دراسة في أشعار الطائفة التهامية بالزاوية الوزانية المغربية
The blessing of the zaouia in the popular Sufi imaginary
A study in the poems of the Tuhami sect in the wazzani zaouia of morroco
د. عمر شهبي \ أستاذ باحث بأكاديمية الرباط- سلا – القنيطرة \ المغرب
Dr. Omar Chahbi \ Research Professor at the Academy of Rabat – Sale – Kenitra \ Morocco
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 77 الصفحة 81.
الملخص:يتوخى هذا المقال استجلاء حضور الزاوية الوزانيىة المغربية في الشعر الصوفي الشعبي بوصفها مكانا مباركا يظهر بوصفه فاعلا ومؤثرا ومرغوبا، مجالا ثابتا أو متحركا، قاطنا في المريد الذي يحمله معه بوصفه مركز عالمه الخاص. ينسلخ المكان تبعا لذلك من بعده الطبيعي والمجالي، بوصفه فضاء جغرافيا محدودا له تكوينات وأبعاد هندسية معينة، ليغدو مرجعا للسلوك وعلامة تثير الرهبة والرغبة. فوزان لا تبرز في نصوص الطوائف الصوفية الشعبية بوصفها مجالا طبيعيا فحسب، وإنما مكانا مقدسا ومباركا أيضا. هذه البركة التي استمدها من مؤسس الزاوية مولاي عبد الله الشريف، والذي “حصل” عليها بدوره بفضل الانحدار النسبي من النبي صلى الله عليه وسلم.
الكلمات المفتاحية: البركة – الزاوية الوزانية – المغرب – الشعر الصوفي الشعبي – الطائفة التهاميةAbstract:
This article seeks to clarify th presence of the Moroccan Wazzani Zaouia in popular Sufi poetry as a blessed place that appears as active, influential and desirable, a fixed or moving field, residing in the disciple who carries it with him as the center of his own world. Accordingly, the place is stripped of its natural and spatial dimension, as a limited geographical space with certain geometric formations and dimensions, to become a reference for behavior and a sign that arouses fear and desire. Wazzan appears not only in the texts of popular Sufi sects as a natural space, but as a holy and blessed place as well. This blessing he derives from the founder of the zawiya, Moulay Abdallah al-Sharif, who, in turn, “obtained” it thanks to his lineage to the Prophet Muhammad, may God bless him and grant him peace.
Keywords: the blessing – the Wazzani Zaouia – Morocco – popular Sufi poetry – the Tuhami sect
مقدمة
يشمل الشعر الصوفي الشعبي بالزاوية الوزانية مختلف الأشعار، التي يرددها مريدو الطوائف الصوفية الشعبية الوزانية بالمغرب في حلقات الذكر والمناسبات الدينية والاجتماعية. وهي أشعار تتوزع بين القصائد الطويلة والشذرات الشعرية، وتتمحور معظم هذه الأشعار حول المدائح النبوية، والمواعظ الدينية، ومدائح شيوخ الزاوية الوزانية وسرد كراماتهم وخوارقهم، وكذا التغني بمدينة وزان (دار الضمانة) وذكر محاسنها وبركتها والتعبير عن التشوق لزيارتها، وهي الأشعار التي ندرجها ضمن موضوعة الوزانيات[1].
إن الوزانيات بوصفها موضوعة أساسية في الشعر الصوفي الشعبي تبرز كمجال لتصريف المخزونات والتخيلات والصور الرمزية التي يزخر بها المتخيل الشعبي لطائفة تُهامة في علاقته بمجال دار الضمانة المبارك. هذا المجال الذي ينتقل من كونه مجرد فضاء جغرافي محدود له تكوينات وأبعاد هندسية معينة إلى ساكن في المريد التهامي، يحمله معه في فؤاده وبين جوانحه أينما حل وارتحل.
إن الرهبة والإجلال اللذيْن يستشعرهما الإنسان في مكان ما، يدلان على أنه بات يمارس عليه سيطرة معينة، بمعنى أن المكان يتجرد من خاصياته الفيزيائية، وينسلخ من تكويناته الهندسية، ليغدو نسقا مكانيا مقدسا منغرسا في اللاوعي الثقافي، يوجه سلوك الإنسان ويصوغ تصوراته ويَنْزَرِع في ثنايا تعبيراته الثقافية ونصوصه الأدبية. فوزان لا تبرز في نصوص الطوائف الصوفية الشعبية بوصفها مجالا طبيعيا فحسب، وإنما مكانا مقدسا ومباركا أيضا. هذه البركة التي استمدها من مؤسس الزاوية مولاي عبد الله الشريف، والذي “حصل” عليها بدوره بفضل الانحدار النسبي من النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا فالمكان المبارك في النصوص الصوفية الشعبية يظهر بوصفه فاعلا ومؤثرا ومرغوبا، مجالا ثابتا أو متحركا، قاطنا في المريد الذي يحمله معه بوصفه مركز عالمه الخاص. ينسلخ المكان تبعا لذلك من بعده الطبيعي والمجالي، بوصفه فضاء جغرافيا محدودا له تكوينات وأبعاد هندسية معينة، ليغدو مرجعا للسلوك وعلامة تثير الرهبة والرغبة، وتكثف دلالات ثقافية عميقة تنطوي على مضامين دافقة بالرمزية ومعانِقة لأبعاد يتدخل فيها المقدس بالخارق والمدهش والعجيب.
من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة التي أعتقد أن موضوعها جديد في مجال الدراسات الشعبية، ذلك أنها تهتم بمقاربة بركة الزاوية في المتخيل الصوفي الشعبي، وذلك من خلال موضوعة الوزانيات. هذه الدراسة تنبني على تصور تحركه فرضية مركزية مفادها أن أشكال التعبير في الأدب الشعبي وبخاصة المتصل منها بالمقدس، هي مرآة مجلوة تنعكس عليها تصورات الجماعة الثقافية الشعبية عن الخالق والإنسان والكون. كما أنها تضمر عددا من الأنساق الثقافية، وعلى رأسها نسق البركة. هذه الأنساق المنغرسة في الخطاب تتوارى خلف العباءة الجمالية في الشعر الصوفي الشعبي، فتغشى العين والعقل لتمر إلى اللاوعي الثقافي آمنة مطمئنة.
البركة بين المنظور الإسلامي والمنظور الصوفي الشعبي
لعل مصطلح “البركة” من أكثر المصطلحات التي تحيط بها هالة سحرية عجائبية، تنبعث ربما من طبيعتها الغامضة، وأسرارها الخفية، وصلتها الوثيقة بذلك العالم الغيبي الموازي لعالمنا، الذي يستثير فينا أحاسيس الدهشة والاستغراب، ومشاعر الرغبة والرهبة على حد سواء. وقد أشار بول رادان (PAUL RADIN) لهذه الأبعاد العجائبية- كما ينقل عنه ميرسيا إلياد- في معرض حديثه عن مفردات مشابهة للبركة، يستعملها أبناء قبائل سيوكس Sioux والكونكين Algon kin[2]، حيث يقول: “إن مثل هذه المفردات تعني (المقدس) و(الغريب) و(المبهم) و(العجيب) و(الخارق) و(القوي)”[3].
إن البركة، وفق منظور رادان تعني المقدس كذلك، ولهذا ربما هي مثله عصية عن التعريف، تتفلت عند أية محاولة للإمساك بكنهها أو تحديد سماتها، لأنها تأبى الخضوع لمنطق الفكر وعقلانيته، التي تقوم على النظر للأمور من منظار منهجي صارم، يعتبِر المعرفة نتاجا للجهد الذهني، والنظر العقلي، والقياس المنطقي. ولهذا فالبركة تتعارض بطبيعتها مع العقلانية، التي تعمل على ترويض المفاهيم، لكنها تتماهى مع العجيب والخارق والسحري، وهي الأبعاد التي تجعلها عصية عن الفهم والإدراك والترويض. وقد اعترف كليفورد غيرتز بعجزه عن ملامسة جوهر مفهوم البركة ليقر في آخر المطاف بأنها من “الكلمات التي يُستحسن أن تتكلم عنها من أن تعرفها، والتي قد تُعرف في سياقها فقط”[4]. أي أن إدراك البركة وتَمَثُّلَ سماتها لا يتم إلا من خلال السياقات الثقافية والاجتماعية التي تستعمل فيها. ذلك أنها موسومة بخاصية الخفاء، التي تجعلها فعالية لامرئية تمارس فعل التأثير على العالم والأشياء دون أن تفصح عن ذاتها.
وقد أشار كليفورد غيرتز إلى خاصية الخفاء حينما اعتبر- في تعريف غير دقيق للبركة كما يقر هو نفسه– أنها ” “قوة روحية، من يملكها يصبح وليا”[5]. بمعنى أنها طاقة شديدة الفعالية تتصل بعالم آخر روحاني، وهي تمثل جوهر مفهوم الولاية. ومادام أن هذا العالم الروحاني الغيبي يتموقع خارج إدراكنا الحسي، فالبركة بهذا المعنى، تتصل بالوجدان. أي ذاك الإحساس الذي يغمر الذات الإنسانية حينما تستشعر وجود قوة روحية لامرئية مسؤولة عما يصيبها من نعيم وما يلحقها من خير. فالبركة كما يرى يوسف شلحد:” صفة خفية ومستورة، أقله بتأثيراتها، تضاف إلى الكائنات والأشياء، حاملة معها الخيرات والحسنات”[6]. يُفهم من هذا أن غياب البركة أو نزعها يترتب عنه بالضرورة حلول النقمة واللعنة والشقاء، ولعل هذا ربما ما جعل كليفورد غيرتز يذهب إلى أن البركة تشمل كذلك معاني “الثراء المادي والصحة والعافية والحظ والوفرة والاكتمال”[7]. أي أنها اسم جامع لكل النعم والخيرات.
وتتخذ لفظة البركة في المنظور الديني الإسلامي، معاني تتصل بالخير والنماء والزيادة فيه، إذ يقول ابن قيم الجوزية، في معرض حديثه عن حقيقة البركة الواردة في هذا الدعاء: (وبارِك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم)، “فهذا الدعاء يتضمن إعطاءه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم، وإدامته وثبوته له ومضاعفته له وزيادته”[8]. ويرى القاضي عياض أن البركة معناها: “الزيادة من الخير والكرامة والتكثير منهما، وتأتي كذلك بمعنى: “التطهير والتزكية من المعايب”[9]. وهو الرأي الذي يذهب إليه القرطبي كذلك، إذ يقول:” ويجوز أن تكون البركة هنا بمعنى التطهير والتزكية”[10].
بيد أن البركة بما تعنيه من فيض للخير، هي هبة وعطيَّة يمنحها الله تعالى لمن يحبه ويرضاه، أي أن مصدرها بالأساس هو الله تعالى، وهو الذي يفيضها بإرادته وعلمه وحكمته على من يشاء من عباده. يذكر ابن القيم بخصوص لفظة “مباركا” الواردة في الآية الكريمة:﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾[11]، أن غير واحد من السلف قال في معناها” مُلِمّا للخير أينما كنت، فالمبارك كثير الخير، ويكون العبد مباركا لأن الله بارك فيه وجعله كذلك”[12]. ويذهب محمد اليفرني كذلك إلى أن مصدر البركة إلهي، إذ يقول:” النماء والزيادة، والتكثير من الله تعالى للخير”[13].
التعريف بالطائفة التهامية الوزانية
وزان أو دار وزان كما يسميها البعض[14]، مدينة عتيقة توجد شمال المملكة المغربية. وهي تشكل الحاضنة الجغرافية والاجتماعية للزاوية الوزانية، التي تُعرف أيضا بالزاوية التهامية أو الزاوية الطيبية أو زاوية دار الضمانة. وقد برزت إلى الوجود مع أواخر الدولة السعدية وميلاد الدولة العلوية، على يد الشيخ المؤسس مولاي عبد الله الشريف العلمي الوزاني.
وقد شهدت الساحة الإنشادية الشعبية الوزانية ثلاث طوائف صوفية شعبية كبرى وهي: طائفة (أهل توات) وطائفة (المداحات الوزانيات) وطائفة (تُهامة). هذه الطوائف ارتبطت نشأتها بالزاوية الوزانية، كما اقترن فيها الغناء والإنشاد بشيوخ الزاوية وفضاءات دار الضمانة.
وتعد الطائفة التهامية أكبر طائفة صوفية شعبية بوزان، وتنتسب إلى مولاي التهامي الوزاني، الشيخ الثالث للزاوية الوزانية، الذي شهدت في عهده امتدادا وتوسعا عظيمين داخل المغرب وخارجه. وتشير لفظة “تُهامة” أو “التهاميين” إلى معنيين، أولهما خاص يرتبط بشرفاء وزان، آل الشيخ مولاي التهامي، وذلك تمييزا لهم عن الطيبيين آل الشيخ مولاي الطيب، الذي تنتشر طريقه بالجزائر وتونس على وجه الخصوص، أما المعنى العام فيتعلق بأتباع ومريدي الزاوية التهامية الوزانية سواء بالزاوية الأم “وزان” أو بسائر الزوايا الفرعية في البوادي والمدن المغربية. وقد اختص إنشاد هذه الطائفة الصوفية ببعد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمجيد الله عز وجل ومدح آل وزان وذكر فضائل الشيخ مولاي التهامي ومناقبه وكراماته. ومما أسهم في انبثاق الطائفة إلى الوجود وازدهار ممارستها الإنشادية تكاثر “الزوايا التهامية في الريف وجبالة، والأطلس المتوسط والتسول وغياثة وهوارة وسوس وتوات وتافيلالت والصحراء، بالإضافة إلى بعض الحواضر كفاس ومكناس وسلا والرباط. وتجاوزت شهرة الزاوية التهامية المغرب وذاع صيتها في تونس ومصر والشام والعراق وانتشر ذكرها في بلاد السودان والنصارى”[15]، وهذا ما أدى إلى إقبال المريدين على تشكيل الطوائف التهامية ونظم الأشعار، اقتداء بشيخها مولاي التهامي الوزاني، الذي عُرف بعنايته بالذكر واهتمامه بنظم الرباعيات على منوال سيدي عبد الرحمن المجذوب، ومن أشهرها، قوله:
مْنْ جا لْحَضْرْتنا يْبـْــرا يْمْـشي بْقَـلْبو مْسْتامْنْ
يْجي نْحاسْ يْمْشي نُقـْـرا وْ رسولْ الله هُوَ الضَّامْنْ
ويميز الباحث عبد الإله الغزاوي في دراسته عن الممارسة الثقافية الوزانية بين طوائف تهامية عديدة حسب انتماءاتها الجغرافية، فهناك تهامة الحضر، التي تتشكل من مريدي الزاوية الوزانية بالحواضر المغربية، كفاس ومكناس وسلا وتازة، وتمتاز إيقاعاتهم بالخفة والبساطة، ويمزجون أذكارهم ببعض المدائح النبوية، التي يستلهمونها من مجال السماع. ثم “تهامة فيلالة” وينتمون إلى منطقة الصحراء الشرقية للبلاد، ومعظمهم من إقليم تافيلالت، بالريصاني والراشيدية، وتتميز أذكارهم بالإيقاع الصحراوي. وكذا تهامة عين اللوح وتزنيت الذين يتسم إنشادهم بطابع أمازيغي. فضلا عن تهامة الغرب، وهم أعضاء الطائفة التهامية الذين ينحدرون من منطقة الغرب، كعرباوة وبني مالك وبني حسن، ويشكلون مدرسة أصيلة في مجال الذكر التهامي، وعلى منواله نسجت فرق عديدة في وزان وزرهون[16].
التعريف بالشعر الصوفي الشعبي بالزاوية الوزانية
الشعر الصوفي الشعبي منشدات صوفية رباعية في الغالب، تمثل أذكارا ذات لغة عامية، يرددها وفق إيقاعات الحضرة بشكل جماعي – في معظم الأحيان – مريدو الزاوية الوزانية، سواء بالزاوية الأم – وزان – أو بسائر الزاويا الفرعية، في البوادي والمدن المغربية، وتتمحور معظم هذه الأشعار حول المحبة الإلهية ومدح الحضرة النبوية الشريفة وذكر مناقب أولياء وشيوخ الزاوية الوزانية وسرد كرماتهم وخوراقهم.
ويضم الشعر الصوفي الشعبي الوزاني تلك الأشعار التي يتداولها مريدو الطوائف الصوفية الشعبية الوزانية، ويرددونها في حلقات الذكر ومختلف المناسبات الاجتماعية والدينية. وهي أشعار تتوزع بين القصائد الطويلة والشذرات الشعرية، التي تشكل تراثا شفاهيا جماعيا اعترته مختلف التحولات التي تطرأ على الإبداعات الشفهية في كل الثقافات الإنسانية، من نسيان ومحو وإضافات وتقاطعات. ورغم غنى الرصيد الشعري الذي تمتلكه كل الطوائف الصوفية الشعبية بوزان، فإن طائفة تُهامة تظل علامة فارقة بينها، سواء من حيث مخزونها الشعري الهائل، أو امتلاكها لجهاز مفاهيمي متكامل خاص بها.
ويتشكل الشعر الصوفي التهامي من رباعيات تنظم على حروف المعجم من حيت القافية، ويشترط شعراء هذا اللون الغنائي كأدنى حد أن تضم كل “ذْكرة ” ثلاث عشرة رباعية، تنسجم مع ثلاث عشرة منزلة من منازل فصول السنة. وللشعر الصوفي التهامي مصطلحاته الخاصة به، فناظم الذكر التهامي يسمى “الذّكار”، وكل بيتين يُسميان “نْشْدة”، ومجموعة من “النّْشدات” المبدوءة بكلمة واحدة تُكوِّن “امْرَمَّة”، ومجموعة من “النشدات” التي تتناول موضوعا واحدا تسمى”ذّكْرَة”. وتُسمى كل مجموعة من “النّْشْداتْ” “بالغْرامْ”، وهكذا نجد كل من (غْرامْ الهْبيلَة) و(غْرامْ سيدي الحاج العربي)، و(غرامْ سيدي الحاج عبد السلام)، و(غرام مولاي التهامي)[17].
ويضاهي الذكر الصوفي التهامي الفن الأندلسي من حيث اعتمادهما على “إيقاعات ونغمات وأشعار، ويأتي هذا الأخير (الشعر) لتتمسك به النغمة حتى لا تضيع، لأن أصحاب هذا الفن كانوا لا يعرفون طريقة وعلم الكتابة الموسيقية (السولفيج) التي يحفظون بها الأنغام. ومن (طبوع) هذا الفن، طبع (عايدة سلامي)، و(الركيك)، و(الغزوانية)، و(الجوني)، و(العادة)، و(اللَّيلهات)”[18] .
وتُؤدَى “الذّكرات التهامية” بشكل جماعي بالضرب على “الطويسة” و”الطبيلة” مع ضبط الإيقاع بالرش المنظم بواسطة الكفين سواء في المناسبات الدينية كعيد المولد النبوي وموسم مولاي عبد الله الشريف، وموسم مولاي التهامي…، أو في المناسبات الخاصة كحفلات الزواج والعقيقة والختان..
وتجدر الإشارة إلى أن هناك مميزات أساسية للشعر الصوفي الشعبي ممثلا في قصائد الذكر التهامي، ذلك أن هذه القصائد من إبداع طائفة صوفية شعبية ارتبطت بمدينة وزان بوصفها محور عالمها الصوفي والشعري، وكذا الشيخ باعتباره مركز دائرتها الإنشادية، وهذا ما يفسر هيمنة نصوص الوزانيات والمديح الولوي، التي تتغنى بالشيخ وكراماته ومناقبه، كما أن هذه القصائد هي مجهولة المؤلف، ولهذا فهي رصيد مشترك بين كل الطوائف التهامية بالمغرب، ذلك أن كل مريدي الطائفة يرددون الأشعار نفسها، وهم يؤكدون أنهم لا يعلمون ناظمها.
بركة الزاوية في المتخيل الصوفي الشعبي من خلال موضوعة الوزانيات
تشمل موضوعة “الوزانيات” مختلف النصوص التهامية التي تذكر دار\زاوية وزان وتُجَلِّي محاسنها ومميزاتها، وتدعو إلى زيارتها وشد الرحال إليها، كما تشمل أيضا تلك النصوص التي تعكس الانفعالات الوجدانية للمريد وتشوقه لزيارة مقام شيخه بوزان و”التمسح” بأستاره والارتشاف من “بركته”.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن النصوص التي تتغنى بالبقاع الحجازية المقدسة والتي يُصطلح عليها في السماع الصوفي بالحجازيات، نادرة جدا في الشعر الصوفي التهامي، فلم نعثر من خلال بحثنا الميداني إلا على نْشدة واحدة يمكن إدراجها ضمن ما يسمى بالحجازيات، وهذه “النْشدة” هي:
أَ حُجَّاجْ إيلى مشيتو ***** للنَّبي طَلْبو عليا
نْتْوْضا في بيرْ زْمْزْم ***** وْ نْصَلِّي في بورْقية
أَ حُجَّاجْ إيلى مشيتو ***** للْنَّبي مَهْلو عْليَّا
ويمكن تفسير هذا الغياب للنصوص الحجازيات، بأن هذه الطائفة الصوفية تعيش في عالم خاص بها محكوم بالرؤية الصوفية الطرُقية، و”مركز هذا العالم” لا يوجد في مكة المكرمة، وإنما هو موجود بمدينة وزان، على اعتبار أنها هي التي تضم مقر الزاوية الصوفية التي تنتسب إليها، وبها توجد أضرحة الأولياء الذين يُتوسل بهم إلى الله تعالى – فهم الواسطة بينهم وبين السماء –، يقول الباحث مرسيا إلياد في معرض شرحه لمفهوم “مركز العالم”: “وهذه الاعتقادات كافة تعرب عن عاطفة واحدة دينية وعميقة: عاطفة أن عالمنا هو أرض مقدسة لأنه أقرب محل على السماء، ولأنه من هنا يمكن الوصول إلى ” السماء”، إن عالمنا إذا، هو مكان رفيع”[19].
إن مجال وزان بالنسبة للطائفة التهامية ليس مجالا “رفيعا” فقط، وإنما هو مجال مقدس ومبارك أيضا، وقد استمد هذه البركة من مؤسس الزاوية مولاي عبد الله الشريف الذي استمدها من بدوره من النبي صلى الله عليه وسلم بفضل الانحدار النسبي، “فالبركة تعني أن المقدس يتجلى في العالم كهبة إلهية وقوة يختص بها أناس معينون دون غيرهم، فالولي الصالح يمتلك البركة بنفس الطريقة التي يحصل بها الناس على القوة والشجاعة أو الجمال أو غيرها من الصفات الموهوبة، وتصدر البركة من الانحدار النسبي من الرسول أيضا، فالأولياء هم مالكو البركة بامتياز”[20]، هذه البركة التي تظل سارية باستمرار كل ما يرمز إلى الولي. وهذا يظهر من خلال النّشدة التالية :
رْحْمو مْنْ خَلاَّ اسْوارْ ***** بْيْدُّو كَيْبْنيها
خَلاَّ البَرَكَة في الدّار ***** القَومْ كاعْدْ فيها
فدار وزان هي هبة الزاوية، إذ لم تدخل التاريخ إلا بعد أن أسس مولاي عبد الله الشريف زاوية شاذلية بها في منتصف القرن السابع عشر، ولهذا لا يمكن الحديث عن المدينة إلا داخل الإطار الصوفي، الذي يشكل الشيخ المؤسس الحلقة الأساسية فيه. فهو الذي أضفى طابع “القداسة” على المدينة ومنحها هويته، وبهذا المعنى يكون الشيخ المؤسس في الطرق الصوفية “قناة لتصريف القدسي في التاريخ \ المجال، لدرجة تصبح هوية المؤسس هي هوية المجال، كما يصبح هذا الأخير تجسيدا لفعل المؤسس وإطارا لحضوره الدائم “[21].
ويحضر مولاي عبد الله الشريف في المخيلة الفردية والجماعية “التهامية” من خلال بركته التي انتقلت منه إلى أحفاده لتعم مجال “دار الضمانة” بأكمله، ” فبركة المؤسس وقدسيته تصبحان إرثا خاصا بالمجال أولا، ثم بخليفة المؤسس إضافة إلى ذلك يصبح المجال مثل المؤسس موضوعا للمخيلة الفردية و الجماعية، مما يكرس قدسيته ويجذرها”[22].
وقد تفاعل الشعر الصوفي التهامي مع الزاوية الوزانية ونظم فيها المدائح، فدار الضمانة حسب “الذّكار”، توحِّد الصف وتنشر لواء الأخوة بين الجميع، وتقف بجانب الغريب وتحسن إليه:
دارْ الضْمانَة لْجْميع ***** يا لمْنْسوبْ لْرْبِّي
نْحْكيها هيَ الْبْقيعْ ***** تْعودْ الرُّوحْ تْلْبِّي
دارْ الضْمانَة كَتْجيبْ ***** مْنْ هْنا حتى للْسُّوادني
هْيَ عْزْوْةْ لْغْريبْ ***** كَتْحْسْنْ بْالبَرَّاني
دارْ الضْمانَة دْ لْوْقارْ ***** واللِّي قالوها صْدْقو
اللي نْوا لْها بالغْدَرْ ***** مُحالْ واشْ تْعْتْقو
ولابد من الإشارة إلى أن ما ذكره الشاعر التهامي بخصوص انتقام القوى الغيبية لدار الضمانة ممن ناصبها العداء أو أضمر لها الغدر يتساوق مع ما أورده محمد بن عبد الله في كتبه (معلمة التصوف الإسلامي) نقلا عن (كشف الحجاب ) لسيدي أحمد السكيرج الذي يقول: “إن سادتنا أهل وزان ينبغي للإنسان أن يكون منهم على بال، فإن من خالطهم ولم يحسن الأدب معهم، فإنه يقع في الضرر سريعا” [23].
وهذا يدل أن “الذّكرة ” التهامية تعكس تصورا حول دار الضمانة كان سائدا حتى في أوساط بعض الكتاب والعلماء والذين يُحسبون على الثقافة العالمة أو الرسمية. وبذلك يمكن اعتبار الشعر التهامي، بالإضافة إلى قيمته الإبداعية والأدبية، “وثيقة” شفهية تؤرخ لبعض مظاهر وخصوصيات الذهنية الوزانية بشكل خاص والمغربية بشكل عام في فترة معينة من تاريخ المغرب.
إن الشاعر الصوفي التهامي وهو ينظم أجمل المدائح في دار وزان لم يدخر جهدا أيضا في الدعاية لها والتبشير بما لها من مميزات، باعتبارها منبعا للعلاج ورافدا للخير والبركة والنماء، زائرها يبلغ ما تمنى، ويشرب من كأس العسل الحلو، وينقلب حزنه إلى سرور وقلقه إلى اطمئنان:
ياوْ هَذِي دارْ النْبِّي ***** اللِّي زارْها يْدَّاوا
يْشْرَبْ كاسْ مْنْ لْعْسْلْ ***** وْ يْذوقْ الحَلاوَا
يؤكد الشاعر في هذه النشدة كما في نشدات أخرى على الوظيفة العلاجية لزاوية وزان انسجاما مع توجهات الطريقة الصوفية الوزانية التي وضع أسسها الشيخ مولاي عبد الله الشريف والتي تحث على التربية وعلاج أمراض القلوب والنفوس بذكر الله والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم والتسبيح والاستغفار، إلى غير ذلك من الأذكار التي تلهب حرارة الإيمان لدى المريد وتزيد من خشوعه، لذلك يدعو الشاعر التهامي جميع الناس وخصوصا مريدي الزاوية إلى زيارة دار وزان وعدم التراخي في ذلك لكي يظفروا برؤية “حبيبهم” التي تعادل – كما يقول – كل ثرواته ومتاعه :
زورو لْرْسْمْ عُرْوَه ***** لا تْقَصّْرو مْنْ مْجيكُمْ
ياكْ الطّابَعْ تْعَرْفوهْ ***** باشْ خْفيتْ عليكُمْ
الزُّرَة مْثْلْ الطّْبيبْ ***** تْزيدْ مْنْ تْخْشاعي
النَّظرَة في وْجَه لْحبيبْ ***** تْسْوى جْميعْ مْتاعي
إن غاية المريد من زيارة ” لْمْرْسْمْ” هو الحصول على ” الضَّمانْ ” الذي يمنحه أولياء دار وزان، ولذلك سُميت بدار الضمانة، وهذا الضمان حسب ابراهيم المشيشي العلمي هو”ضمان صوفي لا يعرفه ولا يتكلم عنه ولا يمنحه إلا أهل الصوفية، فهو ضمان التوبة والمغفرة يوم الحساب لكل من كتب له الله أن يُوارَى جُثمانه بأرض وزان المقدسة ” [24]!!
ولا يختص أهل وزان حسب الشاعر بمنح “الضَّمان”فحسب، وإنما يقومون أيضا بجبر قلوب ونفوس أضناها وأشقاها الانكسار، وهذه ميزتهم خلفا عن سلف، كما يقول “الذّكار” التهامي:
شوفو هْلْ وَزَّانْ ***** مْجْبّْرينْ كُلّْ تْليفة
كُلّْهُمْ خْرْجُو ضُمَّانْ **** مْنْ خْليفَة لْخْليفَة
إن هذه المعتقدات السائدة في أوساط الطوائف الصوفية الشعبية الوزانية والمتعلقة “بالضمان الصوفي ” بغض النظر عن انحرافها البين عن أصول وأسس التصوف المغربي السني، لها أبعاد نفسية وسوسيوثقافية هامة، ترتبط أساسا بأزمة عميقة في الذات الصوفية الشعبية التي تستبطن عموما شعورا بالدونية \ النقص \ الخطيئة \ الإثم، فتلجأ إلى” أهل دار الضمانة ” باعتبارهم “منزهين” عن الآثام و”الخطايا” وكذا لامتلاكهم “البركة” التي ورثوها عن أجدادهم. ولهذا فزيارة “دار الضمانة” والتوسل بأوليائها هي محاولة من المريد التهامي لتجاوز ذلك الشعور بالإثم والخطيئة والامتلاء بالبركة وتحصيل التوازن النفسي. هذا التوازن الذي سرعان ما يختل عندما يَهُمُّ المريد بمغادرة دار الضمانة، فتنتابه حالة من الحزن الشديد وتفيض عيناه بالدموع لإحساسه بدنو أجله، وبالتالي استحالة عودته إلى وزان. يصور الشاعر التهامي هذا المشهد في النّْشدة التالية فيقول:
نْبْكي عْلَى قَلْبي صْغيرْ ***** وْ انْفْشي بْدْموعي
يا لْمْرْسْمْ تْبْقى بِخيرْ **** مُحالْ ليكْ ارْجوعي
إن هذه الحالة الوجدانية التي عبر عنها الشاعر في هذه النشدة طبيعية ومنتظرة من المريد التهامي، بالنظر إلى ذلك الاشتياق الجارف الذي كان مستعرا في دواخله، وتلك اللهفة المتأججة في أوصاله لزيارة وزان و” الوصال” مع أحبابه:
مْقْهورْ مْنْ وَحْشْ لْحْبابْ ***** را حالتي تْورِّيكُمْ
كْتْبو لي في لْوْجابْ **** نْعْرَفْ خَطّْ يْديكُمْ
مْقْهورْ مْنْ وَحْشْ كْثيرْ ***** مْقْهورْ واشْ سْبابي
لوكان صْبْتْ الجْناحْ نْطيرْ **** نْشوفْ حْبابي
ويقول أيضا:
بَعْدْ كَنْتْفْكَرْ كيْهيــــجْ لْوَحْشْ عْلِيَّا
عْييتْ في قَلْبي ما نْصْبْرْ **** ما سْخيتْ بْالْوْلْفية
بَعْدْ نْفْدْفْد ما نْطيرْ ***** وْ لْخْبالْ فْ جْنْحاني
جاتْ النّْشوة فْ الضّْميرْ ***** وْ الرِّيحْ ما حْماني
ويشتد الشوق في نفس المريد عندما يطول الغياب، ويتذكر الأحباب، فتشتعل في داخله جمرة الحنين وتصبح حياته شقاء وعذابا، كما يظهر من النشدات التالية:
طولْ الغَيْبة ابْطيتْ***** وْ منينْ وصيتْ عْلِيَّا
والله بكم ما سْخيتْ ***** و الله شاهدْ عْلِيَّا
طولْ الغَيْبَة عَنْ لْمقامْ ***** وْ الشْرابْ مْنْ تَرْديدو
امْنينْ نْتْفْكَرْ لْرْسامْ ***** تْشْعَلْ نارْ جْديدَه
طولْ الغَيْبَة بالنّْزْوَة ***** وْ لْفْراقْ مْنْ تْشويشَا
مْنينْ نْتْفْكَرْ لوْجوهْ ***** تْحْرارْ عْلِيَّا العيشا
يعلم الشاعر الصوفي التهامي أن هناك من ينكر عليه شغفه الجم “بوزان” وأوليائها، لذلك فهو يتوجه إليهم بكلامه عبر صديقه، ليجعل من وزان ورجال الصوفية حَكَما بينه وبينهم:
لِيلاَّه يا خويا فْلانْ ***** آش نويتي فيَّا ؟
بيني و بينْكْ وَزَّانْ ***** وْ رْجالْ الصُّوفية
يظهر من خلال النشدات السابقة أن المكان يؤثر في الإنسان (الشاعر) بناسه وجغرافيته وتكويناته الهندسية، والإنسان كذلك يؤثر في المكان بإبداعاته ولمساته وعلاقاته، يقول الشاعر التهامي :
دارْ الضْمانَة كَتْلّْمْ ***** وْ تْنْهي عْلَى المْجْهولا
خَوَتْنا مْنْ غيرْ دْمْ ***** وْر ْضْعْتْنا مْنْ غيرْ بْزولا
إن ارتباط الذّكار \ المريد بالمكان \ دار الضمانة، هو تعبير عن الأمل في أن يجمعه بأناس يحبهم أو أشياء تربطه بها ألفة، وربما يكون التعلق بالمكان وسيلة يستطيع بواسطتها تحقيق عزلته عن الألم حيث يمكنه أن يحس بالهدوء والطمأنينة والسكينة. فالمكان “كموضوع ومرجع خارجي مباشر ليس هو ذاته في النص الإبداعي (شعر – رواية – مسرحية – لوحة فنية …)، إذ يغدو علامة استعارية تكثف دلالات إنسانية عميقة وقيما جمالية خلاقة، وتنطوي على أسرار تعبيرية دافقة بالحيوية والحركية، معانقة لكل مدهش وخارق وفاتن”[25].
يستشعر الإنسان الانتماء إلى المكان، أي أنه جزء من أبعاده وتضاريسه، سواء أكان هذا المكان مسكنا أم موطنا. ويتجلى هذا الشعور في عبارات من قبيل ( وْلْدْ لْبلادْ أو ابن البلد ) التي تكشف عن ارتباط وجداني وروحي بالأرض. بمعنى أن الأمر أبعد ما يكون عن مجرد انتساب أو ارتباط بالعائلة، وإنما هو تمثل للذات على أنها امتداد للأرض، لاسيما إذا كانت هذه الأرض مقدسة، التي تحضر في الوعي والسلوك والإدراك كمجال قاطن أو وساكن في وجدان الإنسان، يوجه تصوراته ويغني تخيلاته ويثري مختلف الصور الرمزية والأنماط الثقافية التي ينتجها، وهذا ما يجرِّد المكان من بعده المورفولوجي والهندسي ليغدو نسقا ثقافيا ينهل من المخزونات الثقافية والمضامين النفسية والاجتماعية.
إن الشعر الصوفي الشعبي نتاج ذهنية ثقافية صوفية، وهذا ما يجعل الأنساق الثقافية المبثوثة فيه تتقاطع مع المقدس، الذي يشكل تلك البوتقة التي تشتبك داخلها هذه الأنساق فتنصهر وتتمازج. وإذا كانت الهيمنة على الوعي والتحكم في السلوك، من أهم سمات النسق الثقافي، فإن المقدس في الشعر الصوفي الشعبي يمثل بدوره تلك القوة الهائلة التي تتحكم بدورها في الأنساق، وتملأها بالمعنى، وتمنحها شكلها. وهذا يعني أن المتصوف أو غيره من الخاضعين للنسق حينما يستجيب لمفعول نسق البركة أو الكرامة أو المكان المقدس على سبيل المثال، إنما يخضع لطاقة المقدس، التي تملأ هذه الأنساق وتوجهها وتتحكم بها.
إننا لا نقصد بالمقدس في هذا السياق الدين فحسب، ذلك أنهما رافدان ثقافيان قد يتقاطعان في مَواطِن ومساحات رمزية وثقافية وطقوسية معينة، وقد يتباعدان ويتصارعان أحيانا. فالمقدس حسب روني جيرار “كل ما من شأنه أن يمارس على الإنسان سيطرة”[26]، وهو في السياق الصوفي الشعبي يخضع لمفهوم التجلي إما في الزمان أو المكان أو البشر وأفعال الإنسان. فإذا تجلى في الزمان سمي عيدا أو موسما، وإذا تجلى في الإنسان سمي شيخا أو وليا أو مجذوبا، وإذا تجلى في الفعل الخارق، أُطلق عليه كرامة، وإذا تجلى في المكان سمي مقاما أو ضريحا أو مدينة “مقدسة”.
وهكذا، فالدين قد يوافق المقدس أحيانا في تقديس وإجلال بعض التجليات، لكنه قد يصادمه أحيانا أخرى، إذ يؤكد نور الدين الزاهي أن “الديني لا ينشئ المقدس ويؤسسه، بل يحاربه من دون هوادة”[27]. هذا الصدام بين الدين والمقدس، يتصل في تصورنا، بصراع بين نسقيْن ثقافيَيْن جباريْن يتنافسان حول التحكم في وجدان الإنسان ووعيه، وتوجيه تصرفاته سلوكيات ه وصياغة مواقفه وتصوراته. فهما معا يبعثان في النفس، على حد تعبير روجيه كايوا، “مشاعر الرهبة والإجلال، ويبرزان كمحظور محفوف بالمخاطر”[28].
لا يستقيم الحديث عن المقدس دون مقولة التجلي، التي تفصح عن ظهوره وانبثاقه في العالم. فالمقدس بدون تجل، لا وجود له ولا شكل. هذا التجلي الذي قد يصطدم أحيانا مع النسق الثقافي الديني، الذي يميل إلى نزع كل تجل للقداسة في العالم وتوجيهها باتجاه السماء. في حين يجنح المقدس لاسيما المقدس الصوفي الطرقي، إلى إنزال القداسة من عليائها وإرخائها على الزمان والإنسان، وتصريفها في الشجر والحجر والمكان.
خاتمة
يظهر إذن أن البركة تتخذ ملمحين أساسيين؛ عام يجعلها مرادفة للخير والنماء والنعمة والصحة والسعادة، كما تتخذ في السياق الديني الإسلامي إلى جانب هذه المعاني، دلالات التزكية والتطهير من العيوب والنقائص. أما الملمح الخاص فيرتبط بحقل التصوف الشعبي، الذي تظهر فيه البركة بمثابة سر خفي، وطاقة روحانية دافقة، تتشكل داخل عالم غيبي قدسي، يتجاوز قدراتنا الإدراكية والحسية، مما يجعلها موضوعا من موضوعات الإيمان والوجدان لا الفكر والبرهان. غير أن هذه الطاقة الروحانية، والقوة السحرية الرهيبة والعجيبة، قد تتحرك من مظانها العلوية والقدسية ، لتسري في العالم كما الكهرباء، فتتجلى في الأشياء والأماكن، و”يتملكها” الأولياء والصلحاء بفضل منزلتهم الصوفية، التي خولت لهم القرب من السماء. لكن البركة بما هي قوة روحانية خارقة قد لا تكتفي، وفق المنظور الصوفي الشعبي بالتجلي في البشر والشجر والحجر ،وإنما قد تتحول إلى فعالية عجائبية مسؤولة عن انبثاق الكرامات وخوارق العادات.
قائمة المصادر والمراجع:
القرآن الكريم برواية ورش عن نافع
- الكتب باللغة العربية:
- إلياد ميرسيا:
- الأساطير والأحلام والأسرار، تر حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، دمشق، سنة 2004، دراسات فكرية، رقم 79
- المقدس والعادي، تر عادل العوا، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، سنة 2009
- جيرار رينيه، العنف والمقدس، تر سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط.1، سنة 2009،
- الزاهي نورالدين:
- المقدس الإسلامي، دار توبقال للنشر، ط.1، سنة 2005
- المقدس والمجتمع، أفريقيا الشرق، الدارالبيضاء، د طـ، سنة 2011
- شلحد يوسف، بنى المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده، دار الطليعة – بيروت، ط.1، سنة 1996
- عبد العزيز بن عبد الله، معلمة التصوف الإسلامي، دار نشر المعرفة، الرباط ، ط 1، سنة 2001
- غيرتز كليفورد، الإسلام من وجهة نظر علم الإناسة: التطور الديني في المغرب وأندونيسيا، تر أبوبكر أحمد باقادر، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط.1، سنة 1993
- أبو الفضل عياض بن موسى، شَرْحُ صَحِيح مُسْلِمِ لِلقَاضِى عِيَاض المُسَمَّى إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، المحقق: الدكتور يحْيَى إِسْمَاعِيل، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، ط.1، سنة 1419 هـ \ 1998 م، ج.2،
- القرطبي أبو العباس أحمد، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، حققه وعلق عليه وقدم له: محيي الدين ديب ميستو – أحمد محمد السيد – يوسف علي بديوي – محمود إبراهيم بزال، دار ابن كثير، دمشق – بيروت، دار الكلم الطيب، دمشق – بيروت، ط.1، سنة 1417 هـ \ 1996 م
- ابن قيم الجوزية، جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام، قرأه وضبط نصه وعلق عليه وخرج أحاديثه مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن الجوزي، الدمام – المملكة العربية السعودية، ط.1، سنة 1417هـ\1997 م
- كايوا روجيه، الإنسان والمقدس، تر سميرة رشا المنظمة العربية للترجمة- بيروت، ط.1، سنة 2010
- المشيشي الوزاني ابراهيم، قليل من كثير عن تاريخ وزان وبعض من كان بهذه المدينة الشريفة من الأعلام، منشورات مؤسسة سيدي مشيش العلمي، ط.2، سنة 2005
- معلمة المغرب، إنتاج الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، نشر مطابع سلا، سنة 1989،
- منديب عبد الغني، الدين و المجتمع دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب، أفريقيا الشرق، سنة 2010، ط.2
- اليفرني محمد بن عبد الحق، الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب، المحقق: د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان، ط.1، سنة 2001 م
- المرجع باللغة الفرنسية :
- Bellaire Michaux. (1927). Archives marocaines, publication de la direction générale des affaires indigènes (section sociologie) volume XXVII, conférences faites au cours préparatoire du service des affaires indigènes,paris, librairie ancienne honoré champion
- الأطروحة الجامعية:
- الغزاوي عبد الإله، الممارسة الثقافیة للزاویة الوزانیة معالجة في التفكیك والتركیب، رسالة جامعیة لنیل دبلوم الدراسات العلیا في الأدب العربي، مرقونة بجامعة محمد الخامس، سنة 1996.
[1] لقد قمنا بصياغة مصطلح “الوزانيات” للإشارة إلى الأشعار الصوفية الشعبية التي تتخذ من مدينة وزان موضوعا لها، وذلك على غرار “الحجازيات”، وهي النصوص الشعرية الفصيحة التي تتغنى بالأماكن الإسلامية المقدسة ( مكة المكرمة والمدينة المنورة )
[2] السيوكس: هي قبائل هندية أوربية تقطن السهول الواسعة في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي كندا وتتكلم لغة خاصة. \ الكونكين: قبيلة من الهنود الأمريكيين تقطن بكندا ويبلغ عدد أفرادها 7000 نسمة. (إلياد ميرسيا، الأساطير والأحلام والأسرار، تر حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، دمشق، سنة 2004، دراسات فكرية، رقم 79، ص.203)
[3] إلياد ميرسيا، الأساطير والأحلام والأسرار، مرجع سابق، ص.203
[4] غيرتز كليفورد، الإسلام من وجهة نظر علم الإناسة: التطور الديني في المغرب وأندونيسيا، تر أبوبكر أحمد باقادر، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط.1، سنة 1993، ص.41
[5] المرجع نفسه، ص.41
[6] شلحد يوسف، بنى المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده، دار الطليعة – بيروت، ط.1، سنة 1996، ص.40
[7] غيرتز كليفورد، الإسلام من وجهة نظر علم الإناسة: التطور الديني في المغرب وأندونيسيا، مرجع سابق، ص.51
[8] ابن قيم الجوزية، جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام، قرأه وضبط نصه وعلق عليه وخرج أحاديثه مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن الجوزي، الدمام – المملكة العربية السعودية، ط.1، سنة 1417هـ\1997 م، ص.437
[9] أبو الفضل عياض بن موسى، شَرْحُ صَحِيح مُسْلِمِ لِلقَاضِى عِيَاض المُسَمَّى إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، المحقق: الدكتور يحْيَى إِسْمَاعِيل، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، ط.1، سنة 1419 هـ \ 1998 م، ج.2، ص.303
[10] القرطبي أبو العباس أحمد، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، حققه وعلق عليه وقدم له: محيي الدين ديب ميستو – أحمد محمد السيد – يوسف علي بديوي – محمود إبراهيم بزال، دار ابن كثير، دمشق – بيروت، دار الكلم الطيب، دمشق – بيروت، ط.1، سنة 1417 هـ \ 1996 م، ج.2، ص.41
[11]سورة مريم، الآية: 3
[12] ابن قيم الجوزية، جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام، مرجع سابق، ص. 273
[13] اليفرني محمد بن عبد الحق، الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب، المحقق: د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان، ط.1، سنة 2001 م، ج.1، ص.95
[14] من بين هؤلاء ميشو بلير الذي يدعوها بدار وزان (Bellaire Michaux. (1927). Archives marocaines, publication de la direction générale des affaires indigènes (section sociologie) volume XXVII, conférences faites au cours préparatoire du service des affaires indigènes,paris, librairie ancienne honoré champion, p.78)
[15]الحراق فاطمة، ضمن معلمة المغرب، إنتاج الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، نشر مطابع سلا، سنة 1989، ص.2605
[16] الغزاوي عبد الإله، الممارسة الثقافیة للزاویة الوزانیة معالجة في التفكیك والتركیب، رسالة جامعیة لنیل دبلوم الدراسات العلیا في الأدب العربي، مرقونة بجامعة محمد الخامس، سنة 1996، ص.393
[17] المرجع نفسه، ص.393
[18] المشيشي الوزاني ابراهيم، قليل من كثير عن تاريخ وزان وبعض من كان بهذه المدينة الشريفة من الأعلام، منشورات مؤسسة سيدي مشيش العلمي، ط.2، سنة 2005، ص.33
[19]إلياد ميرسيا، المقدس والعادي، تر عادل العوا، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، سنة 2009، ص.76
[20]منديب عبد الغني، الدين و المجتمع دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب، أفريقيا الشرق، سنة 2010، ط.2، ص.60
[21] الزاهي نورالدين، المقدس الإسلامي، دار توبقال للنشر، ط.1، سنة 2005، ص.36
[22] المرجع نفسه، ص.36
[23]عبد العزيز بن عبد الله، معلمة التصوف الإسلامي، دار نشر المعرفة، الرباط ، ط 1، سنة 2001،، ص.118
[24] المشيشي الوزاني إبراهيم، قليل من كثير عن تاريخ وزان وبعض من كان بهذه المدينة الشريفة من الأعلام، مرجع سابق، ص.26
[25] الغزاوي عبد الإله، الممارسة الثقافية للزاوية الوزانية، مرجع سابق، ص.69
[26]جيرار رينيه، العنف والمقدس، تر سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط.1، سنة 2009، ص64
[27]الزاهي نورالدين، المقدس والمجتمع، أفريقيا الشرق، الدارالبيضاء، د طـ، سنة 2011،ص.36
[28]كايوا روجيه، الإنسان والمقدس، تر سميرة رشا المنظمة العربية للترجمة- بيروت، ط.1، سنة 2010، ص.37