النزعة الإنسانية في الشعر الحديث: ” الكوارث الطبيعية والمعارك الحربية نموذجا”
Humanism in Modern Poetry: Natural disasters and war battles as a model
د. عبدالكريم أحمد مغاوري محمد (كلية اللغات ـ جامعة المدينة العالمية ـ ماليزيا)
Dr. Abdelkarim Ahmed Maghawri Mohamed (Al-Madinah International University)
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 75 الصفحة 47.
الملخصيسعى الباحث من خلال هذه الورقة البحثية لإظهار دور من الأدوار الإنسانية والاجتماعية التي يقوم بها الفن الشعري، ألا وهو التفاعل والتعاون والتشارك الإنساني وخاصة في أوقات الأزمات الكبرى كالحروب والكوارث الطبيعية، تلك الأمور التي يذوق ويلاتها وعذاباتها كثير من الناس؛ فيتأثر الشاعر بمصاب هؤلاء وينفعل بعذاباتهم ومعاناتهم؛ فيأسى ويألم، ويأخذ في البحث عما يستطيع به أن يخفف من آلامهم، كما يعمل على حث إخوانه لتقديم يد العون والمساعدة لاستنقاذ هؤلاء البشر مما هم فيه من ويلات وعذابات ليس لهم أي دخل في وقوعها ولا التسبُّب فيها، فيخاطب إخوانه بأرأف وأرهف ما فيهم، إنه يخاطب مشاعرهم وعواطفهم ليستجلب شفقتهم ورحمتهم، ومن ثَمَّ ما يستطيعونه من مساعدات مادية وعينية لتقديمها لهؤلاء من مطاعم ومشارب وملابس وأماكن إيواء، وقد سلك الباحث في بحثه هذا المنهج الوصفي التحليلي فهو أنسب المناهج في دراسة مثل هذه النصوص وتصنيفها واستخراج بعض أسرارها.
الكلمات المفتاحية: الشعر، النزعة الإنسانية، الكوارث الطبيعية.
Summary
Through this paper, the researcher seeks to demonstrate a role in the human and social roles of poetic art, namely, human interaction and collaboration, especially in times of major crises such as war and natural disasters, which are experienced, experienced and tortured by many people; The poet is affected by their injuries and is doing their torts and suffering; He is also working to urge his brothers to help and help save these people from the horrors and torments that they have no income or cause, and to address his brethren with the most awe and the most frightening of them. He addresses their feelings and emotions to attract their compassion and mercy, and thus their physical and in-kind assistance to them from restaurants, shops, clothing and shelters, and in his research he has taken this analytical descriptive approach, which is the most appropriate approach in studying, classifying, and extracting some of their secrets.
key words: Poetry, Humanism, Natural Disasters.
مشكلة البحث:
تتمثل مشكلة هذا البحث في الوصول إلى إجابة على سؤال تناولته كثير من أقلام الأدباء والنقاد والفلاسفة وهو: ما هو الدور الذي يؤديه الأدب؟ وللإجابة على هذا السؤال تنوعت الرؤى والاتجاهات، فمنهم من قال إن مهمة الأدب والفن هي المتعة، ومنهم قال إن مهمة الأدب والفن هي التطهير([1])؛ ونحن ههنا نرى أن الفن عموما والأدب خاصة لهما كثير من الأهداف والغايات، ولا تقتصر هذه الأهداف والغايات على تحقيق التجاوب النفسي والشعوري بين منشئ الفن وبين مطالعيه، وإنما تمتد لمد يد العون والمساعدة لكل من يحتاجهما أيا كان جنسه أو لونه أو ديانته، ويأتي هذا البحث ليؤكد للفن مهمته هذه، والتي تتمثل في نشر مشاعر الرحمة والحنو والعناية والرعاية لكل إنسان وقع في ضيق أو أصابته جائحة؛ فيحتاج إلى مزيد عناية ورعاية ومساعدة؛ فيأتي الفنان ويخاطب مطالعيه بأرأف وأرهف ما فيهم إنه يخاطب مشاعرهم وعواطفهم وأحاسيسهم التي توجههم إلى مساعدة المحتاجين خاصة في أوقات الأزمات والكوارث.
أسئلة البحث:
تدور أسئلة البحث حول هذه الأسئلة
- ما المقصود بالنزعة الإنسانية؟
- ما الدور الذي يقوم به الشعر في إظهار معاناة أصحاب الكوارث والحروب؟
- ما دور الشعر في تعزيز الروابط الإنسانية؟
أهداف البحث:
يسعى هذا البحث للوصول إلى أهداف عدة تتمثل في:
- الوصول إلى تعريف جامع للنزعة الإنسانية في الأدب.
- بيان الدور الفاعل للكلمة الشاعرة في إظهار معاناة الشعوب والأفراد جراء الكوارث الطبيعية والحروب.
- إظهار الدور التنموي للكلمة الشاعرة في تعزيز الروابط الإنسانية بين الشعوب والأفراد، واستجلاب المساعدات التي تخفف من وطأة الكوارث الطبيعية والحروب.
الدراسات السابقة:
هناك دراسات كثيرة تناولت النزعة الإنسانية في الشعر العربي الحديث، ،وكان من ضمن هذه الدراسات من تناول مجال الكوارث الطبيعية والحروب، ولكن كان في مجمله تناولا عابرا غير ممحص لهذه النزعة في هذا المجال، ومن هذه الدراسات:
- أبو ماضي، إيليا، رسول الشعر العربي الحديث ، عيسى الناعوري، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الثانية 1977.
- زلط، د. عبدالرحيم محمود، الجانب الإنساني في شعر شوقي وحافظ إبراهيم، دار المعارف، مصر 1988.
- سكيك ، عدنان يوسف، النزعة الإنسانية عند جبران، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970.
- صيدح جورج، أدبنا وأدباءنا في المهاجر الامريكية، معهد الدراسات العربية العالمية، 1956.
التمهيد:
تحرير مصطلح النزعة الإنسانية من خلال الواقع الفني
تعد كلمة “الإنسانية” من أكثر المصطلحات الفنية استخداما وتناولا في الدراسات الأدبية والفنية في العصر الحديث، وقد وجد الباحث بعض الدارسين يتوسعون في استخدام هذا المصطلح في بحوثهم ودراساتهم، حتى اختلط الأمر في – كثير من الأحايين- بينها وبين مصطلحات أخرى من قبيل الاتجاه الاجتماعي، والاتجاه الوطني، وشعرِ الوصف، وغيرِ ذلك من المصطلحات الأدبية الأخرى؛ الأمر الذي استرعى انتباه الباحث ودفعه إلى البحث عن مفهوم الإنسانية ومحاولة تخصيص هذا المصطلح ووضعه في قالب خاص به.
فالإنسان هو الكائن الحي المفكر، والإنسانية خلاف البهيمية([2])، وهي مصدر صناعي مشتق من كلمة إنسان وتعني الرحمة والشفقة والحنان ونبل الأخلاق وحميد الصفات والفضائل التي يسعى الإنسان إلى تحقيقها؛ جلبا لسعادته، ودفعا للسوء، وحماية للآخرين من جنسه، أو هي سلوك طيب تجاه المخلوقات يتسم بما وهب الله الإنسان من كلمة وعقل وفكر([3]).
ولا نجد أدباءنا القدامي قد استخدموا هذا المصطلح في دراساتهم الأدبية القديمة كثيرا، وإنما استخدم هذه المصطلح في الدراسات الأدبية الحديثة، وتدور جل هذه الدراسات حول معنى عام للإنسانية فهي تجمع الفضائل السامية والشمائل الخلقية الكريمة من الإيثار والشفقة والحنو، وكلها تعيش في الإنسان ويتصرف بمقتضاها وفق قانون البشر التي يسعى إليها الآدمي ليحقق ذاته([4])، ويحاول نشر هذه الفضائل بين أكبر قدر متاح من البشر، فهو يحب الخير والمعروف والإيثار والمساعدة والمعاونة ومدي أيادي المساعدة والتفاعل الوجداني والشعور الإنساني بين الأمم والشعوب المختلفة.
وإن لم يستخدم الأدباء والنقاد القدامى هذا المصطلح باسمه ونصه إلا أننا نجدهم قد تطرقوا إلى معناه بصور كثيرة ومتعددة منذ العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث، فما كانت أغراض المديح والفخر والهجاء والوصف إلا تصويرا حقيقيا لمشاعر الإنسانية عند هؤلاء الأدباء والشعراء، فهم يمدحون الجواد الكريم المعطاء الشجاع المقدام الذي يأبى الظلم والاعتداء، وهم يهجون الجبان الضعيف الخوار البخيل، وهم يصفون المعارك بكل ما فيها من مشاهد القتل والدمار وما تخلفه من مآسي وآلام وكلها مشاعر إنسانية نبيلة.
“إن هذه النزعة الإنسانية التي نجدها في الأدب قديمة قدم قيم الإنسان في الحياة ورغبته في الكمال النفسي والالتحام مع أبناء جنسه أُنسا وبعدا عن مخاطر الفردية، وهذه من الأمور التي شهدتها دواوين الشعراء العرب وغير العرب عبر الأجيال المتلاحقة”([5]).
ولذا لم تكن هذه النزعةُ جديدةً ولا مستحدثة في العصر الحديث على خلاف ما ذهب إلى ذلك الدكتور شوقي ضيف عندما تحدث عن النزعة الإنسانية فقال:” ولم يكن شيء من هاتين الدلالتين الموصوفتين يقع في شعرنا القديم والوسيط إلا في الندرة، سوى ما عرف به أبو العلاء في لزومياته، إذ نجد عنده نزعة إنسانية كاملة، أما من عاشوا حوله ومن قبله وبعده، فقلما تجاوزوا أنفسهم، إذ غلبت عليهم العواطف الفردية الذاتية، ولم ينظروا في أمر من أمور الجماعة، ولا في أزمة من أزماته([6])“.
كيف هذا وعندنا شعر الصعاليك يفيض إنسانية واهتماما بالضعفاء والمحتاجين ولو كان على حساب الشاعر وقبيلته، ونظامِها المتوارث، وعندنا الشعر الإسلامي الذي يفيض إنسانية وتعاونا وتراحما وحثا على البذل والعطاء والإعانة والمساعدة؛ فالإسلام جاء لنشر كل معاني الجمال والكمال والرأفة والرحمة والحنان، والتعاطف والتعاون والبذل والعطاء، ولما لا وقد حصر الله تعالى هذه الرسالة في قوله تعالى” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، وأكد ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – بقول:” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”([7]). فرأينا الأدباء العرب يلتزمون الإسلام وما يأمر به من نشر التعاطف والتآلف والتعاون والبر والمعروف ومد أيدي المساعدة والمعاونة لكل محتاج، وأخذوا يمدحون من يتمثل هذه الصفات ويهجون من لا يلتزم بها، والنماذج أكثر من تحد أو تحصر.
وإذا كان لنا أن نحدد مفهوم النزعة الإنسانية تحديدا يبعد به عن المصطلحات الأخرى، كالاتجاه الاجتماعي وغيره من المصطلحات الأخرى، فإن الباحث يرى أن النزعة الإنسانية هي تلك المشاعر المتجاوبة والمتفاعلة بين الشاعر وبين غيره من البشر الذي لا يرتبطون بالشاعر إلا بالرابطة الإنسانية فقط، وليست الرابطة الاجتماعية أو القومية او الدينية؛ “فالنزعة الإنسانية نزعة عالمية يريد أصحابها أن تعم العالمَ كلَّه روابطُ واحدة، فلا أبيض ولا أسود ولا شرقي ولا غربي، ولا مسلم ولا مسيحي، فالعالم يهدف إلى الاتحاد، كان أسرة، ثم قبيلة، ثم أصبح أمة، ولابد أن تتلاصق وحداته، فتذوب كلُّ عنصرية، وتذوب كل عصبية، ويصبح الناس إخوة في نطاق واسع من الإنسانية، لا تحدُّه غيرُ السماء والأرض”([8]).
وسوف نحصر ههنا تلك المشاعر فيما تعرض له بعض البشر من مآس وآلام وويلات وعذابات جراء الكوارث الطبيعية والحروب.
المبحث الأول: النزعة الإنسانية في الكوارث الطبيعية:
تأتي الكوارث الطبيعية من قبيل الزلازل والبراكين والحرائق والانهيارات الأرضية، وغيرها من الكوارث كانتشار الأمراض والأوبئة كالطاعون والكوليرا والفيروسات التي تصيب أكبر قدر من البشر؛ فتشل الحياة وتوقف حركاتها؛ ولا يستطيع من تصيبه هذه الجوائح اجتياز هذه الجوائح بأنفسهم ؛ فتتجه أنظارهم إلى إخوانهم من البشر ليمدوا لهم أيادي الإعانة والمساعدة فهم إخوة في الإنسانية، ولا سبيل لهم أن يتخلصوا من هذه الرابطة؛ حفاظا على الجنس البشري وتدعيما لأواصر التعارف والتقارب والمحبة والتعاون بين الجنس البشري في عمومه؛ فما أصاب هؤلاء اليوم من المحتمل أن يصيب غيرهم غدا؛ ومن مد أيادي المعاونة والمساعدة اليوم قد يحتاج إلى من يساعده غدا.
من هنا كان نظرة الشعراء للكوارث الطبيعية ومحاولة استنقاذ من تقع عليه من ويلاتها وعذاباتها، ومن هنا – أيضا- كان دورهم فاعلا في ترقيق القلوب واستجلاب المساعدات المادية والعينية لنجدة من يقع تحت وطأة هذه الكوارث.
ففي عام ١٩٠٨م وقع في مسِّينا — وهي بلدة بجنوبي إيطاليا — زلزال دمر البلدة وشرد أهلها وأذاقهم الويلات والعذابات، ولما وصلت أخبار تلك الفاجعة إلى مسامع الشاعر حافظ إبراهيم، إذ به ينشد هذه القصيدة فيقول([9]):
نبئاني إن كنتما تعلمــــــان | ما دها الكون أيها الفــرقدان | |
غضبَ اللهُ أم تمــــــرَّدت الأر | م | ض فأنحت على بني الإنسان |
ليس هذا سبحان ربي ولا ذا | ك ولكن طبيعة الأكــــــــــــوان | |
غليانٌ في الأرض نفَّــــسَ عنه | ثورانٌ في البحــــر والبركانِ | |
ربِّ أين المفر والبحر والبر | ر على الكيدِ للورى عاملان | |
كنتُ أخشى البحارَ والموتُ فيها | راصدٌ غفلةً من الربَّانِ | |
سابحٌ تحتنا مطلٌّ علينا | حائمٌ حولنا مُنَاءٍ مُداني | |
فإذا الأرضُ والبحارُ سواءٌ | في خَلاقٍ كلاهما غادران | |
ما ( لمسِّينَ ) عوجلت في صبا | ها ودعاها من الرَّدى داعيان | |
وتحت تلكمُ المحاسنِ منها | حين تمت آياتها آيتان | |
خُسِفَتْ ثم أُغْرِقَتْ ثم بَادَتْ | قُضِيَ الأمر كلـــــُّه في ثواني | |
وَأَتَى أَمْرُهَا فَأَضْحَتْ كَأَنْ لمَ ْ | تكُ بالأمس زِينـَـــةَ البُلْدَانِ | |
ليتَها أُمْهِلَتْ فَتَقْضِي حُقُوقًا | مِنْ وَدَاعِ اللدَاتِ والجِيرَانِ | |
لمحة يسعد الصديقان فيها | باجتماع ويلتقي العاشقان | |
بغت الأرض والجبال عليها | وطغى البحر أيَّما طغيــــــان | |
تلك تغلي حقدا عليها فتنشق | م | ق انشقاقا من كثرة الغليان |
فتجيب الجبال رجما وقذفا | بشواظ من مارج ودخان | |
وتسوق البحار ردا عليها | جيش موج نائي الجناحين داني | |
فهنا الموت أسود اللون جون | وهنا الموت أحمر اللون قاني | |
جنّد الماء والثرى لهلاك الــــــــ | ـخلق ثم استعان بالنيــــــران | |
ودعا السحب عاتيا فأمدتـ | م | ـه بجيش من الصــــواعق ثاني |
فاستحال النجاء واستحكم اليأ | س وخارت عزائم الشجعان | |
وشفى الموت غله من نفــــــوس | لا تباليه في مجال الطعــان | |
أين (ردجو) وأين ما كان فيها | من مغان مأهولة وغواني | |
عوجلت مثل أختها ودهاها | ما دهاها من ذلك الثوران | |
رب طفل قد ساخ في باطن الأر | م | ض ينـــــادي أمي أبي أدركاني |
وفتاة هيفاء تُشـــوى على الجم | م | ـر تعاني من حــــــره ما تعاني |
وأب ذاهل إلى النـــــــــار يمشي | مستميتا تمتد منه اليــــــدان | |
باحثا عن بنــــــــــــــاته وبنيه | مسرع الخطو مستطير الجنان | |
تأكل النــــــــــار منه لا هو ناج من | لظاها ولا اللظى عنه واني | |
غصت الأرض أتخم البحـــر | مما طوياه من هذه الأبــــــــــدان | |
وشكا الحوت للنســـــــور شكاة | رددتها النســـــــور للحيتان | |
أسرفا في الجسوم نقرا ونهشا | ثم باتا من كظة يشكوان |
ثم يأسى الشاعر ويألم ألما شديدا فيصور لهفته وأساه فيقول([10]):
لهف نفسي وألف لهف عليها | من أكف كانت صناع الزمان | |
مولعات بصيد كل جميل | ناصبات حبائل الألوان | |
حافرات في الصخر أو ناقشات | شائدات روائع البنيان | |
منطقات لسان كل جماد | مفحمات سواجع الأفنان | |
ملهمات من دقة الصنع ما لا | يُلْهَمُ الشِّعْرُ من دقيق المعاني | |
من تماثيل كالنجوم الدراري | يهرم الدهر وهي في العنفوان | |
عجب صنعها وأعجب منه | صنعه تلك قدرة الرحمن |
ثم يواسي الشاعر هذه المدينة وأهلها بأن أفضل حالا من سابقاتها من المدن التي زالت واندثرت وأن أهلها – بمساعدة غيرهم من بني الإنسان -سوف يعيدون بناءها مرة ثانية؛ لتكون آية الجمال وعنوان الإبداع؛ فهؤلاء جميعا سيستحقون كل إجلال وإكرام وتحية وسلام، يقول([11]):
أنت (مسِّينُ) لن تزولي كما زا | لت ولكنْ أمسيت رهن الأوان | |
إن إيطاليا بنوها بناة | فاطمئني ما دام في الحي باني | |
فسلام عليك يوم توليـ | ـت بما فيك من مغان حسان | |
وسلام عليك يوم تعوديـ | ـن كما كنت جنة الطليان | |
وسلام من كل حيٍّ على الأرْ | ضِ على كل هالك فيك فاني | |
وسلام على الألى أكل الذئــــ | ــبُ وناشت جوارح العقبان | |
وسلام على امرئ جاد بالدمْـ | ـعِ وثنَّى بالأصفر الرنان | |
ذاك حق الإنسان عند بني الإنـ | ـســــــــــان لم أدعكم إلى إحســــان |
وفي أقصى شرق الكرة الأرضية يحدث زلزال قوي في اليابان، في 1 سبتمبر/ أيلول 1923 يدمر كل قائم ويخرب كل عامر؛ فيهب أمير الشعراء لوصف هذا الدمار ويطلب من إخوانه النجدة والمساعدة ليعيد لليابان بسمتها، وعمرانها، فيقول واصفا آثار هذا الزلزال فيقول([12]):
قف بطوكيو وطف على يوكوهامه | وسل القريتين كيف القيامه | |
دنت الساعة التي أُنذر النا | م | س وحلت أشراطها والعلامه |
قف تأمل مصارع القوم وانظرْ | هل ترى من ديار عاد دِعامه؟ | |
خُسفت بالمساكن الأرضُ خسفا | وطوى أهلُها بساط الإقامه | |
طوفت بالمدينتين المنايا | وأدار الردى على القوم جامه | |
لا ترى العين منهما أين جالت | غيرَ نقضٍ أو رِمَّةٍ أو حُطامه | |
حازهم من مراجل الأرض قبرٌ | في مدى الظنِّ عمقه ألف قامه | |
تحسب الميْتَ في نواحييه يُعْي | نفخةَ الصورِ أن تلمَّ عظامه | |
أصبحوا في ذَرا الحياة وأمسَوا | ذهبت ريحهم وشالوا نعامه | |
“ثق بمن شئت من زمانك إلا | صُحبة العيش أو جِوار السلامة | |
دولة الشرق وهي في ذروة العز | تحار العيون فيها فخامة | |
خانها الجيشُ وهو في البر درعٌ | والأساطيل وهي في البحر لامه | |
لو تأملتها عشية جاشت | خلتها في يد القضاء حمامه | |
رَجَّها رجة أكبت على قرْ | تيه(بوذا) وزلزلت أقدامه | |
استعذنا بالله من ذلك السيـ | ـل الذي يكسح البلاد أمامه | |
مَنْ رأى جلمدا يهب هبوبا | وحميما يسح سح الغمامه | |
ودخانا يلف جنحا بجنح | لا ترى فيه معصميها اليمامه | |
“وهزيما كما عوى الذئب في كلـــ | ـــل مكان وزمجر الضرغامه |
ثم يصور الشاعر أسباب هذه الجائحة العظيمة فيقول([13]):
أتت الأرض والسماء بطوفا | نٍ يُنْسِي طوفان نوح وعامهْ | |
فترى البحر جُنَّ حتى أجاز الـ | برَّ واحتل موجُهُ أعلامهْ | |
مُزْبدا ثائر اللُّجاجِ كجيشٍ | قوض العاصفُ الهَبوب خيامهْ | |
فُلكُ نوحٍ تعوذُ منه بنوحٍ | لو رأته وتستجير زِمامهْ | |
قد تخيلتهم متابيل سحرٍ | من قراع القضاء صرعى مُدامهْ | |
وتخيلتُ من تخلَّف منهم | ظنَّ ليلَ القيامِ ذاكَ فنامهْ | |
أبراكينُ تلك أم نزواتٌ | من جراح قديمةٍ مُلْتامهْ؟ | |
تجد الأرضُ راحةً حيث سالت | راحة الجسم من وراء الحجامهْ | |
ما لها لا تضج مما أقلَّتْ | من فساد وحُمِّلَتْ من ظُلامهْ؟ | |
كلما لُبِّست بأهل زمانٍ | شهدتْ من زمانهم آثامه | |
استووا بالأذى ضِرِيًّا وبالشْـ | شَرِّ ولعا والدماءِ نَهامهْ | |
لبِّستْ هذه الحياة ُعلينا | عالَمَ الشَّرِّ : وحْشَهُ وأنامه | |
ذاك من مؤنساته الظُّفرُ والنا | م | بُ وهذا سلاحه الصمصامه |
سرَّه من أسامةَ البطش والفتْـ | ـكُ فسمَّى وليده بأسامهْ | |
لؤمت منهما الطباعُ ولكن | ولَدُ العاصيين شرُّ لامه |
المبحث الثاني: النزعة الإنسانية في المعارك الحربية
كانت المعارك الحربية – ولا زالت- من أكثر أسباب المآسي والآلام التي تصيب بني الإنسان، فبها يكثر الجرحى والمفقودون، وتدمر البيوت وتخرب المزارع، ويشرد الآمنون، ولذا كانت هذه المعارك والحروب ميدانا فسيحا للتجارب الإنسانية التي أفاض الشعراء فيها وأكثروا من تناولها تناولا إنسانيا محضا؛ أظهر آلمهم وآساهم لما أصاب بني الإنسان من ويلات وعذابات لم يكن لهم فيه يد.
وإذا كانت الحروب والوقائع الحروب تدمر وتخرب وتقتل وتجرح؛ فإنها في العصر الحديث كانت أشد فتكا وأكثر قتل وأعظم تدميرا وتخريبا؛ بسب التقدم العلمي الرهيب والتفنن في صنع الأسلحة والمدمرات ، ولما شهده العصر الحديث من حروب وحملات استعمارية لم تترك بلدا إلا وكانت لها فيه آثار بله آثام ومخازي وسيئات.
فالحرب العالمية الأولى “عُرفَتْ حينئذٍ بالْحَرِبِ الْعُظْمَى، هي حرب عالمية نشبت بدايةً في أوروبا من 28 يوليو 1914 وانتهت في 11 نوفمبر1918، وقد وُصِفتْ وقت حدوثها بـ«الحرب التي ستنهي كل الحروب». جُمِعَ لها أكثر من سبعين مليون فرد عسكري، 60 مليون منهم أوربِّيين، للمشاركة في واحدة من أكبر الحروب في التاريخ. لقي أكثر من تسعة ملايين مقاتل وسبعة ملايين مدني مصرعهم نتيجة الحرب“([14])، كانت مآسيها وآلامها أكثر من أتحصى أو تسطر، ومع ذلك فقد قام الشعراء بتوثيق بعض المآسي الإنسانية التي تعرضت لها البشرية في صورة تفيض ألما لما أصاب الأبرياء من عذابات وويلات، وغضبا وحنقا للقادة والزعماء الذين ما أقاموا هذه المعارك الطاحنة إلا لتحقيق رغباتهم في السيطرة على الشعوب ومقدراتها، يصور ذلك الشاعر أحمد محرم فيقول([15]):
طغت الدماء وفاضت الأرواح | وطمت سهول بالردى وبِطاحُ | |
أين الشرائع من شريعة ظالم | يُفني النفوس وما عليه جُناحُ؟! | |
مشت الجنود إلى الجنود وإنما | مشت المنون حواصدا تجتاحُ | |
مهج تطير بها الحتوف فترتمي | عن أنْفُسٍ يُدى بها ويُطاحُ | |
رثت المذابح للدماء مُراقةً | ملء البِطاحِ وما رثى الذَّبَّاحُ | |
ينْهَلُّ صيِّبها فيُثني عطفه | ويزخر سيلها فيُراحُ | |
فاضت حواليه فضُرِّجَ عرشُهُ | منها وخُضِّبَ تاجُهُ الوضَّحُ | |
ملكٌ ولا غير الجماجم حوله | سورٌ ولا غير الرقاب سلاحُ | |
عصف الجلادُ بها فظل يُطيرها | بِيَدٍ تَطيرُ بها ظُبىً ورماحُ | |
بغت الملوك على الشعوب وغرَّها | ممنْ تسوس تجاوز وسماح |
وكانت أهوال هذه الحرب العامة لا تصدق، فإراقة الدماء أكثر من أن تحدـ وجثث القتلى أكثر من أن تعد، فرائحة الموت أزكمت الأنوف، وإعمال الاسلحة أصبح ممتدا لا يتوقف ولا ينتهي؛ فكأس الموت دائرة على كل أحد، وبطن الأرض أصبح مفتوحا لا يسد من كثرة ما يلقى فيها من أموات وقتلى، يصور ذلك الشاعر “أحمد محرم” فيقول آسيا حزينا([16]):
صبوحُ دم يساجله غَبوقُ | وليلُ ردىً يواصله شروقُ | |
لقد طالتْ مُعاقرةُ المنايا | فما تصحو السيوف وما تَفيقُ | |
إذا وصفوا حُميَّاها لقومٍ | تخاذلت المفاصل والعروقُ | |
وما تدري السُّقاةُ بأيَّ كاسٍ | تطوف أيَّ ذي طرب تشوقُ | |
ترى شرَّابها صرعى إذا ما | تحسَّتها الحلاقمُ والحلوقُ | |
كأن الأرض والهةٌ توالت | فجائعها وأعوزها الشفيقُ | |
تتابع ما يحلُّ بساكنيها | من النُّوب الثِّقَال وما يحيقُ | |
كأن جميع أهليها تِجارٌ | وكلَّ بلادها للموت سوقُ | |
لقد هدَّ الممالك ما تعاني | من القدر المتاح وما تذوق | |
حروبٌ يستغيث البغيُ منها | وينبو الإثم عنها والفسوقُ | |
تُداسُ بها الشرائع والوصايا | وتُنتهكُ المحارمُ والحقوقُ |
ومشعلو هذه الحروب وقادتها لم يتركوا كبيرة إلا اقترفوها، ولا شريعة إلا انتهكوها؛ حتى أصبح الكفر والعقوق والظلم والطغيان والاعتداء ينظرون إليهم نظر البائس المرتاب الذي أذهله الأمر، وأفقده الهول عقله ورشده، يقول([17]):
تفنَّن في المهالك موقدُوها | وبعض تفنُّنِ الحذَّاقِ مُوقُ | |
تردَّى البِرُّ والإيمانُ فيها | وضجَّ الكفرُ منها والعقوق | |
فما يرضى إله الناس عنها | ولا يرضى (يغوث) ولا (يعوقُ) | |
وما تدري السُّقاةُ بأيَّ كاسٍ | تطوف أيَّ ذي طرب تشوقُ | |
إذا ابتدرتْ أجادِلُها مطارا | أَسفَّ النسرُ وانحط الأنوقُ | |
إذا دانت مكان النجم هاجت | وساوسُهُ ولجَّ به الخفوقُ | |
تبيد له الفراقد جازعات | إذا هتك الظلامَ لها بريقُ | |
يهيج خبالها تأويب طيفٍ | يُخال له لمام أو طروقُ | |
إذا ابتدر السُرى منها فريقٌ | تعذر في مساريه فريقُ | |
غمائم لُحْنَ من بيض وسودٍ | تريق من المنايا ما تريقُ | |
تصُبُّ الموت أحمرَ لا قضاءً | يدافعه ولا قدرٌ يعوقُ | |
سهامُ وغىً تُسددها عُقولٌ | لها في كل غامضةٍ مُروقُ | |
تباري الجن في الإبداع آناً | تحاكيها وآونةً تفوقُ | |
إذا الأسباب كانت واهياتٍ | دعت فأجابها السببُ الوثيقُ | |
جرت طلقا فجاءت واهياتٍ | وجاء وراءها الأمد السحيقُ | |
وأخرى تنفث الاهوالَ يجري | بمقذوفاتها القدر الطليق | |
تردُّ حقائقَ الزلزال وهما | وتبطل ما ادعاه المنجنيق | |
لقد حمل الردى المجتاحُ منها | ومن أهوالها ما لا يَطيقُ |
وكان القادة الألمان من أكثر القادة الذين أشعلوا المعارك الطاحنة وأشاعوا الدمار والخراب في العالم أجمع، وما زالت آثار معاركهم شاهدة على بطش هؤلاء وعدم وجود أي مشاعر للإنسانية أو الرأفة والرحمة بالآخرين .
ولقد عايش كثير من الشعراء هذه المعارك، ووثقوها في شعر يفيض حسرة وألماً على هذه النفوس الذاهبة، والثروات والمقدرات المهدرة، كما يفيض حنقا وغضباً على المتسببين في هذه الجرائم وتلك المآسي والآلام، فشاعر النيل “حافظ إبراهيم” يألم ويأسى لما أصاب العالم في الحرب العالمية الأولي على يد الألمان من تقتيل، وتدمير، وتخريب، وتهجير، وتعذيب؛ فيخاطب زعيم ألمانيا الإمبراطور (غليوم) مندداً به وبدولته التي دمرت كثيراً من القرى والمدن والدول، وأحالتها أنقاضا من الرماد والأشلاء، فيقول([18]): (تام الكامل)
للهِ آثاَرٌ هُنَاكَ كَرِيمَةٌ | حَسَدَتْ رَوَائِعَ حُسْنِهَا (بِرْلِينُ) | |
طَاحَتْ بِهَا تِلْكَ المَدَافِعُ تَارَةً | لَمَّا أَمَرْتَ، وَتَارَةً (زِبْلِينُ)([19]) | |
مَاذَا رَأَيْتَ مِنْ النَّبَالَةِ والعُلا | فِي عُدْمِهِنَّ وَكُلُّهُنَّ عُيُونُ | |
لَوْ أَنَّ فِي (بِرْلِينَ) عِنْدَكَ مِثْلَهَا | لَعَرَفْتَ كَيْفَ تُجِلُّهَا وَتَصُونُ | |
إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هَدَمْتَ (رِمْسَ([20]))فَإِنَّهُ | أَوْدَى بِمَجْدِكَ رُكْنُهَا المَوْهُونُ | |
لَمْ يُغْنِ عَنْهَا مَعْبَدٌ خَرَّبَتَهُ | ظُلْمًا وَلَمْ يُمْسكْ عِنَانَكَ دِينُ | |
لا تَحْسَبَنَّ الفَخْرَ مَا أَحْرَزْتَهُ | الفَخْرُ بِالذِّكْرِ الجَمِيلِ رَهِينُ | |
هَلْ شِدْتَ فِي (بِرْلِينَ) غَيْرَ مُعَسْكَرٍ | قَامَتْ عَلَيْهِ مَعَاقِلٌ وَحُصُونُ | |
وَجَمَعْتَ شَعْبَكَ كُلَّهُ فِي قَبْضَةٍ | إِنْ لَمْ تَكُنْ لاَنَتْ فَسَوْفَ تَلِينُ |
وما ارتكب الألمان ما ارتكبوه إلا جشعاً وحقداً وطمعاً، وحباً في القتل والتدمير؛ فكل أسباب التقدم والازدهار متاحة لهم، لا ينازعهم فيها أحد، ولا يمنعهم عنها أحد، فما الداعي لشن هذه الحروب الطاحنة؟، يقول لاعنا مستنكرا([21]):
نَظَمَتْ تِجَارَتُكَ المَدَائِنَ و القُرَى | (فَالنِّيلُ) نَاءَ بِهَا و نَاءَ (السِّينُ)([22]) | |
فَبِكُلِّ أَرْضٍ مِنْ رِجَالِكَ عُصْبَةٌ | وَبِكُلِّ بَحْرٍ مِنْ لَدُنْكَ سَفِينُ | |
تَسْرِي ونَسْرُكَ أَيْنَ لُحْنَ يُظِلُّهَا | لا اللَّيْثُ يُزْعِجُهَا ولا التِّنِّينُ([23]) | |
فَالأَمْرُ أَمْرُكَ وَالمُهَنَّدُ مُغْمَدٌ | والنَّهْيُ نَهْيُكَ و السُّرَى مَأْمُونُ | |
قَدْ كَانَ فِي (بِرْلِينَ) شَعْبُكَ وَادِعاً | يَسْتَعْمِرُ الأَسْوَاقَ وَهْيَ سُكُونُ | |
فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُهَا فَسَبِيلُهَا | وَقْفٌ عَلَيْهِ وَرِزْقُهُ مَضْمُونُ | |
فَعَلامَ أَرْهَقْتَ الوَرَى وَأَثَرْتَهَا | شَعْوَاءَ فِيهَا للْهَلاكِ فُنُونُ؟!! | |
تَاللهِ لَوْ نُصِرتْ جُيُوشُكَ لانْطَوَى | أَجَلُ السَّلامِ وَأَقْفَرَ المَسْكُونُ | |
سَبْعُونَ مِلْيُوناً إِذَا وَزَّعْتَهَا | بَيْنَ الحَوَاضِرِ نَالَنَا مِلْيُونُ | |
وَيْلٌ لِمَنْ يَسْتَعْمِرُونَ بِلادَهُ | القَحْطُ أَيْسَرُ خَطْبِهِ والهُونُ |
ولم ترتدع ألمانيا ولا قادتها بما أصابوا العالم به من ويلات وعذابات، ولا بما أصاب بلادهم هم من قتل وتدمير وتخريب وتهجير في الحرب العالمية الأولي؛ فشنت الحرب العالمية الثانية التي كانت أكثر قتلا، وأشد بطشاً وفتكاً وتدميرا وتخريبا في كل بقـعة وطئها الجنود الألمان، أو رنت أعينهم إليها يصـور بعـض هـذه المشاهد المؤلمة الشاعر “عزيز فهمي” فيقول مندداً بالنازيين وجرائمهم، شامتا فيهم وفي هزيمتهم، آسياً للفرنسيين وما أصابهم على أيدي الألمان من جرائم وانتهاكات([24]) (الطويل)
هَوَى النَّسْرُ وارْتَدَّتْ إِلَيْهِ مَخَالِبُهْ | وَضَاقَتْ بِهِ الأَجْوَاءُ إِذْ هِيضَ جَانِبُهْ | |
تَرَنَّحَ مَطْوِيَ الجَنَاحَيْنِ قَابِضاً | مِنْ الذُّعْرِ أَنْفَاساً دِرَاكاً تُجَاذِبُه | |
تأمَّلْ ! فَهَذَا النَّضْوُ أَشْلاءُ كَاسِرٍ | تَحَدَّى بِسَاطَ الرِّيحِ والسُّحْبُ وَاثِبَهْ | |
رَأَى (الرِّينَ) أَدْنَى مِنْ مَسَارِحِ طَرْفِهِ | وَأَيْسَرَ مِمَّا تَشْتَهِيهِ رَغَائِبُهْ | |
فَخَفَّ إِلى (السِّينِ) القَرِيبِ كَدَأْبِهِ | وَهَيْهَاتَ أَنْ تَقْضِي بِرِيٍّ مَآرِبُهْ | |
وَطَارَ إِلَى (المَانْشِ) البَعِيدِ مُخَلِّفًا | عَلَى التِّبْرِ أَجْنَاداً وَحِلْفًا يُرَاقِبُهْ | |
وأَوْغَلَ فِي (رُوسْيَا) وَرَوَّعَ دُبَّهَا وَوَدَّ لَو اجْتَاحَ الشَّمَالَ مُجَازِفًا | فَمَا رَاعَهُ إِلاَّ هِزَبْرٌ يُغَالِبُهْ إلَى القُطْبِ أَوْ يَعْنُو الشَّمَالُ وَصَاحِبُهْ | |
وَطوَّفَ حَتَّى شَارَفَ النِّيلَ لاهِثًا | ولَوْلا عُيُونُ اللهِ حَلَّتْ مَصَائِبُهْ | |
ولَوْ عَبَّ أَمْوَاهَ المَجَرَّةِ مَا ارْتَوَى | وَأَنَّى لَهُ الإِشْبَاعُ وَالدَّاءُ كَالِبُهْ | |
أَدَلَّ عَلَى السَّامِي بِجِنْسٍ وَسِحْنَةٍ | وَلَمْ يَرَ فِي الآرِيِّ جِنْساً يُقَارِبُهْ |
ثم يأخذ الشاعر في تفصيل جرائم هذا الاحتلال النازي بحق الشعوب التي احتلها إبان حربه عليهم، وأبشعها وأفظعها ما ارتكبه بحق فرنسا والفرنسيين، من تقتيل وتدمير وتخريب وتهجير، يقول([25]):
فَإْن أَنْسَ لا أَنْسى حَيَاتِي جَحْفلاً | تَهَجَّمَ كَالمَحْمُومِ والجُوعُ كَارِبُهْ | |
رَأَيْتُ بِعَيْنِي مَا يُكَذِّبُ خَاطِرِي | كَأَنِّي أَرَى وَحْشاً تَدَلَّتْ غَبَاغِبُهْ | |
فَلَمْ يَبْقَ فِي (بَارِيسَ) إلاَّ مُشَتَّتٌ | يَبِيتُ عَلَى الغَبْرَاءِ واللَّيْلُ كَالِبُهْ | |
وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ جَائِعٌ جَفَّ حَلْقُهُ | وَآخَرُ تَبْدُو مِنْ نُحُولٍ تَرَائِبُهْ | |
أَرَامِلُ يَرْصُدْنَ السَّمَاءَ عَلَى الطَّوَى | وَيَرْعُشْنَ فِي لَيْلٍ تَوَالَتْ سَحَائِبُهْ | |
إِذَا هُنَّ أَرْضَعْنَ الوَلِيدَ تَحَلَّبَتْ | مِنْ الثَّدْيِ أَمْشَاجٌ وَبَاتَ يُدَاعِبُهْ | |
عُصَارَةُ جِسْمٍ شَفَّهُ الجُوعُ والضَّنَى | وَسُؤْرٍ وَمِمَّا قَدْ يَلِينُ حَلائِبُهْ | |
وَمَا رَاعَنِي إلاَّ نَحِيْبُ يَتِيمَةٍ | تَصِيحُ: أَبِي وَيْلاهُ !! والدَّمُ خَاضِبُهْ | |
يَمُدُّ إِلَيْهَا سَاعِدَينِ تَعَوَّدَا | حِمَايَتَهَا وَالجُرْحُ يَنْزِفُ سَاكِبُهْ | |
عَشِيَّةَ طَافُوا فَيْلَقًا بَعْدَ فَيْلَقٍ | بِسَاحَةِ قَوْسِ النَّصْرِ والذُّلُّ ضَارِبُهْ | |
وَرَفَّ عَلَى قَوْسِ الشَّهِيدِ صَلِيبُهُمْ | يُشِيرُ إِلَى نَصْرٍ … وَهَذِي كَتَائِبُهْ |
الخاتمة
بعد هذه الرحلة التي طوفت بنا في عالمين من العوالم الإنسانية للشعراء في العصر الحديث نستطيع أن نقرر هذه النتائج:
- كانت كلمة “الإنسانية” من أكثر المصطلحات الفنية استخداما وتناولا في الدراسات الأدبية والفنية في العصر الحديث، وقد وجد الباحث بعض الدارسين يتوسعون في استخدام هذا المصطلح في بحوثهم ودراساتهم، حتى اختلط الأمر في – كثير من الأحايين- بينها وبين مصطلحات أخرى من قبيل الاتجاه الاجتماعي، والاتجاه الوطني، وشعرِ الوصف، وغيرِ ذلك من المصطلحات الأدبية الأخرى.
- خلص الباحث إلى أن الباحث يرى أن النزعة الإنسانية هي تلك المشاعر المتجاوبة والمتفاعلة بين الشاعر وبين غيره من البشر الذي لا يرتبطون بالشاعر إلا بالرابطة الإنسانية فقط، وليست الرابطة الاجتماعية أو القومية او الدينية؛ “فالنزعة الإنسانية نزعة عالمية يريد أصحابها أن تعم العالمَ كلَّه روابطُ واحدة، فلا أبيض ولا أسود ولا شرقي ولا غربي.
- كان الشعر ميدانا واسعا لمشاركة الشعراء للأحداث العالمية وخاصة تلك الأحداث التي تسببت في نشر الألم والأسى والحاجة لكثير من الناس.
- استخدم الشعراء كلمتهم الشاعرة في التأثير النفسي والشعوري على متلقيهم ومخاطبيهم، وقد استخدموا هذا التأثير في طلب المساعدات المادية لمنكوبي الكوارث الطبيعية والحروب العالمية.
- كانت النزعة الإنسانية لدى الشعراء المحدثين سببا رئيسا في تمجيد الشعراء لمحبي الإنسان في كل مكان ومساعديه كما كانت سببا في هجاء وتقريع قاتلي هذا الإنسان والمعتدين عليه بأي صورة من صور الاعتداء أو القتل.
فهرس المراجع
- إبراهيم، حافظ: الديوان، ط2، الهيئة العامة لقصور الثقافة – مصر 2002م.
- زلط، د. عبدالرحيم محمود، الجانب الإنساني في شعر شوقي وحافظ إبراهيم
- شوقي أحمد: الشوقيات، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان
- ضيف ، شوقي، دراسات في الشعر المعاصر: مكتبة الدراسات الأدبية العدد(11)، ط4، دار المعارف ، القاهرة – مصر، 1969م
- عباس، إحسان، فن الشعر،ط3، دار الثقافة، بيروت- لبنان.
- فهمي ، عزيز، ديوان عزيز،ط2، سلسلة ذاكرة الكتابة، عدد (68) الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة -مصر2005م
- محرم، أحمد ، ديوان محرم،1404ه،-1984م، تحقيق، محمود أحمد محرم، ط1، مكتبة الفلاح، الكويت.
المعجم الوجيز، مجمع اللغة العربية، القاهرة / 1999م
([1]) عباس، إحسان، فن الشعر،ط3، دار الثقافة، بيروت- لبنان، صـ159.
([2]) المعجم الوجيز، مجمع اللغة العربية / مادة (أنس)، القاهرة / 1999م.
([3]) زلط، د. عبدالرحيم محمود، الجانب الإنساني في شعر شوقي وحافظ إبراهيم، صـ41
([4]) زلط، د. عبدالرحيم محمود، الجانب الإنساني في شعر شوقي وحافظ إبراهيم، صـ44.
([5]) زلط، د. عبدالرحيم محمود، الجانب الإنساني في شعر شوقي وحافظ إبراهيم، صـ45
([6]) ضيف ، شوقي، دراسات في الشعر المعاصر: مكتبة الدراسات الأدبية العدد(11)، ط4، دار المعارف ، القاهرة – مصر، 1969م، صـ62
([7]) أخرجه أحمد (8939)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (273) واللفظ لهما، والبزار (8949) باختلاف يسير.
([8]) ضيف، شوقي: دراسات في الشعر العربي المعاصر، صـ58.
([9]) إبراهيم، حافظ: ديوان حافظ إبراهيم، دار العودة ، بيروت لبنان، 1/215
([10]) إبراهيم، حافظ: ديوان حافظ إبراهيم ، دار العودة ، بيروت لبنان، 1/218
([11]) إبراهيم، حافظ: ديوان حافظ إبراهيم، ، 1/220
([12]) شوقي، أحمد: الشوقيات، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 2/83
([13]) شوقي أحمد: الشوقيات، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 2/84
([14])https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%89
([15]) محرم، أحمد ، ديوان محرم،1404ه،-1984م، تحقيق، محمود أحمد محرم، ط1، مكتبة الفلاح، الكويت،1/226
([16]) محرم، أحمد ، ديوان محرم،1/290
([17]) محرم، أحمد ، ديوان محرم ،1/290
([18]) ديوان حافظ إبراهيم 2/83.
([19]) زبلين: اسم طائرة حربية ألمانية سميت باسم مخترعها .
([20]) هي مدينة فرنسية كانت تشتهر بكنيسة تاريخية، دمرها الألمان بمدافعهم القوية .
([21]) ديوان حافظ إبراهيم 2/83.
([23]) النسر هو شعار الرسمي لألمانيا، والليث شعار بريطانيا، والتنين هو شعار اليابان.