد؟: 122.
([2]) تزفيتان تودوروف، نقد النقد ـ رواية تعلم: 34.
([4]) جابر عصفور، قراءة في نقّاد نجيب محفوظ، ملاحظات أوليّة: 164.
([6]) ظ: إبراهيم رسول، مقالات في تجارب من السرد العراقيّ: 75.
([10]) قاسم حسين صالح، الشخصيّة العراقيّة من السومريّة إلى الطائفيّة: 55.
([13]) ظ: محمود جاسم النجّار، رحلة إلى الهناك: 39.
([14]) وليام هازلت، مهمّة الناقد: 5.
([18]) إبراهيم رسول: 89.
([19]) رونان ماكدونالد، موت الناقد: 10.
([21]) محمّد مجدي الجزيري، نقد التنوير عند هيردر: 54ـ 55.
([23]) محمّد مجدي الجزيري: 66.
([26]) هندري ويسينجر، قوة النقد البنّاء: 181.
([30]) عزّت محمّد جاد، نظرية المصطلح النقديّ: 7.