دلالة الملة عند الفارابي
The significance of religion according to Al-Farabi
د.نور الدّين علوش/كلية الآداب ظهر المهراز فاس، المغرب
Dr. Noureddine Allouch Faculty of Arts, Dahr Al- Mahraz, Fez, Morocco
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 84 الصفحة 113.
ملخص:
الملة هي جملة آراء وأفعال يضعها الرئيس الأول لجمع من الناس بغية تحقيق السعادة، فالملة تختلف عن الدين وليسا مترادفان عند الفارابي ، والملة لا تختلف عن الفلسفة سوى في أمرين:حيث أن الفلسفة تقصد الخاصة والحكماء وأما الملة فتقصد عموم الناس، فالملة تعتمد على الخطابة بينما الفلسفة على المفاهيم العقلية، ومن ثم ليست وظيفة الملل معرفية، بل إن قيمة الملة توجد في وظيفتها المدنية وأدوارها السياسية.
الكلمات المفتاحية: الملة – السياسة – السعادة -الفلسفة.
Abstract:
Millah is a set of opinions and actions set by the first president for a group of people, in order to achieve happiness. Millah differs from religion and is not synonymous with al-Farabi, and the Millah does not differ from philosophy, except for two things: as philosophy refers to the special and the sages, and the second refers to the common people, and therefore Millah depends on rhetoric, while philosophy is based on rational concepts. Hence, the function of Millah is not epistemic. Rather, the value of the Millah is found in its civic function and political roles
key words : religion – politics – happiness – philosophy.
مقدمة :
ما الملة ودلالتها؟ وما هي مكوناتها ووظيفتها ؟ ما الفرق بين لفظي الملة والدين؟ ما العلاقة بين الملة و العلم المدني؟
لا يستقيم الحديث عن مكانة الملة في الفكر السياسي عند الفارابي دون تحديد ماهية الملة ومقوماتها وأدوارها السياسية و التربوية، لكن ليس الأمر بالهين، فهو يستدعي فحص دلالات اللفظ في كل كتبه السياسية والأخلاقية واستجلاء مقوماتها ودلالاتها، ووظائفها، وما يعقد الأمر في الموضوع هو غياب تحديد دقيق لمؤلفات الفارابي للوقوف عند مراحل تطوره الفكري، بالإضافة إلى إشكالية التسمية بين الملة والدين، وفحص العلاقة بينهما بالرجوع إلى المعاجم والموسوعات العربية، حتى نفهم انتصاره لمفهوم الملة على مفهوم الدين.
كما يجب فحص علاقة الفلسفة بالملة لمعرفة أوجه الشبه والاختلاف بينهما، إذا كانت الفلسفة تقصد الخاصة فإن الملة تقصد عامة الناس، ولذلك فالعنصر المعرفي في الملة هو آراء مقيدة ومقدرة يرسمها للجميع رئيسهم الأول ؛والفلسفة هي المفاهيم العقلية والقياسات البرهانية، بينما تتشكل الملة في الصور المجازية وفي القياس التمثيلي الإقناعي، ومن ثم ليست وظيفة الملل معرفية، ولا تقاس الملل عند الفارابي بما تحمله من حقائق؛ بل إن قيمة الملة توجد في وظيفتها المدنية وأدوارها السياسية والتربوية التي تناط بها داخل المدينة من توحيد للآراء وتربية للجمهور.
الملة : الماهية والمقومات
يعتبر كتاب الملة للفارابي نصا تأسيسيا في الفلسفة الإسلامية، حيث كانت مقاربته للملة أول مقاربة فلسفية في العالم الإسلامي، فالكتاب مخصص لفحص الملة وعلاقتها بالفلسفة، ورئيس الملة وخلفائه، وصناعة الفقه وصلتها بالفلسفة، كما أنه يفحص علاقة العلم المدني بالملة، مما يجعل من الكتاب، له أهمية كبرى في فهم مكانة الملة في الفكر السياسي للفارابي.
فما هو التحديد الذي يقدمه للملة؟ ما هي مقوماتها: الماهية والغرض والنشأة والغاية؟
يقول الفارابي:« الملة هي آراء وأفعال مقدرة مقيدة بشرائط يرسمها للجمع رئيسهم الأول، يلتمس أن ينال باستعمالهم لها غرضا له فيهم أو بهم محددا، والجمع ربما كان عشيرة وربما كان مدينة أو صقعا، وربما كان أمة عظيمة، وربما كانت أمما كثيرة، والرئيس الأول إن كان فاضلا وكانت رئاسته فاضلة في الحقيقة، فإنه إنما يلتمس بما يرسم من ذلك أن ينال هو وكل من تحت رئاسته السعادة القصوى التي هي في الحقيقة سعادة، وتكون تلك الملة فاضلة»[1].
من خلال هذا التحديد، يمكن أن نستنتج مقومات الملة وهي أولا: الآراء والأفعال، وثانيا: واضع الملة، وثالثا: الفئة المستهدفة من الملة، ورابعا: غاية الملة.
فيما يتعلق بمقومات الملة فالفارابي يعتبر الملة جملة آراء وأفعال.
أ– الآراء المقدرة والأفعال المقدرة
يقسم الفارابي الآراء إلى قسمين: القسم الأول يشتمل على أمور نظرية وهي: « ما يوصف الله تعالى به، ثم ما يوصف به الروحانيون ومراتبهم في أنفسهم ومنازلهم من الله تعالى، وما فعل كل واحد منهم، ثم كون العالم وما يوصف به العالم وأجزاؤه ومراتب أجزائه، وكيف نسبة كل واحد منها إلى الله تعالى والى الروحانيين، ثم كون الإنسان وحصول النفس فيه والعقل ومرتبته من العالم، ومنزلته من الله والروحانيين، ثم أن توصف النبوة ما هي والوحي كيف هو والموت والحياة الآخرة، والسعادة التي يصير إليها الأفاضل والأبرار، والشقاء الذي يصير إليه الأراذل والفجار في الحياة الآخرة»..
إن هذه الآراء مجموعة من التصورات التي يحتاجها الإنسان لمعرفتها حول :حقيقة الله (الذات والصفات) والملائكة (الروحانيون بتعبير الفارابي صفاتهم وأفعالهم) والكون(خلق الكون) والنبوة ما هي وكيف هو الوحي والإنسان(خلق الإنسان) ومكانة الإنسان في هذا الكون ومصيره (الشقاء أو السعادة)، وهذه الآراء تشكل اعتقادات تدخل في إطار الإيمان، ولا يمكن الحديث عن ملة بدون اعتقادات.
أما القسم الثاني: فيعالج الأشياء الإرادية العملية[2]، أي ما يصدر عن الإرادة الإنسانية خيرا أو شرا، حيث يقول :«والضرب الثاني ما يوصف به الأنبياء والملوك الأفاضل والرؤساء الأبرار وأئمة الهدى والحق ،الذين توالوا في الزمن السالف وتتألف من قصص الأخيار والأشرار في الماضي والحاضر، ومصير نفوسهم ومصير نفوس أتباعهم».[3]
القسم الثاني من الآراء تشمل صفات الأنبياء والملوك الأفاضل والرؤساء الأبرار ومصيرهم السعيد، كما تشمل صفات الأشرار ومصيرهم الشقي، وهذا يذكرنا بالقصص القرآني التي تخبرنا بمصير الأنبياء والأخيار و العصاة والأشرار.
فما نستفيد منه في هذا القول أن هذه القصص التي تتحدث عن سير الأخيار[4] والأشرار، المقصود منها العبرة التي نحصل عليها من تأمل ما تنطوي عليه هذه الأخبار من أحداث ،والاستفادة من تجارب الماضي السلبية أو الايجابية في تنظيم شؤون الناس الحالية حتى لا تتكرر الأخطاء.
الأفعال المقدرة:
قسمها الفارابي إلى قسمين: القسم الأول: يشمل الأفعال التي على الإنسان أن يقوم بها في علاقته بـ:
أ.بالله، حيث على الملة أن تبين «الأفعال والأقاويل التي يعظم الله بها ويمجد». ليمارسها الإنسان بعد ذلك، هذا النوع من الأفعال يزيد إيمان المؤمنين ويجعل صلتهم بالله قوية ومتينة.
ب.بالروحانيين والملائكة، حيث تبين الملة الأقوال والأفعال «التي يعظم بها الروحانيون والملائكة».
ج. بالأنبياء والرؤساء والملوك. حيث يجب تعظيم وتمجيد «الأنبياء والملوك الأفاضل والرؤساء الأبرار وأئمة الهدى».[5]
وتقبيح أفعال :« الملوك الأراذل والرؤساء الفجار وأئمة الضلال»[6].
أما أفعال القسم الثاني: فيشمل أفعال فردية وهي تشمل « ما ينبغي أن يعمله الإنسان بنفسه».
أي الأفعال التي مصدرها نفسه، من تنمية ملكاته و اكتسابه الفضائل وغير ذلك من أفعال يقصد بها الفرد ذاته. ويشمل هذا الجانب توضيح حدود العدل أي الصورة الأفضل لكل فعل من هذه الأفعال الفردية.
وأفعال اجتماعية تشمل « ما ينبغي أن يعامل به غيره » وهذا يشمل تنظيم المجتمع والحياة الاجتماعية لتحقيق غرض الملة الذي يحدده الرئيس الأول للملة.
ما يلاحظ هو أن الفارابي لم يولي الأفعال المقدرة سوى اهتمام قليل.مقارنة بالآراء وهذا ما نتفق فيه مع الباحث محسن مهدي فالآراء المقدرة أولاها اهتماما كبيرا ومفصل وربما يبرر هذه سبب تسمية كتابه أراء أهل المدينة الفاضلة.
ثانيا: واضع الملة
لا يمكن الحديث عن الملة بإطلاق، بل نتكلم عن الوظيفة السياسية للملة.
الرئيس الأول للدين هو الشخص الذي يقدر الآراء والأفعال التي تنطوي عليها الملة في أول أمره.
يقسم الفارابي الرئاسة الأولى في الملل إلى أربعة أنواع: فاضلة، وثلاثة غير فاضلة.
1- الرئاسة الفاضلة وغايتها وشروطها ووظيفتها: فيها يكون الرئيس الأول فاضلا ويكون هدفه أن « يلتمس بما يرسم من ذلك أن ينال هو وكل من تحت رئاسته السعادة القصوى التي هي في الحقيقة سعادة »[7]. وهو« الرئيس الأول الفاضل إنما تكون مهنته ملكية مقرونة بوحي من الله إليه، وإنما يقدر الأفعال والآراء التي في الملة الفاضلة بالوحي««»[8].
إذا كانت الرئاسة الفاضلة تقوم على ملة فاضلة، فاللازم من هذا الرئاسات الجاهلة تقوم على ملل فاسدة حيث يقول الفارابي: “والمدن الجاهلة والضالة إنما تحدث متى كانت الملة مبنية على بعض الآراء القديمة الفاسدة “.[9]
الرئاسة التي تقوم على تقدير الرئيس دون الوحي وهي رئاسة غير فاضلة قسمها الفارابي إلى ثلاثة أقسام:
أ – الرئاسة الجاهلية: حيث يكون هدف الرئيس أن « يلتمس بما يرسمه من ذلك أن ينال هو بهم خيرا ،إما الخير الضروري الذي هو الصحة والسلامة ،وإما يسار وإما لذة وإما كرامة وجلالة وإما غلبة ويفوز هو بذلك الخير ويسعد به دونهم، ويجعل من تحت رئاسته آلات يستعملهم في أن يصل بهم إلى غرضه ويستديمه».[10]
ب الرئاسة الضالة وهي تلك التي فيها: أن« يظن هو بنفسه الفضيلة والحكمة ويظن به ،ويعتقد فيه ذلك من تحت رئاسته من غير أن يكون كذلك ،كأن الذي يلتمس بذلك أن ينال هو ومن تحت رئاسته شيئا يظن به السعادة القصوى من غير أن تكون لها حقيقة.»[11] فهذه الرئاسة واقعة في الضلال، بعيدة عن الصواب ونيل السعادة الحقيقية. وهي تحسب هي وأتباعها على الفضيلة والحق.
ج رئاسة تمويه
حيث «يتعمد ذلك ومن تحت رئاسته لا يشعرون بذلك ، فان أهل رئاسته يعتقدون فيه ويظنون به الفضيلة والحكمة، ويكون ملتمسه بما يرسمه إما في الظاهر، فأن ينال هو وهم السعادة القصوى وإما في الباطن فان ينال بهم احد الخيرات الجاهلية».[12]
فهذه الرئاسة تختلف عن الرئاسة الضالة والجاهلية، حيث أن الرئيس الأول فيها يقوم عمدا بخداع الناس والتمويه عليهم بقصد ؛ فأتباعه يظنون أنهم سيحصلون على السعادة القصوى، لكن في الحقيقة فهو يستغلهم لتحقيق مآربه الشخصية والدنيوية من مال أو لذة أو جاه.
المستهدفون بالملة
قد ورد هذا التعبير في التعريف الذي قدمه فيلسوفنا في لفظة الجمع وحدد فيه أنواع هذا الجمع الذي يتوجه إليه الرئيس الأول لدين ما. فيقول الفارابي :«الجمع إما أن يكون عشيرة ،أو مدينة أو تكون صقعا، أو امة عظيمة وربما كان أمما كثيرة».[13]
غاية الملة: في الحقيقة قد يكون غرض الرئيس الأول للملة إما من اجل أتباعه أو من اجل الرئيس الأول وحده كما نجد في تعريف الفارابي:«…يلتمس أن ينال باستعمالهم لها غرضا له فيهم أو بهم محدودا».
لكن ما هي غاية الدين؟ فالرئيس الأول هو الذي يحدد غرض الدين وغايته، فلكل دين غاية تتبع نوع الرئاسة الأولى فيه:
ففي الرئاسة الأولى الفاضلة، تقدر الآراء والأفعال في الدين بحيث تكون « إذا استعملت في المدن والأمم عمرت بها مساكنهم ونال بها أهلها الخيرات في هذه الدنيا والسعادة القصوى في الحياة الآخرة»[14].
وكذلك أن تكون في المدن « ملة مشتركة تجتمع بها آراءهم واعتقاداتهم وأفعالهم، وتأتلف بها أقسامهم وترتبط وتنتظم، وعند ذلك تتعاضد أفعالهم وتتعاون حتى يبلغوا الغرض الملتمس وهو السعادة القصوى ».[15] فالنص يشير إلى الوظيفة السياسية (تجتمع بها آراءهم واعتقاداتهم وأفعالهم) والوظيفة الاجتماعية (تأتلف بها أقسامهم وترتبط وتنتظم ) والوظيفة الأخلاقية ( تتعاضد أفعالهم وتتعاون ) والوظيفة الروحية ( حتى يبلغوا الغرض الملتمس وهو السعادة القصوى).
فهذا النص يلخص أدوار الملة[16] السياسية والاجتماعية والأخلاقية والروحية.
وفي الرئاسة الجاهلية وهي رئاسة غير فاضلة، حيث يكون هدف الملة وغايته تحقيق الخيرات الدنيوية؛ إما للرئيس الأول من خلال استغلال أتباعه لتحقيق هذه المصالح الدنيوية، وإما للأتباع والجمهور وإما للرئيس والجمهور معا.
وفي الرئاسة الضالة، يظن الرئيس الأول للدين وأتباعه أنهم يحققون من خلال الآراء والأفعال المقدرة في دينهم السعادة الحقيقية؛ لكنهم في واقع الأمر بعيدون كل البعد عن تحقيق هذه السعادة الحقيقية.
أما رئاسة التمويه، حيث يقوم الرئيس بخداع أتباعه والتمويه عليهم، مدعيا ومتظاهرا بأنه يمتلك الفضيلة والحكمة. وأن غايته تحقيق السعادة القصوى لهم فمن خلال هذه الخداع والتمويه يحصل على الخير لنفسه فقط.
من خلال ما تقدم يمكن القول، بان غاية الرئاسة الفاضلة غاية مزدوجة الدنيا والآخرة، في حين أن الرئاسات الجاهلية تقتصر غايتها على الدنيا فقط، كتاب الملة يستحضر الملل السماوية باعتبارها ملل فاضلة فهنا المرجعية الدينية للفارابي حاضرة في خلفيته الفكرية والفلسفية.
إشكال التسمية: الملة/الدين
ما الفرق بين الدين والملة عند الفارابي؟
ما يلاحظ على كتابات الفارابي أنه يستعمل الملة في أغلبها إلا في موضعين اثنين :الموضع الأول في “فصول منتزعة” حيث يقول: «حملة الدين وذوو الألسنة وهم الخطباء والبلغاء والشعراء والملحنون والكتاب» [17] ، والموضع الثاني في كتاب “الملة” حيث يقول:« والملة والدين يكادان يكونان اسمين مترادفين، وكذلك الشريعة والسنة، فإن هذين إنما يدلان ويقعان عند الأكثر من الأفعال المقدرة من جزأي الملة، وقد يمكن أن تسمى الآراء المقدرة أيضا شريعة، فيكون الشريعة والملة والدين أسماء مترادفة»[18].
يبدأ الفارابي بالشك في ترادف الملة والدين، لينتهي في الأخير إلى ترادف الملة والدين والشريعة، في جل كتاباته يستعمل الفارابي لفظ الملة وليس لفظ الدين من جهة، كما أن الدين والملة غير مترادفان، بل يكاد يكونان مترادفان من جهة أخرى، فالشريعة والملة والدين أسماء مترادفة ربما عند أكثر الناس وليس عنده، لا يشرح الفارابي الفروق الدقيقة بين هذه المصطلحات، ولا يبرر لاستعماله الملة عوض الدين؟ فهذه واحدة من الصعوبات في فهم قصد الفارابي؛ لكن من خلال الوقوف على دلالة الملة والدين لغويا واصطلاحيا يمكن أن نتلمس عناصر الإجابة على هذا الإشكال.
الأصل اللغوي للملة
قال الألوسي: «الملة في الأصل اسم من أمللت الكتاب بمعنى أمليته ،كما قال الراغب، ومنه طريق ملول أي مسلوك معلوم كما قال الأزهري، ثم نقلت إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يمليها النبي صلى الله عليه وسلم»[19] ، وفي حد القرطبي نجد أن الملة هي الدين والشريعة حيث يقول :”والملة بكسر الميم وتشديد اللام، تطلق في اللغة على الدين والشريعة .[20]
الملة بمعنى السنة والطريقة : في لسان العرب: تقول العرب هذا طريق مملول أي مسلوك ومعلوم[21] ، ومن هذا قوله تعالى:« ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه» [22] ، قال ابن كثير «: قوله تعالى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم أي طريقه ومنهجه»..
وقال البغوي: الملة هي الطريقة. [23]
في الخطاب القرآني، ترد لفظة الملة تارة بمعنى الدين الحق وتارة الديانات الباطلة والمحرفة : حيث قال الله تعالى : «إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم كافرون».[24]
قال ابن كثير أي هجرت طريق الكفر وسلكت طريق هؤلاء المرسلين.[25] وقوله تعالى: «ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق».[26]
قال ابن كثير: أي ما سمعنا بهذا الذي يدعون إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة.[27]
قال الله تعالى: «ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه».[28] وقوله تعالى:« دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ».[29]
وقوله تعالى: «ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ».[30] في سياق هذه الآيات قال الباحث ناصر القفاري «إن المشهور عند الأئمة كالإمام احمد وغيره استعمال لفظة الملة بالمعنى العام أي على الديانات السماوية والنحل البشرية ، يمكن أن يقال بان الملة إذا أدخلت عليها “ال” الاستغراقية فه مخصوصة بالدين الذي شرعه الله وانزله على أنبيائه، وإن تجردت من “ال” فهي بحسب ما تضاف إليه»[31].
يمكن أن نجد عند الجرجاني حلا لإشكال ترادف الملة والدين والشريعة عند الفارابي، حيث قال:” والملة والدين يكادان يكونان اسمين مترادفين وكذلك الشريعة والسنة فان هذين إنما يدلان ويقعان عند الأكثر على الأفعال المقدرة من جزأي الملة، وقد يمكن أن تسمى الآراء المقدرة أيضا شريعة، فيكون الشريعة والملة والدين أسماء مترادفة “[32].
يقول الجرجاني في التعريفات:« إن الدين والملة متحدات بالذات ومختلفات بالاعتبار ؛فان الشريعة من حيث أنها تطاع تسمى دينا ومن حيث أنها تجمع تسمى ملة؛ ومن حيث أنها يرجع إليها تسمى مذهبا، وقيل الفرق بين الدين والملة والمذهب، أن الدين منسوب إلى الله تعالى، والملة منسوبة إلى الرسول، والمذهب منسوب إلى المجتهد» .[33]
أما القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القران :«”الملة اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه على السنة رسله فكانت الملة والشريعة سواء، فأما الدين فقد فرق بينه وبين الملة والشريعة و فان الملة والشريعة ما دعا الله عباده إلى فعله والدين ما فعله العباد عن أمره»[34]، من خلال هذا القول يمكن التمييز بين الآراء باعتبارها ملة والدين باعتباره أفعال وممارسات متحققة في الواقع.
فمن خلال هذه التعريفات المعجمية والاصطلاحية، تظهر الاختلافات بين الدين والملة من جهة والشريعة والملة من جهة أخرى، ومن ثم ذهبت بعض التعريفات في اتجاه ما ذهب إليه الفارابي من إشارة ضمنية دون بيان الاختلافات الممكنة بين الملة والدين، فالدين منسوب إلى الله والملة منسوبة إلى واضعها حسب الجرجاني، والملة قد تكون إلهية أو إنسانية؛ فالفارابي في تحديده للملة لم يكن يقصد ملة الإسلام، بل كان يتحدث بصفة عامة عن الملل.
الملة الفاضلة شبيهة بالفلسفة: ما طبيعة العلاقة بين الملة والفلسفة ؟
يعتبر الفارابي الملة الفاضلة شبيهة بالفلسفة، سواء في جزئها النظري أو العملي حيث يقول :«الملة الفاضلة شبيهة بالفلسفة، كما أن الفلسفة منها نظرية ومنها عملية، فالنظرية الفكرية هي التي إذا علمها الإنسان لم يمكنه أن يعملها، والعملية هي التي إذا علمها الإنسان أمكنه أن يعملها؛ والعملية في الملة هي التي كلياتها في الفلسفة العملية والآراء النظرية التي في الملة براهينها في الفلسفة النظرية ،وتؤخذ في الملة بلا براهين ،فإذن الجزءان اللذان منهما تلتئم الملة هم تحت الفلسفة».[35]
الملة شبيهة بالفلسفة ويعني ذلك وجود تناظر بين جزئي كل واحدة منها، فالملة مثلها الفلسفة نظرية وعملية [36] . فهذا التناسب لا يمكن أن يرفع إلى مرتبة التطابق بما سيؤدي إلى سوء الفهم فالفرق الجوهري يكمن في : جهة القصد حيث الفلسفة تقصد الخاصة والملة تقصد عموم الناس، ومن جهة في شكل القصد: فالفلسفة تتشكل في المفاهيم العقلية والقياسات البرهانية بينما تتشكل الملة في الصور المجازية وفي القياس التمثيلي الإقناعي.
العلاقة بين الفلسفة والملة في الجزء العملي هي علاقة بين كليات غير مقيدة بشرائط ( كليات عملية فلسفية هي كليات مجردة) وكليات مقيدة بشرائط ومقدرة ومحددة (الكليات العملية الملية وهي كليات محددة) ولذلك استعمل الفارابي للدلالة على هذا التقييد والتقدير والتحديد مفهوم الشرائع الفاضلة وجعلها في صيغة الجمع .فقوانين الاجتماع المدني واحدة كونية ثابتة بينما تلك الشروط خاصة بأمة دون امة وبمدينة دون مدينة وهي متغيرة متقلبة ومن منظور هذه العلاقة تكون الملة جزءا من الفلسفة مادامت المدن تعينات جزئية لقانون كلي.
أما علاقة الفلسفة بالملة فيما يتعلق بالجزء النظري فهي علاقة التأسيس البرهاني، فآراء أهل المدينة الفاضلة هي أراء توضع وتعتقد بوصفها مسلمات وبراهين هذه الآراء توجد في الفلسفة النظرية. لذلك يقول الفارابي :”والفقه في الأشياء العملية من الملة مشتمل إما على جزئيات الكلية التي تحتوي عليها الفلسفة النظرية وإما على ما هي مثالات لأشياء تحت الفلسفة النظرية فهو إذن جزء من الفلسفة النظرية وتحتها والعلم النظري هو الأصل”.[37]
فالملة إذن تحت الفلسفة مادامت براهين الآراء الملية النظرية لا تكون إلا بعلم نظري.
من خلال ما سبق نستشف أهمية دور كل من الملة والفلسفة في المدينة الفاضلة.
يرد قول الفارابي في الموضوع وفي سياق فحصه للحاجة إلى وضع النواميس وملائمتها لمستوى إدراكات الجمهور وكذا تحديد دلالة عبارة وضع النواميس ومقوماتها وفي الأخير نشأة الملة.
يقول الفارابي:« ومن بعد هذه كلها يحتاج إلى وضع النواميس، وتعليم الجمهور ما قد استنبط وفرغ منه وصحح بالبراهين من الأمور النظرية، وما استنبط بقوة التعقل من الأمور العملية، وصناعة وضع النواميس فهي الاقتدار على جودة تخييل ما عسر على الجمهور تصوره من المعقولات النظرية، وعلى جودة استنباط شيء من الأفعال المدنية النافعة في بلوغ السعادة وعلى جودة الإقناع *في الأمور النظرية والعملية التي سبيلها أن يعلمها الجمهور؛ بجميع طرق الإقناع، فإذا وضعت النواميس في هذين الصنفين وانضاف إليها الطرق التي بها يقنع ويعلم ويؤدب الجمهور فقد حصلت الملة التي بها علم الجمهور وأدبوا واخذوا بكل ما ينالون به السعادة».[38]
بعد اكتمال الطرق المختلفة في تحصيل الحقيقة منها الخاصة بالفيلسوف أي البرهانية والمشتركة للجميع أي الخطبية والشعرية والجدلية وهو ما يرتبط بنظرتي العلم والتعليم، وينعكس هذا الاختلاف في طرق تحصيل المعرفة وطرق الإقناع على تقسيم المجتمع إلى فئات مختلفة.
صناعة وضع النواميس تتضمن القيام بثلاث أشياء:
أولا: التخيل التام للمعقولات النظرية التي يصعب على الجمهور إدراكها.
ثانيا: استنباط أي فعل مدني يفيد في تحصيل السعادة.
ثالثا: الإقناع التام بالأمور النظرية والعملية كما استخدام كل طرق الإقناع والتعليم والتأديب، فالملة تتضمن هذين الأمور النظرية والعملية كما تتضمن إضافة إلى ذلك الطرق التي يمكن بواسطتها إقناع الجمهور وتعليمه وتشكيل طباعه.
تظهر الحاجة إلى الملة حسب الفارابي بعد اكتمال الصنائع النظرية والعملية أي بعد ظهور الفلسفة أولا، ثم تكون وظيفة الملل في نقل الحقيقة إلى الجمهور بالوسائل المناسبة لإدراكها.
لأن الحقائق الفلسفية النظرية والعملية، ضرورية في نيل السعادة سواء للجمهور والخاصة لا تحصل إلا في المدينة، ونظرا إلى أن الفيلسوف يتصورها معقولة، ونظرا إلى تفاوت الناس قي طرق الاقتناع وقصور الجمهور عن تصور الحقائق المعقولة؛ كانت الملة ضرورية في المدينة وللإنسان.
الأساس الفلسفي للملة: “تبعية” الملة للفلسفة
يرى أبو نصر الفارابي أن الملة تابعة للفلسفة سواء كانت يقينية أو مظنونة، ويتساءل:متى تكون الملة صحيحة وفي غاية الجودة؟ وكيف تحصل الملة الفاسدة في الأمم؟
نشير إلى هذه القضايا حتى نتمكن من معرفة أدوارها السياسية وحدود أدوارها.
يقول الفارابي: «فإذا كانت الملة تابعة للفلسفة التي كملت بعد أن تميزت الصنائع القياسية، كلها بعضها عن بعض على الجهة والترتيب الذي اقتضينا كانت ملة صحيحة في غاية الجودة، فأما إذا كانت الفلسفة لم تصر بعد برهانية يقينية في غاية الجودة، بل كانت بعد تصحح آراؤها بالخطبية أو الجدلية أو السفسطائية، لم يمتنع أن تقع فيها كلها أو في جلها أو في أكثرها أراء كلها كاذبة لم يشعر بها، وكانت فلسفة مظنونة أو مموهة، فالملة الصحيحة إنما تحصل في الأمة متى كان حصولها فيهم على الجهة الأولى والملة الفاسدة تحصل فيهم متى كان حصولها على الجهة الثانية. إلا أن الملة على الجهتين إنما تحدث بعد الفلسفة، إما بعد الفلسفة اليقينية التي هي الفلسفة في الحقيقة وإما بعد الفلسفة المظنونة التي يظن بها إنها فلسفة من غير أن تكون فلسفة في الحقيقة، وذلك متى كانت كان حدوثها فيهم عن قرائحهم وفطرهم من أنفسهم».[39]
الملة الصحيحة هي الملة التي تتأسس على فلسفة صحيحة، وعندما لا تكون الفلسفة كذلك، فإنها قد تتضمن آراء كاذبة، وإذا ما تأسست ملة على هذه الفلسفة ستكون أيضا متضمنة للكثير من الآراء الكاذبة، تستطيع الملة الصحيحة أن توجد فقط بعد الفلسفة الحقة، فالملل الفاسدة توجد بعد الفلسفة ما قبل البرهانية وهذه البعد قد تستمر أثناء ظهور الفلسفة وحتى بعدها، يشير ما ورد أعلاه إلى فقط إلى تطور الفلسفة والملة داخل الأمة نفسها ،وانطلاقا من استعدادها الفطري وبيئتها الطبيعية.[40]
ما يلاحظ على سياق المعنى لذي يرد به الملة في الحروف هو الحديث عنها في إطار تطورها الطبيعي ،ولم يشر إلى الأديان السماوية وإنما تكلم عن نوعين من الملل يحدثان في الأمة نتيجة للتطور التاريخي: الأولى تحدث بعد اكتمال الفلسفة البرهانية اليقينية وهي ملة صحيحة والثانية قد تحدث قبل اكتمال الفلسفة البرهانية أو بعدها لكنه تكون مشتقا من الفلسفة غير البرهانية مظنونة أو مموهة وهي ملة فاسدة.
الفلسفة والدين: وحدة الغاية واختلاف الوسيلة
كيف يحصل العلم بالموجودات وما طبيعة هذا العلم؟ ما هوية الفلسفة والملة وبماذا يتميز كل واحد عن الأخر ؟ فيما تحاكي الملة الفلسفة وغاية كل واحدة منهما ؟
يقول الفارابي:« ومتى حصل علم الموجودات أو تعلمت فان عقلت معانيها أنفسها ؛وأوقع التصديق بها عن البراهين اليقينية كان العلم المشتمل على تلك المعلومات فلسفة ومتى علمت بان تخيلت بمثالاتها التي تحاكيها /وحصل التصديق بها خيل منها عن الطرق الإقناعية، كان المشتمل على تلك المعلومات يسميه القدماء ملة، وإذا أخذت تلك المعلومات أنفسها واستعمل فيها الطرق الإقناعية سميت الملة المشتملة عليها الفلسفة الذائعة البرانية والمشهورة، فالملة محاكية للفلسفة عندهم وهما تشتملان على موضوعات بأعيانها وكلتاهما تعطيان علم المبدأ الأول والسب الأول للموجودات وتعطيان الغاية القصوى التي لأجلها كون الإنسان وهي السعادة القصوى وكل ما تعطيه الفلسفة من هذه معقولا أو متصورا، فإن الملة تعطيه متخيلا، وكل ما تبرهنه الفلسفة من هذه فان الملة تقنع»[41]
الملة ليست الشائع من الآراء ولا هي الفلسفة؛ ولكنها محاكية لها لان موضوعهما هو واحد. فإذا كانت الفلسفة معرفة بالموجودات والأفعال عن طريق البرهان، فإن هذه الموجودات متى علمت بان تخيلت مثالاتها التي تحاكيها وحصل التصديق بها بما خيل منها عن الطرق الإقناعية، كان المشتمل على تلك المعلومات تسميه القدماء ملة . من مهامها تعليم الجمهور الحقائق النظرية والعملية التي تستنبط في الفلسفة بالبرهان مع مراعاة التفاوت الموجود في مستويات التصديق المختلفة، فيلجأ إلى التخييل بصفة خاصة ومحاكاة المعقولات النظرية بمثالاتها، فأسلوب الملة خاص بالجمهور، أما أسلوب الفلسفة فلا يراعي إلا فئة قليلة من أهل المدينة، تأتي الملة هنا في سياق العلاقة بين الفلسفة والملة وتقريب الفلسفة من المجال التداولي الإسلامي، الملة هي فلسفة الجمهور التي تحصل عندهم في شكل أراء ويكون ذلك بالطرق الإقناعية وهي بذلك فلسفة ذائعة مشهورة برانية تكون محاكية للفلسفة.
وهذا نفسه ما نجده في فحص الفارابي للموضوع في كتاب السياسية المدنية، حيث يميز بدقة بين التصور من جهة والتخييل من جهة أخرى، كما يفسر علة اختلاف طرق الناس في إداركهم الحقائق بين الخاصة والعامة.
يقول الفارابي في كتابه “السياسة المدنية”:” مبادئ الموجودات ومراتبها والسعادة ورئاسة المدن الفاضلة إما أن يتصور ها الإنسان ويعقلها وإما أن يتخيلها، وتصورها هو أن ترتسم في نفس الإنسان ذواتها كما هي موجودة في الحقيقة. وتخيلها هو أن ترتسم في نفس الإنسان خيالاتها ومثالاتها وأمور تحاكيها…وأكثر الناس لا قدرة لهم إما بالفطرة وإما بالعادة على تفهم تلك وتصورها، فأولائك ينبغي أن تخيل إليهم مبادئ الموجودات ومراتبها والعقل الفعال والرئاسة الأولى كيف تكون بأشياء تحاكيها، ومعاني تلك وذواتها هي واحدة لا تتبدل…ولذلك أمكن أن تحاكي هذه الأشياء لكل طائفة ولكل أمة، بغير الأمور التي تحاكى بها للطائفة الأخرى أو للأمة الأخرى، فلذلك يمكن أن تكون أمم فاضلة ومدن فاضلة تختلف مللهم وإن كانوا كلهم يؤمون سعادة واحدة بعينها، فإن الملة هي رسوم هذه أو رسوم خيالاتها في النفوس”[42].
من خلال هذا القول يمكن أن نحدد موضوعاته: أولا يعرف الفارابي لملة وما فعلها وكيف تفعل في الإنسان (الملة هي رسوم هذه أو رسوم خيالاتها في النفوس ثانيا الإقرار بتعدد الملل والغاية واحدة (يمكن أن تكون أمم فاضلة وأمم فاضلة تختلف مللهم وإن كانوا كلهم يؤمون سعادة واحدة) ثالثا الملة ضرورية للناس والأمم (أكثر الناس لا قدرة لهم إما بالفطرة وإما بالعادة على تفهم تلك وتصورها فأولائك ينبغي أن تخيل إليهم مبادئ الموجودات) رابعا أسلوب الملة يعتمد عل المحاكاة (لذلك أمكن أن تحاكي هذه الأشياء لكل طائفة ولكل امة بغير الأمور التي تحاكى بها للطائفة الأخرى أو للأمة الأخرى).
يؤكد الفارابي على أهمية الفلسفة والملة في المدينة، مهمة الملة إذن أن تخاطب الجمهور وتجعله يدرك عن طريق التخييل والإقناع ،يدركه الحكيم عن طريق التصور والإدراك العقلي، ولذلك بالرغم من اختلاف الملل فان لها معنى واحدا لا لأنها تقول نفس الشيء وتثبت ذات الحقائق، بل لأنها تقوم بنفس الوظيفة وظيفة تخييل مبادئ الموجودات ومراتبها لعقول العامة.
وفي سياق فحص الفارابي للأشياء المشتركة، التي ينبغي أن يعلمها أهل المدينة الفاضلة؛ يبين بشكل دقيق جهات معرفة هذه الأشياء ومبادئ هذه المعرفة والتمييز بين الخاصة والعامة في طرق إدراك المعرفة.
يقول الفارابي:” الأشياء المشتركة التي ينبغي أن يعلمها جميع أهل المدينة الفاضلة فهي أشياء أولها معرفة السبب الأول وجميع ما يوصف به، ثم الأشياء المفارقة للمادة وما يوصف كل واحد منها بما يخصه من الصفات والمرتبة إلى أن تنتهي من المفارقة إلى العقل الفعال, وفعل كل واحد منها؛ ثم الجواهر السماوية وما يوصف كل واحد منها,ثم الأجسام الطبيعية التي تحتها، كيف تتكون وتفسد، وأن ما يجري فيها يجري على أحكام وإتقان وعناية ,وعدل وحكمة، وأنه لا إهمال فيها ولا نقص ولا جور ولا بوجه من الوجوه ؛ ثم كون الإنسان وكيف تحدث قوى النفس، وكيف يفيض عليها العقل الفعال الضوء حتى تحصل المعقولان الأول، والإرادة والاختيار ثم الرئيس الأول وكيف يكون الوحي؛ ثم الرؤساء الذين ينبغي أن يخلفوه إذا لم يكونوا هم في وقت من الأوقات، ثم المدينة الفاضلة وأهلها والسعادة التي تصير إليها أنفسهم، والمدن المضادة لها وما تؤول إليها أنفسهم بعد الموت: إما بعضهم إلى الشقاء وإما بعضهم إلى العدم، ثم الأمم الفاضلة والأمم المضادة لها. وهذه الأشياء تعرف بأحد الوجهين: إما أن ترتسم في نفوسهم كما هي موجودة وإما أن ترتسم بالمناسبة والتمثيل، وذلك أن يحصل في نفوسهم مثالاتها التي تحاكيها، فحكماء المدينة الفاضلة هم الذين يعرفون هذه براهين وببصائر أنفسهم، ومن يلي الحكماء يعرفون هذه على ما هي عليه موجودة ببصائر الحكماء إتباعا لهم وتصديقا لهم وثقة بهم، والباقون منهم يعرفونها بالمثالات التي تحاكيها لأنها لا هيئة في أذهانهم لتفهمها على ما هي موجودة إما بالطبع وإما بالعادة وكلتاهما معرفتان…وتحاكي هذه الأشياء لكل أمة ولأهل كل مدينة بالمثالات التي عندهم الأعرف فالأعرف، وربما اختلف عند الأمم إما أكثره وإما بعضه،…لذلك يمكن أن يكون أمم فاضلة ومدن فاضلة تختلف ملتهم فهم كلهم يؤمنون سعادة واحدة بعينها مقاصد واحدة بأعيانها”.[43]
يمدنا هذا القول بما يجب على أهل المدينة الفاضلة أن يشتركوا في معرفته:
أولا: معرفة السبب الأول وجميع ما يوصف به: السبب الأول هو الله خالق الأشياء جميعا، فهو السبب لوجود سائر الموجودات.
ثانيا: معرفة الأشياء المفارقة (العقول العشرة)كيفية فيضها وتسلسلها وأنحاء ترابطها وأوصافها إلى أن تنحدر إلى العقل الفعال المكلف بتدبير الأرض أو عالم الكون والفساد بلغة القدماء، وله دور حاسم في مصير الإنسان.
ثالثا: معرفة الجواهر السماوية وهي الأجرام السماوية.
رابعا: معرفة الأجسام الطبيعية وفحصها من اجل معاينة الإتقان والعدل والعناية الإلهية المبسوطة فيها.
خامسا: معرفة النفس البشرية وقواها[44]، والإرادة والاختيار[45].
سادسا :معرفة الرئيس الأول وكيف يوحى إليه[46] وكيف يخلفونه إذا غاب.
سابعا: معرفة ماهية المدينة الفاضلة وأهلها ،والسعادة التي تصير إليها أنفسهم والمدن المضادة لهم ،وما تؤول إليهم أنفسهم بعد الموت إما بعضهم إلى السعادة وإما بعضهم إلى العدم[47]، ثم الأمم الفاضلة والأمم المضادة لها.
تلك هي الأشياء المشتركة، لكن ما هو طريق المعرفة بها ؟
هذه المعرف تتم على وجهين: الوجه الأول فلسفي حيث ترتسم في نفوس أهل المدينة الفاضلة الأشياء التي ذكرنا ها في السابق كما هي موجودة، والفارابي يحيل هنا إلى البرهان.
أما الوجه الثاني :تصويري حيث ترتسم فيهم بالمناسبة والتمثيل، وذلك أن يحصل في نفوسهم مثالاتها التي تحاكيها. فالملة هنا تحيل إلى نظام ثقافي رمزي لمواطني المدينة الفاضلة وهي مجموع الأفكار المشتركة بينهم حول العالم والإنسان والحياة المدنية، و لكنهم سوف يختلفون عن بعضهم البعض تبعا لميزة هذه المعرفة وبالتالي تبعا لنصيبهم من الكمال أو السعادة ويمكن تقسيمهم إلى ثلاث طبقات:
الحكماء أو الفلاسفة الذين يعرفون طبيعة الأشياء بواسطة الأدلة المبرهنة وبفضل بصائرهم الخاصة.
أتباع الحكماء الذين يعرفون طبيعة الأشياء، بواسطة البراهين التي يقدمها الفلاسفة والذين يثقون ببصيرة الفلاسفة ويصدقون حكمهم.
باقي المواطنين الذين يعرفون الأشياء بالمثالات التي تحاكيها بعضهم يعرفها بمثالات قريبة منها، وبعضهم بمثالات أبعد وذلك تبعا لمرتبتهم كمواطنين.
ومادامت الأمم تختلف في طبيعتها وفي مثالاتها ، هناك مدن فاضلة وملل مختلفة تقصد سعادة واحدة، لكن التعبير عنها يختلف من امة إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى .فالأشياء المشتركة لأهل المدينة مهما كانت طبيعة هذه المدينة هي الآراء التي حين تتأسس عليها سياسة المدينة وثقافتها تتخذ شكل ملة.
وحسب الباحث المغربي محمد قشيقش:“إن السبب الذي جعل الفارابي يوطئ لفلسفته السياسية بنظريته في الوجود ومبادئه هو انه لن يحصل الإنسان السعادة إلا إذا حصل المعرفة اليقينية بكل الموجودات بمبادئها الحقة ، ثم المعرفة اليقينية بالسعادة الحقة، ثم العلم بماهية الرئاسة الأولى للمدينة الفاضلة ومراتبها ؛لذلك لن يحصل الإنسان الغاية من الوجود إلا بمجاهدة النفس على المستويين المعرفي والأخلاقي :فتحصل بالمجاهدة الأخلاقية الفضائل الخلقية أو الخيرات الحقة أداة لدفع الشرور ويصبح بها فاضلا، ويحصل بالمجاهدة المعرفية الاتصال بالعقل الفعال والذي به تصبح النفس مفارقة فيحصل له الخلود .تحصل السعادة الحقة بالعلم الحق والسيرة الفاضلة .وهذا نفسه نهج أفلاطون كما بسطه في محاورة فيلبص“.[48]
من خلال النصوص السالفة الذكر تتجلى بشكل واضح وعميق دفاع الفارابي عن أطروحة مفادها ضرورة الملة للمدينة الفاضلة وسعادة الإنسان.
خاتمة :
تختلف دلالات الملة في كتب الفارابي بين كتاب الملة التي تحضر في سياق الحديث عن الأديان السماوية التي مصدرها الوحي، وكذا دورها السياسي في جمع الناس وتوحيد آرائهم، و كتاب الحروف، فتحضر الملة في سياق الصلة التاريخية بين الفلسفة و الملة، بدون الحديث عن مصدرها الإلهي؛ بل في إطار نشأتها الطبيعية والتاريخية.
أما في التحصيل والسياسة المدنية، فتحضر في سياق دورها التربوي والتعليمي وقدرتها على مخاطبة الجمهور، وتربيتهم وتعليمهم الآراء والأفعال الفاضلة، والجدير بالإشارة أن للملة إمكانيات مهمة لتتلاءم مع تغيرات الأزمان، وتصبح صالحة لكل مكان وزمان عن طريق الاجتهاد وصناعة الفقه، ونظرا لتعدد الأقوام والمدن الفاضلة، فإن الملل هي الأخرى متعددة وفاضلة، تقصد نفس الغاية ألا وهي السعادة.
قائمة المصادر والمراجع:
- أبو الفضل جمال الدين ابن منظور، لسان العرب، تحقيق دار صادر بيروت ، ط3 ،الجزء الحادي عشر.
- أبو نصر الفارابي ، الملة ونصوص أخرى ، تحقيق محسن مهدي ، دار المشرق ، بيروت ، 1968
- أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية، الملقب بمبادئ الموجودات، حققه وقدم له وعلق عليه، الدكتور فوزي متري نجار، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية، 1993.
- أبو نصر الفارابي، أراء أهل المدينة الفاضلة تقديم صلاح الدين الهواري، المكتبة العصرية، بيروت 2012.
- أبو نصر الفارابي، الحروف تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت1970.
- أبو نصر الفارابي، فصول منتزعة ،تحقيق فوزي متري نجار، دار المشرق ،بيروت 1971.
- أبو نصر الفارابي، تحصيل السعادة تحقيق جعفر الياسين، بيروت، دار الأندلس 1980.
- الألوسي، روح المعاني، تحقيق عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية، بيروت ، ط 1 ، 1415 ه .
- القرطبي، الجامع لأحكام القران، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم اطفيش، دار الكتب المصرية القاهرة، ط2 1964 الجزء الثاني.
- البغوي، معالم التنزيل، تحقيق محمد عبد الله النمر – عثمان جمعة ضميرية – سليمان مسلم الحرش، دار طيبة للنشر والتوزيع ، ط 4، 1417 هـ – 1997.
- الجرجاني،التعريفات، حرف الدال ،دار الكتب العلمية ،بيروت، لبنان
- تفسير ابن كثير، تحقيق سامي محمد بن سلامة، دار طيبة 1999.
- حنا الفاخوري وخليل الجر في تاريخ الفلسفة العربية، ج2 دار الجيل، بيروت 1993.
- محمد قشيقش، نظرية الإنسان في فلسفة الفارابي، بيروت دار التنوير 2011.
- ناصر القفاري، مقدمة في الملل والنحل، مدار الوطن للنشر، الرياض، 2006.
[1] أبو نصر الفارابي، الملة ونصوص أخرى ، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت ، 1968، ص 43.
[2] . “إن الإرادة إنما هي أولا شوق عن إحساس، والشوق يكون بالجزء النزوعي والإحساس بالجزء الحاس، ثم يحصل من بعد ذلك الجزء المتخيل من النفس والشوق التابع له فتحصل إرادة ثانية بعد الأولى. فإن هذه الإرادة هي شوق عن تخيل. فمن بعد أن يحصل هذان يمكن أن تحصل المعارف الأول التي تحصل من العقل الفعال في الجزء الناطق. فيحدث حينئذ في الإنسان نوع من الإرادة ثالث وهو الشوق عن نطق، وهذا هو المخصوص باسم الاختيار″ أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية، الملقب بمبادئ الموجودات، حققه وقدم له وعلق عليه، الدكتور فوزي متري نجار، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية، 1993، ص 72.
[3] المصدر السابق، ص 45.
[4] يذكر الفارابي حديث أفلاطون عن الشعر والخبر المشهور المتداول بين الناس في مدح بعض واضعي النواميس. تلخيص نواميس أفلاطون ص 37.
[5] المصدر السابق، ص 46.
[6] المصدر السابق، ص 46.
[7] المصدر السابق ،ص 43.
[8] المصدر السابق، ص 44.
[9] الفارابي ،أراء أهل المدينة الفاضلة ص 103.
[10] المصدر السابق، ص 43.
[11] المصدر السابق، ص 44.
[12] المصدر السابق، ص 44.
[13] انظر الإحالة رقم 1 ص 2.
[14] المصدر السابق، ص 54.
[15] المصدر السابق، ص 66.
[16] هناك دور تربوي للملة يشير إليه الباحث المغربي محمد قشيقش في كتابه” نظرية الإنسان في فلسفة الفارابي” حيث يقول :ولما كان ليس بإمكان جميع الناس تحصيل جميع أجناس الفضائل بالنظر ألبرهاني لزم استعمال أساليب تعليمية تناسب الطبائع المختلفة، وهذه طريقة الملة في وظيفتها التربوية في المدينة ص 482.
[17] فصول منتزعة، ص 18 يستحضر الفارابي لفظة الدين في سياق حديثه عن فئات علماء المدينة الفاضلة.
[18] الملة ،ص 46 يستحضر الفارابي لفظة الدين في سياق تحديد ماهية الملة.
[19] الألوسي ،روح المعاني، تحقيق عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 ، الجزء الأول، ص 488.
[20] القرطبي، الجامع لأحكام القران، تحقيق أحمد البردوني وابرا هيم اطفيش، دار الكتب المصرية القاهرة، ط2 ،1964 ، الجزء الثاني، ص 132.
[21] أبو الفضل جمال الدين ابن منظور، لسان العرب، تحقيق دار صادر بيروت ، ط3 ،الجزء الحادي عشر، ص 628.
[22] سورة البقرة ، الآية 130.
[23] البغوي، معالم التنزيل، تحقيق محمد عبد الله النمر – عثمان جمعة ضميرية – سليمان مسلم الحرش، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط 4، 1417 هـ – 1997 م، الجزء الأول ص143.
[24] سورة يوسف، الآية 37-38.
[25] ابن كثير ، الجزء الرابع ص389.
[26] سورة ص، الآية 7.
[27] ابن كثير، الجزء السابع ص55.
[28] سورة البقرة ،الآية 130.
[29] سورة الأنعام، الآية 161.
[30] سورة البقرة ،الآية 120.
[31] ناصر القفاري، مقدمة في الملل والنحل، مدار الوطن للنشر، 2006، الرياض، ص 97.
[32] الفارابي الملة ص 46.
[33] الجرجاني، التعريفات ،حرف الدال ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1983.
[34] القرطبي ، الجامع لأحكام القران، ص 84.
[35] الملة، ص 46-47.
[36] يقول الفارابي في رسالة التنبيه :”إن جودة التمييز التي بها نحوز وتحصل لنا معارف جميع الأشياء التي للإنسان أن يعرفها. وهي صنفان صنف شانه أن يعلم وليس شانه أن يفعله إنسان، لكن إنما يعلم فقط مثل علمنا أن العالم محدث وأن الله واحد وصنف شانه أن يعلم ويفعل. مثل علمنا أن بر الوالدين حسن وان الخيانة قبيحة…وصناعة الفلسفة صنفين: صنف تحصل به تحصل معرفة الموجودات التي ليس للإنسان فعلها وهذه تسمى النظرية والثاني به تحصل معرفة الأشياء التي شانها أن تفعل والقوة عل فعل الجميل منها وهذه تسمى الفلسفة العملية والفلسفة المدنية والفلسفة المدنية صنفان الصناعة الخلقية والفلسفة السياسية” ص 253-257.
وفي فصول يقول:” فالنظري هو الذي بع يعلم الإنسان الموجودات التي ليس شانها أن نعملها…والعملي هو الذي به تميز الأشياء التي شانها أن نعملها نحن ونغيرها من حال إلى حال” ص 29-30.
[37] الحروف، ص 52.
* جودة الإقناع غير جودة التخييل، فالفرق بينهما أن جودة الإقناع يقصد بها أن يفعل السامع الشيء بعد التصدبق به ؛ وجودة التخييل يقصد بها أن تنهض نفس السامع إلى طلب الشيء المخيل والعرب منه أو النزوع إليه أو الكراهة له وان لم يقع له به تصديق ويقصد بجودة التخييل أن يتحرك الإنسان لقبول الشيء وينهض نحوه وان كان علمه بالشيء يوجب خلاف ما يخيل له فيه انظر فصول منتزعة ص 63-64.
[38] الحروف، ص 152.
[39] الحروف، ص 153-154.
[40] لنا هنا أن نطرح علاقة ملل الوحي بالفلسفة ،ففي حالتي المسيحية والإسلام اللتين ظهرتا بعد فلسفة أرسطو يتعلق الأمر بملتين صحيحتين وفاضلتين لأنهما تاليتان لفلسفة كاملة، فإذا سلمنا بذلك ما ذا يمكن القول حينئذ عن بقية الملل التي لم تظهر بعد فلسفة كاملة ؟هذا السؤال أثاره الأستاذ محمد بن ساسي على نحو مباشر قائلا: لماذا طرح الفارابي مشكلة نقل الملة او انتقالها من امة إلى أخرى ؟ انه لسؤال هام والاهم من طرحه هو تمفصلاته الممكنة هل يعتبر الملة التي وضعت للعرب ملة متأثرة بما سبقها من الملل كالمسيحية واليهودية ولربما كذلك المانوية الزراداشتية والصابئة ،وان هذه الملل أخذت بعضها عن بعض وأنها لا تتفاضل في رأيه ،فيما بينها بل لا يجب بعضها بعضا انظر محمد بن ساسي الفارابي والترجمة، أيام في الترجمة ،عدد 3، المركز الوطني للترجمة ص12.
[41] تحصيل السعادة، ص 90-91.
[42] الفارابي، السياسة المدنية ص 85-86.
[43] الفارابي ،أراء أهل المدينة الفاضلة، قدم لها صلاح الدين الهواري، ص 99-100.
[44] قد قسم الفارابي قوى النفس إلى أربعة : القوة الحاسة والقوة النزوعية والقوة المتخيلة والقوة الناطقة . وقد ذهب إلى أن النفس على كثرة قواها واختلاف أجزائها ،لا تؤلف إلا نفس واحدة, ذلك أن هذه القوى مبنية بعضها على بعض، بحيث تكون كل واحدة منا صورة لما دونها ومادة لما فوقها ” السياسة المدينة ص 4 وما بعدها
[45] نظر الفارابي إلى النفس البشرية نظرة موضوعية . فالإنسان في رأيه مخير بمعنى أنه قادر على أن يبلغ كماله وسعادته القصوى، كما انه في نفس الوقت قادر على إتباع الشر فينتهي في النهابة في الجحيم. فالإنسان يتميز بالعقل والقدرة على الاختيار الذي يستطيع يه” أن يسعى نحو السعادة وان لا يسعى ،وبه يقدر على أن يفعل الخير وان يفعل الشر ، والجميل والقبيح ” السياسة المدنية ص 72 .
[46] يبين لنا الفارابي كيف يكون الوحي : “أن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة جدا، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاء يستغرقها بآسرها، ولا أخدمتها للقوة الناطقة ، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين، فضل كثير تفعل به أيضا أفعالها التي تخصها ، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل تحللها منهما في وقت النوم…..قال الذي يرى ذلك ان لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود شيء منها في سائر الموجودات أصلا، ولا يمتنع أن يكون الإنسان إذا بلغت قوته المتخيلة نهاية الكمال، فيقبل في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة ،أو محاكياتها من المحسوسات ،ويقبل محاكية المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها. فيكون له بما قبله من المعقولات نبوة بالأشياء الإلاهية، فهذا أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة ، وأكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيلة ” أراء أهل المدينة الفاضلة ص 68-69.
[47] اختلف مؤرخو الفلسفة حول رأي الفارابي في مصير النفس بعد الموت : فمنهم من اثبت اعتقاده بخلودها، ومنهم من نفى ذلك، ومنهم من يرى أن الفارابي لم يتخذ رأيا صريحا في هذا الموضوع. انظر حنا الفاخوري وخليل الجر في تاريخ الفلسفة العربية ج2، ص 123.
[48] محمد قشيقش، نظرية الإنسان في فلسفة الفارابي، ص 294.