قادة جيوش الفتح الإسلامي للجزيرة الفراتية العليا في تركيا
Commanders of the armies of the Islamic conquest of the Al-Jazeera Al-Furatiya in Turkey
د. حسين علي/جامعة آغري، تركيا
Dr. Hüseyin ALİ/ Ağrı University, Turkey
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 86 الصفحة 47.
Abstract :
This research covers the history of heroes and conquerors of upper “Al-Jazeera Al-Furatiya ” in Turkey from the companions of the prophet S.A.W in 18AH/639AD during the reign of hz umar RA.
An Islamic conquering which brings about the stability and happiness to Al-Jazeera Al-Furatiya due to the obstacles hardship experience they are having from byzantine and Persian peninsula .
Our research is limited to the history of armies commanders from the sahaba dispite that several sahaba are available in the troop, commanders like iyadh bin Ghanam alfihriy, sahl bin adiy bin malik al’ansariy, Abdullah bin utban al’ansariy and umair bin sa’ad al’ansariy al’ausiy. A well detailed explanation of their personality and how they converted to Islam together with how they relate and cooperate with Messenger of Allah and finally their trophies in the battle field location of the Euphrates Island, and its location on the borders separating the Byzantine Empire and the areas opened by Muslims, made the Muslim caliphs rule the station there. The role of the people of the island emerged in the operations of stationing in the borders and defending the borders of the Islamic caliphate, and they contributed with the people of the Levant in the summer and sea campaigns, and in the struggle against the Byzantines.
Keywords: Al-Jazeera Al-Furatiya, Iyad bin Ghanem, the conquerors, Sahel bin Adi bin Malik Al-Ansari, Omar bin Al-Khattab.
ملخص :
هذا البحث هو دراسة عن قادة جيوش الفتح الإسلامي من صحابة رسول الله (ص) لمنطقة الجزيرة الفراتية العليا في تركيا، والتي كانت فتوحاتهم بتاريخ 18ه/639م على عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض).
حينما جاء المسلمون لفتح الجزيرة الفراتية في الوقت الذي كان سكانها يعانون سيطرة البيزنطيين والفرس، على تلك المنطقة. فكان المسلمون الفاتحون المنقذ لسكان الجزيرة الفراتية من الظلم اللذين مارسهما أباطرة بيزنطة وأكاسرة الفرس ضد سكانها.
وبحثنا سيكون عن قادة جيوش الفتح فقط من الصحابة على الرغم من وجود المئات من الصحابة في تلك الجيوش سنتحدث عن عياض بن غنم الفهري وسهل بن عدي بن مالك الأنصاري وعبد الله بن عبد الله بن عتبان الأنصاري وعمير بن سعد الأنصاري الأوسي، سنتحدث عن إسلامهم وصحبتهم مع رسول الله(ص) وشخصياتهم وحياتهم ومعاركهم في الفتوحات.
وإن لموقع الجزيرة الفراتية الاستراتيجي، وموقعها على الحدود الفاصلة بين الإمبراطورية البيزنطية والمناطق المفتوحة من قبل المسلمين جعل الخلفاء المسلمين يحكمون المرابطة فيها، وبرز دور أهالي الجزيرة في عمليات المرابطة في الثغور والدفاع عن حدود الخلافة الإسلامية، وساهموا مع أهالي الشام في حملات الصوائف والشواتي البرية والبحرية وفي الصراع ضد البيزنطيين.
الكلمات المفتاحية : الجزيرة الفراتية، عياض بن غنم، الفاتحون، سهل بن عدي بن مالك الأنصاري، عمر بن الخطاب(رض).
مدخل :
عاد المسلمون إلى مكّة بقيادة الرسول (ص) فاتحين لها في العام الثامن للهجرة، وبعد وفاة الرسول (ص) تولّى أبو بكر الصديق خلافة المسلمين، وبدأت الفتوحات الإسلامية، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية مرورًا بالعصور الأربعة التي شهدتها الخلافة الإسلامية، وكانت الدولة الإسلامية قوةً تهابها الجيوش حول العالم، حيث تمكنت الجيوش الإسلامية من تحقيق إنجازات عظيمة وفتح بلدان مختلفة بعد معارك طاحنة، وكان في كل معركة قائدٌ على رأس الجيش الإسلامي يقود الجيش نحو انتصارٍ يزيد من شأن الإسلام قوة وهيبة، ما جعل التاريخ يدون أسماء قادة الفتوحات الإسلامية في صفحاته ويصفهم بالأبطال، جاهدوا في سبيل الله إعلاءً لكلمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ونحن هنا بدورنا سنقوم بعرض سيرة قادة فتح بلاد الجزيرة الفراتية وحياتهم وشخصياتهم القيادية وصحبتهم لرسول الله (ص) والفتوحات التي قاموا بها والمعارك التي خاضوها، فقد قام هؤلاء القادة بفتح بلاد الجزيرة الفراتية ومدنها على عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب (رض) في السنة الثامنة عشرة للهجرة.[1]
لقد خضعت الجزيرة الفراتية قبل الفتح الإسلامي لسلطتي فارس وبيزنطة، وكانت المساحة التي تسيطر عليها كل منهما تتناسب مع قوتها، ومع الأوضاع الداخلية التي ترزح تحتها. وقبل الفتح الإسلامي مباشرة كانت بيزنطة تسيطر على القسم الأعظم من منطقة الجزيرة، وكان لابد للمسلمين من فتح الجزيرة الفراتية، تلك المنطقة التي تتوسط وتفصل بين الشام والعراق، خاصة وأن هذه المنطقة أمدت البيزنطيين بقوة كبيرة لمساعدتهم في حصار حمص (17ه/638م) التي كانت مركزاً عسكرياً لهرقل، فأدرك المسلمون أن المناطق المفتوحة لن تكون آمنة إلا بتأمين فتح الجزيرة الفراتية.[2]
هو عياض بن غَنْم بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن وهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، أبو سعد، وقيل: أبو سعيد الفهري القرشي.[3]
أسلم عياض بن غَنْم الفهري القرشي قديماً قبل الحديبية، وشهد الحديبية مع رسول الله (ص) وبذلك نال شرف الصحبة وشرف الجهاد تحت لواء الرسول (ص).[4]
كتب أبو بكر الصديق(رض)إلى خالد بن الوليد(رض)بعد معركة اليمامة: إن الله فتح عليك، فعارق حتى تلقى عياضاً، وكتب إلى عياض وهو بين منطقة “النباج، والحجاز:” سر حتى تأتي “المصيخ” فأبدأ بها، ثم ادخل العراق من أعلاها، وعارق حتى تلقى خالداً”، أي أن أبا بكر كتب إلى خالد بن الوليد إذ أمره على حرب العراق أن يدخلها من أسفلها، وإلى عياض إذ أمره على حرب العراق أيضاً أن يدخلها من أعلاها، ثم يستبقا إلى “الحيرة”، فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه.[5]
وطلب عياض(رض) المدد من أبا بكر(رض)، فأمده برجل واحد وهو عبد بن غوث الحميري وهو من أبطال العرب، كما أمد خالداً (رض) برجل واحد أيضاً هو القعقاع بن عمرو التميمي (رض)، وكتب إليهما:” استنفرا من قاتل أهل الردة ومن ثبت على الإسلام بعد رسول الله (ص)، ولا يغزو معكم أحد ارتد حتى أرى رأيي”، فلم يشهد الأيام مرتد.[6]
وسار عياض(رض) إلى دومة الجندل ليخضع أهلها المتمردين، ثم يسير منها شرقاً إلى هدفه، ولكنه لم يستطع فتح ” دومة الجندل”، فكتب إلى خالد(رض) بعد أن عجز عن فتحها يستمده على من بإزائه من العدو، وكان خالد(رض) حينذاك قد فرغ من فتح منطقة عين النمر، فسار سيراً حثيثاً نحو عياض (رض)، فلما وصل دومة الجندل وجد عياضاً قد حاصر أهلها وحاصروه، وقد أخذوا عليه بالطريق وأشجوه وشجوا به، فجعل خالد دومة الجندل بين عسكره وعسكر عياض(رض).[7]
وخرج أهلها لقتال المسلمين، ولكنهم لم يلبثوا أن انهزموا إلى الحصن، فلما امتلأ أغلق من فيه أبوابه دون أصحابهم وتركوهم عرضة للقتل والأسر، و أطاف خالد(رض) بباب الحصن، ثم أمر به فاقتُلع، واقتحم المسلمون على من فيه وقتلوا كافة المقاتلة إلا أسارى بني كلب الذين أمنهم بنو تميم. وعاد خالد (رض) ومعه عياض (رض) إلى الحيرة، فاستخلفه عليها عندما خرج للقاء عدوه في منطقة”المصيخ”، لأن الحيرة أصبحت القاعدة المتقدمة للمسلمين وحمايتها ضرورية لأمن قواتهم المقاتلة في ساحات القتال.[8]
استصحب خالد عياضاً رضي الله عنهما إلى أرض الشام عند نقله من منصب القائد العام في العراق إلى منصب القائد في الشام، فشهد مع خالد(رض) كافة معاركه في طريقه إلى الشام، وكان على أحد فرق الجيش في معركة اليرموك. وفي معركة فتح دمشق كان عياض(رض) على الخيل، كما شهد مع أبي عبيدة(رض) كافة معاركه في أرض الشام، وكان معه في فتح “حلب” على المقدمة، وكان هو الذي أبرم الصلح مع أهل”حلب”، فوافق أبو عبيدة(رض)على صلحه، ثم عاد عياض (رض) إلى العراق، وكان على الخيل عند تقدم المسلمين إلى “المدائن” وشهد فتحها كما شهد معركة جلولاء.[9]
1.4.فتوحاته
لما قصد الروم أبا عبيدة بن الجراح(رض) ومن معه من المسلمين بحمص، كتب أبو عبيدة إلى عمر ابن الخطاب(رض) بذلك، فكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص(رض): اندب الناس مع القعقاع بن عمرو وأرسلهم من يومهم، فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وابعث سهل بن عدي إلى الرقة، فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص، وأمره أن يبعث عبد الله بن عبد الله بن عتبان (رض) إلى نَصِيبِين ثم ليقصد حرَّان والرُّها وأن يرسل الوليد بن عقبة(رض) على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وأن يجعل عياض بن غَنْم (رض) على الأمراء، فإن كان قتال فأمُرهم إلى عياض(رض)، وخرج عياض(رض) وأمراء الجزيرة، فأخذوا طريق الجزيرة وتوجه كل أمير إلى المنطقة التي أُمِّر عليها، فأرسل سهل بن عدي(رض) إلى الرقة فحاصرها، فطلب أهلها الصلح وبعثوا في ذلك إلى عياض(رض)، فقبل منهم وصالحهم وصاروا ذمة، كما فتح عبد الله بن عبد الله بن عتبان (رض)نَصِيبِين صلحاً، إذ كتب أهلها بذلك إلى عياض(رض)، فقبل منهم وعقد لهم، وتوجه عياض(رض) بعد أن ضم إليه سهياً وعبد الله(رض) إلى حرَّان فأجابه أهلها إلى الجزية، فسرح سهيلاً وعبد الله إلى الرُّها، فأجابوهما إلى الجزية أيضاً، فكانت الجزيرة أسهل البلدان فتحاً.[10]
وبعد فتح الجزيرة على يد الصحابي عياض بن عن مفلم يبق بها موضع قدم إلا فتح على عهد عمر بن الخطاب(رض)،[11] رجع سهل وعبد الله إلى الكوفة، والتحق عياض بأبي عبيدة الذي كتب إلى عمر يسأله أن يضم إليه عياضاً، فوافق عمر وصرفه إليه، واستعمل حبيب بن مسلمة الفهري (رض) على عجم الجزيرة والوليد ابن عقبة (رض) على عربها.[12]
ولم يقتصر عياض على فتح الجزيرة، بل دخل منطقة الدرب[13]، وأجازه إلى بدليس وبلغ خلاط فصالحه بطريقها وانتهى إلى العين الحامضة من أرمينية، ثم عاد إلى الرقة ومضى إلى حمص، فكان عياض أول من أجاز الدرب عبر الجزيرة إلى بلاد الروم، وبذلك مهد للفتح الإسلامي في أرمينية.[14]
كان الصحابي عياض بن غنم(رض) ممن نزل الشام من صحابة رسول الله(ص)، فلما مات أبو عبيدة استخلف عياضاً على حمص وفي رواية أنه استخلفه على جند حمص، وسأل عمر بن الخطاب (رض): من استخلف أبو عبيدة؟ فقالوا: عياض بن غَنْم، فأقره قائلاً: لا أبدل أميراً أمره أبو عبيدة وكتب إليه: إني قد وليتك ما كان أبو عبيدة يليه، فاعمل بالذي يحق الله عليك، وأعطاه حين ولاه حمص كل يوم ديناراً وشاة ومداً، وبقي بمنصبه هذا حتى توفاه الله بالشام سنة 20ه/640م وهو ابن ستين سنة، أي أنه ولد سنة أربعين قبل الهجرة 583م ودفن بحمص، مات عياض ولم يترك مالاً ولم يكن عليه دين، إذ أنفق أمواله بسخاء في سبيل الله، فقد كان كريماً، وكان يقال له: زاد الراكب، لأنه كان يطعم رفقائه ما كان عنده، وإذا كان مسافراً آثرهم بزاده، فإن نفد ما عنده نحر لهم جمله.[15]
وكان كريماً يعطي ما يملك، فكلّم فيه عمر، قالوا له: يبذّر المال، فقال: إن سماحَهُ وكرمه في ذات يده، فإذا بلغ مال الله عز وجل لم يعط منه شيئاً، ولا أعزل من ولاه أبو عبيدة.[16]وفي أحد أيام إمارته على أرض الشام، قدم عليه نفر من أهل بيته يطلبون صلته، فلقيهم بالبِشر وأنزلهم وأكرمهم، فأقاموا أياماً ثم كلموه في الصلة، وأخبروه بما لقوا من المشقة في السفر رجاء صلته، فأعطى كل رجل منهم عشرة دنانير وكانوا خمسة، فردوها وتسخطوا ونالوا منه، فقال: أي بني عم والله ما أنكر قرابتكم ولا حقكم ولا بعد شقتكم، ولكن والله ما حصلت على ما وصلتكم به إلا ببيع خادمي وببيع ما لا غنى بي عنه، فاعذروني، قالوا: والله ما عذرك الله، فإنك والي نصف الشام وتعطي الرجل منا ما جهده أن يبلغه إلى أهله؟ قال: فتأمرونني أسرق مال الله، فو الله لأن أشق بالمنشار أحب إلي من أن أخون فلساً أو أتعدى قالوا: قد عذرناك في ذات يدك، فولنا أعمالاً من أعمالك نؤدي ما يؤدي الناس إليك ونصيب من المنفعة ما يصيبون، وأنت تعرف حالنا، وإنا لسنا نعدو ما جعلت لنا، قال: والله إني لأعرفكم بالفضل والخير، ولكن يبلغ عمر أني وليت نفراً من قومي فيلومني، قالوا: قد ولاك أبو عبيدة وأنت منه في القرابة بحيث أنت، فأنفذ ذلك عمر، فلو وليتنا لأنفذه، قال: إني لست عند عمر كأبي عبيدة، فمضوا لائمين له.[17]
كان عياض بن غنم حازماً يحرص غاية الحرص على غرس روح الضبط والطاعة في نفوس رجاله، فقد ذكروا أنه جلد صاحب داريا حين فتحت فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه ثم قال هشام لعياض ألم تسمع النبي(ص) يقول إن من أشد الناس عذابًا أشدهم عذابًا في الدنيا للناس فقال عياض بن غنم يا هشام بن حكيم قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت أولم تسمع رسول الله(ص) يقول من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبد له علانية ولكن ليأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه له وإنك يا هشام لأنت الجريء إذ تجترئ على سلطان الله فهلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى.[18]
لقد كان قائداً عقائديّاً من الطراز الأول، ولكنه لم يكن يتحلى بروح المباغتة والتعرض، فبقي في حصار مسكن حول دومة الجندل مدة طويلة، حتى أنقذه خالد من ورطته بالقضاء على مقاومة أهلها وفتحها بعد ذلك. لقد كان عياض يثق برجاله ويثقون به وكان موضع ثقة مرجعه الأعلى، فقد وثق به عمر وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، كما كان يحب رجاله ويحبونه بل كان يحب كل الناس ويؤثرهم بزاده على نفسه في أحرج الأوقات، وكان له ماض ناصع مجيد، ولا تزال رايات الإسلام ترفرف في ربوع الجزيرة، ولا يزال العرب يسكنون هذه المناطق حتى اليوم، كل ذلك يُذَكِّر سكان هذه المنطقة الشاسعة الغنية بالرجل الذي فتحها، بالصحابي الجليل، القائد الإنسان، عياض بن غَنْم رضي الله عنه وأرضاه.[19]
.2 سهل بن عدي بن مالك الأنصاري(رض)
2.1. إسلامه
اسمه سهل بن عدي بن مالك بن حَرَام بن خديج بن مُعَاوية بن عًوْف بن الخزرج، أسلم سهل بن عدي الأنصاري مبكراً، فقد شهد بدراً وأحداً وقاتل تحت لواء النبي (ص) في غزواته الأخرى، فهو من الصحابة الأنصار الأولين الذين نصروا الله ورسوله بعد هجرة الرسول(ص) من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.[20]
كان أحد رجال جيش أسامة بن زيد(رض) إلى أرض الشام، فلما عاد أسامة إلى المدينة، جاهد المرتدين حتى عادوا إلى الإسلام، فسار مع الفاتحين إلى أرض العراق، وفي معركة الجسر استشهد أخوه الحارث. وكان إلى جانب سعد ابن أبي وقاص(رض) في معارك فتح العراق، وقد بذل قصارى جهده في المعارك التي خاضها ممّا رشحه لتولى قيادة أحد جيوش المسلمين، إذ كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: سرِّح سهل بن عدي إلى الجزيرة في الجند، وليأت الرقة، فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص، وكانت الجيوش الرومانية وحلفاؤها قد هجموا على قوات أبي عبيدة ابن الجراح في حمص وفي شمالي أرض الشام، وخرج عياض بن غَنْم(رض)ومن معه من القادة، فأرسل سهلاً إلى الرقة، فسلك طريق الفراض، وكان قد انفضّ أهل الجزيرة عن حمص إلى مناطقهم للدفاع عنها، وذلك حين سمعوا بقدوم أهل الكوفة إلى أرضهم، فحاصر سهل الرقة حتى صالحه أهلها. ولما فتح سهل الرقة انضم بقواته إلى قوات عياض، فساروا جميعاً إلى حرَّان، فأجابه أهلها إلى الجزية، فسرح سهلاً وعبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى الرُّها، فأجاب أهلها إلى الجزية أيضاً، فكانت الجزيرة أسهل البلدان فتحاً.[21]
وعاد سهل إلى الكوفة بعد ذلك، ومن هناك تحرك إلى البصرة، وفيها استلم لواء كرمان،[22] فسار بجيشه لفتحها، ولكنه قبل أن يتوجه لفتحها كان له نصيب كبير في مشاغلة القوات الفارسية وقطع إمداداتها وتهديد خط رجعتها حتى يحول دون مساعدتها لأهل نهاوند، ولما انتصر المسلمون في معركة نهاوند الحاسمة وأكمل سهل متطلبات جيشه وأنجز تحشده قصد كرمان ولحقه عبد الله بن عبد الله بن عتبان مدداً له، فالتقى الطرفان في تخوم كرمان فانهزم الفرس، ولكن المسلمين أخذوا عليهم الطرق، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وغنموا غنائم لا تعد ولا تحصى. ولما كان القتال دائراً في ولاية مكران[23]، كان سهل على رأس جيشه مدداً للمسلمين، وبذلك رجحت كفة المسلمين على الفرس، ففتح المسلمين مكران أيضاً.[24]
كان سهل شاعراً رقيقاً يصف معاركه وصفاً دقيقاً، قال في فتح الرقة:
وصادمنا الفرات غداة سرنا إلى أهل الجزيرة بالعوالي
أخذنا الرقة البيضاء لما رأينا الشهر لوح بالهلال
وأزعجت الجزيرة بعد خفض وقد كانت تخوف بالزوال
وكان مؤمناً قوي الإيمان، حريصاً على الدفاع عن عقيدته، كرس حياته كلها لرفع مكانة الإسلام، وبذل في سبيل ذلك جهوداً جبارة دون أن يجتنيَ من جهاده مالاً، وأنه استغل نفسه لخدمة الناس ولم يستغل أحداً لخدمة نفسه. وكان وفياً كريماً مضيافاً سمحاً شهماً غيوراً صادقاً في قوله وعمله، كان سهل يمتاز بالقدرة الفائقة في قتال المشاغلة، فقد نجح بمشاغلة عدوه بقوة قليلة، فحال بينه وبين معاونة قواته في المناطق الحيوية من مناطق القتال. وليست مشاغلة العدو في أهداف تعبوية لإجباره على توزيع قواته وصرفها عن أهدافها بالأمر الهين اليسير، إذ هي تحتاج إلى قائد ممتاز يتميز بسرعة الحركة ويعرف متى وكيف وأين يشاغل قوات عدوه لإجباره على الانقياد لرغبات ذلك القائد، فيقضي عليه في الزمان والمكان المناسبين.[25]
كان لنجاح سهل في مشاغلة أهل الجزيرة، أثر حاسم في انتصار أبي عبيدة في حمص على الروم، وفي فتح الجزيرة التي تعتبر المنطقة الدفاعية القصوى للدفاع عن بلاد الروم، وكان لنجاحه في مشاغلة الفرس أثر حاسم في انتصار المسلمين على القوات الفارسية في معركة نهاوند الحاسمة، إن نجاحه هذا كفيلٌ بتخليده في التاريخ، ولكنه أضاف إلى هذا النجاح نصراً آخر لا يقل أهمية عن نجاحه الأول، وهو فتحه بعض بلدان الجزيرة وفتحه ولاية كرمان الغنية بثروتها الزراعية والصناعية، ولكنه لم يقف عند هذا الحد من النجاح والنصر، بل ساند قائد ولاية مكران في مهمة فتحها. رضي الله عن الصحابي الجليل، القوي الأمين، القائد الفاتح، سهل بن عدي.[26]
كان عبد الله بن عبد الله بن عتبان من أصحاب رسول الله (ص)، ولكن لا يعرف متى أسلم ولا الغزوات التي شهدها تحت لواء الرسول(ص)، والظاهر أنه كان صغيراً أيام النبي(ص)، فحرم من شرف الجهاد مع النبي(ص)ولم يحرم من شرف الصحبة.[27]
شهد عبد الله حرب أهل الردة، فلما عاد المرتدون إلى الإسلام وشملت الوحدة شبه الجزيرة العربية ثانية، سار عبد الله مع الفاتحين إلى العراق، فجاهد هناك جهاد الأبطال فاستحق لجهاده المشرف تولي قيادة جيش من جيوش المسلمين، إذ كتب عمر بن الخطاب(رض) إلى سعد بن أبي وقاص: سَرِّح سهل بن عدي إلى الرقة، فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص، وأمره أن يسرح عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى نَصِيبِين. ثم ليقصد حرَّان والرُّها، فسلك عبد الله الطريق المحاذية إلى مدينة الموصل، وعبر من هناك حتى وصل نَصِيبِين، فصالحه أهلها وعقد لهم عبد الله. ولما أعطى أهل الرقة الصلح لسهل بن عدي وأهل نَصِيبِين الصلح لعبد الله، ضم عياض بن غَنْم(رض)إليه سهلاً وعبد الله، وسار بالناس إلى حرَّان وأخذ ما دونها، وعندما انتهى إليها أجابه أهلها إلى الجزية، فسرح سهلاً وعبد الله إلى الرُّها فأجابهما أهلها إلى الجزية أيضاً، فكانت الجزيرة أسهل البلدان فتحاً.[28]
وعاد عبدالله إلى الكوفة بعد انتهاء واجبه في الجزيرة، فكان يعاون سعد بن أبي وقاص(رض) في إنجاز مهامه الجسيمة، ولما استدعى عمر بن الخطاب(رض) سعداً إلى المدينة، استخلف سعد على الكوفة عبد الله، فأقره عمر واستعمله، وكتب إليه ليستنفر أهل الكوفة إلى النعمان بن مقرن المزني، فأرسل عبد الله من الكوفة إلى النعمان جيشاً بقيادة حذيفة بن اليمان، فكان لهذا الجيش أثر كبير في انتصار المسلمين على الفرس في معركة نهاوند الحاسمة.[29]
وبعد ذلك وجهه عمر بن الخطاب(رض) قائداً لفتح منطقة أصبهان وأمده بأبي موسى الأشعري من البصرة، فخرج عبد الله من نهاوند فيمن كان معه ومن تابعه من جند النعمان بن مقرن المزني نحو هدفه، فلقيه جيش عظيم من الفرس في ظاهر أصبهان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان على مقدمة الفرس شيخ طاعن في السن هو شهربراز بن جاذويه، وكان من أبطال الفرس المعدودين، فدعا هذا الشيخ المسلمين إلى المبارزة، فبرز عبدالله بن ورقاء الرياحي فقتله، فلما رأى الفرس ذلك فروا من ساحة المعركة، ففتح المسلمون أول رستاق من منطقة أصبهان، وأطلقوا عليه رستاق الشيخ ذكرى للفارس الشيخ الذي خر صريعاً في ابتداء المعركة.[30]
وتراجع الفرس إلى حي يحتمون بأسوار أصبهان المنيعة ويتحصنون بقلاعها الشامخة، فحاصرهم المسلمون وطال الحصار كثيراً، فخرج الفرس واصطف الجيشان للقتال، ولكن قائد الجيش بعث إلى عبد الله يقول:” لا تقتل أصحابي ولا أقتل أصحابك، ولكن ابرز لي فإن قتلتك رجع أصحابك، وإن قتلتني سالمك أصحابي.[31]
فبرز له عبد الله وقال لقائد الفرس: إما أن تحمل علي وإما أن أحمل عليك، فقال الفارسي: أحمل عليك، فوقف له وحمل عليه قائد الفرس وطعنه طعنة أصابت سرج فرسه فكسرته، فوقع عبد الله ثم استوى على الفرس عرياً من دون سرج وقال لخصمه: اثبت ، ولكن خصمه استكان بعد أن عرف أنه الموت الزؤام، وقال لعبد الله: ما أحب أن أقاتلك فإني قد رأيتك رجلاً كاملاً، ولكن أرجع معك إلى عسكرك فأصالحك وأدفع المدينة إليك على أن من شاء أقام ودفع الجزية وأقام على ماله وعلى أن تجري من أخذتم أرضه مجراهم ويرجعون، ومن أبى أن يدخل فيما دخلنا فيه ذهب حيث شاء ولكم أرضه، فأقر عبد الله هذا الصلح على هذه الشروط، وبذلك أنجز المسلمون فتح كافة منطقة أصبهان.[32]
ثم قرر عمر بن الخطاب(رض) أن يرسله مدداً إلى سهل بن عدي لفتح منطقة كرمان، فكتب إليه: سر حتى تقدم على سهل بن عدي فتجامعه على قتال من بكرمان، فأسرع عبد الله برجاله حتى لحق بسهل، ففتحا كرمان بعد قتال.[33]
لقد كان عبد الله بن عتبان (رض) شجاعاً بطلاً من أشراف الصحابة ومن وجوه الأنصار، وكان كريماً مضيافاً معطاء لم يبق له كرمُه الأصيل مالاً ولا ملكاً، وكان قد أصاب من غنائم الفتح مالاً عظيماً.[34]
وكان شهماً غيوراً صادقاً وفياً ميمون النقيبة ورعاً غاية الورع، همه من الدنيا نشر عقيدته بين الناس، وقد وفق لنشر الإسلام في منطقة الجزيرة وفي مناطق واسعة من أرض فارس، وكان ذلك أكبر إنجازاته في حياته،كان عبد الله جندياً ممتازاً وقائداً ممتازاً، فقد كان شجاعاً غاية الشجاعة مدرباً تدريباً رائعاً على استعمال سلاحه وعلى الفروسية، لهذا كان مثالاً حياً لرجاله في الشجاعة والإقدام، وإذا كان بعض القادة يكتفون بتنظيم الخطط العسكرية والإشراف على تنفيذها، فإن عبد الله يضيف إلى ذلك مباشرته القتال بنفسه في أخطر المواقف، فيقدم على مبارزة قادة أعدائه وشجعانهم، فيكون انتصاره عليهم عاملاً نهائياً لاستسلام أعدائه للمسلمين. لقد اجتمعت في عبد الله مزايا الشجاعة الشخصية، والتدريب الراقي، والتجربة الطويلة للحروب، والذكاء اللماح، والماضي الناصع المجيد، والشخصية القوية، والإرادة النافذة، وحبه للمسؤولية، فلا عجب أن تكون قراراته صحيحة تؤدي دائماً إلى النصر المبين، إن التاريخ يذكر له فتوحاته في الجزيرة وفي بلاد فارس، ويذكر له جهوده لنشر الإسلام في تلك الربوع. رضي الله عن القائد الفاتح، الفارس البطل، الصحابي الجليل عبد الله ابن عبد الله بن عتبان الأنصاري.[35]
صحب عمير بن سعد الأنصاري الأوسي رسول الله(ص)، وكان من فضلاء الصحابة وزهادهم، سمع جُلَاس بن سويد الصامت الذي تخلف عن غزوة تبوك يقول: لئن كان هذا الرجل صادقاً لنحن شر من الحمر، فرفع ذلك عمير من قول جُلَاس إلى رسول الله (ص)، وكان في كنف جُلَاس الذي تزوج أم عمير بعد أبيه، فقال له عمير: والله يا جُلَاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنه عندي يداً، وأعزه عليَّ أن يصيبك شيء تكرهه، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك، ولئن صمت عليها ليهلكن ديني، ولَإحداهما أيسر عليَّ من الأخرى، ثم مشى إلى رسول الله(ص)، فذكر له ما قال جُلَاس، فحلف جُلَاس بالله لرسول الله(ص)، لقد كذب علي عمير وما قلت ما قال عمير بن سعد، فأنزل الله عز وجل فيه:] يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَٰمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ ۚ وَمَا نَقَمُوٓاْ إِلَّآ أَنْ أَغْنَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضْلِهِۦ ۚ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ۖ وَإِن يَتَوَلَّوْاْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلْآخرةۚ وَمَا لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا نَصِيرٍۢ ([36]، فتاب جُلَاس وحسنت توبته حتى عُرف منه الخير والإسلام، فما زال عمير في علياء حتى مات، ولم يسمع عمير من الجُلَاس شيئاً يكرهه بعدها، وقال رسول الله (ص)” وفت أذنك يا غلام وصدقك ربك”، وهذا يدل على أنه كان غلاماً حينذاك، لذلك نال عمير شرف الصحبة ولم ينل شرف الجهاد تحت لواء رسول الله (ص).[37]
4.2. جهاده
شهد عمير فتوح الشام، فكتب عمر بن الخطاب(رض) إلى عياض بن غَنْم يأمره أن يوجه عمير بن سعد إلى عين الوردة وهي مدينة رأس العين، فوجهه إليها وقدم الطلائع أمامه، فأصابوا قوماً من الفلاحين وغنموا مواشي من مواشي العدو، ولكن أهل المدينة أغلقوا أبوابها ونصبوا المجانيق، فقتل من المسلمين بالحجارة والسهام كثيرون، وكانت رأس العين قد امتنعت على عياض بن غَنْم (رض) من قبل، ففتحها عمير وهو والي عمر بن الخطاب(رض) على الجزيرة بعد أن قاتل أهلها جيوش المسلمين قتالاً شديداً، ولكن المسلمين دخلوها عنوة، ثم صالحوهم بعد ذلك، ووضعت الجزية على كل فرد أربعة دنانير، ولم تسب نساؤهم ولا أولادهم.[38] ولما فتح عمير رأس العين عبر الخابور وما يليه حتى أتى قَرْقيسِيا وقد نقض أهلها، فصالحهم على مثل صلحهم الأول. ثم أتى حصون الفرات حصناً حصناً ففتحها على ما فتحت عليه قَرْقيسِيا، ففتح ثانية عانة والناووسة وآلوسة، وفي هيت وجد عمار بن ياسر(رض) وهو يومئذ عامل عمر بن الخطاب(رض) على الكوفة، وقد بعث جيشاً يستغزي المنطقة الكائنة شمالي الأنبار وعليه سعد بن عمرو بن حرام الأنصاري، فانصرف عمير إلى الرقة.[39]
وكتب عمير إلى عمر بن الخطاب(رض)، يعلمه أنه أتى شق الفرات الشامي ففتح عانة وسائر حصون الفرات، وعبر إلى مناطق قبيلة تغلب وعرض الإسلام عليهم فرفضت تغلب أن تدفع الجزية المفروضة على أهل الكتاب، كون النصرانية غالبة عليهم لمجاورتهم الروم، فذهب وفد منهم إلى عمر بن الخطاب(رض) وقالوا له: نحن عرب لا نؤدّي ما يؤدّي العجم، ولكن خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض، يعنون بذلك الصدقة، فقال عمر: لا، هذا فرض على المسلمين. فقالوا: فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم (الجزية)، ففعل، فتراضى هو وهم على أن ضاعف عليهم الصدقة.[40]وسماها صدقةً عليهم ممن لم يدخل الإسلام منهم.[41]
كان عمير زاهداً تقياً ورعاً، وكان بالإضافة إلى ذلك إدارياً حازماً وقائداً مقداماً، لذلك كان عمر بن الخطاب (رض) معجباً بعمير أشد الإعجاب، كان عمر يسميه: “نسيج وحده”[42]، لإعجابه به، وكان يقول عن عمير: ” وددت أن لي رجالاً مثل عمير ابن سعد أستعين بهم على أعمال المسلمين”،[43] وقال عمر يوماً لعبد الرحمن بن عمير:” ما كان بالشام أفضل من أبيك”،[44]ولاه عمر الجزيرة فبنى المساجد في ديار مضر وديار ربيعة،[45] ثم ولاه حمص بعد سعيد بن عامر ابن حذيم (رض)، وكان عمر بن الخطاب(رض) يشتد اغتباطه حين يرى عماله يتجردون لخير الرعية ويثني عليهم لذلك أعظم الثناء، فقد كتب إلى عمير وهو على حمص: أقبل بما جَبَيْتَ من فيء المسلمين، فلما أقبل عمير سأله عما صنع، فقال: بعثتني حتى أتيت البلد، فجمعت صلحاء أهلها فوليتهم جباية فيئهم، حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لآتيتك به، قال عمر: “فما جئتنا بشيء؟”، فلما أكد له أنه أنفق كل شيء على أهل حمص قال: جددوا لعمير عهداً.[46]
وعمير هذا هو الذي قال على منبر حمص:” ألا إن الإسلام حائط منيع وباب وثيق، فحائط الإسلام العدل، وبابه الحق، فإذا نقض الحائط، وحطم الباب استفتح الإسلام، فلا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان، وليس شدة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسوط ولكن قضاء بالحق، وأخذا بالعدل”، فليس عجيباً وهذا شعاره وتلك مزاياه أن يتمنى عمر رجالاً أمثاله ليستعين بهم على أعمال المسلمين.[47]
وكان على جانب عظيم من النزاهة، فقد كتب عمر بن الخطاب(رض)إلى أهل حمص: اكتبوا إليَّ فقراءكم، فكتبوا إليه أسماء الفقراء وذكروا فيهم عمير بن سعد وكان أميراً عليهم، فلما قرأ عمر اسمه قال: من عمير بن سعد؟، فقالوا أميرنا فقال: أو فقير هو؟ فقالوا: ليس أهل بيت أفقر منه، فقال عمر: فأين عطاؤه؟ فقالوا: يخرجه كله لا يمسك منه شيئاً فوجه إليه عمر بمئة دينار، فأخرجها كلها إلى الفقراء، فقالت له امرأته: لو كنت حبست لنا منها ديناراً واحداً، فقال لها: لو ذكَّرتني فعلت.[48]
ومات عمر بن الخطاب(رض) وعمير على حمص وقِنَّسْرين، ثم مرض في إمارة عثمان بن عفان (رض) فاستعفاه واستأذنه في الرجوع إلى أهله، فأذن له عثمان (رض) وضم عمله إلى معاوية بن أبي سفيان(رض) فمات عمير(رض)في أيام عثمان، وقد استقال من منصبه بحمص خلال هذا العام لإصابته بمرض طال به، أي أن وفاته كانت سنة 30ه/651م، وقد سكن الشام ومات بها.[49]
روى عن النبي(ص) وكان من أصحاب الفتيا من الصحابة، وكان على جانب عظيم من الورع والتقوى والزهد والكفاءة العسكرية والإدارية، وكان ذكياً نابهاً رزيناً صادقاً وفياً كريماً مضيافاً، لقد كان نسيجاً وحده حقاً، كما كان يصفه عمر بن الخطاب(رض).[50]
يذكر التاريخ لعمير جهاده الطويل المشرف في سبيل عقيدته منذ استطاع حمل السلاح حتى توفاه الله. ويذكر إخلاصه الشديد لعقيدته لا يسكت عمن يريدها بضرر أو شر حتى لو كان أقرب المقربين إليه وأكثر الناس فضلاً عليه. ويُذكَر له تفرغه للمصلحة العامة حقاً، فترك المال والقصور والحشم والخدم. رضي الله عن الصحابي الجليل، والإداري الحازم. والقائد الفاتح، الأمير الفقير، عمير بن سعد الأنصاري.[51]
خاتمة :
أسهمت فتوحات الصحابة في فتح بلاد عدة فقد حررت معظم مدن الجزيرة الفراتية صلحاً على يد القائد عياض بن غَنْم(رض) سنة 18ه/639م، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض) وقد استعرضنا في بحثنا أبرز القادة لجيوش فتح منطقة الجزيرة الفراتية في تركيا فبدأنا بالحديث عن نسبهم وحياتهم وإسلامهم وصحبتهم مع رسول الله(ص)، وكان أول الصحابة الذين تحدثنا عنهم هو عياض بن غنم الفهري حيث أسلم عياض قبل الحديبية، وكان من قادة فتح بلاد العراق ثم توجه نحو الجزيرة الفراتية وكان أبا عبيدة قد أمَّره على حمص وأقره سيدنا عمر بن الخطاب على ذلك قائلاً: لا أبدل أميراً أمره أبو عبيدة، مات عياض ولم يترك مالاً ولم يكن عليه دين، إذ أنفق أمواله بسخاء في سبيل الله، فقد كان كريماً، وكان يقال له: زاد الراكب، لأنه كان يطعم رفقته ما كان عنده، وإذا كان مسافراً آثرهم بزاده، فإن نفد نحر لهم جمله.
أما القائد الثاني فقد كان سهل بن عدي بن مالك الأنصاري فقد شهد بدراً وأحداً وقاتل تحت لواء النبي(ص)فهو من الأنصار الأولين الذين نصروا الله ورسوله بعد هجرة الرسول(ص)، كان سهل أحد رجال جيش أسامة بن زيد ثم في عهد سيدنا عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: إبعث سهل بن عدي إلى الجزيرة في الجند. فكان من قادة فتح تلك البلاد، وكان سهل يمتاز بالقدرة الفائقة في قتال المشاغلة، فقد نجح بمشاغلة عدوه بقوة قليلة. كان لنجاح سهل في مشاغلة أهل الجزيرة، أثر حاسم في انتصار أبي عبيدة في حمص على الروم.
أما الصحابي الثالث فهو عبد الله بن عبد الله بن عتبان الأنصاري كان عبد الله من أصحاب رسول الله، ولكن لا يعرف متى أسلم ولا الغزوات التي شهدها تحت لواء الرسول (ص)، شهد عبد الله حرب أهل الردة، فلما عاد المرتدون إلى الإسلام، وسار عبد الله مع الفاتحين إلى العراق ثم أرسله الخليفة عمر بن الخطاب إلى نصيبين لفتحها،
أما الصحابي الرابع فكان عمير بن سعد الأنصاري الأوسي وكان من فضلاء الصحابة وزهاده مشهد عمير فتوح الشام، فكتب عمر بن الخطاب(رض) إلى عياض بن غَنْم (رض) يأمره أن يوجه عمير بن سعد إلى عين الوردة وهي مدينة رأس العين، لفتحها.
كان عمير زاهداً تقياً ورعاً، وكان بالإضافة إلى ذلك إدارياً حازماً وقائداً مقداماً، لذلك كان عمر بن الخطاب(رض) معجباً بعمير أشد الإعجاب.
كان عمر يسميه: “نسيج وحده”، لإعجابه به، وكان يقول عن عمير: “وددت أن لي رجالاً مثل عمير ابن سعد أستعين بهم على أعمال المسلمين”، ولاه عمر الجزيرة فبنى المساجد في ديار مضر وديار ربيعة.
هذه نبذة يسيرة من سيرة هؤلاء الصحابة القادة استعرضناها في بحثنا هذا فتحدثنا عن سيرهم وحياتهم وفتوحاتهم.
قائمة المصادر والمراجع :
- ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن محمد الجزري. أُسْد الغابة في معرفة الصحابة، بيروت: دار ابن حزم، 2012.
- ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن محمد الجزري. الكامل في التاريخ. تحقيق. عمر عبد السلام تدمري. بيروت: دار الكتاب العربي، 1997.
- ابن الجوزي، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد. المنتظم في تاريخ الأمم والملوك. بيروت: دار الكتب العلمية، 1992.
- ابن الجوزي، جمال الدين أبو الفرج، صفة الصفوة. تحقيق. خالد طرطوسي. بيروت: دار الكتاب العربي، 2012.
- ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي. الإصابة في تمييز الصحابة. بيروت: المكتبة العصرية، 2012.
- ابن حنبل، أحمد الشيباني. المسند. تحقيق. شعيب الأرناؤوط وعادل مرشد، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1995.
- ابن سعد أبو عبد الله محمد، الطبقات الكبرى، تحقيق. إحسان عباس. بيروت: دار صادر، 1968.
- ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب في معرفة الأصحاب. تحقيق. علي البجاوي. بيروت: دار الجيل، 1992.
- ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله. تاريخ دمشق. تحقيق. عمرو بن غرامة العمروي، دمشق: دار الفكر، 1995.
- البلاذري، أحمد بن يحيى. فتوح البلدان. تحقيق. عبد الله أنيس الطباع وعمر أنيس الطباع. بيروت: مؤسسة المعارف 1987.
- البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحُسَين بن علي. السنن الكبرى. تحقيق. محمد عبد القادر عطا. بيروت: دار الكتب العلمية، 2003.
- ثابت، خالد محمد خالد. رجال حول الرسول.بيروت: دار الفكر، 2000.
- حرفوش، عبد القادر فياض. قبيلة تغلب في الجاهلية والإسلام. دمشق: دار البشائر، 1999.
- الحميري، سليمان بن موسى بن سالم بن حسان الكلاعي، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله (ص) والثلاثة الخلفاء، بيروت: دار الكتب العلمية، 2000.
- خطاب، محمود شيت. قادة فتح العراق والجزيرة، القاهرة: دار القلم، د.ت.
- دحلان، أحمد زيني، الفتوحات الإسلامية بعد مضي الفتوحات النبوية. مكة: المطبعة الأميرية، 1844.
- الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز ، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام. بيروت: دار الكتاب العربي، 1993.
- الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز. سير أعلام النبلاء. تحقيق. مجموعة من المحققين. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1985.
- الزركلي، خير الدين. الأعلام. بيروت: دار العلم للملايين، 2002.
- سبط ابن الجوزي، شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قِزْأُوغلي بن عبد الله، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان. تحقيق. مجموعة من المحققين. دمشق: دار الرسالة العالمية، 2013.
- الطبري، أبي جعفر محمد بن جرير. تاريخ الرسل والملوك. تحقيق. محمد أبو الفضل إبراهيم. القاهرة: دار المعارف، 1964.
- القاضي، النعمان عبد المتعال. شعر الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام. القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 2005.
- الهمذاني، أحمد بن محمد ابن الفقيه، مختصر كتاب البلدان. مدينة ليدن: مطبعة بريل، 1901.
[1] أحمد بن يحيى البلاذري، فتوح البلدان، تحقيق. عبد الله أنيس الطباع وعمر أنيس الطباع، (بيروت: مؤسسة المعارف 1987)، ص238.
[2] البلاذري، فتوح البلدان، ص237.
[3]عز الدين أبو الحسن علي بن محمد ابن الأثير الجزري، أُسْد الغابة في معرفة الصحابة، (بيروت: دار ابن حزم، 2012)، 978؛ يوسف بن عبد الله ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق. علي البجاوي (بيروت: دار الجيل، 1992)، 2/1234.
[4] أبو عبد الله محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق. إحسان عباس، (بيروت: دار صادر، 1968)، 7/398.
[5] أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق. محمد أبو الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار المعارف، 1964)، 3/346-347.
[6] الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3/346-347.
[7] محمود شيت خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، (القاهرة: دار القلم، د.ت)، 426-427.
[8] سليمان بن موسى بن سالم بن حسان الكلاعي الحميري، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله (ص) والثلاثة الخلفاء، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2000)، 2/393.
[9]خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، 427-428.
[10] الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 4/54.
[11] أحمد بن محمد ابن الفقيه الهمذاني، مختصر كتاب البلدان، (مدينة ليدن: مطبعة بريل، 1901)، 132.
[12] الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 4/55؛ أحمد زيني دحلان، الفتوحات الإسلامية بعد مضي الفتوحات النبوية، (مكة: المطبعة الأميرية، 1844)، 36.
[13] الدرب: الطريق ما بين طرسوس وبلاد الروم لأنه مضيق كالدرب.
[14] خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، 430.
[15] ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، 978.
[16] جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي، صفة الصفوة، تحقيق. خالد طرطوسي (بيروت: دار الكتاب العربي، 2012)، 241.
[17] أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بابن عساكر، تاريخ دمشق، تحقيق. عمرو بن غرامة العمروي، (دمشق: دار الفكر، 1995)، 47/281-282.
[18] أحمد بن حنبل الشيباني، المسند، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعادل مرشد، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1995)، 24/49، رقم الحديث 15333.
[19] خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، 434-435.
[20] ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، 529.
[21] الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 4/54؛ دحلان، الفتوحات الإسلامية بعد مضي الفتوحات النبوية، 36.
[22] كرمان: ولاية مشهورة وناحية كبيرة معمورة، ذات بلاد وقرى واسعة، بين فارس ومكران وسجستان وخراسان، ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4/454.
[23] مكران: ناحية واسعة تشمل على مدن وقرى وهي بين كرمان من غربيها وسجستان شماليها والبحر جنوبيها والهند في شرقيها والغالب عليها المفاوز والضرّ والقحط، ياقوت الحموي، معجم البلدان، 5/180.
[24] خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، 438.
[25] خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، 439- 440.
[26] خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، 440-441.
[27] ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، 698؛ أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، بيروت: المكتبة العصرية، 2012)، 908.
[28] الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 4/54.
[29] خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، 443.
[30] الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 4/140.
[31] الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 4/140.
[32] خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، 443-444.
[33] الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 4/180.
[34] النعمان عبد المتعال القاضي، شعر الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام ( القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 2005)، 143.
[35] خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، 447-448.
[36] التوبة، الآية: 74.
[37]ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، 963؛ ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، 1144-1145.
[38] البلاذري، فتوح البلدان، 242.
[39]خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، 244.
[40] أبو بكر أحمد بن الحُسَين بن عليٍّ البيهقي، السنن الكبرى، تحقيق. محمد عبد القادر عطا، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2003)، 9/363.
[41]عبد القادر فياض حرفوش، قبيلة تغلب في الجاهلية والإسلام، (دمشق: دار البشائر، 1999م)، 202.
[42]خالد محمد خالد ثابت، رجال حول الرسول، (بيروت: دار الفكر، 2000)، 280.
[43] شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قِزْأُ و علي بن عبد الله سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، تحقيق. مجموعة من المحققين (دمشق: دار الرسالة العالمية، 2013)، 5/362؛ خير الدين الزركلي، الأعلام، (بيروت: دار العلم للملايين، 2002)، 5/88.
[44]شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1993)، 3/346.
[45] خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، 242.
[46] شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، سير أعلام النبلاء، تحقيق. مجموعة من المحققين (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1985)، 2/561؛ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1992)، 4/317.
[47]ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1/27.
[48] سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، 5/342.
[49] علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني عز الدين ابن الأثير الجزري، الكامل في التاريخ، تحقيق. عمر عبد السلام تدمري، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1997)، 2/488.
[50] خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، 472-474.
[51] خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة، 474-475.