التغير الاجتماعي والتغير القيمي في الأسرة المغربية
Social change and valuable Change of the Moroccan family
د. لحسن دحماني/ وزارة التربية الوطنية، المغرب
Dr. Lahcen Dahmany, Professor of Philosophy, Ministry of National Education-Morocco
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 90 الصفحة 9.
ملخص:
لقد عرفت الأسرة المغربية تغييراً في بنيتها نتيجة التدخل الاستعماري وما صاحبه من تغيرات على مستوى المجال والاقتصاد، فالانتقال من مجال قروي أو مديني عتيق إلى مجال حضري على النمط الأوربي، أدى إلى تغير الأسرة من ممتدة إلى نووية وإلى ظهور أشكال جديدة من الأسر مثل أحادية النواة وأنماط تقوم على أساس المساكنة كنوع من العلاقات القائمة بين الجنسين اليوم. وأمام هذا التحول الذي مس البنيات المجالية والاجتماعية المختلفة، تحولت حتماً قيم الأسرة وأدوارها وعاداتها وأعرافها وطقوسها ورموزها ووظائفها ومنطقها وكيفية إدراكها للعالم والأشياء وتمثلها للمجتمع. وقد استثبت بذلك قيم عصرية جديدة.
الكلمات المفتاحية: التغير الاجتماعي، التغير القيمي، الأسرة المغربية.Abstract :
The Moroccan family has known a change in its structure due to the colonization and the changes which it caused on the economic and territorial level. The shift from a rural territory or medina to an urban territory in the European style has led to the shift from the extended family to the nuclear family and to the emergence of new forms of families like mono nuclear family and other types based on cohabitation as a type of relation between the two sexes nowadays. This change of the different territorial and social structures resulted in the change of family values, roles, traditions, conventional laws, rituals signs, functions and how it perceives and represent society.
Key words: social change, values change, Moroccan families.
تقديم:
كل مجتمع لابد وأن يواجه تحدي التاريخ وأن ينخرط في الحركية التاريخية، وذلك بهدف تغيير ذاته وأفراده ومحيطه[1]، والمغرب ليس استثناءً. فقد أدى التغير الحاصل على مستوى انفجار الظاهرة الحضرية، وازدياد وتيرة التصنيع والانتشار اللامحدود للبضائع والأشخاص والتكنولوجيات الحديثة، واتساع الخدمات، وتقسيم العمل خصوصا بين الرجل والمرأة وطغيان التخصص على مستوى هذا الشغل، أدى إلى إعادة تشكيل البنى الاجتماعية والقيمية في المغرب، فالسلوك الإنساني ليس معزولاً عن التحولات المادية التي تطرأ على واقعه، أو كما عبر عن ذلك ماركس بأن البنية التحتية تؤثر في تغير وإنتاج وإعادة إنتاج البنية الفوقية، الأمر الذي أدى إلى وقوع بعض التصدعات في الرابطة الاجتماعية التي تؤلف بين مكونات المجتمع، كانتشار الفردانية والانعزالية والوحدة والاغتراب والعجز…وغيرها، إذن ماهي التغيرات القيمية التي عرفها المجتمع المغربي؟ وكيف ساهمت التغيرات التي لحقت البنيات الاجتماعية والمجالية بالمغرب الحديث والمعاصر في تحول القيم الأسرية؟ وكيف يمكن تفسير العلاقة بين البنية الاجتماعية والمادية للمجتمع والقيم المعيارية للأسرة المغربية؟
- تحديدات مفاهيمية
قبل الخوض في موضوع التغير القيمي بالمغرب وجب أولا تحديد دلالات المفاهيم الآتية : التغير الاجتماعي، التغير القيمي، وتحديد العلاقة القائمة بين المفاهيم من أجل رصد أبعاد التأثير المتبادلة، فالمفاهيم تعتبر إحدى الأطر الموجهة للبحث السوسيولوجي، فالمفهوم يسمح بإعطاء معنى للوقائع والعلاقات الملاحظة، فلا وجود لبحث قائم على أسس متينة بدون مفاهيم، لذلك انصب اختيارنا على مجموعة من المفاهيم الإجرائية التي ستمكننا من فهم الواقع الاجتماعي المغربي، وتجدر الإشارة هنا، إلى أن المفاهيم المتخذة لمقاربة الموضوع المبحوث، لا تحصر الواقع ضمن تمثلات تهدف إلى تجميد هذا الواقع وجعله ساكناً، بل إن هذه المفاهيم تظل ذات دلالة نسبية، ولا يمكن أن تكون وحيدة المعنى، “فليست هناك مفاهيم ضمنية أو تفسيرات جاهزة، وكما يقول جان دوفينيو : “فإن المفاهيم المستعملة ليس بإمكانها أن تشمل أو تختزل التجربة الاجتماعية اللامتناهية، المتنوعة والمبدعة”[2] وسنعمل الآن على تحديد بعض المفاهيم التي تم الاعتماد عليها:
يعرف “جي روشي” التغير الاجتماعي باعتباره كل تحول Transformation في البناء الاجتماعي في الزمن لدى فئات واسعة من المجتمع ويغير مسار حياتها.”[3]
إن التغير الاجتماعي ظاهرة تمس البناء الاجتماعي، أي التغير الذي يحدث أثراً عميقاً في المجتمع، وهو الذي يطرأ على المؤسسات الاجتماعية: كالتغير الذي يطرأ على بناء الأسرة، أو على النظام الاقتصادي، أو السياسي وما إلى ذلك، هذا التغيير هو الذي يمكن تسميته بالتغير الاجتماعي، إن قياس التغير لا يتأتى إلا من خلال الوقوف على الحالة التي كان يوجد عليها المجتمع سابقاً وكيف أصبح اليوم، فالتغير الاجتماعي إذن هو كل تحول يطرأ على البناء الاجتماعي، في النظام، والقيم، والأدوار، وما يمكن مشاهدته خلال فترة زمنية معينة.
فالتغير الاجتماعي هو كل تحول يحدث في النظم والأنساق والأجهزة الاجتماعية سواء أكان ذلك من الناحية المورفولوجية أو الفزيولوجية خلال فترة زمنية محددة، بفعل عوامل خارجية أو داخلية، مثل اكتشاف موارد الثروة أو الهجرة أو نشر التعليم أو الاختراعات التكنولوجية،[4] التغير الاجتماعي هو الانتقال من حال حال، وقد يكون هذا التغير تقدمياً أو تأخريا، ثابتاً أو مؤقتاً، مخطط أو غير مخطط، موجهاُ أو غير موجه، مفيداً أو ضاراً، فالتغير إذا هو العملية التي يتحول بها نظام المجتمع من نموذج إلى آخر.
كما نجد أيضا مفهوم التحول الاجتماعي الذي حدده “جورج بلانديي G. balandier” بكونه انتقال من بنية إلى أخرى كرجة تطال الأنساق القائمة، والتحول بهذا المعنى هو تغير بنيوي يمس طبيعة النسق الاجتماعي برمته، كما يمس توجهه العام وشكل تنظيمه، وبالفعل “إذا كانت قوى التغير ذات مفعول كبير، وإذا ما كانت الضغوطات التي تمارس على النسق من الخارج والداخل قوية جداً، فإن خلخلة توازن هذا النسق تؤدي إلى تغيرات على مستوى بنيته، وهي التغيرات التي تنتج أوضاعاً مختلفة أكثر، مع الوضعية السابقة التي أخذت كنقطة انطلاق.”[5]
إن كل تغير يمس بنية النسق يؤدي بالضرورة إلى متسارعة في مجال القيم، وإلى اضطرابات على مستوى التوجهات والأهداف العامة للنسق الاجتماعي، الأمر الذي يؤدي إلى تحولات ليست معطاة بشكل مباشر (لا يمكن ملاحظتها، بل هي متخفية)، إن هذه التحولات أو الرجات ستؤدي لا محالة إلى البحث عن الاستمرارية كرد فعل طبيعي داخل المجتمع، أي المحافظة وإنتاج وإعادة إنتاج نفس العلاقات الاجتماعية ونفس الأنساق القيميمة، من أجل الحفاظ على استقرار وتوازن المجتمع وتبريرها للوضع القائم ولضرورة الخضوع للعلاقات الاجتماعية القائمة، هذا الأمر يحيلنا على التغير القيمي كجزء لا يتجزأ من التغير الاجتماعي.
فالتغير القيمي هو كل تحول على مستوى المعايير والتوجهات العامة للنسق المجتمعي الموجه للمفاهيم والتمثلات والأحكام (التقييمات) والمسلكيات والمواقف والاتجاهات والمسوغات التي يتم إضفاؤها على الفكر والممارسة والسلوك، كما هو تغير على مستوى موقع المرجعيات المؤطرة والموجهة لغايات العيش المشترك، كما ترتبط هذه التغيرات القيمية بسيرورة الواقع البشري وبدينامية المجتمعات وتحولاتها.[6]
إذا فالعلاقة بين كل من التغير الاجتماعي والتغير القيمي هي علاقة ترابط، فكل تغير على مستوى البنيات المجالية والاجتماعية يؤدي بالضرورة إلى تغير على مستوى القيم المؤطرة والموجهة للسلوك الاجتماعي للأفراد داخل الأسرة والمجتمع.
- الأسرة المغربية والتغيرات الاجتماعية والقيمية
لا أحد يجادل بكون الأسرة هي الخلية الأولى التي تحدد سلوك الفرد، عن طريق سلطة التنشئة الاجتماعية، مادام الفرد لا يختار أن يوجد داخلها، فهو مقذوف به دون استشارته ضداً عن حريته وإرادته، فلا أحد يختار الأسرة أو المجتمع الذي يعيش فيه، وبالتالي فالفرد مرغم على أن يعيش فترة من حياته داخل أسرة والتي تعمل على تلقينه نسقاً من القواعد، وتعمل على استدماجه لقيم وسلوكيات وأفعال والديه ومحيطه ومجتمعه، “إن تكيف الطفل مع محيطه يتم من خلال تمثله لشخصية والديه التي تمثل الشخصية الاجتماعية لمجتمع ما أو لطبقة من الطبقات”[7] كما أكد على ذلك أريك فروم Eric From.
فالأسرة هي مؤسسة وسيطة بين الفرد والمجتمع، ذات وظيفة تكوينية وتلقينية، تستعين في ذلك بميكانيزمات الضبط والإدماج والضغط في تمرير وفرض قيم المجتمع، من حيث أن تلك القيم وضعيات سلوكية مثالية…فالأسرة المغربية تعمل على إعادة إنتاج القيم والمعايير الثقافية والأخلاقية الايجابية والناجعة والمثل العليا، مثلما تعيد بناء وضعية نفس الجماعة التي تنتمي إليها الوحدة السكانية أو المجال الذي توجد فيه، إنها تعيد إنتاج المدينة أو القبيلة بنفس القيم والتمثلات والمعايير التي ورثتها[8].
لقد عرفت الأسرة المغربية تغييراً في بنيتها نتيجة التدخل الاستعماري وما صاحبه من تغيرات على مستوى المجال والاقتصاد المغربي، فالانتقال من مجال قروي أو مديني عتيق إلى مجال حضري على النمط الأوربي، ومن النمط الفيودالي إلى النمط الرأسمالي، أدى إلى تغير الأسرة من ممتدة إلى نووية إلى ظهور أشكال جديدة من الأسر مثل أحادية النواة وأنماط تقوم على أساس المساكنة كنوع من العلاقات القائمة بين الجنسين اليوم، وأمام هذا التحول الذي مس البنيات المجالية والاجتماعية المختلفة، “تحولت حتماً قيم الأسرة وأدوارها وعاداتها وأعرافها وطقوسها ورموزها ووظائفها ومنطقها وعقليتها وكيفية إدراكها للعالم والأشياء وتمثلها للمجتمع، وقد استثبت بالتالي قيم عصرية جديدة”[9].
إن هذه القيم الجديدة تستنتج رؤية وتصورات جديدة حول المرأة، فدخول المرأة للعمل عمل على تلاشي بعض القيم التقليدية، فاسحة المجال لسلوك وقيم جديدة كالخروج للمجال العام سافرة الوجه، بعدما كانت رهينة الحريم باعتباره مكان المرأة التقليدية، ليتحول الحريم من معطى مكاني مادي إلى معطى ذهني تمثلي، كما ستبرز المساواة كقيمة اجتماعية وقانونية مشروعة تدافع عنها النساء، والتي تخول لها المشاركة في جميع أنشطة الحياة العمومية، إن هذا الوضع يفتحنا على تغير العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة، فما هي أهم التغيرات القيمية التي مست هذه العلاقة؟
- علاقة الرجل بالمرأة
إن ارتفاع نسب تمدرس النساء، ونسب الحاملات للشواهد الجامعية مقارنة بالماضي، وارتفاع نسبة النساء العاملات واختراقهن لسوق الشغل، أدى إلى ظهور نوع من الاستقلالية المادية للنساء، الأمر الذي أدى إلى تغير العلاقات الاجتماعية، خاصة بين الرجل والمرأة.
فحسب عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي، فالعقلية المغربية بدأت في التغير خاصة النظرة إلى المرأة، فلم يعد الرجل ينظر إلى المرأة نظرة تقليدية ترتبط بالطاعة العمياء والخضوع المطلق، بل على العكس من ذلك، “فالرجال المغاربة يشعرون بالارتياح إزاء عصر يطلب استبدال الجمود بالمرونة، والشك باليقين، والفلقة بالابتسامة،”[10] فقد أصبح المغاربة “المتزوجون يتنزهون وقد تشابكت أيديهم، والأب يحمل طفله فخوراً” [11] ولعل ما ساهم في ذلك هو التعليم المجاني للجميع، الأمر الذي جعل الشباب يتضامنون لمواجهة الأزمة، فلم يعد الزواج تقليدياً يرتبط بدفع المهر من طرف الشاب مقابل زواجه من فتاة ما، بقدر ما أصبح هناك تواطئ بين الذكر والأنثى، إن التعليم فتح آفاقاً حول الدخول إلى العمل باعتباره مؤشراً بنيوياً على تغير الأدوار النوعية وتبادلها داخل الأسرة والمجتمع.
إن خروج المرأة إلى المجال العام وانخراطها في العمل الوظيفي (المدر للدخل)، وخروجها من عالم المنزل المنغلق (الحريم) وأعماله، أدى إلى بروز هامش من الحرية والاستقلالية المادية والجنسية للمرأة، خارج الأسرة والمنزل، نتيجة ارتفاع نسبة التمدرس والعمل والعولمة ووسائل الاعلام وغيرها من العوامل، هذا الأمر أثر على نمط العلاقة القائمة بين المرأة والرجل، فلم تعد للرجل تلك السلطة التقليدية التي كانت سائدة، خاصة إذا لم يستطع أن يتدبر أمور المنزل المادية، فالمرأة المغربية أصبحت تفضل العمل المهني على العمل المنزلي ولو بدرجات متفاوتة.
إن تواجد المرأة واقتحامها للمجال العام الذي كان حكراً على الرجل بالماضي، جعل العلاقة التقليدية تطفو لكن بشكل مختلف عما كانت عليه، ولعل الأمر يتجلى في كون السلوكيات التي يقوم بها الذكور اتجاه الإناث على مستوى المجال العام: كالتحرش والاغتصاب والعنف الممارس ضد المرأة سواء الرمزي أو المادي، يحيل من بين ما يحيل إليه، أن النظرة التقليدية للمرأة التي تغلف الفكر الذكوري لازالت سائدة من خلال القيم التلفزيونية والعولمية التي تقدم المرأة كجسد جنسي قابل للاشتهاء، لتنتقل قيمة المرأة من ماكنة للولادة وامتداد النسل، إلى قيمة مبتذلة باعتبارها مجرد وعاء جنسي للرج، ولأن النساء يعتمدن في مفهوم الذات وفي إدراكهن لهويتهن، بل حتى في مظهرهن وذوقهن على مدركات الرجال، فإن هذا يجعلهن مستعبدات لما تروج له السينما والمحطات التلفزيونية والمجلات النسائية ومواقع التواصل الاجتماعي، تحت تأثير مفعول العرض العالمي (الموضة)، وإنه لمن الرثاء أن يجعل مفهوم العرض العالمي المرأة تلهت دوما وراء الجديد والمبتكر لكي تغير من جلدها بين شفط ونفخ وشد ونتف… لقد جعلتها الموضة مجرد كائن جنسي قابل للاشتهاء (الشهوة)، وهكذا يجري تنميط جسد الفتاة/ المرأة في صورة ذلك النظام القار للاستعدادات والمواقف الذي يسميه بورديو “هابيتوس” Habitus، إن دور الموضة وشركات التجميل وفنون التسويق والإعلان تعمل على تنميط الفتاة/ المرأة بشكل يسهل تسليع جسدها، كمتاع… إن هذا الأمر يرسخ لدى الفتاة/المرأة كما الولد/الرجل وبالتالي المجتمع صورة نمطية على المرأة ودورها في الحياة باعتبارها وعاءً جنسيا يفرغ فيه الرجل مكبوتاته ورغباته اللبيدية… كما يساهم في إعادة تشكيل نفس الوضعية الاستعبادية الدونية للفتاة بالمجتمع الحديث، من خلال العنف الرمزي الذي تمارسه وسائط التنشئة الاجتماعية المتعددة والمتعدية لدور الأسرة التقليدية.
إن التحولات القيمية التي عرفتها علاقة المرأة بالرجل ومكانتها داخل المجتمع وداخل النظام العولمي المسلعن، انعكست على مستوى العلاقة القيمية بين الآباء والأبناء أيضاً، إذن ماهي أهم مظاهر هذا التغير القيمي؟
- دينامية العلاقة بين الآباء والأبناء
إن الملاحظ للتغيرات القيمية على مستوى الأسرة، باعتبارها الخلية الأولى التي تضمن للمجتمع وحدته واستمراريته، والتي لا تزال تحافظ على مكانتها ومركزيتها بالمجتمع المغربي، سيظهر له بعض التغيرات القيمية على مستوى علاقة الأبناء بالآباء (الآباء بالأبناء)، فإذا كانت التناقضات بين الأجيال قانونا يحكم التغير الاجتماعي للمجتمعات، فإن هذا التناقض لم يكن فيما مضى صارخاً ومنكشفاً وصريحاً كما هو الآن، فقد كانت العلاقة بين الأبناء والآباء هي علاقة التابع والخاضع لسلطة رب الأسرة، كما كانت الأسرة تعرف احترام التراتبية المرتبطة بالأكبر سناً، بدءً بالجد إلى الأب والأم إلى الأخ الأكبر..إلخ، وقد كان التناقض بين الآباء والأبناء يتم بشكل بسيط وخفي، عكس الآن. فقد بدأ الأبناء يتدخلون، بل يفرضون على الآباء اختياراتهم سواء الخاصة بهم أو الخاصة بالآباء أيضاً، هذا الأمر يشير إلى تحول في علاقة الطاعة والولاء والخضوع لسلطة الأب التي كانت فيما مضى، ولعل خروج الأبوين للعمل أدى إلى تراجع مركزية الأب في الأسرة إما لصالح المرأة، ويظهر ذلك في حالة عدم قدرة الرجل على توفير الاستقرار المادي للأسرة، وإما للفراغ الذي أفقد الأبناء النماذج القيمية التي وجب تمثلها، الأمر الذي يدفع بهم إلى البحث عن نماذج قيمية جديدة على مستوى الإعلام أو الدين أو اللاعبين أو الفنانين أو مشاهير معينين، وذلك نظراً لفشل الأبوين في توجيه أبنائهم وإمدادهم بنماذج التصرف والسلوك، وهو الأمر الذي أكده روبرت ميرتون في أن ظاهرة صراع القيم هي ظاهرة مصاحبة لعمليات التغير الاجتماعي والاقتصادي[12] والمجالي أيضا، وهي عملية تفضيل لقيم تختلف باختلاف الظروف والحيثيات واللحظات السوسيوتاريخية التي يمر بها المجتمع.
كما أن فعل الزواج كفعل اجتماعي مؤسساتي، لم يعد كما كان من قبل، فعلى الرغم من كون الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كان يعيشها جيل الآباء إلا أن الزواج كان فعل اجتماعي مرغوب ومطلوب، مما جعل العزوبة (بالنسبة للرجل) والعنوسة (بالنسبة للمرأة) غير مرتفعة، بيد أن الأمر يختلف على مستوى جيل الأبناء، فإذا كان الزواج كفعل اجتماعي مثمن من طرف كلا الجنسين، وينظرون إليه باعتباره غايتهم القصوى، بل إنه الحل الاستراتيجي عند الفتيات، إلا أنه بين التثمين على مستوى المخيال والوجدان، والتحقق الفعلي الواقعي تبرز المفارقة[13] المتمثلة في ارتفاع العنوسة والعزوبية مقارنة بالماضي فقد انتقلت من 20% سنة 1960 بالنسبة للذكور إلى حوالي 41 % سنة 2014، أما الإناث فقد انتقلت من 17% إلى حوالي 29% في نفس الفترة. [14]
ولعل هذا الأمر يرجع للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقيمية والمجالية التي عرفها المغرب. فتعليم الفتيات وخروج المرأة للمجال العام له تأثير على نسبة العزوبة أو تأخر سن الزواج، علاوة على الأوضاع الاقتصادية المادية، فانفتاح المرأة على المدرسة وبروز ظاهرة التفوق المدرسي والجامعي النسوي، أفرز نوعاً من الصراع بين القيم المحافظة والقيم الحداثية[15]، الأمر الذي أدى إلى تحولات على مستوى العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، التي أصبحت المتنفس الطبيعي لجيل الشباب تحت اسم الحب أو التحرر، فقد كشفت دراسة للباحثة نعمان جسوس في كتابها: بلاحشومة، أن 65% من النساء اعترفن بأنهن مارسن الجنس قبل الزواج[16] مرة واحدة على الأقل.
ختم وأفق للتفكير:
لقد أدى التغير القيمي الذي عرفه ويعرفه المغرب تغيراً على مستوى مكانة الأبوين، فبعد أن كان للوالدين مقاماً أسرياً ذو طابع مقدس “رضى الله من رضى الوالدين”[17] ولا خير يرجى من إنسان حاز سخط والديه، أصبح الواقع يبرز اليوم تراجع دور الوالدين عند كبرهما، فعندما يصبحان جدين لأحفاد تطرح مسألة دورهما على مستوى الأسرة المغربية، لقد تراجع دورهما اليوم لصالح التلفاز والهاتف الذكي ووسائل التواصل الاجتماعي ..إلخ، فقبلا كان الكل يتحلق حول الجد والجدة طمعاً في حكاية أو أحجية تستعصي عن الحل، لكن اليوم أصبح ذلك من اختصاص التلفزيون الذي ينشر نوعاً من الثقافة الدخيلة من خلال الأفلام المبثوثة فيه، والتي تنشر قيماً ليست قيم نتاج تفاعل واقع موضوعي مغربي، الأمر الذي أدى إلى ظهور مؤسسات الرعاية الخاصة بالمسن في المغرب، وهو مؤشر على فقدان قيمة التضامن الأسري وتفككه، فما يسمى اليوم دور العجزة –على قلتهم- مؤشر على تغير قيمي كبير على مستوى مكانة المسن والمسنة بالأسرة المغربية، ليبقى السؤال المطروح: هل هذا يعني أن الأبوان أصبحا مجرد حوامل نفعية تمكن الفرد من الوصول إلى غايات وأهداف ليودعوا بعد ذلك في مستودع النسيان كما تودع كل الأشياء غير الصالحة للاستخدام؟ أم أن الأمر، لا يعدو كونه مجرد حالات معزولة هنا وهناك؟ هل تغيرت القيم الدينية لتتغير معها الوضعية القدسية للأبوين؟ وهل مكانة الأبوين ترتبط فقط بالنظرة الدينية أم أنها تتجاوزها لما هو أخلاقي إنساني؟
إن هذه التساؤلات هي آفاق مفتوحة للبحث في القيم المجتمعية، الأسرية التي ترتبط بحالة المسنين بالمغرب.
قائمة المراجع:
- الخطابي عزالدين: دينامية العلاقة بين التقليد والحداثة، تطور الحياة الاجتماعية بمدينة عتيقة، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2015.
- مور ولبرت: التغير الاجتماعي، ترجمة عمر قباني، دار الكرنك، القاهرة 1970.
- الجولان فادية عمر: “التغير الاجتماعي، مدخل النظرية الوظيفية لتحليل التغير، دار الاصلاح للطباعة والنشر، 1984.
- تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي: التربية على القيم، رقم 1/17، يناير 2017.
- الهادي الهروي: الأسرة، المرأة والقيم، تساؤلات في قضايا المرأة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2015.
- المرنيسي فاطمة: هل أنتم محصنون ضد الحريم، ترجمة نهيلة بيضون، المركز الثقافي العربي، بدون سنة.
- رشيد جرموني: التحولات القيمية بالمغرب: الشباب نموذجاً، مجلة إضافات ، العدد الثامن، خريف 2009.
- الإحصاء ات العامة للسكان والسكنى HCP .
- محمد الإدريسي: التحولات الجنسانية في المغرب المعاصر: النساء أنموذجا، مؤمنون بلاحدود، يوليو 2017.
- سمية نعمان جسوس: بلاحشومة الجنسانية النسائية في المغرب، ترجمة عبد الرحيم حزل، المركز الثقافي العربي، 2011.
- Rocher : Lorganisation sociale .
[1] الخطابي عزالدين: دينامية العلاقة بين التقليد والحداثة، تطور الحياة الاجتماعية بمدينة عتيقة، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2015، ص 45.
[2] الخطابي عز الدين، نفس المرجع، ص 40.
[3] مور ولبرت: التغير الاجتماعي، ترجمة عمر قباني، دار الكرنك، القاهرة 1970، ص 69.
[4] الجولان فادية عمر: “التغير الاجتماعي، مدخل النظرية الوظيفية لتحليل التغير، دار الاصلاح للطباعة والنشر، 1984، ص 11و12.
[5] G. Rocher : Lorganisation sociale , p 223 .
[6] بناءً على تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي: التربية على القيم، رقم 1/17، يناير 2017.
[7] الهادي الهروي: الأسرة، المرأة والقيم، تساؤلات في قضايا المرأة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2015، ص 21.
[8] نفس المرجع، ص 21.
[9] الهادي الهروي: مرجع سابق، ص 23.
[10] المرنيسي فاطمة: هل أنتم محصنون ضد الحريم، ترجمة نهيلة بيضون، المركز الثقافي العربي، بدون سنة، ص 28.
[11] نفس المرجع، ص 29.
[12] رشيد جرموني: التحولات القيمية بالمغرب: الشباب نموذجاً، مجلة إضافات ، العدد الثامن، خريف 2009، ص 161.
[13] نفس المرجع، ص 162.
[14] الإحصاء ات العامة للسكان والسكنى HCP .
[15] محمد الإدريسي: التحولات الجنسانية في المغرب المعاصر: النساء أنموذجا، مؤمنون بلاحدود، يوليو 2017، ص 7.
[16] سمية نعمان جسوس: بلاحشومة الجنسانية النسائية في المغرب، ترجمة عبد الرحيم حزل، المركز الثقافي العربي، 2011، ص 45.
[17] مثل شعبي مغربي يعبر عن مقام الوالدين وطاعتهما باعتباره واجباً دينياً، قبل أن يكون اجتماعياً.