لزمة النشَاف والقرنيط بالبلاد التونسية خلال القرن التاسع عشر (1245هـ/1830م-1292هـ/1875م)
sponge and octopus lizma in tunisia during the nineteenth century
(1245/1830-1292/1875)
لطفي عميري/ مدرسة الدكتوراه، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس
Lotfi amiri/doctoral school (faculty of human and sicial sciences of tunis)
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 88 الصفحة 129.
ملخص:لم تكن السياسة الجبائية بالبلاد التونسية ثابتة خلال العهد الحديث، بل كانت مواكبة للظرفية العامة التي عاشت على وقعها البلاد خلال تلك الفترة، ويعتبر النظام الجبائي من أهم المشاريع التي وضعت على طاولة الدراسة من حين لآخر ووقع مراجعته حسب ما تقتضيه مصلحة البلاد، وهو ما أدى إلى تطوره بشكل كبير من حيث قيمة المكوس المرتبة على المنتوجات الفلاحية والحرفية ومن حيث عدد المجابي. وقد ظهر ذلك بصفة واضحة في نظام الالتزام الذي ألقى بضلاله على عدة أنشطة ومن أهمها نشاط الصيد البحري، ويعتبر النشاف والقرنيط من أهم المنتوجات التي خضعت له منذ القرن الثامن عشر، ووقع دمجهم في لزمة واحدة أطلق عليها “لزمة النشَاف والقرنيط”. وعلى غرار أن لها قوانين وتراتيب مشتركة مع بقية اللزم، فإن لها قوانين وتراتيب خاصة بها، وقد شهدت هذه اللزمة تطوركبير في معاليم السراح الموظفة عليها خلال القرن التاسع عشر، متأثرة بالنسق العام الذي كانت تعيش على وقعه البلاد في تلك الفترة، وقد كان لذلك التطور انعكاس كبير على قيمة اللزمة.
الكلمات المفتاحيّة: لزمة، نشَاف، قرنيط، البلاد التونسية، القرن التاسع عشر.Abstract :
The fiscal policy in tunisia was not fixed during the modern era, but rather was in keeping with the general situation in which the country livedduring that period. The tax system is considered one of the most important projects that have been put on the study table from time to time and was reviewed according to the interests of the country wich led to its development significantly in terms of the value of the excise arranged on agricultural and handcraft products and in terms of the number of collectors.. This was clearly evident in the commitement system, which cast a shadow on several activity, sponge and octopus are among the most important products that have been subject to it since the eighteenth century, and they were combined into a single package called « sponge and octopus lizma » just as it has common laws and regulation. During the nineteenth century, this « lizma » witnessed a development in the duties of the release employed on it, influenced by the general patternin which the country was living in that period. This developement had a great impact on the value of the « lizma »
Keywords : lizma, sponge, octopus, Tunis, 19th century.
مقدمـة :لم تكن السياسة الجبائيَة بالبلاد التونسية ثابتة خلال العهد الحديث، بل كانت مواكبة للظرفية الداخلية والخارجية التي تعيش على وقعها البلاد، ويعتبر موضوع الجباية بصفة عامة من أهم المشاريع التي وقع النظر فيها عدة مرَات،مما جعلها تتطور بشكل واضح وكبير، وقد تجسد هذا التطور في عديد المستويات، كالزيادة في قيمة المكوس المرتبة على المنتوجات الفلاحية والحرفية أو إحداث مجابي جديدة، وقد ظهر هذا بصورة واضحة في نظام اللزم الذي تطور كثيرا من حيث قيمة المكوس ومن حيث الأنشطة التي استحوذ عليها، ونحن في هذه الدراسة سوف نسلط الضوء على لزمة أصبحت أكثر أهمية خلال القرن التاسع عشر على الأقل من حيث القيمة المالية بعد أن كانت مهمشة في بدايات الحكم العثماني، وهي “لزمة النشاف والقرنيط”، وسوف نركز اهتمامنا على ضوء ما أتيح لنا من وثائق على التراتيب القانونية الخاصة بها وتطور معاليم السَراح الموظفة على المنتوجات التي شملها وتأثيرها على قيمة اللزمة وأهم المشاكل التي تمخَضت عن ذلك.
I/ التراتيب القانونية الخاصة بهذه اللزمة وتطور معاليم السَراح المرتَبة عليها
1/ التراتيب القانونية الخاصة بهذه اللزمة
من المهم الإشارة بطريقة سريعة منذ البداية إلى مفهوم نظام الالتزام، بحيث لا يختلف في مفهومه اللغوي عن مفهومه العام؛ فهو عقد أو اتفاق يجمع بين طرفين يلتزم أحدهما للآخر بالتزامات محددة ومضبوطة بشروط وقوانين، ويستوجب هذا العقد طرف أساسي هي الدولة باعتبارها المالك الأصلي لجميع اللزم، أما الطرف الثاني فيسمى اللزَام، وهو الذي بإمكانه الحصول على لزمة بعد عرضها وإشهارها، ويمكن للطرف الثاني أن يكون شخص أو أكثر، وهي طريقة تفرضها قيمة اللزمة أحيانا، بحيث أنها إذا كانت مرتفعة تخوَل لشخصين أو أكثر التشارك في لزمة واحدة طالما أن القانون يضمن ذلك، وهذا التسهيل هو من النقاط المشجعة على المغامرة في هذا الميدان[1].
تعود جذور نظام الالتزام بالبلاد التونسية إلى العهد الوسيط، وكان يعرف “بالقبالة” أو الضمانة[2]. وقد تواصل العمل به خلال العهد الحفصي وشمل عديد المجالات مثل فندق الخضرة والملح والبياض…[3]. ومنذ وصولهم للسلطة ونجاحهم في بسط نفوذهم، حرص العثمانيين على مواصلة العمل بالنظم المالية الإسلامية ومن بينها نظام اللزم، حيث تدعَمت مكانته خلال فترة حكمهم وتطور بشكل كبير وتوسعت رقعته لتلقي بضلالها على عديد الأنشطة مثل نشاط الصيد البحري، ويعتبر النشاف أو الإسفنج الذي يقع صيده من البحر على عمق بين 6 أمتار و40 مترا وفي أقصى الحالات 60 مترا عن طريق الغوص لاستغلاله في أغراض التنظيف والاستحمام، والقرنيط أو الأخطبوط البحري الذي يقع صيده بالقلال لاستهلاكه في النظام الغذائي من بين المنتجات البحرية التي وقع إخضاعها وبصفة مستقلة إلى هذا النظام منذ القرن الثامن عشر، وأطلق عيها “لزمة النشاف والقرنيط، وهناك عديد الدوافع وراء إحداثها سوف نذكر أهمها:
أولا: تقلص إيرادات الدولة خاصة بعد توقف نشاط القرصنة بالإضافة إلى تواتر الأزمات الطبيعية والسياسية التي ساهمت في تذبذب الفلاحة باعتبارها الثروة الأولى وأحدثت نقصا فادحا في البلاد، وهو ما دفع البايات إلى تدارك ذلك النقص بالبحث على مصادر مالية جديدة.
ثانيا: انفتاح البلاد على عديد المشاريع التي تتطلب إيرادات مالية كبيرة وخاصة التجهيزات العسكرية.
ثالثا: وفرة المنتوج على الرغم من أنه لم يكن منتشر على كامل السواحل بل اقتصر على بعضها مثل جرجيس وصفاقس وجربة وقرقنة وسوسة والمنستير…وقد أشادت بذلك عديد المصادر والدراسات[4].
خامسا: تهافت عديد الأطراف على الاستثمار في هذا المجال خاصة الإيطاليين ومساعيهم الحثيثة للاستفادة من ذلك بكل الطرق والوسائل.
رابعا: هي منتوجات مربحة نظرا لارتفاع أسعارها، فمثلا في إحدى مراسلاته إلى الوزير مصطفى خزندار بتاريخ 13 صفر 1289هـ/1872م يذكر خير الدين أن النشاف المغسول الجيد المعروف بـ “جيلين” يصل سعره إلى 800 ريال، وبالنسبة للنشاف الرديء أو الأسود 200 ريال[5]، وفي مراسلة أخرى منه إلى الوزير في صفر الخير من نفس السنة يذكر أن ثمن النشاف المغسول أي الجيد يتراوح سعره بين 600 و700 ريال والرديء 200ريال[6].
خضعت لزمة النشاف والقرنيط إلى كل التراتيب التي يرتكز عليه نظام الالتزام، ومن أهمها قانون المنافسة الذي يرتكز بدوره على العرض والإشهار حتى يتسنَى للمتنافسين معرفة قيمتها، وتشرف الدولة على تحديد المعاليم اللازمة والصيغ التي يقع اعتمادها في ذلك، أي على حساب الكيل أو الوزن أو العدد…وكذلك الطريقة التي يطبقها اللزام في تحصيل حقوقه بعد حصوله عليها، وتقع عملية الإشهار قبل انتهاء مدة العقد ببضعة أشهر إذا كانت بيد لزَام قديم، حتى تفسح المجال للملتزمين الجدد بترتيب أمورهم والاستعداد للمنافسة، وتتم هذه العملية بمقتضى أمر صادر عن الوزارة تعلم فيه أعوانها بذلك وتكلفهم بالمناداة عليها في الأماكن العامة مثل الأسواق عن طريق الدلَال أو البرَاح، وقد احتفظت لنا وثائق الأرشيف ببعض المراسلات التي تناولت هذا الموضوع، ففي إحدى مراسلاته إلى الوزير مصطفى خزندار بتاريخ 17 جمادى الثانية 1290هـ/1873م يذكر خير الدين أن لزمة النشاف والقرنيط الراجع دخلها إلى مجلس الإدارة قد نودي عليها ووقف سرحها على السيد بسكال قوندولف[7]، وبعد حصول اللَزَام على العقد تحدد له الدولة المجالات البحرية مرجع النظر للتصرف فيها ومراقبتها، وتتمثل الطريقة التي يطبقها اللَزَام لتحصيل حقوقه بعد إمضاء العقد في السماح لمن يريد الصيد في المناطق التي تحددها له الدولة مقابل دفع معلوم السراح.
كما كانت الوزارة حريصة كل الحرص على تخصيص نصوص قانونية تنص على احترام الملتزمين ورعايتهم وإعانتهم وضمان كل الظروف الملائمة لاستخلاص حقوقهم، ومن مظاهر ذلك ما جاء في مراسلة من الوزير الأكبر مصطفى خزندار إلى قايد صفاقس بتاريخ 24ربيع الثاني 1270هـ/1854م حين أعلمه بضرورة إعانة اللزام باولو طابيه على أمور هذه اللزمة[8]، وفي مراسلة أخرى من المشير محمد الصادق باشا باي في جمادى الثانية 1279هـ/1862م وبمناسبة حصول باولو طابية على لزمة تلك السنة خاطب الأخير أعوانه بضرورة رعية واحترامه[9].
وحفاظا على حقوقها وحقوق الملتزمين كانت الدولة حريصة كل الحرص على مراقبة المنتوج، وذلك بضبط وتحديد أماكن لغسل الإسفنج وأخرى لتمليح وتجفيف القرنيط، بالإضافة الى تحديد الأماكن التي يقع منها الوسق، وذلك للسيطرة على التجارة السرية أو الكنترة باندو باصطلاح تلك الفترة، لأنها من الظواهر الاقتصادية المقلقة والمنتشرة بقوة خلال تلك الفترة، خاصة أن المنتوج موجه للتصدير وأن جزء من عائدات هذه اللزمة قائم على معاليم السراح المرتبة على ذلك، ومن مظاهر ذلك ما جاء في إحدى الرسائل من مصطفى باشا باي في 15 شعبان 1252هـ/1837م يذكر فيها أنه قام بتعيين مصطفى المملوك بن محمود لمراقبة شقف[10] رئيسه أنجلو كتولمه القريقي الذي حصل على تسريح بأن يصطاد النشاف من بحر سوسة والمنستير وصفاقس وجربة، وأن يقوم بغسله في جزيرة البيبان، ويأتي به إلى جربة ليوزن مغسولا ويخلص منه المملوك سراح ذلك[11].
وفي مراسلة أخرى من مصطفى المملوك إلى المشير أحمد باشا باي في 24 صفر 1262هـ/1847م أبلغه فيها أنه أثناء توجهه إلى جزيرة البيبان مع المركانتي كتولمه القريقي لغسل النشاف وجد كمية من هذا النوع موجودة في بيت الآغة سالم الجبالي آغة برج البيبان، وقد سأله عن صاحب تلك الكمية ومن أذن له بذلك فكان جوابه أنه للمركانتي جورجيو طابيه، وكان قد أذن له بذلك الحاج سالم زروق شيخ زواوة بجربة[12]، وجاء في مكتوب السنيور بسكال قوندولف لزام النشاف والقرنيط إلى مجلس الإدارة في 17 أكتوبر 1288هـ/1871م بمناسبة تعرضه للضرر الذي أحدثه خليفة قرقنة من جراء ممارسته للتجارة السرية وامتناعه عن دفع معاليم السراح الواجبة عليه أن المنتوج في العادة يجمع ويقسم بصفاقس لا غير لأن تبديل الأماكن مضر بهذه اللزمة ويفتح المجال للكنترة باندو[13].
كان هذا التنظيم مدعَم بترتيب أكثر أهمية وهو مراقبة المنتوج الذي يقع صيده ووسقه، وذلك بالنظر في جودته وتسجيل الكميات الموسقة في أزمَة مخصصة لذلك، مع تحديد تاريخ الوسق ومكانه واسم الشقف ورئيسه وإمضاء المشرف على المراقبة، وقد استفسر خير الدين أمير الأمراء الوزير المباشر ورئيس الكمسيون المالي في إحدى رسائله التي تعود إلى الثالث من ربيع الثاني 1288هـ/1871م إلى أمير الأمراء مصطفى خزندار الوزير الأكبر عن مكتوبه الذي يتضمن أن لزام النشاف والقرنيط بصفاقس عرض أن العادة جرت بنقل ذلك من مراسي المملكة من غير أداء، وذلك على يد خليفة البلد، وهو الذي يقوم بتسجيل اسم الصندل ورئيسه ووزن المحمول ويضع فيه “توثقة”[14] ويطالب الرئيس بمقدار الموسوق حين يصل إلى المراسي التي يريدها فكان الجواب مطابق لما عرضه اللزام[15].
وخلاصة القول، على الرغم من أهمية هذه التراتيب ودورها في تنظيم المعاملات الخاصة بهذه اللزمة، فإن هناك ترتيب أكثر أهمية، وهو الذي يتعلق بمعاليم السَراح المرتبة على النشاف والقرنيط خلال الفترة قيد الدراسة.
2/ تطور معاليم السراح المرتَبة عليها
في هذه النقطة يمكننا العودة للدفتر 416 الذي يخص معاليم سراح بعض المنتوجات مثل النشاف والقرنيط بمراسي تونس وبنزرت وسوسة والمنستير والمهدية وصفاقس وجربة، ويتناول هذا المصدر معلومات مهمة حول مادتي النشاف والقرنيط، ومن بينها الطريقة المعتمدة في تحديد هذه المعاليم وكذلك قيمها.
كانت المعاليم الخاصة بالنشاف والقرنيط تحدد على حساب الوزن، وتحديدا القنطار وهو الوحدة المعتمدة في وزن المنتوجات ذات الأحجام الكبيرة وخاصة الخاضعة للوسق أي التصدير، أما بالنسبة لمعاليم السراح فالواضح أنها لم تكن ثابتة وإنَما كانت متطورة، حيث شهدت ارتفاعا في بعض المناسبات بينما شهدت تراجعا في مناسبات أخرى، وهذا مرتبط بالظرفية العامة التي عاشت على وقعها البلاد خلال تلك الفترة، فعلى سبيل المثال بالنسبة للقرنيط قدر معلوم سراحه في سنة 1235هـ/1820م 27 ريال للقنطار، واستقر ذلك إلى حدود سنة 1238هـ/1823م، وابتداء من ذلك التاريخ تراجع إلى حدود 25 ريال للقنطار[16]، ولعل هذا التراجع يعود إلى زوال الأمن الذي تسبب فيه قطاع الطرق مما ساهم في اضطراب الحركة التجارية على السواحل الشرقية للبلاد، وقد تحدث صاحب مؤلف الإتحاف على تلك الحادثة حيث يقول “وفي الثاني عشر من ذي الحجة 1238هـ/1823م، ظهرت مراكب من القريق[17] في سواحل ثغور تونس، تقطع الطريق على مراكب المتجر، وهي المسمَاة بالزبنطوط، أي عارية من النسبة، واشتدت وطأتهم بأخذ الأموال، والتمثيل بقتل أصحاب المراكب وتغريقها، وتعطلت التجارة بسبب ذلك، فجهز الباي ثلاثة مراكب حربية، أمَر عليها حسونة المورالي، فشرَدهم من بحار المملكة، وقطع الله عموم ضررهم بسطوة الدول العظام”َ[18].
وقد عاود الارتفاع نسقه من جديد سنة 1240هـ/1825م ليبلغ أقصاه 28 ريال للقنطار. والواضح أن هذا الارتفاع مرتبط بتدهور قيمة السكة بعد قرار حسين باشا التنقيص من فضتها واستبدالها بالنحاس، ويذكر ابن أبي الضياف في اتحافه “وفي رجب من سنة 1240هـ/1825ما اقتضى حال المملكة وقتئذ تبديل السكة بتنقيص من فضتها، لأن التجار إذا لم يساعدهم شراء نتائج المملكة، يخرجون أعيان السكة، وبسبب ذلك قلَت في المملكة، مع ما في تبديله من ربح عاجل للدولة يؤول إلى ضررها بنقص ثروة المملكة الذي هو عمود الجباية، لأن التجار لا يعتبرون في تجارتهم إلا الريال الدُورو الخالص، فجمع الباي ما أمكنه من ريالات المملكة، وأعاد ضربها على الوزن الموجود الآن، وهو تنقيص ثُمن أوقية من فضة الريال وإبداله بالنحاس”[19]، وبلغ معلوم السراح أدنى مستوياته خلال سنة 1243هـ/1828م حين تراجع إلى 17 ريال للقنطار[20]، وتتكتم المصادر علىذلك، لكنها تشير إلى أن الباي خلال تلك السنة قام بإصلاح جبائي، وهو إحداث تحويرات في قانون العشر، ولعل هذا الإصلاح قد شمل مجالات أخرى مثل معاليم السَراح الخاصة النشاف والقرنيط[21].
أما بالنسبة للقرنيط فقد كان معلوم سراحه يسير بنسق تنازلي، إذ تراجع من 45 ريال للقنطار سنة 1237هـ/1822م وهو أقصى معدل خلال تلك الفترة إلى 38 ريال في سنة 1240هـ/1825م ثم إلى 35 ريال في سنة 1243هـ/1828م، وهو في أسبابه شبيه بالنشاف، وهذا النسق الذي كان في عهد محمود باي تقريبا تواصل في عهد أحفاده رغم شح المادة المصدرية في هذه النقطة، لكن هناك بعض المؤشرات القليلة التي تشير إلى انحدار معلوم السَراح الموظف على النشاف وذلك خلال فترة حكم مصطفى باشا باي، وقد ظهر ذلك في جوابه إلى قنصل الانجليز بتاريخ 26 ربيع الأول 1249هـ/1834م حيث يذكر “سرحنا سابقا رياس فريق على يدكم يصطادون النشاف والقرنيط من بحر سوسة والمنستير وصفاقس وجربة وعينا مملوكا في كل شقف يخلص سراح ذلك والآن بلغنا أنه أتى شقف من الشقوف التي سرحناها بجربة وأراد ميزان النشاف والقرنيط فلما طلع لدى أمين الميزان والعدول والقمرقجي لميزان ذلك وجد النشاف مغسولا غسلا بليغا بحيث أن القنطار المعتاد من النشاف يقف على الثلث وأقل ونحن جعلنا السراح ثمانية ريالات وربع على القنطار نشاف المعتاد المنقى من التراب فقط مثل ما تطلعه سائر التجار والمراسي وأما المغسول على هذه الصورة فلا نسرحه بهذا القدر فالمراد أن نعرف نوابكم بالبلدان بهذه الصورة وأنا يظهر لي أن الوجه المخلص هو أن يوزن قنطار النشاف مثل المعتاد الذي تطلعه المركانتية ويغسل بعد الميزان ثم يعاد وزنه ليظهر ما نقص منه”[22].
تعتبر هذه الإشارة غامضة نوعا ما، فمن جهة أوقفتنا على انحدار كبير في معلوم السَراح الموظَف على النشاف الذي وصل إلى 8.25 ريال للقنطار، ومن جهة أخرى أن هذا المعلوم خصَ النشَاف المغسول، مما يقودنا إلى استخلاص أن هناك فرق في الأداء بين النشاف المغسول وغير المغسول.
لكن هناك وثيقة أخرى تشير بطريقة واضحة إلى أن هناك تراجع في معاليم السراح الموظَفة على هذه المنتوجات، وهي نسخة أمر علي من مصطفى باشا باي بتاريخ 15 شعبان 1252هـ/1837م حيث يذكر فيها أنه قام بتعيين مصطفى المملوك على شقف فريق رئاته أنجلو كتولمه القريقي الذي سرحه على يد قنصل الفرنسيس يصطاد النشاف والقرنيط من سوسة والمنستير وصفاقس وجربة ويغسله بجزيرة البيبان ثم يأتي به إلى جربة ليوزن مغسولا، ويخلص منه سراح ذلك 15 ريال على كل قنطار[23]، وقد يكون هذا التراجع الذي بلغ أدنى مستوياته خلال تلك السنة مرتبط بأسباب سياسية وأمنية مثل اشتداد الحرب الأهلية بطرابلس[24]، ومن الطبيعي أن يكون لها تأثير على حركتي الصيد والتجارة باعتبارها منطقة متاخمة لسواحل البلاد.
وخلال فترة حكم كل من أحمد باشا باي وأخيه محمد باي لم نعثر تقريبا على أي إشارة حول معلوم السراح الخاص بالنشاف والقرنيط سوى في وثائق الأرشيف أو في المصادر العامة على غرار قيمة اللزمة التي سوف نقوم بدراستها لاحقا، إذ يمكن أن تكون قد شهدت ارتفاعا أو تراجعا، كما يمكن أن تكون قد شهدت استقرارا لما كانت عليه منذ عهد سلفهم وهو الأقرب للواقع، لأنها لو حدثت أي زيادة فإن المصادر لم تغفل ذلك، باعتبار أن الزيادات في قيمة المكوس وضرب المجابي من أهم المواضيع التي تم تناولها بدقة في المصادر، وعلى كل حال يبقى رأي قيد الافتراض.
هناك إشارة أخرى تعود إلى عهد محمد الصادق باشا باي وتحديدا 1284هـ/1867م، وقد تناولها صاحب مؤلف الاتحاف في إطار حديثه على حدث تخفيف سراح بعض المنتوجات الفلاحية تفاعلا مع الظرفية العامة للبلاد التي شهدت تدهورا على كل المستويات، وكذلك مع المحاولات الملحة والمتكررة للمطالبة بهذا التخفيض من قبل عديد الفئات مثل الفلاحون، لكن هذا التخفيف لم يشمل النشاف والقرنيط بل بالعكس يذكر المؤلف أنه وقعت الزيادة في معاليم السراح الخاصة بهم وتوحيدها في حدود 25 ريال للقنطار[25]، ما يعني أن قبل ذلك كانت أقل، وهذا يرجح فرضية تواصلها على نفس النسق الذي كانت عليه منذ عهد مصطفى باشا باي إلى حدود سنة 1284هـ/1867م أو على الأقل لم تتجاوز 25 ريال للقنطار، وعلى كل حال مهما كان النسق الذي سارت عليه معاليم السَراح الخاصة بهذه المنتوجات ارتفاع أو استقرار أو تراجع فإن الدولة استفادت من عائداتها الماليَة.
II/ تطور اللزمة ومشاكلها
1/ تطور اللزمة
تشير المصادر إلى تطور قيمة اللزمة الخاصة بالنشاف والقرنيط خلال القرن التاسع عشر، وهذا التطور مرتبط بالنسق العام الذي كانت تعيش على وقعه البلاد من جهة وكذلك الإصلاحات الجبائية التي وقع النظر فيها من حين لآخر من جهة ثانية، وخصوصا من ناحية الزيادة في قيمة المكوس، فالدفتر الجبائي عدد 2063 مثلا يحتوي على قيمة هذه اللزمة والأطراف الملتزمة خلال سنة 1245هـ/1830م، إذ قدر مجموعها 7500 ريال في السنة، فقد احتكرها فرحات الجلولي قايد صفاقس بالمكان مدة ثلاث سنوات متتالية ابتداء من ذلك التاريخ إلى حدود 1247هـ/1832م بـ 6000 ريال كل سنة تدفع أقساطا، وفي المدة نفسها التزمها محمود بن عياد قايد جربة بالمكان بـ 1500 ريال كل سنة[26]، وتعتبر هذه القيمة ضعيفة مقارنة ببعض اللزم الأخرى مثل لزمة الحوت أو حجم المنتوج الذي كان يوسق سنويا والذي يصل إلى حوالي 800 قنطار سنويا على حد تعبير بيليسي[27]، ولكن ابتداء من سنة 1254هـ/1839م تشير المصادر إلى تطور قيمتها، وهو ما سنقوم بتجسيمه في الرسم التالي[28].
تطور لزمة النشاف والقرنيط بحساب الريال بين سنة 1254هـ/1839م و1292هـ/1875م
يظهر من خلال الرسم البياني أن قيمة اللزمة تطورت بشكل كبير خلال سنة 1254هـ/1839م على ما كانت عليه قبل سبعة سنوات، إذ تضاعفت أكثر من خمسة مرات لتبلغ 40000 ريال خلال تلك السنة، وكانت بيد اللزام الإيطالي باولو طابيه، ولعل هذا الارتفاع المفاجئ مرتبط بالإصلاحات العسكرية التي شرع في انجازها أحمد باشا باي خلال تلك السنة وكلفته إحداث ضرائب ومكوس ولزم جديدة في وقت مازالت فيه السكة تصارع مرض التدهور الذي تسبب فيه حسين باي[29]، وإبَان تلك السنة أي 1254هـ/1839م نلاحظ أن هناك استقرار في قيمة اللزمة في حدود 40000 ريال رغم غياب بعض السنوات، وهذا مرتبط بالمادة المصدرية، وتواصلت بيد اللزام الإيطالي باولو طابيه، وهذا الاستقرار الذي امتد على سبعة سنوات وقد يكون أكثر شمل فترة حكم كل من أحمد باشا باي وأخيه محمد، ما يعني أن معاليم السراح الموظفة على النشاف والقرنيط كانت مستقرة.
وخلال سنة 1275هـ/1858م ارتفعت قيمة اللزمة بأكثر من النصف لتبلغ 90000 ريال، وقد استخلصنا هذا الرقم من مراسلة لمحمد الصادق باي بتاريخ 1283هـ/1866م يذكَر فيها أن إسحاق جهول التزم القرنيط والنشاف لمدة عام واحد مبدؤه قعدة الحرام 1275هـ/1858م بـ 90000 ريال[30]،لكن مناسبة التذكير التي جاءت بعد حوالي ثمانية سنوات من حدوثها كانت غامضة، وهي على الأرجح كانت مرتبطة بموقف، قد يكون إجابة على مقترح جديد يتعلق بالتخفيض في قيمة اللزمة من قبل أحد أعوانه نتيجة لتذمر اللزام من ارتفاع سعرها خلال تلك السنة، مع العلم أن تلك المرحلة شهدت زيادة في معاليم السراح الخاصة بالنشاف والقرنيط، وكأن الباي يخبره أنها مهما ارتفعت لم تبلغ ما وصلت إليه خلال سنة 1275هـ/1858م، وعلى كل حال حتى وإن كانت تلك القيمة التي ذكرها محمد الصادق باي مرتفعة فإنها منطقية، لأن تلك الفترة شهدت فيها السكة انهيار كبير بسبب استبدالها والتخفيض من قيمتها وضربها من النحاس بعد أن كانت فضة، وهو ما ساهم في حدوث تضخم، وقد عبَر صاحب مؤلف الاتحاف عن ذلك واعتبره مشكلا تذمَر منه التجار والدولة مما أجبر الباي على التراجع عن تلك السياسة[31].
وفي سنة 1276هـ/1869م تراجعت قيمة اللزمة إلى أكثر من النصف لتصبح في حدود 50000 ريال، ما يعني أن تراجع الباي عن قرار واقعة السكة قد أحدث تعديلا كبيرا، مما جعل اللزمة تشهد توازن وتناسق مع ما كانت عليه قبل سنة 1275هـ/1859م، حتى ولو شهدت زيادة بـ 10000 ريال، لأنه من الطبيعي أن يكون هناك تطور منطقي بعد استقرار دام سبعة سنوات أو أكثر، وقد شهدت هذه اللزمة استقرار من جديد دام سبعة سنوات متتالية إلى حدود 1282هـ/1865م، وارتفعت قيمتها إلى 56000 ريال أي بزيادة قدرت بـ 6000 ريال، وقد تزامنت تلك الزيادة مع شروع الباي في إنجاز إصلاحات عسكرية تمثلت في إبدال أزياء ضباط العسكر وجعلها من الحرير والفضة مما جعل أسعارها أرفع من أسعار الأزياء القديمة في وقت كانت فيه الدولة مختنقة، وكذلك شروعه في إصلاح أبراج البلاد[32]، كما أنه في تلك السنة قام بضرب سكة النحاس رغم معارضة بعض أعوانه ورغم أنه كان شاهد على نتائجها السلبية حين قام بذلك أسلافه، وقد عبَر عن تلك الخيبة ابن أبي الضياف في إتحافه حيث يقول “والإفلاس بفلوس النحاس يسري في القطر سريان السوس في الحبوب والمرض في الجسم المعتل بدء الهرم…وغلت الأسعار باعتبار صرفه غلوا فادحا…وتعطلت بسبب ذلك المعاطات والبياعات[33].
وخلال سنة 1287هـ/1870م ارتفعت قيمة اللزمة إلى 90000 ريال أي بزيادة قدرت بـ 34000 ريال وتواصلت بيد الإيطالي باولو طابيه، وقد استقرَت في حدود تلك القيمة إلى سنة 1289هـ/1872م. وانطلاقا من السنة التي تلتها مباشرة وصلت قيمتها إلى 100000 ريال عندما آلت إلى اللزَام بسكال قندولف لمدة ثلاثة سنوات متتالية أي إلى حدود سنة 1292هـ/1875م، وقد تزامن ذلك الارتفاع مع الإصلاحات التي قام بها خير الدين ، وقد تلك الزيادة تكون من نتائج ذلك، كما نلاحظ أن العقد الذي أبرمه اللزَام بسكال قندولف لثلاثة سنوات متتالية كان متجاوب مع مقترح خير الدين الذي يعود إلى 25 جمادى الثانية 1290هـ/1873م والدَاعي إلى ضرورة إلحاق تلك اللزمة بالقانون الجديد الذي شمل فندق الغلة وقمرق السلعة…والذي ينص على أن يكون العقد الخاص بهذه اللزمة صالحا لأكثر من سنة دون تجديد بعد أن كان قبل ذلك العكس، أي أن العقد كان يخضع إلى تجديد سنوي، لأنه أكثر نجاعة للدولة والملتزم من حيث المداخيل[34].
2/ مشاكلها
من الضروري الإشارة في هذا الإطار إلى أهم المشاكل التي تمخَضت عن هذه اللزمة، إذ هي متعددة ومتنوعة، وأولها المشكل الذي يتعلق بإبرام العقد، فعلى الرغم من أن إمضاؤه كان يخضع للتراتيب القانونية اللازمة إلا أن الثغرة موجودة، ويظهر عيبها في الفترة المفصلية التي تشهد انتقال اللزمة من شخص لآخر أو أثناء غياب الملتزم أو تأخر دفع قسط من أقساطها من قبل الملتزم… وينشأ عن ذلك ارتباك في اتخاذ موقف محدد وفي تحديد مصير الحقوق.
وقد احتفظت لنا وثائق الأرشيف بصدى هذا المشكل في عدة مراسلات، ومن بينها المراسلة الصادرة عن حسين الجلولي عامل صفاقس إلى الوزير الأكبر مصطفى خزندار في 20 رجب 1281هـ/1864م، يذكر فيها أن جميع اللزم التي بصفاقس لما رتبت جعل عليها نائبا وهو محمد عمار وذلك لمغيب جميع اللزامة في ذلك الوقت ومن جملتهم لزمة النشاف والقرنيط وكل ذلك على نظر سليم أمير لواء عساكر الطبجية، ويذكر أن في تلك المدة أتى جرجيو طابيه الذي كان نائبا عن أخيه باولو وقد تسبب ذلك في إحدث تداخل وارتباك حول مصير الحقوق الخاص بلزمة النشاف والقرنيط، ولذلك كان المعروض الذي تقدم به هذا العامل بسبب عجزه في فصل هذا المشكل، مما دفعه للاستفسار عن مآل تلك اللزمة، هل هي باقية على ذمة أخيه أم أنها أصبحت لجانب البيليك[35].
وفي مراسلة أخرى من الوزير المباشر ورئيس الكمسيون المالي إلى الوزير الأكبر بتاريخ 17 جمادى الأولى 1287هـ/1870م يذكر فيها أن باولو طابية انتهت مدة لزمته وأن السنيور بسكال قوندولف استلزمها مكانه، ولكنه لم يتصرَف فيها إلا بعد عشرون يوما من تاريخ حصوله عليها وأن باولو طابيه واصل تصرفه فيها أكثر من شهر بعد انقضاء مدة عقده، وقد خلَف ذلك غموضا في مآل الحقوق لمن ستعود[36].
أما بالنسبة للمشكل الثاني، فهو يتعلق بالمضايقات التي كانت تقع للزَام من قبل بعض أعوان الدولة أو من جرَاء تفاقم ظاهرة الكنترة باندو أي التجارة السرية، وتتمثل مضايقات هؤلاء الأعوان في الابتزاز وفي استغلال النفوذ، ومثل هذه الظواهر كانت منتشرة بقوة في نظام الالتزام بصفة عامة ولزمة النشاف والقرنيط بصفة خاصة، وقد احتفظت لنا وثائق الأرشيف بالبعض منها، ففي إحدى مكاتيبه إلى الوزارة بتاريخ 1277هـ/1861م يذكر مسيو هود قنصل الأنجليز بتونس أنه تم معاينة النائب بجربة يدفع اللزام إلى التخلي عن هذه اللزمة[37]، لكن أسباب ذلك بقيت غامضة، ولكن سلوك هذا النائب يظهر كشكل من أشكال الابتزاز تجاه اللزَام حتى يرغمه على دفع قسط من “الرشوة”، وقد يكون هناك من يدفعه إلى هذا السلوك مقابل مبلغ مالي للظفر بهذه اللزمة.
وقد ظهر هذا السلوك كذلك في مراسلة من الوزير مصطفى خزندار إلى باولو طابيه في 26 جمادى الثانية 1280هـ/1863م، يعلمه أن هناك من تقدم بمطلب للحصول على هذه اللزمة مقابل زيادة 5000 ريال مع دفع نصف دراهم كامل اللزمة في الحين والباقي بعض مضي ستة أشهر، وقد طلب منه إما الموافقة أو التخلي لفائدة الغير[38]، ولكن في المقابل نجد خلال تلك السنة والسنوات التي تلتها تواصل اللزمة بيد باولو طابيه وبنفس القيمة ولم يحدث عليها أي تغيير، وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن هناك تناقض، وهذا التناقض قد يحيل إلى أن هناك اتفاق سري حصل بين اللزام والوزير ولعلَه يتعلق بحصوله على قسط مالي في شكل “رشوة”، وهو ما جعله يتراجع عن ذلك القرار.
ومن مظاهر علاقة أعوان الدولة بمشاكل تلك اللزمة ما قام به خليفة صفاقس عندما سوَلت له نفسه تعاطي صيد النشاف والقرنيط والمتاجرة به بشكل سري، مستغلا نفوذه كموظف له الصلاحيات الكفيلة بالجام حراس الموانئ وأمناء الميزان والعدول والمراقبين من الإدلاء بأي معلومات تخص ذلك، وقد اشتكى اللزام عديد المرَات في مراسلاته من ذلك السلوك، ففي مكتوبه إلى مجلس الإدارة بتاريخ 1288هـ/1871م يذكر لزَام النشاف والقرنيط بسكال قوندولف أنه رغم الشكاية التي تقدم بها في السنة الفارطة إلى جناب الوزير المباشر بشأن سيرة خليفة قرقنة إلا أنه لم يجد نفعا، وقد ثبت تضلعه في وسق القرنيط والنشاف بشكل سري، كما تم التثبت من أن المقدار الذي وسقه أكبر بكثير على المقدار الذي دفع عليه السراح وبلغ مجموع القرنيط الذي وسقه حوالي 275 قنطار، وقد أحدث ذلك ضررا ليس للزَام فقط وإنما للدولة كذلك، وهو ما جعله يهدد بمقاطعة دفع أقساط اللزمة إذا لم يتم عزل ذلك الخليفة المحتمي بعامل صفاقس حسب روايته[39].
كما اشتكى باولو طابية كذلك إلى الوزير مصطفى خزندار من قايد صفاقس الذي كان يغض النظر على هذه التجاوزات، مشيرا إلى أن التنبيه الذي صدر في حق الخليفة سابقا وضعه تحت ركبتيه وزاد في فساد اللزمة[40]، وقد كانت هذه الشكاية سببا في اجتهاد الوزير في مراسلته إلى قايد صفاقس طالبا منه ضرورة إعانة اللزام[41]، كما لقيت هذه الشكاية كذلك دعما من مجلس الإدارة الذي كاتب رئيس الكمسيون المالي بتاريخ 1288هـ/1871م يطلب منه الأخذ بمقترحات اللزام في تجاوز ذلك المشكل والمتمثلة في عزل الخليفة وتحديد أماكن الوسق ومراقبتها بدقة، لأن في ذلك مصلحة للجميع وعكس ذلك مضرَة[42].
ولم تقتصر تلك المضايقات على أعوان الدولة فقط بل كانت منتشرة عند غيرهم، ويرتبط تفاقم تلك الظاهرة وخاصة التجارة السرية باعتبارها من أهم المشاكل بعدَة أسباب، أولها، امتداد الساحل البحري بالبلاد تقابله قلة مراقبة بصفة كلية، وثانيها، وفرة النشاف والقرنيط به وكذلك انتشار ظاهرة التسول الاقتصادي لبعض أعوان الدولة مما جعلهم يغضون الطرف على عديد الفئات مقابل حصولهم على مبالغ مالية في شكل هدايا أو “رشوة”، وقد اشتكى اللزام من هذا الخطر عديد المرَات نظرا للأضرار التي لحقته، وقد جاء في مكتوب من قنصل جنرال دولة النمسا بتونس إلى محمد الصادق باشا باي بتاريخ 1278هـ/1861م بمناسبة تشكي اللزام من أحد رعاياه المسمَى ديمو النمساوي بأن لديه “تيندة” بجرجيس يصطاد منها النشاف والقرنيط من غير حق ولا تسريح، وقد عبر القنصل على عدم قدرته عن إزالتها لأنها ملك ذو قيمة حسب تعبيره، كما أكَد أنه يمارس نشاطه بالمكان منذ مدة ولم يتعرَض له أحد[43].
كما جاء في مراسلة من رستم مستشار وزارة العمالة إلى مستشار “وزارة الأمور البرَانية”[44] في 12 جمادى الثانية 1277هـ/1860م، مفادها أن لزَام النشَاف والقرنيط عرض أن لزَام ذلك بطرابلس ركَز “تيندة” بجرجيس بدون إذن وقد طلب منه ضرورة مخاطبة القنصل بإزالتها من ذلك المحل[45]، وجاء في مكتوب من المشير أحمد باشا باي إلى قنصل جنرال دولة الفرنسيس بتونس في 3 صفر 1263هـ/1848م يذكَره بوصول معلومات تفيد أن القريقي نكوله كتولمه يصطاد النشاف والقرنيط من مياه العمالة من غير تسريح، ويأتي “بشقوفه” من مرسى جربة، ويدَعي أنه التزم ذلك من مياه طرابلس. ودون ذلك فإنه يتكلَم في الفضول الذي لا ينبغي له أن يتكلَم فيه خاصَة مسألة الحدود لأن ذلك من الأمور التي توجد الحيرة والهرج في عمالتنا.[46]
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تلك اللزمة تسببت كذلك في إرباك الأمن العام وأنتجت مشاكل تصل إلى حد التقاتل[47]، ويذكر رستم أمير لواء العسة ومستشار وزارة العمالة في مراسلته إلى مستشار الوزارة الخارجية أن الفريق الذين يصطادون النشاف والقرنيط بساحلهم أفسدوا لهم شباك صيدهم وصرخوا عليهم البارود[48]، وتشير مراسلة أخرى من أمير اللواء حسن الجلولي عامل صفاقس إلى الوزبر الأكبر مصطفى خزندار إلى وقوع معركة بين صيادة النشاف وقبيلة عكارة بمرسى المكان وقد كلَف ذلك توجه المسؤولين لفصل النازلة[49].
خــاتمة :
وخلاصة القول، لئن سجلت لزمة النشاف والقرنيط حضورها منذ القرن الثامن عشر فإن قيمتها ظلت ضعيفة إلى حدود ثلاثينات القرن الموالي، وكانت من نصيب المستثمرين المحليين وخاصة أعوان الدولة. وابتداء من سنة 1254هـ/1839م تدعَمت مكانة تلك اللزمة وتطورت بشكل كبير، وقد أدى ارتفاع قيمتها بعد هذا التاريخ إلى تراجع هؤلاء، وذلك بسبب تضعضع رؤوس أموالهم من جرَاء الأزمات الديمغرافية والطبيعية التي عاشت على وقعها البلاد خلال تلك الفترة، بالإضافة إلى الزيادات المتكررة التي أقبل عليها البايات في قيمة المكوس وفي معاليم السراح وكذلك لارتفاع تكاليفها، وقد فتح هذا الوضع الباب أمام المستثمرين الأجانب للاستثمار بقوة في هذا المجال لتفوقهم المالي ولخبرتهم بالميدان، ولذلك نلاحظ أنها ابتداء من سنة 1254هـ/1839م وإلى حدود 1292هـ/1875م ظلت لزمة النشاف والقرنيط من احتكار الايطاليين واليهود.
قائمة المصادر والمراجع:
- ابن أبي الضياف، اتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، تحقيق لجنة من وزارة الشؤون الثقافية، الدار العربية للكتاب، 1990، المجلد الثاني، الجزء الثالث والرابع.
- ابن أبي الضياف، اتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، الدار التونسية للنشر،1989، الجزء السادس.
- الأرشيف الوطني التونسي، الدفتر 2250/3.
- الأرشيف الوطني التونسي، الدفتر 416.
- الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، حافظة 238، ملف 555.
- الزركشي، تاريخ الدولتين الموحدية و الحفصية، تحقيق وتقديم الحسين اليعقوبي بمساعدة محمد قريمان ومحمد صالح العسلي، تونس، المكتبة العتيقة،الطبعة الأولى، 1998.
- السعداوي إبراهيم، لزمة الأسواق بالإيالة التونسية خلال العهد العثماني، المجلة التاريخية المغربية، 2008، ص 161-193، الجزء الأول.
- السعداوي إبراهيم، نظام الالتزام بإيالة تونس أثناء فترة 1574-1705م، المجلة التاريخية المغربية، 117، 2004.
- رضا بن رجب، يهود البلاط ويهود المال في تونس العثمانية (1675-1857)، دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى، 2010.
- روباربرنشفيك، تاريخ افريقية في العهد الحفصي من القرن 13 إلى نهاية القرن 15، ترجمة حمادي الساحلي، بيروت-لبنان، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1988، الجزء الثاني.
- بيليسي، وصف ايالة تونس، ترجمة وتحقيق محمد العربي السنوسي، تونس، دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، الطبعة الأولى، 2010.
- الحشايشي، الهدية في العادات التونسية، وتحقيق أحمد الطويلي ومحمد العنابي، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، 2002.
13 .Henry Dunant, notice sur la régence de Tunis, Genève, imprimerie de jules-G.Fick, 1858.
[1] رضا بن رجب، يهود البلاط ويهود المال في تونس العثمانية (1675-1857)، دار المدار الإسلامي، 2010
[2]السعداوي إبراهيم، لزمة الأسواق بالإيالة التونسية خلال العهد العثماني، المجلة التاريخية المغربية، 2008، ص 161-193، الجزء الأول.
حول نظام الالتزام ينظر كذلك
-السعداوي إبراهيم، نظام الالتزام بإيالة تونس أثناء فترة 1574-1705م، المجلة التاريخية المغربية، 117، 2004، ص 87-99.
[3] الزركشي، تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية، تحقيق وتقديم الحسين اليعقوبي بمساعدة محمد فريمان ومحمد صالح العسلي، تونس، المكتبة العتيقة، الطبعة الأولى، 1998، ص 236.
[4]Henry Dunant, notice sur la régence de Tunis, Genève, imprimerie de jules-G.Fick, 1858, p 93.
– روبار برنشفيك، تاريخ افريقية في العهد الحفصي من القرن 13 إلى نهاية القرن 15، ترجمة حمادي الساحلي، بيروت-لبنان، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1988، ص 239-457، الجزء الثاني.
– بيليسي، وصف ايالة تونس، ترجمة وتحقيق محمد العربي السنوسي، تونس، دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، 2010، الطبعة الأولى، ص 84-86.
– الحشايشي، الهدية في العادات التونسية، وتحقيق أحمد الطويلي ومحمد العنابي، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، 2002، ص 90.
– الزركشي، تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية، تحقيق وتقديم الحسين اليعقوبي بمساعدة محمد فريمان ومحمد صالح العسلي، تونس، المكتبة العتيقة، الطبعة الأولى، 1998، ص 236.
[5] الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، حافظة 238، ملف 555، وثيقة 66.
[6] المصدر نفسه، وثيقة 68.
[7] الأرشيف. الوطني. التونسي، السلسلة التاريخية، حافظة 238، ملف 555، وثيقة 69.
[8] المصدر نفسه، وثيقة 16.
[9] المصدر نفسه، وثيقة 25.
[10] شقف: نوع من السفن.
[11]الأرشيف الوطني التونسي، حافظة 238، ملف 555، وثيقة 3.
[12] المصدر نفسه، وثيقة 6.
[13] المصدر نفسه، وثيقة 593
[14] توثقة، هي كلمة عامية يقصد بها وصل استخلاص.
[15]الأرشيف الوطني التونسي، حافظة 238، ملف 555، وثيقة 58.
[16] الأرشيف. الوطني. التونسي، الدفتر 416.
[17] القريق: يقصد بها الإغريق.
[18] ابن أبي الضياف، اتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، تحقيق لجنة من وزارة الشؤون الثقافية، الدار العربية للكتاب، 1990، الجزء الثالث، المجلد الثاني، ص 143.
[19] المصدر نفسه، ص 155.
[20] الأرشيف. الوطني. التونسي، الدفتر 416.
[21] ابن أبي الضياف، اتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، مصدر سابق، الجزء الثالث، المجلد الثاني، ص 160.
[22] الأرشيف. الوطني. التونسي، الدفتر 416.
[23] الأرشيف. الوطني. التونسي، السلسلة التاريخية، حافظة 238، ملف 555، وثيقة 1.
[24] المصدر نفسه، وثيقة 3.
[25] ابن أبي الضياف، اتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، الدار التونسية للنشر،1989، ص 107، الجزء السادس.
[26] الأرشيف. الوطني. التونسي، الدفتر 2250/3.
[27] بيليسي، وصف ايالة تونس، ترجمة وتحقيق محمد العربي السنوسي، مصدر سابق، ص267.
[28] الأرشيف. الوطني. التونسي، الدفتر 2250/3.
– الأرشيف. الوطني. التونسي، السلسلة التاريخية، حاوية 93، ملف 107، وثيقة 5، 7، 9، 10، 11، 22، 23، 34، 35، 37، 133.
– الأرشيف. الوطني. التونسي، السلسلة التاريخية، حافظة 238، ملف 555، وثيقة 30.
[29] ابن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، مصدر سابق، الجزء الرابع، المجلد الثاني، ص 25-26.
[30] الأرشيف. الوطني. التونسي، السلسلة التاريخية، حافظة 238، ملف 555، وثيقة 42.
[31] ابن أبي الضياف، اتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، مصدر سابق، الجزء الرابع، المجلد الثاني، ص 253-254.
[32] ابن أبي الضياف، اتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، مصدر سابق، الجزء السادس، ص 81.
[33] المصدر نفسه، ص 88.
[34] الأرشيف. الوطني، التونسي، حافظة 238، ملف 555، وثيقة 106.
[35] المصدر نفسه، وثيقة 29.
[36] المصدر نفسه، وثيقة 34.
[37] المصدر نفسه، وثيقة 21.
[38] المصدر نفسه، وثيقة 28.
[39] المصدر نفسه، وثيقة 59.
[40] المصدر نفسه، وثيقة 10.
[41] المصدر نفسه، وثيقة 13.
[42] المصدر نفسه، وثيقة 60.
[43] المصدر نفسه، وثيقة 29.
[44] وزارة الأمور البرَانية هي كلمة عامية ويقصد بها وزارة الخارجية.
[45]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، حافظة 238، ملف 555، وثيقة 18.
[46] المصدر نفسه، وثيقة 7.
[47] المصدر نفسه، وثيقة 53.
[48] المصدر نفسه، وثيقة 25.
[49] المصدر نفسه، وثيقة 122.