إشكالية التكافؤ التداولي لأفعال الكلام في اللسانيات التقابلية
The problematic of the pragmatic equivalence of the speech acts in the contrastive linguistics
أ.د. خالد توفيق مزعل (جامعة الكوفة- كلية الآداب، العراق)
Prof. Dr, Khaled Tawfeeq Mizel (University of kufa, Faculty of arts Iraq)
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 77 الصفحة 9.
ملخص:
يُسلّط هذا البحث الضوء على إشكالية تنتمي الى حقل اللسانيات التقابلية، تمثلت في اختلاف الباحثين فيما اصطلحوا عليه بالتكافؤ التداولي لأفعال الكلام، هل هو أمر قائم بين اللغات وهو جانب يعتمد في المقام الأول على مقاصد المتكلمين أنفسهم وليس على البنية اللغوية؟ وإذا كان كذلك، فما المقاربة المناسبة لدراسة التكافؤ التداولي لأفعال الكلام بين اللغات الطبيعية. كان الأساس المنهجي الذي أفضى الى هذا الإشكال نابع من التساؤل عمّا إذا كانت المقاصد التداولية تمثل مستوى من المستويات اللغوية أم لا تمثل؟ وهل يمكن دراسة التكافؤ بين الأفعال الكلامية من منظور اللسانيات التقابلية؟ من هنا ظهر الجدل بين الباحثين بإزاء الفرضية المناسبة التي من شأنها أن تقدم منهجاً رصيناً يقود الباحثين الى النتائج العلمية المتوخاة من وراء هذا الضرب من الدراسة. وكان من نتائج هذا الاختلاف والجدل أن صار كثير منهم يستعمل مصطلح التداولية التقابلية؛ بوصفها فرعاً من فروع اللسانيات التقابلية تُعنى بدراسة الجوانب التداولية حصراً في اللغات الطبيعية.
الكلمات المفتاحية: التكافؤ التداولي، أفعال الكلام، اللسانيات التقابلية، التداولية التقابلية، التكافؤ النموذجي.
Abstract
This research highlights a problematic that belongs to the field of contrastive linguistics, represented in the difference of researchers in what they call the pragmatic equivalence of speech acts, is it something that exists between languages and it depends primarily on the purposes of the speakers themselves and not on the linguistic structure? If so, which approach is appropriate to the study of the pragmatic equivalence of speech acts between natural languages. The methodological basis that led to this problematic stemmed from the question of whether pragmatic intentions represent a level of linguistic levels or not? Can equivalence between speech acts be studied from the perspective of contrastive linguistics? Hence the argumentation was appearing among the researchers regarding the appropriate hypothesis that would provide a sober approach leading the researchers to the scientific results envisaged by this study. As a result of this difference and argumentation, many of them have come to use the term contrastive pragmatics; as a branch of contrastive linguistics, it is concerned with studying the pragmatic aspects exclusively in natural languages.
KEYWORDS: pragmatic equivalence, speech acts, contrastive linguistics, contrastive pragmatics, prototypical equivalence.
مقدمة
التقابل سمة ذات طابع كوني أدركه الانسان منذ الوهلة الأولى على وجوده؛ فاتخذه منهجاً الى معرفة ماهية الوجود من حوله عن طريق المقارنة بين الأشياء لمعرفة السمات المشتركة والجوانب المختلفة بين هذه وتلك، للوقوف على أنساق الوجود المادي من حوله. ثم ما لبث أن طفق الى الخوض في التقابل الكامن فيما وراء العوالم المادية؛ سعياً منه الى اكتشاف القوى المتحكمة في سيرورة الوجود، للوقوف على ماهيته هو؛ بوصفه عنصراً من عناصر الوجود، ومن ثم معرفة القوى المتحكمة في مصيره.
ولما كانت اللغة هي السلوك الأظهر من بين الممارسات التي يتخذها الانسان سبيلاً الى التواصل مع عناصر الوجود من حوله مخاطباً تارة وواصفاً تارة أخرى؛ فقد وجد فيها اللسانيون ضالتهم لاكتشاف جانب من طرق التفكير التي يمارسها دماغ الانسان في نشاطه التواصلي لإنجاز حاجاته المتنوعة. فالتفكير هو العملية الأثيرة التي يشترك فيها أبناء الجنس البشري قاطبة في أثناء اشتغال الماكنزم الخاص بالتواصل اللغوي في أدمغتهم. من هنا وجد اللسانيون سبيلا الى فهم التقابل بين اللغات على الرغم من اختلافها؛ فباتوا يبحثون عن الخواص المشتركة والجوانب المتشابهة والمختلفة بين بنى لغوية تنتمي الى لغات مختلفة في ظاهرها، بيد أنها تشترك في جوهرها على صعيد الاستعمال البشري.
بدأ اللسانيون في مجال اللسانيات التقابلية بتقصي النظر في الجوانب الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية بين لغتين فأكثر. ولم يلبثوا كذلك حتى قادهم هذا المنهج الى البحث عن مستويات أُخَرَ أبعد غوراً وأصعب ملاحظة من سابقتها تمثلت في سعيهم الى الوقوف على (التكافؤ التداولي لأفعال الكلام) بين لغتين مختلفين. فطفقوا يقدمون مقترحاتهم ورؤاهم في هذا الاتجاه، مستندين الى من سبقهم تارة، ومجتهدين في فرضياتهم تارة أخرى. فأصابوا في جوانب، وجانبوا الدقة والصواب في جوانب أُخرَ، حتى مثَّل ذلك جدلاً مستمراً بينهم على صعيد المنهج والممارسة الفعلية. وقد خلف هذا الأمر قضية علمية ذات طابع إشكالي لم يلبث الباحثون أن يخوضوا فيه من دون الوقوف على مبدأ قارٍ في مقاربة علمية محددة وموحدة للوقوف على معايير التكافؤ التداولي بين اللغات من منظور اللسانيات التقابلية.
من هنا ظهرت الحاجة الى تقصي النظر في الإشكالية العلمية التي أثارها الباحثون على بعضهم من جانبين: يقوم الأول على تساؤل مفاده هل من الممكن النظر الى التكافؤ التداولي بين أفعال الكلام على أنه مستوى من المستويات اللغوية التي سبق أن درستها اللسانيات التقابلية (الصوتية، الصرفية، التركيبية، الدلالية)؟ أما الجانب الثاني فيقوم على تساؤل يكمن فيما إذا وقع الاتفاق على جواب شافٍ للتساؤل الأول فما المقاربة الأنسب لدراسة التكافؤ التداولي في اللسانيات التقابلية؟
ولما كان الباحثون قد اتفقوا- بعد جدل طويل- على وجود التكافؤ التداولي لأفعال الكلام بين اللغات الطبيعية في ضوء ما وضعوه من فرضيات وما قدموه من رؤى قمينة برصد التكافؤ التداولي بين اللغات وإن اختلفت تلك الفرضيات والرؤى فيما بينها من الناحية المنهجية؛ فقد كان المنهج الوصفي هو السبيل الأفضل الى استيفائي البحث في هذا المجال. وقد اقتضى هذا المنهج البدء بعرض الفرضيات والرؤى العلمية التي قدمها رواد هذا الاتجاه، ومن ثم بيان المآخذ والإشكالات التي بدت عائقاً علمياً في نظر باحثين آخرين يحول دون تطبيق تلك الفرضيات والرؤى على الصعيد العملي.
وقد كانت غايتي من هذا البحث تسليط الضوء على إشكال علمي في اللسانيات جدير بالتفات الباحثين إليه، ولاسيما طلابنا في الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه) علَّهم يجدون فيه إضاءة لسبيلهم نحو الدرس اللساني المعاصر.
ظهور مصطلح التداولية التقابلية في اللسانيات
منذ انبثاق البحث في ميدان اللسانيات التقابلية أدرك الباحثون أنَّ الهدف من وراء هذا المجال يكمن في الوقوف على الجوانب اللغوية المتشابهة والمختلفة بين اللغات الطبيعية، آخذين بالحسبان العوامل الثقافية المتحكمة في الاستعمال. ولما كان الاستعمال اللغوي خاضعاً لسيرورة الموقف التواصلي ومقتضياته فقد ذهبوا الى تلك المقتضيات فوجدوها ماثلة في الجانب التداولي من اللغة؛ من هنا سعى الباحثون الى تأسيس اتجاه تداولي بالاستناد الى مناهج اللسانيات التقابلية باتوا يصطلحون عليه بالتداولية التقابلية contrastive pragmatics؛ فظهر مصطلح التداولية التقابلية في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين عند مجموعة من الباحثين تنبَّهوا على ضرورة التحول بالتداولية من ميدانها التقليدي الى ميدان أكثر سعة وأجدى من سابقه تمثل في مقابلة الأفعال الكلامية بين اللغات.
وعلى الرغم من الحذر الشديد الذي كان يتوخاه الباحثون في مجال اللسانيات التقابلية في بحثهم عن ماهية التكافؤ التداولي تنظيراً وتطبيقاً، فإنَّهم في بحوثهم اللاحقة التي ظهرت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين صاروا يستعملون مصطلح التداولية التقابلية contrastive pragmatics من دون ريبة وعناء([1]).
ومن الباحثين العرب الذين التفتوا الى مصطلح contrastive pragmatics الدكتور بهاء الدين محمد مزيد، فترجمه بالتداولية التقابلية أو المقارنة؛ مشيراً الى أنها تُعنى بالبحث في اختلاف المبادئ والقواعد التداولية من لغة الى أخرى ومن ثقافة الى ثقافة سواها([2]). بيد أنَّ السبق والريادة في هذا الميدان تبقى للسانيين البولنديين، ولاسيما أولكسي وكرزوسكي وجانكي.
يرى كرزوسكي أننا إذا ما أردنا أن نقف على مفهوم دقيق لمصطلح التداولية التقابلية فلا بد لنا أولا من فهم ماهية مصطلح (التقابل) نفسه؛ بوصفه المصطلح الأكثر تداولاً بين الباحثين في الدراسات اللسانية العابرة للغات([3]). فما يلفت الانتباه هو كثرة استعمال الصفة التقابلية (contrastive) في أكثر من مجال على صعيد الدرس اللغوي، بيد أنَّ الفكرة الرئيسة التي تقوم عليها تلك الدراسات جميعاً هي التكافؤ (Equivalence)([4]) الذي يمثل العلاقة بين بنيتين لغويتين، تصل في أعلى مستوى لها في اللسانيات التقابلية بين لغتين أو أكثر حاملةً في طياتها الأسباب الداعية الى عقد الدراسة التقابلية بين تلك اللغات؛ فالعناصر المتكافئة بين اللغات هي السبيل الى هذا الضرب من الدراسة([5]).
وفي ضوء ما تقدم تُعرَّف التداولية التقابلية بأنها فرع من اللسانيات التقابلية تُعنى بدراسة التكافؤ الكائن بين اللغات على صعيد الأفعال الكلامية وسواها من مباحث التداولية؛ من أجل الوقوف على مستوى التشابه أو الاختلاف بين القولات اللغوية المتقابلة بين لغة وأخرى التي تضطلع بإنجاز قصد واحد عند المتكلمين على الرغم من اختلاف لغاتهم وثقافاتهم.
وقد كانت جل بحوث المعنيين بهذا الاتجاه تحاول الإجابة على سؤال مفاده الآتي: إذا كانت الدراسة التقابلية للغات ممكنة على صعيد البنية المادية وما تدل عليه (الصوتية، والصرفية، والتركيبية)، فهل هي ممكنة على صعيد تداولي يحاول الباحث فيه مقارنة مقاصد المتكلمين نفسها في لغاتهم المختلفة بغض النظر عن طبيعة نظام التراكيب التي تنجزها؟
فرضية التكافؤ التداولي عند أولكسي
يأتي ويزلو أولكسي في طليعة اللسانيين البولنديين الذين تصدوا للبحث في التكافؤ التداولي لأفعال الكلام بين اللغات؛ ففي بحثه الموسوم بـ(نحو تحليل تداولي تقابلي) حاول أن يؤسس منهجاً في التحليل التداولي التقابلي لأفعال الكلام بناه على مجموعة من الفرضيات تتصدَّرها فرضية مفادها: إنَّ الفعل الكلامي المنجَز في اللغة الأولى يقابل الفعل الكلامي نفسه المنجَز في اللغة الثانية([6]).
بنى أولكسي افتراضه هذا على أساس وظيفي يستند الى أنَّ الوظائف التي من أجل إنجازها تُساق التعبيرات اللغوية هي نفسها متوافرة- بالضرورة- في اللغات الطبيعية.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام إنَّ هذا الافتراض لم يكن بدعاً منه، بل ثمة من سبق في الإشارة إليه من اللسانيين وهم فريزر ورينتل ووالترز. إذ ربط هذا الأخير بين التكافؤ التداولي واكتساب اللغات؛ فذهب الى أنَّ البحث في طريقة اكتساب الكفاية التداولية في اللغة الثانية يقوم على ثلاثة افتراضات هي([7]):
- تتيح كل لغة طبيعية لمستعملها المجموعة الرئيسة نفسها من أفعال الكلام، مثل: الطلب، الاعتذار، الإعلان، الوعد، الإخبار، وما شابه ذلك. باستثناء بعض الممارسات أو الطقوس الشعائرية الخاصة بثقافة معينة، مثل التعميد، والتطهير، والحرمان الكنسي، وأضرابها.
- تتيح كل لغة- بصورة رئيسة- مجموعة الاستراتيجيات نفسها، ومنها الصيغ الدالة على إنجاز فعل كلامي معين.
- تختلف اللغات كثيراً فيما يتعلق بالسياق الذي ينبغي أن يُنجَز فيه فعل كلامي أو لا ينبغي ذلك، أو ربما يمكن إنجازه اختياراً، فضلا عن اختلاف استراتيجية الإنجاز.
أخذ أولكسي هذه الافتراضات التي قال بها والترز، وأقام عليها منهجه في دراسة التكافؤ التداولي بين أفعال الكلام في اللغات المختلفة؛ مستنداً الى أسس البحث في اللسانيات التقابلية.
منهج أولكسي في دراسة الأفعال الكلامية دراسة تقابلية بين اللغات
يرى أولكسي أنَّ المقاربة التقابلية لأفعال الكلام تقتضي اعتماد مجموعة من الشروط للتكافؤ بين الفعل الكلامي في اللغتين الأولى والثانية؛ إذ من الضرورة للفعل الكلامي في اللغتين أن يحمل سمات القوة الانجازية نفسها في الملفوظ، وشروط النجاح نفسها الواجب توافرها في المتكلم، وقد مثَّل لذلك بالمعادلة الآتية:
A: IFSA, L1= IFSA, L2
SA, L1= SA, L2 IF
B: FCSA, L1= FCSA, L2
في هذه المعادلة اعتُمِدت مجموعة من الاختصارات في هيأة رموز؛ إذ تشير (SA) الى الفعل الكلامي، و (L1) الى اللغة الأولى، في حين تشير (L2) الى اللغة الثانية. أما (IF) فهي تشير الى اختصار القوة الانجازية، و (FC) الى شروط النجاح.
وبعدما يغدو مؤكداً لنا تكافؤ الفعل الكلامي في اللغتين الأولى والثانية من ناحية القوة الانجازية وشروط النجاح، تأتي الخطوة التالية في المنهج وهي الوقوف على الاستراتيجية التي يتجلى فيها الفعل الكلامي في اللغتين؛ وهذا يدعونا الى القول بضرورة تكافؤ التعبيرات اللغوية التي يستعملها المتكلمان في هاتين اللغتين لإنجاز فعل كلامي محدد.
وإذا ما طُبِّق الاجراء المنهجي المقترح في أعلاه فإنَّ تكافؤ التعبيرات المستعملة من لدن المتكلمين في اللغتين سوف يجعلها مرتبطة بحقيقة مفادها إنها تنجز الفعل الكلامي نفسه. وبتعبير آخر، إذا كان الفعل الكلامي في اللغة الأولى مكافئاً للفعل الكلامي في اللغة الثانية من حيث القوة الانجازية وشروط النجاح فإنَّ التعبير اللغوي الذي استُعمِل في اللغة الأولى لإنجاز الفعل الكلامي يجب أن يكون مكافئاً للتعبير اللغوي الذي استُعمِل لإنجاز الفعل الكلامي نفسه في اللغة الثانية..
استنادا الى ذلك خلص أولكسي الى أنَّ من الحماقة أن نقول بأنَّ الفعل الكلامي في صيغة السؤال متكافئ في اللغتين في حين أنَّ التعبيرات التي تضطلع بإنجازه غير متكافئة([8]).
في ضوء ما تقدم يمكن القول إنَّ ما يضمن التقابل بين أفعال الكلام المنجَزة في لغات مختلفة هو أنَّ أفعال الكلام بوصفها استراتيجية تواصلية تكافئ قولنا إنَّ فعل الكلام الطلبي المنجَز باللغة الإنجليزية- على سبيل المثال- يكافئ فعل الكلام الطلبي المنجز باللغة البولندية؛ لذلك إنَّ القوة الانجازية وشروط النجاح المعتمدة في أفعال كلامية متكافئة ينبغي أن تكون ركائز للغة عالمية([9])؛ ذلك بأنَّ المعيار الأساس هنا هو وحدة السياق التواصلي الذي تُستعمَل فيه في اللغات كافة.
ولا يخفى بعد ذلك أنَّ فكرة اللغة العالمية ذات الأسس المشتركة بين اللغات هي الغاية التي يسعى اللسانيون الى بلوغها في أغلب بحوثهم، بيد أنَّ ما لا يخفى على الملم باللسانيات التطبيقية أنَّ هذه الفكرة صعبة المنال تطبيقاً، بيد أنها قد تبدو سائغة على صعيد التنظير. ومهما يكن الأمر فإنَّ التنظير في مجال اللسانيات التقابلية لا قيمة له ما لم يكن التطبيق مصداقاً له.
صياغة مصطلح التكافؤ التداولي عند أولكسي
لكي يدعم أولكسي فكرة التكافؤ بين أفعال الكلام في اللغات المختلفة، اجترح لها مصطلح التكافؤ التداولي Pragmatic Equivalence وصار يشير اليه اختصارا بـ(PEQ). ومن ثم اتخذ هذا المصطلح أساساً منهجياً لدعم رؤيته السابقة في دراسة أفعال الكلام.
بنى أولكسي هذا المصطلح على فرضية صاغها في معادلة تنص على أنَّ التعبير اللغوي الأول (X1) المستعمل في اللغة الأولى (L1) الذي يُنجِز بوساطته المتكلم الأول (S1) فعلاً كلامياً في لغته (YL1) في سياق تواصلي (Z1)، جدير بالوقوف على التعبير اللغوي الثاني (X2) في اللغة الثانية (L2) الذي يستعمله المتكلم الثاني (S2) لإنجاز فعل كلامي مكافئ (YL2) في سياق تواصلي (Z2) قابل للمقارنة اجتماعياً وثقافياً([10]).
ولتوضيح هذا الافتراض أكثر عمد أولكسي الى صياغته في معادلة قائمة على رموز مستلة من التعبيرات اللغوية في اللغتين الأولى والثانية على النحو الآتي:
التعبير اللغوي في اللغة الأولى (X1L1) يكافئ تداولياً التعبير اللغوي في اللغة الثانية (X2L2) إذا كان كلا التعبيرين مستعملين لإنجاز الفعل الكلامي نفسه في اللغتين الأولى (L1) والثانية (L2).
وفي ضوء هذا الايضاح يضع المعادلة الرمزية الآتية:
PEq. (X1L1, X2L2)= SA (L1, L2)
يخلص أولكسي من تلك الصياغة الرمزية الى أنَّ هذا الافتراض يقودنا الى سؤال هو: كيف يتسنى لنا منهجياً تحليل الأفعال الكلامية المتكافئة تداولياً في اللغتين الأولى والثانية؟
يجيب بأننا نستطيع ذلك عن طريق تسليط الضوء في التحليل التقابلي على المكون النطقي (اللفظي) والمكون (الانجازي) من الفعل الكلامي المنجز في اللغتين. فلا بد من أن تأخذ الدراسة التقابلية للمكون النطقي بحسابها الوصف التركيبي والدلالي للتعبيرات اللغوية التي تُستعمَل لإنجاز الفعل الكلامي المتكافئ في اللغتين الأولى والثانية. هذه الخطوة في التحليل مهمة؛ لأنها تلقي قدراً كبيراً من الضوء على الخواص اللفظية للتعبيرات اللغوية، وفي هذا المستوى من التحليل- على غرار المنهج المتبع غالباً في الدراسات التحليلية التقابلية السابقة- إنَّ الخواص الشكلية للتعبيرات في اللغة الأولى واللغة الثانية يجب أن تحدد من وجهة نظر التكافؤ اللفظي (FEq). إذ إنَّ هذه الخواص قد تتجلى أولاً للباحثين عن التكافؤ التداولي.
بيد أنَّ الجدير بالذكر في هذا المقام هو أنَّ التعبيرات اللغوية عبر اللغات، التي من شأنها أن تكشف عن التكافؤ التداولي بينها، ليس بالضرورة أن تكشف عن مستوى التكافؤ اللفظي فيها. ويسند ذلك ما خلص إليه هاوس وكاسبر في الأمثلة التي أورداها في بحثهما التقابلي بين جوانب التهذيب في اللغتين الإنجليزية والألمانية؛ فالشاهد الإنجليزي في المثال (27) مكافئ- من الناحية التداولية- للشاهد الألماني في المثال (28)، على الرغم من أنه يبدو بوضوح عدم التكافؤ اللفظي بينهما؛ إذ جاء على النحو الآتي([11]):
(27) Can you close the window? هل بإمكانك أن تغلق النافذة؟
(28) Du solltest das fenster zumachen. ينبغي إغلاق النافذة
وإذا ما وضعنا شاهدين توضيحيين آخرين من اللغتين الإنجليزية والألمانية أوردهما هاوس وكاسبر في بحثهما نفسه، سيبدو لنا الافتراض السابق جلياً بصورة أكثر وضوحاً، وهذان الشاهدان هما:
(29) You should close the window. يجب أن تغلق النافذة.
(30) Kannst du das fenster zunachen? هل بإمكانك أن تغلق النافذة؟
وبالنظر الى الشواهد الأربعة السابقة يظهر لنا بصورة واضحة أنَّ (27) في الإنجليزية و(30) في الألمانية مثالان متكافئان لفظياً وتداولياً؛ فكلاهما صيغة سؤال طُلِب فيه من المخاطَب اغلاق الشباك بطريقة مهذبة. بيد أن ما اكتشفه هاوس وكاسبر تجريبياً في المادة اللغوية التي بحثاها أنَّ تكرار الاستعمال في سياقات مماثلة أظهر ترابطاً أكبر بين الشاهين (27) و (28) على الرغم من أنهما غير متكافئَين لفظياً أكثر مما هو عليه الشاهدان (27) و (30). ولعلَّه أمر يعود الى اختلاف السياق الثقافي وما يقتضيه من بنية معينة على صعيد الإنجاز في اللغتين.
أما المكون الإنجازي من الفعل الكلامي فقد وضع أولكسي معايير لتحديده متمثلة بالآتي([12]):
- القوة الانجازية التي ينجز الفعل الكلامي بوساطتها.
- شروط النجاح التي ينبغي توافرها في المتكلم لنجاح الفعل الانجازي في مقاصده.
- السياق الاجتماعي الثقافي الذي يُنجَز الفعل الكلامي في خضمِّه، ويعني به مجموعة العادات التداولية المتعارفة في الإنجاز الكلامي في مجتمع معين.
- طبيعة العلاقة الرابطة بين المتكلم والمتلقي.
- الاستراتيجيات المعتمدة في إنجاز الفعل الكلامي التي هي ذات أهمية جوهرية.
يُعلِّق أولكسي على تلك المعايير الخمسة بأنَّ القوة الانجازية وشروط النجاح ذات اتصال وثيق بتحديد الفعل الكلامي؛ بوصفهما أساساً في تحليله اللغوي. علاوة على ذلك إنَّ القوة الانجازية وشروط النجاح هما دالان على تكافؤ الأفعال الكلامية عبر اللغات.
أما المعايير الثلاثة الأخر فهي أيضاً مهمة في بيان النواحي اللغوية والثقافية عند المتكلم؛ ذلك بأنَّها تُعد ضوابط لمقتضيات السياق المتداولة والموقف التواصلي الآني الذي يقتضي أن يُنجَز فيه الفعل الكلامي بطريقة معينة أو بطريقة أخرى سواها([13]). كالتهذيب، والتلطيف.
واستنادا الى ما تقدم بات من واجب التحليل التداولي التقابلي (PCA) للفعل الكلامي أن يوضح كيفية التكافؤ بين وظائف الفعل الكلامي في الثقافات التي ينتمي إليها المتكلمان في اللغتين الأولى والثانية. فمن المفترض أنَّ التحليل التقابلي المستوفي لشروطه في بيان التكافؤ بين الأفعال الكلامية لا يُعَد فاعلاً ولا مستوفياً لشروطه ما لم يضطلع بالوقوف على الجانب الاجتماعي الثقافي إذا ما أريد بالتحليل بيان الفعل الكلامي بالاستناد الى تحليل وظائفه في مجتمعات مختلفة أو متباينة ثقافياً([14]).
يشير هاوس وكاسبر- في هذا السياق- الى أنَّ وظيفة التكافؤ للفعل الكلامي في مجتمعات مختلفة ثقافياً من الممكن أن تُنجَز ويُرصَد إنجازها بنجاح إذا ما كانت استراتيجيات إنجاز الفعل الكلامي متعلقة بعناصر مثل طبيعة العلاقة بين المتكلم والمتلقي، وعناصر تداولية أخرى مثل استعمال التهذيب، والتلطيف، ومستوى الصراحة([15]). ذلك بأنَّ مهمة التحليل التداولي التقابلي هي تحديد تلك العناصر وبيانها.
من هنا يؤكد أولكسي أنَّ تأثير العناصر التداولية والاجتماعية والثقافية في قرارات المتكلمين التي يتخذونها بإزاء اختيار الاستراتيجية التعبيرية من الممكن أن يُلمس بصورة مختلفة عبر اللغات والثقافات. وإذا كان ذلك كذلك فإنَّ بإمكاننا أن نوضحه بالآتي: إنَّ اختيار الاستراتيجية المناسبة لإنجاز الفعل الكلامي هو أمر متعلق بقيود العناصر التداولية والاجتماعية والثقافية في استعمال فعل كلامي محدد([16]).
الكفاية التداولية وتعلم اللغات الأجنبية عند أولكسي
علاوة على ما تقدم وقف أولكسي على قضية مهمة على صعيد البحث التداولي التقابلي، وهي مسألة اكتساب الكفاية التداولية في اللغة الثانية عند متعلمي اللغات الأجنبية؛ ذلك بأنَّ اختيار الاستراتيجيات التعبيرية لا ينحصر بالمتكلمين الأصليين، بل يتعلق أيضا بالكفاية التداولية للمتكلمين بغير لغتهم الأم من متعلمي اللغات؛ من هنا وجد أولكسي في الكفاية التداولية سبيلاً الى ربط الفكرة السابقة بتعلم اللغة الأجنبية وما يحدث فيه من إشكالات؛ ذلك بأنَّ من مهام هذا المجال الأخير تسليط الضوء على ضرورة اكتساب متعلمي اللغات الأجنبية الكفاية التداولية؛ إذ بهم حاجة الى الاضطلاع بالقيود الاجتماعية الثقافية والعناصر التداولية التي تحكم استعمال استراتيجية معينة لإنجاز الأفعال الكلامية في اللغة الأجنبية التي يتعلمونها. وبتعبير آخر، إنَّ متعلمي اللغات الأجنبية سوف يواجهون صعوبات على صعيد اكتساب الكفاية التداولية، وهذه الصعوبات ستبدو واضحة في ارتكابهم أخطاء تداولية في سلوكهم اللفظي.
من أجل ذلك يقترح أولكسي أنه إذا كان بالإمكان دراسة الأخطاء التداولية منهجياً؛ فإنَّ الخطأ التداولي سيكون قابلاً للتحليل([17]) في الدراسة التقابلية عن طريق بيان أسبابه والخلل في استراتيجية إنجازه.
لم يكن المنحى الذي اختطه أولكسي أمراً شائعاً بين الباحثين في اللسانيات التقابلية، بل هو منهج جديد بناه على افتراضات وأسس قد تتعرض للنقد العلمي؛ لذا بات يؤكد جدوى البحث في (التكافؤ التداولي) على الصعيد التطبيقي، مستنداً الى إشارات من سبقه من الباحثين، ومنهم اللغوي الفرنسي فيليب ريلي الذي استعمل مصطلح (اللسانيات التداولية المتقابلة)؛ ففي إشارته الى الفشل الذي وقع فيه بعض الباحثين في مجال التحليل اللساني التقابلي حاول ريلي أن يعزو ذلك الفشل الى قصورهم في التعامل مع مشكلات المعنى، واستعمال اللغة، والوقوف على الجوانب المختلفة للتفاعل. فهذا الفشل- كما يبدو- ينصب في المجال التداولي، وليس فشلهم في التعامل مع البنية؛ ذلك بأنَّ مجال التداولية هو البحث عن وظائف اللغة المنجَزَة في الخطاب أكثر مما هو عليه في البنية اللغوية المادية للخطاب، فالفعل التواصلي في سياق معين هو مهمتها في المقام الأول، وهو أمر يصعب الوقوف عليه بين اللغات؛ لذا وقع بعض الباحثين في الفشل بإزاء رصد هذا الجانب في البحث التقابلي بين اللغات([18]).
المؤاخذات على منهج أولكسي
بعدما وضع أولكسي فرضيته بإزاء إمكان تطبيق الدراسة التقابلية على التكافؤ التداولي بين اللغات، ظهر مجموعة من الباحثين حاولوا أن يوجهوا دفَّة الدراسة التقابلية في هذا الجانب نحو افتراضات أخرَ بُنيت على بيان وجوه الخلل في افتراض أولكسي السابق. وكان توماس كرزوسكي واحداً من أهم المعترضين على رؤية أولكسي؛ فهو يرى أنَّ الدراسات اللسانية التي حاولت أن تجعل من التكافؤ التداولي أساساً لطريقة التكافؤ التركيبي والدلالي بين اللغات- على غرار ما فعل أولكسي- هي محاولات خاطئة؛ لأنَّها تعاملت مع الجانب االتداولي على أنَّه واحد من مستويات التحليل اللغوي؛ وفي هذا المنحى أخطاء من الممكن أن نعزوها الى الأسباب الآتية([19]):
- في الدراسات البنيوية والتوليدية التحويلية لم تُعَد المقاصد التداولية مستوى أو مكوناً لغوياً مثل الأصوات والكلمات والتراكيب أو حتى دلالة المفردات والجمل. فهذه جميعاً تمثل مستويات لغوية مستقلة، ومترابطة في الوقت نفسه عن طريق قواعد مختلفة؛ لذا إنَّ دراسة هذه المستويات والقواعد لم تُعنَ بالمقاصد التداولية ببساطة؛ ومن ثم إنَّ تلك المقاصد تنتمي الى ميدان خارج نطاق النظريات اللغوية السابقة.
- استندت الدراسات التقابلية الى المستويات اللغوية المذكورة في النقطة الأولى التي كشفت عن مفاهيم التماثل والتكافؤ والنحو التوليدي التقابلي. ومثل تلك الدراسات لم تشمل ميدان التداولية؛ بسبب افتقار تلك الأخيرة الى المتطلبات النظرية والعملية التي أُخِذت أساساً من التفكير التوليدي والبنيوي. وفي ضوء هذا يأتي السبب التالي في النقطة الثالثة على النحو الآتي:
- إنَّ تلك المفاهيم مثل التكافؤ التركيبي الدلالي استُعمِلت لبيان الكفاية على صعيد الازدواجية اللغوية وليس لممارسة الترجمة الفعلية (الإنجاز).
- إنَّ أي محاولة لاستلال المصطلحات المستعملة في الدراسات التقابلية بالاستناد الى النحو التوليدي وإدخالها في مجال التداولية واعتمادها هي خطأ منهجي من شأنه أن يقود الى محاولة مستحيلة لبناء قواعد توليدية للإنجاز؛ من هنا:
- إنَّ أي محاولة لتحديد التكافؤ التداولي عن طريق تجريده من مفهوم الترجمة المثالية سيؤدي الى انتشار سيء للمفاهيم التي لا تجسد أي واقع يمكن التحقق منه تجريبياً، ومن ثم يجب التخلي عن مثل تلك المحاولات أو المفاهيم في الدراسات التي تقوم على الرؤية العلمية.
على الرغم من الرفض الذي أبداه كرزوسكي لدراسة (التكافؤ) تداولياً في اللسانيات التقابلية، بناء على الأسباب العلمية التي ذكرها في أعلاه، فإنَّه لا ينكر وجود الجانب التداولي في اللغات؛ وهذا الأمر حمله- بعد ذلك- على العودة مرة أخرى والإقرار بأنَّ الجانب التداولي متوافر بالضرورة في جميع مكونات اللغة البشرية من علم الأصوات الى علم الدلالة؛ لذا من الممكن البحث فيه عبر اللغات([20])، ولكن بطريقة أخرى تختلف في جوانب كثيرة عمّا هي عليه في المنهج الذي قدمه أولكسي؛ لذا عمل كرزوسكي جاهداً على وضع البديل المنهجي في هذا المجال.
فرضية (التكافؤ النموذجي) عند كرزوسكي
سعى كرزوسكي الى تقديم فرضية بديلة عمّا هي عليه عند أولكسي بإزاء مفهوم التكافؤ Equivalence في اللسانيات التقابلية؛ فوضع بحثاً بعنوان (النماذج الأولية والتكافؤ) انطلق فيه من مفهوم (التطابق النمطي الجزئي) الذي قدمه من قبلُ اللغوي البولندي رومان كالش في هذا الباب. إذ أراد كرزوسكي أن يخلص من ذلك الى تأسيس فرضية قادرة على تحديد المكافئ النموذجي prototypical equivalent المناسب من بين الأفعال الكلامية المتقابلة بين اللغات المختلفة.
بدأ بإيضاح الحدود النظرية التي قامت عليها فرضية التكافؤ عند كالش؛ إذ تبنى هذا الأخير مصطلح (التطابق النمطي الجزئي) الذي سبق لفيلمور ولاكوف أن وقفا عنده وناقشاه من قبلُ في بحوثهما الصادرة في سبعينيات القرن العشرين([21]). وبحسب هذا المصطلح يفترض كالش أنَّ البنى اللغوية من الممكن أن تتميَّز بمجموعة من الخواص التداولية والدلالية والنحوية؛ فتكون تلك الخواص معالم أو مشيرات محدِّدة لها على صعيد الدراسة العلمية؛ فكثير من البنى اللغوية في اللغات المختلفة تظهر درجات التكافؤ فيما بينها عن طريق هذه المعالم أو المشيرات. وهذا الضرب من التكافؤ من شأنه أن يشير الى معالم التطابق النمطي الجزئي بين البنى المتقابلة في اللغات المختلفة، ومن الممكن أن يمتد الى الخواص الأخرَ حتى يصل الى مستوى التقابل الكامل بين تلك البنى ابتداءً بالتقابل الجزئي أولاً، وقد يرتد فينهي ارتداده وجود التقابل بين البنى على الاطلاق([22]). وهذا يعني أنَّ التطابق النمطي الجزئي بين اللغات ذو طبيعة دينامية صعوداً وهبوطاً؛ لذا ينبغي أن تُؤخَذ هذه المزيَّة بالحسبان في الدراسة التقابلية.
وفي ضوء هذا الافتراض ذهب كالش الى أنَّ التكافؤ بين بنيتين هو أثر لدرجة التطابق بين خواصهما؛ وإذا كان ذلك كذلك فهو معيار يُظهر لنا درجة التطابق النمطي الجزئي لخواصهما. وفي هذه الحال من الممكن أن يتكلم الباحث في اللسانيات التقابلية على درجة التكافؤ التركيبي بين البنى المتقابلة حتى وإن كانت الخواص المعجمية غير متطابقة. ومن الممكن أن يتكلم على التكافؤ التداولي في حال كانت البنيتان المتقابلتان تنجزان الفعل التأثيري نفسه حتى وإن كانت خواصهما التركيبية والمعجمية مختلفة.
وخلاصة القول في مفهوم التطابق النمطي الجزئي الذي قال به كالش هو أنَّ وجود مستوى عالٍ من التقابل بين الخواص التركيبية والدلالية والتداولية بين البنى المتقابلة من شأنه أن يكون مصداقاً لمستوى التكافؤ بين بنيتين أو أكثر في اللغات المختلفة([23]).
على الرغم من الوضوح في الافتراض الذي قدمه كالش فإنَّ كرزوسكي يرى أنَّ به حاجة الى تعديلات صاغها على النحو الآتي:
- من متطلبات البنى المتكافئة تداولياً التي ينبغي أن تنتج الفعل التداولي التأثيري يجب أن تكون مسترسلة عن طريق الاستعاضة عنها الى أقصى حد بالتأثيرات الادراكية المشابهة لتأثيرات الفعل الكلامي التأثيري نفسها.
وفي هذا السياق عمد الى بيان إصراره على أنَّ فرضية أولكسي بشأن التأثير ضعيفة؛ إذ بناها على أساس منهجي هو أنَّ البنى المتقابلة المتكافئة تداولياً ينبغي أن تُنجِز الفعل الكلامي نفسه. ولا ريب في أنَّه قصد جوانبه كافة بما في ذلك الجانب التأثيري منه وإن لم يصرِّح به. وبمقارنة هذه الفرضية مع فرضية كالش في أعلاه سيظهر لنا أنَّ هذه الفرضية- هي الأخرى- ليس بإمكانها أن تدعم رؤية أولكسي؛ ذلك بأنَّ كلا الرؤيتين السابقتين وإن التقتا في وجهة النظر فإنَّ الأفعال الكلامية ليس جميعها تنطوي على تأثير([24]).
وبناء على ذلك يقول إذا كانت رؤية كالش محددة وواضحة، فإنَّ رؤية أولكسي فضفاضة وغير محددة؛ فثمَّة أفعال كلامية تخلو من الفعل التأثيري، ومن ثم هي تقع خارج نطاق رؤية كالش التي بناها على بعض الأفعال الكلامية التي تنطوي على التأثير، مثل الأفعال الخبرية، والأسئلة المجازية. أما رؤية أولكسي فهي الأخرى تفتقر الى الضبط؛ ذلك بأنَّها تتيح حريَّة مفرطة للدارس فيما يتعلق بما هو خارج نطاق الأفعال الكلامية المتكافئة تداولياً في سياق تواصلي معين. فما يبدو لنا هنا أنَّه ليس لأحد أن يستبين بوضوح ما يتمخض عنه من قيمة تداولية للقولة في الجانب المجرد من السياق؛ لأنَّه قد يترك تأثيراً ذا طابع اجتماعي نفسي معين يتجلى في ردة فعل المتلقي الآنية التي قد تخفى على المحلل اللساني؛ فهو غالباً ما يدرس لغات مكتوبة مجرَّدة من سياقها التواصلي الآني([25]).
- إنَّ مفهوم التطابق النمطي الجزئي الذي بنى عليه كالش مقترحه، به حاجة الى ضبط. وقد مر بنا أنَّ التكافؤ بين بنيتين لغويتين عند كالش مبني على درجة التطابق النمطي الجزئي بين خواصهما. والسؤال الذي يعترض سبيلنا هنا هو: ما وجه التطابق بين تلك الخواص، وما تلك الخواص المتطابقة بين التعبيرات المتشابهة في اللغات المختلفة؟ وما درجة هذا التطابق، أهي عالية أم ضعيفة؟
يحاول كرزوسكي إيضاح رؤيته تطبيقياً في هذا الجانب عن طريق المقابلة بين أمثلة بنيت على قولات مختلفة ترتبط بسياق واحد؛ إذ يورد أمثلة من اللغة البولندية، ويوضحها عن طريق ترجمتها الى اللغة الإنجليزية على النحو الآتي([26]):
- يرجى من الركاب جميعا مغادرة القارب فوراً. (مثال من اللغة الإنجليزية فقط). وهو محور التقابل عنده مع الأمثلة الأُخرَ.
- من فضلكم، اجلسوا. (مثال من اللغة البولندية. وقد وضع كرزوسكي الى جانبه ترجمته بالإنجليزية).
يقول كرزوسكي إنَّ كلا المثالين يتقاسمان خصيصة واحدة هي الطلب (الغرض). ولكن هل بالإمكان استعمالهما بطريقة متكافئة- سواء أكان ذلك التكافؤ تداولياً أم غير ذلك- لمجرد أنهما يظهران هذه الدرجة البسيطة من التكافؤ؟
يحاول الإجابة على تساؤله بأننا لو أنعمنا النظر في المثالين الآتيين لوقفنا على إجابة وافية:
- أخرجوا من هنا بحق الجحيم. (المثال باللغة البولندية، وقد وضع كرزوسكي الى جانبه ترجمته بالإنجليزية).
- سيغادر القارب بعد لحظات. (المثال باللغة البولندية، وقد وضع كرزوسكي الى جانبه ترجمته بالإنجليزية).
يعقب كرزوسكي على ما جاء في هذين المثالين عن طريق المقابلة مع المثالين السابقين؛ فلو نظرنا الى الأمثلة كافة فإننا- سنلفي في ظروف معينة- أنَّ المثالين الأول والثالث قد ينطويان على تأثيرات إنجازية؛ ومن ثم هما متطابقان جزئياً في نمط تداولي معين، فمما لا شك فيه أنَّ أي شخص بإمكانه أن يعدهما متكافئين تداولياً؛ لما ينطويان عليه من صيغة طلبية ينتج عنها فعل تأثيري معين، بصرف النظر عن ماهية التأثير ووجهته سلباً أوإيجاباً. في حين أنَّ المثال الرابع قد يكون في بعض السياقات مكافئاً أفضل للمثال الأول مما هو عليه المثال الثالث، حتى وإن أبدى درجة في التطابق أقل مما يبدو في المثال الثاني والثالث.
من هذه المقارنة يخلص الى نتيجتين هما([27]):
- إن عدد الخواص المشتركة فقط ليس له أن ينهض لوحده ركيزة لتأسيس مفهوم محدد للتكافؤ من الناحية التداولية؛ إذ سيبدو هذا المفهوم غير متناسب مع درجة المماثلة على أساس أنَّه مدرك عن طريق التطابق النمطي الجزئي.
- إن التأثيرات الناتجة عن الفعل الكلامي لا تضمن أنَّ تقابل القولات سيكون متكافئاً تداولياً. وبديلا عن ذلك فإنَّ التكافؤ التداولي يبدو لنا أنَّه يعتمد على عناصر السياق الخارجي؛ فحضورها في الخطاب الماثل في اللغتين من شأنه أن ينتج قولات متكافئة تداولياً. وهذا أمر غير محدد المقدار في فرضية التطابق النمطي الجزئي.
وفي ضوء هاتين النتيجتين يقدم كرزوسكي الفرضية التي يرى أنها الأنسب لدراسة التكافؤ التداولي. وهي فرضية أقامها على أساس أنَّ هناك ثلاث خواص من الضروري الالتفات إليها في المحتوى التداولي لتلك الأمثلة على صعيد الدراسة التقابلية هي([28]):
- نوع الفعل الكلامي. وهو (الطلب) هنا.
- الصياغة. وهو (التهذيب) هنا.
- الناتج المتوقع. متمثلا بالتأثيرات المتوقعة عن الفعل الكلامي.
وبحسب هذه الخواص فإنَّ مقابلة المثال الأول مع الأمثلة الثلاثة الأخرى يُظهر لنا أنَّ الفعل التأثيري المتوقع في المثال الثاني مختلف عما هو عليه في المثال الأول. أما المثال الثالث فإنَّ صياغته تختلف عن الأول، فهو غير مهذب في مقابل التهذيب الواضح في صياغة المثال الأول. ولعلَّ هذا كفيل بإيضاح السبب وراء كون المثال الرابع هو أعلى مستوى من الأمثلة الأخرى في التكافؤ التداولي مع المثال الأول؛ فهو محايد من ناحية التهذيب، وفي الوقت نفسه هو لم يستبعد احتمال أن يُفهَم على أنه طلب مصحوب بفعل تأثيري على غرار ما هو متوقع في المثال الأول([29]).
لم يكتفِ كرزوسكي بما قدمه من إيضاح في أعلاه؛ فعمد الى تقديم مثال خامس من اللغة البولندية؛ من أجل مقارنته بالأمثلة السابقة، ومن ثم بيان أنَّه أعلى منها جميعاً في مستوى التقابل مع المثال الأول باعتماد الخواص التداولية الثلاث التي قال بها، فأتى به على النحو الآتي:
5-على الركاب مغادرة القارب فوراً. (المثال باللغة البولندية، وقد وضع كرزوسكي الى جانبه ترجمته بالإنجليزية).
هذه القولة من وجهة نظر كرزوسكي هي المكافئ الأكثر دقة والأعلى درجة للقولة الواردة في المثال الأول في جميع الخواص: التركيبية والدلالية والتداولية؛ وإذا كانت كذلك فإنَّها هي المكافئ النموذجي prototypical equivalence للقولة في المثال الأول. بينما المثال الثالث أقل تكافؤاً مع الأول من الناحية النموذجية. وفي الوقت نفسه إنَّ المثال الرابع سيبدو ممثلاً ضعيفاً لنوع المكافئات في المثال الأول، فهو قد يقع قريباً منها، بيد أنه لا يصيب منها شيئاً. أما المثال الثاني، فهو- على الأرجح- يقع خارج نطاق هذا التصنيف([30]).
ومما تقدم من تحليل خلص كرزوسكي الى تقديم مفهوم (التكافؤ النموذجي) بوصفه أساساً ضابطاً للتحليل التداولي لأفعال الكلام في اللسانيات التقابلية.
التكافؤ التداولي عند كارول جانكي
يختلف جانكي في نظرته الى التداولية عن كرزوسكي؛ فهو يستعمل مصطلح التداولية التقابلية، ويؤكِّد أنَّ هذا الضرب من التداولية هو مقاربة ناجعة لدراسة اللغة الطبيعية، وأنَّ فكرة التكافؤ التداولي ينبغي أن تُبحث من زاوية ارتباطها بالأهداف التي يحددها الباحث؛ لذا إنَّ الأهداف التطبيقية ومنها تعليم اللغات والترجمة والتأويل بوصفها ممارسات تطبيقية ينبغي أن تكون جنباً الى جنب مع الأهداف النظرية وليس بمعزل عنها؛ لأنَّ هذه الأخيرة تنطوي على إيضاح للغة([31]).
وإذا سلمنا جدلاً مع ما خلص إليه أولكسي سابقاً بشأن التكافؤ التداولي لأفعال الكلام في اللغتين الإنجليزية والألمانية الذي بناه على افتراض التكافؤ بين التعبيرين اللذين ينجزان الفعل الكلامي نفسه في اللغتين الأولى والثانية، على غرار أفعال الطلب؛ فإنَّ السؤال الذي يعترض سبيلنا هنا- بحسب جانكي- هو ماذا بشأن الأفعال الكلامية الأخر التي تتكافأ وظيفتها في التعبيرين؟
فالتعبيرات في اللغة الأولى والثانية بلا شك ستتضمن- في سياق الإنجاز نفسه- عدداً من الأفعال الكلامية الأخر. وفي هذه الحال أي الأفعال سيكون متكافئاً وأيها غير متكافئ؟ ما الأفعال الكلامية غير المتكافئة؟ كم عدد الأفعال الكلامية التي ينجزها التعبير في اللغة الأولى والتعبير في اللغة الثانية كي تكون متكافئة حقاً؟
في هذا المقام يشير جانكي الى اقتراح يؤكد ما ذهب إليه، كان كرزوسكي قد قدمه من قبلُ يرى إمكان النظر الى التكافؤ التداولي على أنَّه واحد من مظاهر ما سماه Tertium camparationis (المقارنات الثلاثية)([32]) التي تبحث عن الجانب المشترك بين البنى اللغوية المراد مقارنتها، ذاهباً الى أنَّ الدراسات التقابلية التي تبحث في التكافؤ التداولي بين اللغات ينبغي أن تقوم على معالجة شاملة ومحددة بهذا الضرب من التكافؤ؛ بوصفه حلقة في سلسلة العناصر القابلة للمقابلة([33]). ومن الضوابط التي أشار إلى ضرورة توافرها للشروع بالدراسة التقابلية هي الغاية من هذه الدراسة؛ فهي تكمن- في المقام الأول- في بيان المتشابه والمختلف في العناصر اللغوية التي قابلنا بينها؛ سعياً الى الوقوف على المشترك في العقل البشري على صعيد استعمال اللغات.
بيد أنَّ جانكي على الرغم من وضوح الاقتراح الذي أورده كرزوسكي للتكافؤ التداولي، الذي يضمن نجاح دراسته في مجال اللسانيات التقابلية دراسة شاملة ومستقلة، فإنَّه يبدي عدم قناعته به؛ لأنه يخشى من قصور التكافؤ التداولي عن بلوغ الغاية المتوخاة في ميدان الدراسة التقابلية من حيث أنَّه لا يقوى على أن يكون معياراً أو سبباً قائماً برأسه للمقارنة إذا ما بحثنا عمَّا إذا كان تعبيران لغويان متكافئين تداولياً أم غير متكافئين. من هنا يخلص جانكي الى أنَّ التكافؤ التداولي ليس دافعاً للدراسة التقابلية، بل هو نتيجة متمخضة عن التحليلات في ميدان الدراسة التقابلية([34]). ولمّا كان كذلك اقترح جانكي مقاربة تداولية لها أسسها ومعاييرها الخاصة بدراسة التكافؤ التداولي فحسب؛ وهذا ما يُفسِّر لنا استعماله مصطلح (التداولية التقابلية)([35]).
ومن ناحية أخرى يختلف جانكي مع أولكسي الذي يرى أنَّ التكافؤ التداولي ضرب من التعبير اللغوي لإنجاز فعل كلامي متكافئ في لغتين مختلفتين. فهو يرى أنَّ مثل تلك الرؤية لا تساعد بما فيه الكفاية على فهم الظواهر اللغوية. فلو أننا دمجنا فعلاً كلامياً في أفعال كلامية أخرَ، فأي واحد منها- في هذه الحال- ينجز قصد الترحيب مثلاً. إنَّ تحديده بلا شك سيكون عصياً جداً.
ففي الأمثلة الآتية:
The lights are out (X1 L1)
Światło się nie świeci (X2 L2)
الأضواء مطفأة (X3 L3)
منطقيا، لكي يكون التعبير في اللغات المذكورة في أعلاه متكافئاً تداولياً بوضوح فإنَّه ليس هناك فعل كلامي معيَّن يمكن تحديده بوصفه منجزاً بالتعبير الأول في اللغة الأولى، وفي الوقت نفسه منجز أو غير منجز بالتعبير في اللغة الثانية، وكذلك الأمر في التعبير الوارد في اللغة الثالثة (العربية). وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ افتراض أولكسي قابل للنقض([36]).
وأرى أنَّ تلك التعبيرات- على بساطتها- وإن كانت متطابقة في اللغات الثلاث عن طريق الترجمة، فإنَّ ما يحدد الفعل الكلامي الرئيس المنجز فيها هو وحدة السياق التواصلي الذي استُعمِلت فيه تلك التعبيرات لإنجاز فعل كلامي واحد، كالتحذير، والإخبار، والنصح، والتوبيخ، وغيرها. ولعلَّ افتقارها الى سياق تواصلي واحد ومحدد في دائرة الإنجاز المشترك هو الذي حمل جانكي على رفضه فرضية أولكسي على الرغم من أنَّ هذا الأخير قد بنى فرضيته في دراسة التكافؤ التداولي على منهج يأخذ بحسابه عناصر السياق المشتركة كافة.
في ضوء هذا الاستنتاج يذهب جانكي الى أننا قد لا نبالغ إذا قلنا إنَّ أي تعبير لغوي من الممكن أن يضطلع بإنجاز أي فعل كلامي، كالطلب، والمدح، والتأنيب، والتوبيخ، وغيرها. فضلا عن ذلك إنَّ الطرق الغامضة جداً التي عن طريقها تتفاعل القنوات اللفظية وغير اللفظية لتوليد القصد وتأويل المعنى هي مشتركة جزئياً عند المتحاورين الآنيين وليس كلياً؛ وفي هذه الحال إنَّ قدراً كبيراً من الحرية ستتاح أمام التشفير وفك التشفير في المعنى التداولي([37]). هذا على صعيد اللغة الواحدة. أما على صعيد اللغات المختلفة فإنَّ الوقوف عليه بالدراسة التقابلية هو أمر عسير من شأنه أن يفضي الى نتائج نسبية لا يمكن الاطمئنان إليها.
نفهم من هذا أنَّ هناك طرقاً شتى متاحة أمام مستعملي اللغة الطبيعية لإنجاز مقاصدهم من دون التقيد بتعبير محدد؛ ولاسيما أنَّ قضية الرؤية الذهنية الى الموضوعات المراد التعبير عنها وإنجاز القصد في خضمها هي ذات طابع نسبي بين متكلم وآخر على صعيد اللغة الواحدة، ومن ثم هي ذات طابع نسبي أكبر بين اللغات.
نظرية أصل المفهوم (النماذج الأولية) عند جانكي
بعدما خالف جانكي الافتراض الذي جاء به أولكسي، سعى الى تقديم البديل؛ فكانت نظرية أصل المفهوم Prototype theory لعالمة النفس الأمريكية الينور روش هي المنحى البديل الذي اتخذه سبيلاً الى دعم رؤيته؛ إذ تقوم هذه النظرية على أساس يرى أنَّ المفاهيم عبارة عن صور نمطية وأوصاف انطباعية تحدث عند الأشخاص مع مرور الوقت عن الأنماط الأولية (الأصلية) مهما كان المعنى الذي تشير إليه في الأصل([38]).
وهذا يعني أنَّ من يقوم بالتشفير اللغوي ومن يفكك ذلك التشفير سيستعملان في التفاعل مجموعة من المفاهيم الكامنة في ذهنيهما بوصفها تمتد بصلة الى ما يتحدثان عنه؛ فالمتكلم والمستمع يصوغان العالم بمصطلحات معروفة عادة([39]).
وهو- في هذا المنحى- يؤكد أنَّ تلك الرؤية تفضي الى أنَّ التناقضات أو عدم الفهم لا يقع بين أناس من ثقافات متباعدة فحسب، بل قد يقع سوء الفهم بين أناس من ثقافة واحدة؛ بسبب اختلاف الصور النمطية لديهم عن الأشياء، ومن ثم اختلاف المفاهيم المستعملة لذلك من شخص الى آخر، ومن ذلك مفاهيم الصداقة، الجدل، النزاهة، وغيرها([40]).
من هنا ينبغي أن يؤخذ بالحسبان الفجوة المحتملة الوقوع بين قصدية المتكلم التي تتعلق بمجموعة من المفاهيم وتأويل المستمع الذي يتعلق بمجموعة أخرى من المفاهيم، وفي هذه الحال نخلص الى أنَّ المستمع الأول سوف يفهم من المتكلم فعلاً بالوعيد، والمستمع الثاني قد يفهم منه تحذيراً، في حين يفهم المستمع الثالث أمراً. وفي حال ازداد العدد فإنَّ المستمع الرابع سيرجع الكلام الى أحد الأصناف الثلاثة من أفعال الكلام، في حين يبقى الخامس مشوشاً ولم يحدد قصداً بعد، وهكذا دواليك كلما ازداد عدد المتلقين([41]).
يضرب جانكي مثالاً يوضح الإشكال السابق بأننا لو سمعنا شخصاً مخاطباً لنا يقول: إنها ستمطر غداً. وأنا خالي الذهن مما يقصده، ففي هذه الحال سأبدأ التوقع في تساؤل على النحو الآتي: هل أراد إخباري فحسب أم قصد تحذيري؟ هل قصد اقتراح أمر ما؟ وغير ذلك من التساؤلات. وفي هذه الحال غالباً ما نفسر أو نفهم الكلام كما نرغب. وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ أي تعبير لغوي يمكن استعماله لإنجاز أي فعل كلامي بالاعتماد على شروط النجاح.
على الرغم من النتيجة النظرية ذات الطابع الشمولي التي خلص إليها جانكي هنا، فإنَّها تبقى ذات طابع نسبي واضح على صعيد الدراسة التقابلية التطبيقية بين لغة وأخرى؛ لأن جانكي- كما يبدو- قد أغفل معيار الموقف التواصلي الذي يعد ركيزة آنية ومستقبلية ضابطة لفهم القصد المراد من الفعل الكلامي، سواء من المتلقي الآني أم من اللساني الذي سيضطلع في المستقبل بالتحليل التقابلي لأفعال الكلام التي أنجزها المتكلمون في اللغات الطبيعية.
خاتمة:
- قد تبدو التداولية التقابلية اتجاهاً واعداً على صعيد الدرس التداولي في المستقبل، بيد أنَّها ما تزال بها حاجة الى أسس قارة ومنهج واسع في الجانب التطبيقي ليشمل المباحث التداولية كافة التي قامت عليها التداولية التقليدية.
- إن افتراض أولكسي إمكان الوقوف على معالم موحدة للغة عالمية عن طريق توافق شرطي القوة الانجازية وشروط النجاح في الأفعال الكلامية المتقابلة المنجزة في لغات مختلفة لا يقوى بإزاء النقد العلمي؛ ذلك بأنَّ القوة الانجازية نفسها لها مستويات تختلف في درجات القوة بحسب ما يقتضيه السياق التواصلي في كل لغة. أما شروط النجاح فهي الأخرى نسبية على الصعيد المؤسساتي المؤهِّل لنجاحها عند المتكلم من مجتمع لآخر.
- لا ريب في أنَّ أولكسي كان يدرك أنَّ الأفعال الكلامية لا تنطوي جميعاً على فعل تأثيري؛ لذا لم يذكره في خطوات منهجه في دراسة التكافؤ التداولي بين اللغات. واقتصر على المكون النطقي (اللفظي)، والمكون (الانجازي) من الفعل الكلامي.
- ربط أولكسي بين الدراسة التقابلية للتكافؤ التداولي في الأفعال الانجازية وقيود الكفاية التداولية لمتعلمي اللغات الأجنبية؛ واستنتج من ذلك أنَّ الالتزام بتلك القيود قد يوقع المتعلمين بأخطاء على صعيد إنجاز الأفعال الكلامية في اللغة الثانية التي يتعلمونها. ولعلَّه أمر واضح في مراحلهم الأولى من التعلم. وبناء على ذلك استنتج أنَّ المقاربة التقابلية لأفعال الكلام تصلح لدراسة الأخطاء التداولية التي يقع فيها هؤلاء المتعلمون.
- كان اتخاذ أولكسي من تكافؤ المكون الإنجازي في الفعل الكلامي أساساً للتكافؤ اللفظي بين الأفعال الكلامية في اللغات المختلفة سبباً في توجيه النقد العلمي لمنهجه من لدن كرزوسكي؛ لأنَّ المكون اللفظي يأتي أولاً في اللسانيات التقابلية، ولاسيما فيما اصطلح عليه كرزوسكي بـ(المكافئ النموذجي).
- من الممكن أن نصطلح على الفكرة التي قدمها كرزوسكي في مصطلح (التكافؤ النموذجي) بمصطلح (درجات التناسب بين أفعال الكلام المتقابلة). فإذا كان التكافؤ بين أفعال الكلام يختلف في مستواه بسبب اختلاف بنيته ومحتواه فإنَّ هذا الاختلاف من شأنه أن يُتَّخَذ منهجاً في ترجيح المكافئ النموذجي الأعلى من بين أفعال كلامية كثيرة متكافئة جزئياً.
- على الرغم من النقد الذي وجهه كرزوسكي الى مفهوم (التطابق النمطي الجزئي) الذي اتخذه كالش معياراً للوقوف على مستوى التكافؤ بين بنيتين متقابلتين تنتميان الى لغتين مختلفتين، فإنَّه اعتمده في دراسته؛ فكان هو الأساس الذي استل منه مصطلح (التكافؤ النموذجي) بين أفعال الكلام المتقابلة، حتى بدا هذا الأخير وكأنه نسخة معدلة عن الأول.
- في الإشكال الذي أثاره جانكي على فرضية أولكسي بشأن الغموض الذي قد يكتنف التكافؤ التداولي من جراء توافر البنى اللغوية المتقابلة على أكثر من فعل كلامي واحد في الوقت نفسه. أرى أنَّ حل الإشكال يكمن في الوقوف على الفعل الكلامي الرئيس في هذه البنى عن طريق بيان نسبة التطابق الأعلى بين خواصهما في البنيتين، وفي هذه الحال ستكون الأفعال الكلامية الأخر قد قُصِد من توظيفها الإسهام في إنجاز مقاصد الفعل الكلامي الرئيس؛ وهذا الأمر سيجعل منها أجزاء تابعة له.
- إنَّ الالتفات الى المتلقي في دراسة التكافؤ التداولي لأفعال الكلام بين اللغات عند جانكي أثار قضية في غاية الأهمية على صعيد الفعل التأثيري والاستجابة، قد تكون إشكالاً عصياً على البحث التقابلي؛ نتيجة الفجوة الحاصلة عن اختلاف الصور النمطية والتصورات الانطباعية عن الأشياء وموضوعات الوجود من شخص الى آخر بين أناس من ثقافة واحدة، ويتكلمون لغة واحدة، فما بالك بأناس من لغات مختلفة. ولعلَّ الحل لهذا الإشكال يكمن في جمع العيِّنات آنياً وميدانياً من اللغات المختلفة مصحوبة ببيانات تكشف عن سياقات إنجازها وتلقيها. أو اعتماد وسيلة تتيح للدارس الوقوف على عناصر السياق التواصلي الآني في استعمال الأفعال الكلامية في اللغات المراد دراستها تقابلياً. ومن تلك الوسائل الأفلام، والمسلسلات التلفزيونية والإذاعية المرئية والمسموعة.
مراجع البحث:
أولاً: المراجع العربية:
- مزيد، بهاء الدين محمد، من أفعال اللغة الى بلاغة الخطاب السياسي تبسيط التداولية، شمس للنشر والتوزيع- القاهرة، ط1، 2010م.
- نيدا، ا. يوجين، نحو علم للترجمة، ترجمة: ماجد النجار، مطبوعات وزارة الاعلام- الجمهورية العراقية، 1976م، د.ط.
ثانياً: المراجع الأجنبية:
- Fillmore, Charles J. An Alternative to Checklist Theories of Meaning. In: Proceedings of the First Annual Meeting of the Berkeley Linguistics Society (1975), pp. 123-131.
- House, J. and Kasper, G. (1981). Politeness Markers in English and German. In: Coulmas, F., Ed., Conversational Routine, Mouton, The Hague.
- Janicki, karol. On the tenability of the notion “pragmatic equivalence” in contrastive analysis. In: Fisiak, Jacek. (1985). papers and studies in contrastive linguistics, Volume twenty, Adam Mickiewicz university, Poznan. 19-25
- Kranich, Svenja. (2016) Contrastive pragmatics and translation. John Benjamins Publishing Company Amsterdam/Philadelphia.
- Krzeszowski, Tomasz P. (1990). Contrasting languages, the scope of contrastive linguistics, Mouton de Gruyter Berlin · New York.
- Krzeszowski, Tomasz P. Prototypes and equivalence. In: Fisiak, Jacek. (1986). Papers and studies in Contrastive linguistics, volume twenty-one, 5-21.
- Krzeszowski, Tomasz P. Towards a typology of contrastive studies. In: Oleksy, Wieslaw. (1989). Contrastive pragmatics, John Benjamins publishing company, Amsterdam, Philadelphia, p. 55-72.
- Marie, L & Liebe, H. Contrastive pragmatics. In: Fisiak, Jacek. (1984) papers and studies in contrastive linguistics, Volume Ninteen, Adam Mickiewicz university, Poznan. 22-28.
- Oleksey, Wieslaw. (1989) Contrastive pragmatics, John Benjamins publishing company, Amsterdam, Philadelphia.
- Oleksey, Wieslaw. Toward pragmatic contrastive analysis. In: Fisiak, Jacek. (1984). contrastive linguistics prospects and problems, Mouton Publishers Berlin. New York · Amsterdam,349-364.
- philip, Toward contrastive pragmalinguistics. In: Fisiak, Jacek. (1979). papers and studies in contrastive linguistics, Volume ten, Adam Mickiewicz university, Poznan. p.57-79.
- Walters, Joel. (1979). Strategies for requesting in Spanish and English — structural similarities and pragmatic difference”, In: Language learning, p. 277-295.
([1]) Marie, L & Liebe, H. Contrastive pragmatics. And: Oleksy, W. (1989) Contrastive pragmatics. And: Kranich, S. (2016). Contrastive pragmatics and translation.
([2]) ينظر: مزيد،، بهاء الدين محمد، من أفعال اللغة الى بلاغة الخطاب السياسي تبسيط التداولية:80.
([3]) Krzeszowski, T. Towards a typology of contrastive studies, 56.
([4]) من الجدير بالذكر في هذا المقام أنَّ لفظة (Equivalence) لها عدة معانٍ بالعربية، الشائع منها هو (التكافؤ، التعادل، التوازي، التساوي). بيد أني آثرت ترجمتها بـ(التكافؤ) استنادا الى أنها مستعملة هنا مصطلحاً موصوفاً بصفة (التداولي)، فكان الأجدر اعتماد الترجمات السابقة للفظ بوصفه مصطلحاً في ميدان الدراسات اللسانية والترجمة؛ إذ ترجمه الدكتور ماجد النجار بـ(التكافؤ) في ترجمته كتاب يوجين ا. نيدا الموسوم (نحو علم للترجمة) في حديثه عن (التكافؤ الشكلي والتكافؤ الدينامي) بين التعبيرات في الترجمة: 318، 321.
([5]) Krzeszowski, T. Towards a typology of contrastive studies, 56.
([6]) Oleksey, W. Toward pragmatic contrastive analysis, 358.
([7]) Walters, J. Strategies for requesting in Spanish and English- structural similarities and pragmatic difference, 278.
([8]) Oleksey, W. Toward pragmatic contrastive analysis, 359.
([11]) House, J. and Kasper, G. Polietness Markers in English and German,163-164.
([12]) Oleksey, W. Toward pragmatic contrastive analysis, 361.
([13]) Oleksey, W. Toward pragmatic contrastive analysis, 361.
([15]) House, J. and Kasper, G. Polietness Markers in English and German, 166.
([16]) Oleksey, W. Toward pragmatic contrastive analysis, 362.
([17]) Oleksey, W. Toward pragmatic contrastive analysis, 362.
([18]) Riley, ph. Toward contrastive pragmalinguistics, 57.
([19]) Krzeszowski, T. Towards a typology of contrastive studies, 65-66.
([21]) Fillmore, Ch. An Alternative to Checklist Theories of Meaning,125. And: Krzeszowski, T. Prototypes and equivalence, 5.
([22]) Krzeszowski, T. Prototypes and equivalence, 5.
([27]) Krzeszowski, T. Prototypes and equivalence, 8-9.
([30]) Krzeszowski, T. Prototypes and equivalence, 9.
([31]) Janicki, K. On the tenability of the notion “pragmatic equivalence” in contrastive analysis, 22.
([32]) يوضح كرزوسكي المراد بهذا المصطلح بأنَّ المراد بالمقارنة الثلاثية هو أن تتوافر العناصر اللغوية المقارنة بين لغة وأخرى على جانب واحد مشترك على الأقل؛ ومن دونه لا تقوم دراسة. هذا الجانب المشترك هو ما يصطلح عليه بالمقارنة الثلاثية؛ إذ تنطوي جميع المقارنات على افتراض أساسي مؤداه أن اﻷشياء التي يتعين مقارنتها تشترك في جانب يمكن أن يقال إن اﻻختلافات تتعارض معه. ويسمى هذا الجانب المرجعي المشترك بالمقارنة الثلاثية الى جانب التشابه والاختلاف.
([33]) Janicki, K. On the tenability of the notion “pragmatic equivalence” in contrastive analysis, 21.
And, Krzeszowski, T. Contrasting languages the scope of contrastive linguistics, 15-16.
([34]) Janicki. K, On the tenability of the notion “pragmatic equivalence” in contrastive analysis, 21.
([36]) Janicki, K. On the tenability of the notion “pragmatic equivalence” in contrastive analysis, 21-22.