إشكالية الخلافة في الفكر العربي المعاصر: عبد الله العروي نموذجاً
The problem of the caliphate in contemporary Arab thought; Abdullah Al-Aroui as an example
ط.د. سفيان البراق/جامعة شعيب الدكالي، المغرب
PhD Soufian EL BARRAK / Chouaib Doukkali University, Morocco
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 87 الصفحة 33.
Abstract :
In this paper, I have tried to trace a very big problem around which discussions have taken place between two currents: the first is the Salafi current, which clings to the past and does its best to revive it because it sees in it great glory that was achieved in a time gone by, and sees in it the most successful solution to overcoming our historical backwardness. As for the second trend, which is ably represented by the thinker Abdel Laroui; I mean: the modernist trend. He is the one who seeks liberation from the past and wants to cut off from the negative that is included in the heritage, and to abandon the conceptual equipment that he enjoys, especially the concept of the caliphate. This concept is an Islamic innovation that was realized in a specific time, but its realization during the contemporary period, according to Abdullah Al-Aroui, is impossible due to the absence of its objective conditions, despite the serious attempts made by the traditional Salafi trend to revive it again.
Keywords: Caliphate, modernity, state, heritage, Utopie.
ملخص:
حاولتُ في هذه الورقة تعقّب إشكاليّة كبيرة جداً دارت حولها نقاشات قد لا تنقضي عدّاً بين تيارين: الأول هو التيار السلفي الذي يتشبث بالماضي ويبذل قصارى جهده لإحيائه لأنّه يرى فيه مجداً كبيراً تحقق في زمنٍ ولّى، ويعتقد اعتقاداً جاداً أنه هو الحل الأنجح لتجاوز تأخرنا التاريخي، أمّا التيار الثاني، الذي يمثله المفكر عبد العروي باقتدار؛ وأعني: التيار الحداثي، فهو الذي ينشد الانعتاق من الماضي ويرغبُ في القطع من السلبي الذي ينضوي في التراث، والتخلي عن العُدّة المفاهيمية التي يتمتّع بها، وعلى رأسها مفهوم الخلافة، هذا المفهوم هو ابتداعٌ إسلامي تحقق في زمن معين، غير أنّ تحققه خلال الفترة المعاصرة، حسب عبد الله العروي، هو ضربٌ من المستحيل نظراً لغياب شروطه الموضوعية، رغم المحاولات الجادّة التي قام بها التيار السلفي التقليدي لإعادة إحيائه مجدداً.
الكلمات المفتاحية: الخلافة، الحداثة، الدّولة، التراث، الطوبى.
تقديم:
لقد أخذت إشكالية الدولة مساحة واسعة في الفكر العربي، ودارت حولها نقاشات كبيرة، وربّما كانت الآراء تتقاربُ إلى حدّ ما، سيّما وأنّ التطلّع كان واحداً في أغلب الأحايين وهو الارتماء في حضن دولة يانعة تأخذ فيها الحريّة والديمقراطية نصيب الأسد، فالمكانة الّتي يحتلّها المفهوم في الفكر العربي، والكتابات الكثيرة الّتي أسهبت في الحديث عنه خير دليل على ذلك، لأنّها في المقام الأول (=الدولة) جزءٌ لا يتجزّأ من حياتنا، فكلّ إنسان أينما كان، فهو ينتمي إلى رقعةٍ جغرافية لها سيادتها ومؤسّساتها وحدودها الجغرافية، وقوانين تُنظم حياتهُ الاجتماعية، لكن لا توجدُ دولة لا تعيشُ إكراهات وتطرحُ قضايا عويصة تستوجبُ الوقوف عليها.
من أبرز الإشكاليات المستعصية الّتي عرفتها الدولة العربية هي إشكالية الدولة الإسلامية (الإسلام دين ودولة)، الّتي تتبوأ مكانة مهمّة في تاريخ الفكر العربي، وهذه المكانة ترجع للجدل الّذي أثارته والآراء الّتي تضاربت حولها منذ أمدٍ بعيد، وهي مجرّد أنموذج من المعيقات التي تعترضُ نضج الدولة العربية واكتمالها.
سيتناول هذا البحث أبرز إشكاليّة عرفتها الدولة العربية المعاصرة تتمثّل في سؤال الخلافة الذي ما فتئ يطفو في الكتابات العربية المعاصرة، كما تطفو الشوائبُ في البرك الآسنة، وذلك من خلال الارتكاز على وجهة نظر مفكرٍ عربي مرموق هو: عبد الله العروي، هذه الإشكالية اعتنت بها عشرات الدراسات الرصينة بيد أنني اخترت عبد الله العروي كنموذج نظراً للمكانة الفكرية الّتي يتمتّع بها في الساحة الثّقافية العربية، فهو قمّة بلا جدل، وقد يحتاجُ الفكر العربي لعقودٍ طويلة قبل أن يسعد مجدداً ببروز أيقونة من طراز عبد الله العروي.
ارتأيتُ قبل الغوص في التصدي الذي قام به العروي لفكرة الخلافة، كفكرة يستحيلُ تحقيقها على أرض الواقع، في اعتقاده، أن أستعرض رأي رجلين في هذا الصدد، حيث يعتبران من أهم من كتب عنها وهما: العلاّمة عبد الرحمن ابن خلدون وعلي عبد الرازق، فالأوّل يتكئ عليه عبد الله العروي كثيراً، والثاني يعودُ إليه باستمرار كلما سنحت له الفرصة في مواقع مختلفة من كتابه الذي كنّاه بـ: مفهوم الدولة، وجديرٌ بالذّكر أن كتاب علي عبد الرازق الموسوم بـ الإسلام وأصول الحكم يعتبر من أكثر الكتب جرأةً في تناولها لقضايا جد حسّاسة (نظام الحكم في الإسلام = الخلافة)، ولهذا فقد أثار لغطاً كبيراً خلال القرن العشرين.
أبدأ بابن خلدون الذي ميّز في مُقدّمته بين ثلاثة أنواعٍ في الحكم:
– المُلك الطبيعي: “هو حملُ الكافّة على مقتضى الغرض والشّهوة”([1])، ويمكنُ القول إنّ الملك الطبيعي هو “الّذي يُناسبُ العمران البدوي”([2]).
– المُلك السياسي: “هو حملُ الكافّة على مقتضى النّظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار”([3])، هذا النّموذج يتوخى بدرجة كبيرة “مصلحة الحاكم الفرد”([4]).
– الخلافة: “هي حمل الكافّة على مقتضى النّظر في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها… فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا”([5])، ما يمكنُ فهمه هنا أنّ من تقلّد منصب الخليفة فإنّه يجمع بين سلطتين: سلطة دينية ودنيوية؛ إذ يحمي الدين ويسهر على رعاية شؤون رعيته الدنيوية وتنظيم حياتهم، ونقرأ في هذا المضمار تحليلاً لرأي ابن خلدون في منتهى الدقّة مفاده أنّ “الخلافة لقبٌ مرتبط بشرطين أساسيين: الوازع أو الشّرعية التي يجب أن تكون دينية، والمعاني أو السياسات التي يجب أن تكون على منهاج الحقّ، أمّا الملك البحت أو السلطنة فترتبطُ بالوازع أو الشّرعية المُستمدّة من العصبية والشّوكة، وتصريف الآدميين طوع الأغراض والشّهوات ومُقتضى العقل”([6]).
يذهب عبد الله العروي في هذا الصدد إلى اعتبار نظام الخلافة هو الكفيل بتحقيق وضمان السعادة “في الدنيا وضمان النّجاة في الآخرة، وهي ميزة لا تتحقّقُ في أيّ نظامٍ سواه”([7])، كما خلُص إلى أنّ ابن خلدون قام، عن قصد، بترتيب هذه الأنواع من الحكم وجعل: “الملك في الأسفل والخلافة في القمّة”([8]).
إنّ رائد التيار المناهض للتيار الإسلامي علي عبد الرازق، قد دعا إلى علمنة الوسط الإسلامي بعدما ألحّ على ضرورة الفصل بين الدين والسياسة في الدولة، ناقش البعضَ من هذه المعطيات في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” الذي نال نصيب الأسد من الاهتمام، ليُعدّ هذا الكتاب من بين أهم الكتب المعاصرة التي توغّلت في مسلّمات الاتجاه الإسلامي الداعي إلى حكمٍ طوباوي، وزعزعتها، وسار صاحب الكتاب في طريق الرفض النهائي للخلافة، ونقدها.
وردت في كتابه تعريفات متعدّدة للخلافة، انتقيتُ منها الأنسب من وجهة نظري: “الخلافة في لسان المُسلمين، وتُرادفها الإمامة، هي رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابةً عن النبي صلى الله عليه وسلم”([9])، لقد نفى علي عبد الرازق وجود نصٍّ في القرآن ينصُّ على وجوب الخلافة أو أي نظامٍ يحكم به المسلمون، ونقرأ له في هذا المضمار: “ولعمري لو كان في الكِتاب الكريم ما يُشبهُ أن يكون دليلاً على وجوب الإمامة لوجد من أنصار الخلافة المُتكلِّفين، وأنهم لكثير، من يُحاول أن يتّخذ من شبه الدليل دليلاً”([10])، بيد أنّ القرآن ليس وحده الذي لم ينص على وجوب الخلافة، فالسنة أيضاً لم تبدِ اهتماماً بالخلافة، وهذا ما عبّر عنه علي عبد الرّازق بقوله: “تركتها (=السنة) ولم تتعرّض لها”([11]).
لم يتوانَ علي عبد الرازق في عرض مساوئ الخلافة، التي لم يقبلها ونقدها طوال فصول كتابه، ونقرأ له في هذا الإطار: “قد يكونُ معنى ذلك أنّ الخلافة تقومُ عند المُسلمين على أساس البيعة الاختيارية، وترتكزُ على رغبة أهل العقد والحل من المسلمين ورِضاهم، وقد يكون من المعقول أن توجد في الدنيا خلافة على الحدِّ الذي ذكروا، غير أنّنا إذا رجعنا إلى الواقع وجدنا أنّ الخلافة في الإسلام لم ترتكِز إلّا على أساس القوّة الرّهيبة وأنّ تلك القوّة كانت، إلّا في النّادر، قوّة مادية مُسلّحة”([12])، ويُؤكّدُ في موقع آخر من كتابه أن حكم الخلفاء الراشدين تأسس على: “القوة المادية، وبنوهُ على قواعد الغلبة والقهر”([13])، ونفس الأمر حصل مع معاوية الذي حكم “تحت ظلال السيف وعلى أسنّة الرمح”([14])، ونفس الشيء تقريباً حدث مع من أتوا بعده إلى يومنا هذا، حسب علي عبد الرازق.
إن ما يمكنُ استيعابه من كلام هذا الأخير، والّذي تتوارى خلفهُ جرأة كبيرة ونباهة عميقة في التحليل، أنّ المرتكز الأساسي للخلافة هو القهر والإكراه والإخضاع، فإذا توفّرت هذه العوامل نال المتطلّع إلى التربع على عرش السلطة ما كان يخامر ذهنه، بيد أنّ هذه العوامل التي تُشكّل قِوام الخلافة لم تتحقّق كاملة إلّا في عهد معاوية الّذي أحدث انعطافاً كبيراً في التاريخ الإسلامي، بعد أنْ قلب الخلافة من خلافة الشّورى إلى ملك القهر.
هناك من يستشهد بآية قرآنية يقول فيها الله تعالى: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة} البقرة، الآية 30، معتقداً أنّها تنصّ على الخلافة كنظام حكم، غير أنّ المقصود من ورائها، من وجهة نظري، أنّ الله قد استخلف الإنسان في الأرض، وجعله خليفة له، حتى الخلفاء الراشدون فإنّ السبب وراء تسميتهم بذلك، في رأيي، يعودُ بالأساس إلى خلافتهم الزمنية للرسول، أي أنّهم جاءوا بعده فقط لا غير، وتعاقبوا على الحكم دون قواعد معيّنة وضعت لتسيير الحكم واختيار الأجدر به.
لقد حاولتُ قدر الإمكان جرد أهمّ الأفكار التي بلورها علي عبد الرازق في كتابه: “الإسلام وأصول الحُكم”، واستمرّ في دفاعه المُستميت عنها بترابطٍ منطقي ومعقول، وذلك ينمّ عن جهدٍ مضني بذله في البحث والتنقيب في التراث الإسلامي من أجل الحسم في إشكالية الخلافة، وما لبث أن وجّه نقداً للمتشبثين والحالمين بها على حدّ سواء، أي المنتمين للتيار الإسلامي الّذي جابهه ببسالة دون أن يُضمر رأيه وموقفه اتجاه أفكار رواده.
إنّ عبد الله العروي هو مفكرُ الحداثة باقتدار، ولذلك فقد رفض فكرة الدولة الإسلامية رفضاً مطلقاً، كما رفض، قبل ذلك، التسمية التي سميّت بها وفكّك هذه العبارة لتبيان اللبس الذي يلتفّ حولها، وقد اغتنم هذه الفرصة أيضاً، إلى جانب ذلك ليوجّه نقداً للخلافة، التي هي جزء لا يتجزأ من الدولة الإسلامية، وقد اعتبرها العروي (=الخلافة) مجرد طوبى لا يمكن أن تتجسّد واقعياً، كما صرح في كتابه مفهوم الدولة قائلاً: “الخلافة ظلّت في غالب الأزمان أملاً مرتقبا ليس إلّا”([15])، ألا يعتبر هذا حسماً في إشكالية إحياء الخلافة من أجل الاعتماد عليها كنموذج للحكم من طرف صاحب مشروعٍ فكريٍّ كبير؟
إنّ الخلافة تجافي تماماً نظام الملك الذي تحقق فعلياً مع معاوية، ويتمثّلُ هذا التجافي في أنّ الفاصل بينهما هو: “تطبيق الشرع”([16])، فقد نجد “ملِك ما يُجدّد معالم الشّرع لأسبابٍ عقلية، ليحفظ الأمن ويُشجّع على العمل والإنتاج، وبالتالي ليزيد في عمر دولته، في حين أنّ الخلافة هي تطبيقُ الشرع لتحقيق مقاصده”([17])، لقد سار العروي إذن على نفس المنوال الذي نهجه ابن خلدون في بيان الفرق الموجود بين الخلافة والملك، كما أكد أنّ الخلافة تحققت في فترة النّبي فقط، ولهذا فالمسلمون قد جرّبوا في “الغالب الملك الطبيعي الممزوج بشيءٍ من السياسة العقلية بعد أن مرّوا بفترةٍ قصيرة كان الحكم فيها خلافة”([18])، (يقصد عبد الله العروي خلافة النّبي محمد هي التي يمكنُ أن نقول عنها خلافة، كما عبّر هو نفسه عن ذلك، وبالتالي فهو يتّفق مع النظرية الخلدونية)، فقد قسّم الخلافة إلى نوعين: أولاً خلافة ظاهرية وهي: “خلافة الراشدين لأنّها مبنية في الحقيقة على العصبية”([19])، ثانياً الخلافة الحقيقية التي: “دامت إلى أواسط حكم عثمان”([20]).
لقد وضع عبد الله العروي تقسيماً للفكر السياسي في تاريخ الإسلام، وهو تقسيمٌ بالغ الأهمية، ويستحقّ وقفة إمعان، نبدأ بـطوبى الفقيه، فالفقهاء كانوا من أشدّ المُدافعين عن الخلافة ويُؤمنون بها ويساورهم الأمل في تحقيقها مع العلم أنّهم كانوا ” يعيشون تحت نظامٍ لا يمتّ إليها (= الخلافة) إلّا بأوهى الصلات”([21])، ما جدوى الحلم بالخلافة وتحقيق الشرع حرفياً والحكم الذي يُمارَس هو حكم الغلبة والقهر؟
إن الخلافة “لم تُطبّق إلّا في مدةٍ قصيرة، وبإلهامٍ رباني”([22])، لقد نبّه عبد الله العروي إلى نقطةٍ جوهرية تمّ إغفالها مفادها أنّ “معالم الشّرع كانت قائمة تحت حكم معاوية، ومع ذلك لا يسمونهُ خلافة ([23])“، إنّ الذي يضمن “لقب الخليفة هو القيام بالجهاد”([24])، وهنا يحتارُ العروي حول تنسيب لقب الخليفة لعمر بن عبد العزيز “وحدهُ دون سائر بني أميّة”([25]).
بعد طوبى الفقيه تحدّث عبد الله العروي عن تجربة الآداب السلطانية التي عرفت أوجها خلال القرن الثالث الهجري، فإبان هذه المرحلة، دأب الأدباء السلطانيون على كتابة مؤلفات كثيرة، باتت اليوم مرجعاً حقيقياً لمعرفة أطوار وحيثيات الحكم، ومعرفة شؤون الدولة والرعية، والجور الذي مورس في حقّها، وهنا يشيرُ عبد الله العروي في هذا المضمار إلى وجود اختلافٍ بين نظرة المؤرخين والأدباء والفقهاء إلى السياسة والحكم، فالفقيه يؤمن إيماناً كبيراً بطوبى الخلافة ويستشهدُ على إيمانه هذا “بالآيات القرآنية والسنن النّبوية وأقوال الصحابة والتابعين”([26]) بيد أنّ مدوني نصائح الملوك تميّزت كتاباتهم “بوفرة الاستشهاد بحوادث تاريخ الفرس وأقوال حكماء اليونان”([27]).
انفتح الأدباء السلطانيون على المخطوطات التي تناولت سياسة الدول القديمة التي كانت قائمة قبل بزوغ فجر الإسلام، وهذا ما مكّنهم من تقديم نصائح وإرشادات دقيقة للسلاطين، ولعل أبرز ما ينمّ عن انفتاحهم هو أنّهم “لا يكادون يُميّزون بين شرع النّبي وعدل أنوشروان وعقل سقراط”([28]).
هل يجوز لنا القول، انطلاقاً من هاتين التجربتين، أن الدولة السلطانية تتنافى كلياً مع دولة الخلافة كما تصوّرها الفقيه؟
كجواب عن هذا السؤال يقول العروي: “من ناحية الواقع هذا صحيح، لكن من النّاحية الفكرية والدعائية فهذا غير صحيح”([29])، كما حاول التفصيل في طرحه بالقول: “لا يمتعضُ السلطان بالضرورة عندما يذكرهُ الفقيه بمحاسن الخلافة، بل يُحبّذُ كلامهُ ما دام يراهُ يُؤكّد في الختام، إنّها، أي الخلافة، تستلزمُ ثورة خلقية لا يقدِرُ على إذكائها إلا الأنبياء”([30]).
خلاصة القول إنّ حلم الخلافة قلّما يبرحُ مخيّلة الفقيه، بصفتها النموذج المثالي، في حين أن الهدف المنشود للأديب السلطاني هو أنْ “يعقلن الملك دون أن يُغيّرهُ، لأنّه يُمثلُ في نظره الحكم الملائم لطبيعة الإنسان الحيوانية”([31]).
أما التجربة الثالثة، التي تلت تجربتي الفقيه والأديب السلطاني، فهي تجربة الفيلسوف والتي تعد في نظر عبد الله العروي “نتيجة منطقية، إن لم نقُل حتمية، لطوبوية الفقهاء، وواقعية المؤرّخين الأدباء”([32]).
إنّ النّقد الموجِع الذي وجّهه عبد الله العروي للخلافة التي نظر إليها كطوبى، وهي نظرة ظلّ يلحُّ على ترسيخها، يتمثّلُ في عبارتين: “يظهرُ أنّ الخلافة تعني في الحقيقة تجاوز الدولة وبالتالي تجاوز الحيوانية في الإنسان، بعبارةٍ أخرى تعني معجزة”([33])، وأردف قائلاً بسخرية لا تُخطئها عين القارئ: “لابدّ من إعانة إلاهية لكي تقوم الخلافة من جديد”([34])، انطلاقاً من العبارتين المذكورتين يُمكن القول إن الخلافة هي الخروج من الدولة إلى اللاّدولة، ثم إنّ قيامها رهينٌ بمساعدة ربّانية، بمعنى أن الخلافة مستحيلة التحقيق، إنّ راهننا انخرط في الدولة الحديثة، ضمنياً كان أم بشكلٍ مباشر، كلياً أو جزئياً، وبالتالي فنحن بعيدون كلّ البعد عن مناجاة الخلافة التي ستجهز على ما تبقّى من الأمل في النّهوض والتقدّم، ولعلّ من الأسباب التي جعلت كل منتمٍ للحركات السلفية والتيارات الإسلامية يُدافع عن الخلافة ويتشبث بها لأنّه رأى فيها “جميع أوصاف الكمال السياسي”([35]) وبها تحقّقت، في نظره، “السيادة التامّة للأمّة، وانتشر العدل بإطلاق، وتفشّى المعروف السياسي”([36]).
رأى العروي في إحياء الخلافة حلماً بعيد المنال وانتقدها في محاولةٍ منه ليبين أنّها حلم يعجّ بالتناقضات، هذا النّقد يأتي في خضمّ نقده للتراث ودعوته للقطيعة مع السّلبي من التراث، إذ انقسم الفكر العربي إلى اتّجاهين: اتجاهٌ تقليدي متشبث بالتراث متمنياً استعادته دفعة واحدة وإحياءهُ مجدداً، وآخر حداثي ارتمى في حضن الغرب ونهل من معارفه وانفتح على فكره واستلهم منه ما استطاع، فحاول النّهوض بمُجتمعه المُتأزّم الذي ينخرهُ التقليد كما تنخرُ دودة القز ورق العنب.
الخلافة إذن تحقّقت في عهد النّبي محمد، ثم تلتها خلافة رمزية للخلفاء، انتهت بقيام نظام الملك مع معاوية، وإحياؤها وقيامها مجدداً لن يتمّ إلّا بمعجزةٍ إلاهية، فوحدها هذه المعجزة لها القدرة على أن تحققها في الواقع، وبالتالي فالمنادون بها من فقهاء ومُنتمين للتيار الإسلامي يبدون لي وكأنّهم سيظلون يبحثون عن الخلافة ولن يعثروا سوى على خيط دخان لأنّ محاولتهم ستبوء بالفشل دون أدنى شك، فنحن نعيش الآن في كنف الدولة الحديثة التي تقوم على مفاهيم حديثة كالديمقراطية، المواطنة، القانون، الحرية، على خلاف الدولة الإسلامية التي تطمحُ إلى إعادة الخلافة والشورى بدل الديمقراطية أو محاولة التوفيق بينهما، أي جعل الديمقراطية مرادفاً للشورى، ثم الشرع، أهل الحل والعقد، البيعة…إلخ.
إنّ براعة العروي وفرادته تكمنُ في عودته للتراث واستهلاكه؛ الذي يبدو وبشكلٍ جلي من خلال المصادر التي تشكل نواة أعماله الفكرية، ومحاولة نقده والقطيعة معه لكي يُقعِّد لمفاهيم حديثة تنتعشُ بها الدولة: الحرية والعقلانية، وقد أدرك مدى تأخرنا وتغلغل التقليد في العقل العربي، لذلك شيّد خطاباً منهجياً لنقد التراث وتمحيصه، ورفض كل ما قد يأتي منه، فالخلافة مثلاً، تعتبر تراثا سلبياً، وبالتالي وجب نقدها وتجاوزها وتثبيت قيّم ومبادئ الحداثة الغربية، إذ هي الحل الوحيد للخروج من تأخرنا التاريخي.
في نهاية المطاف وجب الوقوف عند جملة من الأسباب التي كانت دافعاً أساسياً للتيار الإسلامي المعاصر لبذله قصارى جهده من أجل بعث الخلافة من جديد، أسباب طرحها رشيد رضا، الذي يُعتبر من أبرز من تشبتوا بالخلافة والحالمين بعودتها، فقد عرفها قائلاً: “رئاسة الحكومة الإسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا”([37])، ويمكن ربط هذه الأسباب من جهة بما هو شرعي يتجسد في كون “الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا”([38])، ومن جهة ثانية بما هو سياسي تولد بفعل “تطوّرات ومستجدات طرأت على مشهد السياسة والسلطة في البلاد الإسلامية، وداخل إطار الدولة العثمانية على نحوٍ خاص”([39]).
على سبيل الختم:
شكّلت فكرة الدولة الإسلامية معضلة حقيقية عرفها الفكر العربي الحديث والمُعاصر، بوصفها دولة لها تصوّر معيّن يقوم على تأصيل مفاهيم وركائز إسلامية في الفضاء السياسيّ، فهي دولة شُيّدت في فترةٍ معيّنة وأصابها التقهقر وهو ما عجّل بأفولها، هي دولة تأرجحت بين الواقع والطوبى، وبعد أفولها لم يعد بإمكاننا الحديث عنها مجدداً.
وصفوة القول: لقد صرّح العروي عن موقفه وحسم، من وجهة نظره، في إشكالية الخلافة دون مواربة، وهذا ما يستشفهُ القارئ، لقد أحجم عبد الله العروي عن استعمال عبارة الدولة الإسلامية بحسبانها عبارة مرفوضة، ما دامت الدولة الإسلامية في الحقيقة هي الخلافة؛ عبارة دولة شرعية أصحّ، لكن تتسبّبُ في التباسٍ كبير لأنّ القارئ العادي لا يُفرِّقُ بين الدولة الشّرعية والخلافة”، ويفضل عبد الله العروي عبارة دولة الإسلام أو دولة المسلمين، وسببُ ذلك أنّ: “القول مقبول ما دمنا لا نعني به نظاماً إسلامياً، بل فقط نظاماً تُقامُ فيه شعائر الإسلام ويعيشُ فيه مسلمون مؤمنون”، هذا ما دفعه إلى اختيار عبارة أخرى، تبدو في نظره هي الأنسب وهي الدولة السلطانية “لأنّها الأقربُ إلى الواقع والأقل التباساً”.
هكذا إذن نختم هذه الورقة ونقول إنّ عبد العروي، مفكر الحداثة باقتدار، لم يترك أيّ قضية إلّا وكانت له بصمة فيها تحليلاً ونقداً، وهو سليل فكر النهضة، الذي ينشد الانعتاق من التأخر والتخلف الذي تعاني منه الأقطار العربية، لقد صاغ ملامح مشروعه الفكري المتماسك والوثيق عبر رؤى فكريّة تنطلق من الواقع، وترتبط بما هو آنٍ، ولا يتردد في ربطها بالمسار التاريخي الذي شهدته البيئة العربية قاطبة، ويستند في ذلك على منهجية تحليلية عميقة تتسم بها مجمل أعماله، وهي التي مكنته من إدراك العراقيل المعرفية والتاريخية التي لم تجعل العرب يسعدون بحلمهم المغتال؛ أي تحقيق نهضة فكرية يتجاوزون بها تخلفهم التاريخي، وبذلك يجب أنْ تُقرأ أعمال الأستاذ عبد الله العروي، التي عوّدنا فيها على نحت المفاهيم ببراعة قلّ نظيرها، وعلى جرأته الفكرية في تمحيص أكثر القضايا تأريقاً، على أنّها محطّة حاسمة في الفكر العربي المعاصر، لأنّها لامست جوهر الخلل، وفكّكته بمنهجية واضحة تروم تحقيق نهضة فكرية تاريخية لم يعشها العرب منذ فترة الازدهار العلمي والفكري في حقبة زمنية ولّت.
قائمة المصادر والمراجع :
- ابن خلدون، عبد الرحمن، المقدمة، تحقيق: عبد الله محمّد الدرويش، دار يعرب، دمشق، الطبعة الأولى، 2004.
- بلقزيز، عبد الإله، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، 2004.
- العروي، عبد الله، مفهوم الدولة، المركز الثّقافي العربي، بيروت، الطبعة العاشرة، 2014.
- جبرون، محمد، إمكان النّهوض الإسلامي(مراجعة نقديّة في المشروع الإصلاحي لـ عبد الله العروي)، مركز نماء للبحوث والدراسات، center.com.
- مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة (مساهمة في تأصيل الحداثة السياسية)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الطبعة الأولى، 2014.
- رضا، رشيد، الخلافة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثّقافة، القاهرة، 2013.
- عبد الرازق علي، الإسلام وأصول الحكم (دراسة ووثائق)، بلقم: محمّد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000.
عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: عبد الله محمّد الدرويش، دار يعرب، دمشق، ط 1، 2004، ص 365.[1]
عبد الله العروي، مفهوم الدّولة، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 10، 2014، ص 126.[2]
المقدمة، المصدر نفسه، ص 365.[3]
مفهوم الدولة، المرجع نفسه، ص 126.[4]
المقدمة، المصدر نفسه، ص 365.[5]
[6]امحمّد جبرون، إمكان النّهوض الإسلامي(مراجعة نقديّة في المشروع الإصلاحي لـ عبد الله العروي)، مركز نماء للبحوث والدراسات، nama.center.com، ص 122 – 123.
[7]مفهوم الدولة، المرجع نفسه، ص 126.
[8] المرجع نفسه، ص 130.
[9] علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم (دراسة ووثائق)، بلقم: محمّد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، طبعة عربية جديدة، 2000، ص 113.
[10] المصدر نفسه، ص 122.
[11]المصدر نفسه، ص 123.
الإسلام وأصول الحكم، المصدر نفسه، ص 129.[12]
عبد الله العروي، مفهوم الدولة، مرجع سابق، ص 130.[15]
مفهوم الدولة، نفسه، ص 129.[19]
مفهوم الدولة، نفسه، ص 142.[26]
[31] نفسه، ص 147.
[32]مفهوم الدولة، نفسه، ص 148.
[33] نفسه، ص 139.
[34] نفسه، ص 140.
[35] محمّد اجبرون، مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة (مساهمة في تأصيل الحداثة السياسية)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط 1، 2014، ص 350.
[36] المرجع نفسه، ص 350.
[37] رشيد رضا، الخلافة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013، ص 14.
[38]عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر،مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، 2004، ص 84.
[39] المرجع نفسه، ص 86.