باجة وأريافها خلال القرن 19: تقنيات بناء المكانات الاجتماعيّة (1847- 1871)
Beja and its countryside during the 19th century: techniques for building social standings (1847-1871)
د.محمد البشير رازقي/كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس
Dr. Mohamed Bechir Rezgui/ Faculty of Humanities and Social Sciences , Tunis
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 81 الصفحة 83.
ملخّص :مثّلت باجة خزّانا استراتيجيّا للسلطة المركزية في الإيالة التونسية، خزّانا بشريّا وغذائيّا وطبيعيا كمصدر أساسيّ للمواد الأوليّة والمنتجات الطبيعيّة. وقد اخترنا لعملنا هذا عنوان: “باجة وظهيرها الجبلي قبل الاستعمار: تقنيات تشكيل النفوذ في البلاد التونسية من خلال نموذج محلّي (1847- 1871)”. تحصّلنا من خلال هذا المقال على نمط لمحاولة فهم الرهانات الداخلية لتاريخ عمل باجة خلال القرن 19. أسّس منطق الثنائيّة إنتاج هذا النمط. مجتمع تراحمي مقابل دولة تعاقدية. سلطة مركزيّة مقابل مجتمع ذو بنيات جغرافية ومناخية واقتصادية تعتمد على الرعي والفلاحة والمتاجرة على الحدود ولا تحتاج إلى الحدود الدقيقة للدولة المركزية، بل تساهم هذه الحدود في تفكيك المنظومة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لأهل الجبل، وهذا ما يؤسس لاندثار كيانهم الحضاري، أي المسألة مسألة وجود. واقتصاد معاشي مقابل اقتصاد دولة ضرائبيّ بامتياز لا يُراعي مسألة استنزاف المجهود الإنتاجي والغذائي والبشري لأهل الجبال.
الكلمات المفتاحية: باجة، القرن 19، بناء المكانة الاجتماعيّة، البلاد التونسيّة، التاريخ المحلّي.
Abstract׃
Beja represented a strategic reservoir for the central authority in the Tunisian province, a human, nutritional and natural reservoir as an essential source of raw materials and natural products. We chose for our work the title: “Beja and its backcountry before colonialism: techniques for shaping influence in the Tunisian country through a local model (1847-1871).” Through this article we have obtained a pattern for trying to understand the internal stakes of the history of Beja’s work during the 19th century. The logic of dualism established the production of this pattern. Compassionate society versus contractual state. A central authority versus a society with geographic, climatic and economic structures that depends on grazing, agriculture and trading on the borders and does not need the precise borders of the central state. Rather, these borders contribute to the dismantling of the social, economic and cultural system of the mountain people, and this is what establishes the extinction of their civilized entity, i.e. the issue is a question of existence. In addition, a subsistence economy versus a state tax economy par excellence, which does not take into account the issue of depleting the productive, food and human effort of the people of the mountains.
Keywords: Beja, the 19th century, building social status, the Tunisian country, local history.
مقدّمة :مثّلت قيادة باجة خزّانا استراتيجيّا للسلطة المركزية في الإيالة التونسية، خزّان بشريّ وغذائيّ وطبيعي كمصدر أساسيّ للمواد الأوليّة والمنتجات الطبيعيّة. ولعبت قيادة باجة دور حلقة الوصل بين مدينة تونس والشمال الغربي الحبوبي الغنيّ، منبعا ضروريّا للغذاء والماء والرجال، والشريط الساحلي المهمّ الرابط بين طبرقة (الحدود الجزائريّة، وصولا إلى سواحل بنزرت[1].وقد أثبتت دراسات عديدة العلاقة المتوتّرة بين ظهير باجة الجبلي والسلطة المركزيّة[2]، وقد استفدنا من مجملها، ونرغب في هذا المقال أن نفهم جوانب أخرى من هذه العلاقة خاصة على مستوى إيجاد نمط بيّن يربط بين السلطة المركزية و”أهل الجبال” في باجة. أي محاولة تبيّن النظام المعرفي والمعيشي الذي ساهم في تأسيس التوتّر بين تمثّلين مختلفين لطريقة العيش والحكم.
اعتمدنا في هذا المقال على وثائق أرشيفية محفوظة بالأرشيف الوطني التونسي، ووقع اختيارنا على الفترة الفاصلة بين 1847 و1871 لسبيين: أوّلا الوثائق المدروسة تبدأ خلال سنة 1847، وثانيا توقّفنا مع سنة 1871 لفهمنا ومعرفتنا أنّ عشريّة سبعينات القرن 19 مختلفة عمّا قبلها وهي التي مهّدت لاحتلال البلاد التونسية من قبل فرنسا، ولهذا فإنّ العشرة سنوات السابقة لحدث الاستعمار تحتاج لدراسة مستقلّة. ودراستنا هذه هي تمهيد لها.
طرحنا في هذا المقال اشكاليّة أساسيّة وهي: لماذا وقع الانسداد السياسي بين السلطة الحاكمة المركزية في تونس وبين سكّان جبال باجة؟
باجة المُنتجة للثروة
لا يمكن لنا فهم قيادة باجة بدون موضعتها في إطارها الجغرافي وظهيرها الريفي. وصف محمد بيرم الخامس مدينة باجة بكونها “يتّبعها جبال تشتمل على قبائل شتّى غير خاضعين حقيقة للحكومة، ممتنعين بجبالهم الوعرة، وكثيرا ما تُرسل معسكرات لأخذ الضرائب منهم. وكثيرا ما يؤدّون إليها مقدارا من غير تحقيق لعددهم وكسبهم. وهم: عمدون ونفزة ومقعد وخمير والشيحية”[3].
تميّزت قيادة باجة بإنتاجها الحبوبي الوافر ووفرة أغنامها، مع عدم اعتناء أهلها بزراعة الزيتون.، حيث أنّ “باجة ليس فيها أمناء الزيتون…أهل هذا الوطن (باجة) ليس لهم اعتناء في غرس الزيتون”[4]. وقد فرضت السلطة الحاكمة مجموعة من الضرائب على الظهير الريفي لمدينة باجة، وتنوّعت الضرائب بين المالية والمرتبطة بالمنتوجات الفلاحيّة. وقد وصلت أخبار لقائد باجة عن رفض عدد من العروش، فطناسة والجلاجلة ونفزة، دفع نصيبهم من القمح والسمن متعلّلين بصعوبة حالهم وعدم قدرتهم على توفير المقادير المطلوبة[5]. وقد ارتكزت الحياة الفلاحية والمعاشيّة لسكّان “الجبل” بباجة على نمط مخصوص. فعروش الجبل تنزل إلى السهول وسفوح الجبال زمن الخريف (وقت حراثة الأرض) وفي الربيع لفلاحة الأرض أو رعي الأغنام، ولا يبقى في منازلهم بالجبل “إلاّ القليل”. ويرجعون إلى جبالهم زمن الحرب والخوف والتخوّف من السلطة أو في الشتاء[6]. واستفاد من ناحية أخرى عدد من عروش باجة، خاصة عرش خمير، من اقترابهم من الحدود الجزائريّة. فقد كان عرش خمير مثلا “يأتوهم النصارى إلى وطنهم ويُعطوهم النعمة والدراهم ويرفعون من عندهم الدباغ”[7]. كما كانت مدينة باجة ملتقى عدد كبير من الأوروبيين، فقد ورد في أحد التقارير أن “أناس مركانتية (التجّار الأوروبين) يتسوّقون القمح من جهة باجة”[8]. وقد دأب عرش خمير على التعامل التجاري مع الأوروبيين مثل حالة “ستّة نصارى فرنصيص (فرنسيين)…يقطعون الغابة ويأخذون الدباغ منها وينشروا اللوح أنصافا وقعامر الجدور ويجعلونها فحما ويُوسقوا الجميع في البحر ويوجه ذلك لبلادهم. ولهما 4 سنين في هاته الحركة وجاعلين بيتا لوح لمكثهم فيها وهلكوا جانب من الغابة ليس بقا فيه شيء”[9].
حرص قائد باجة على تهدئة القيادة والمُصالحة بين العروش خاصة زمن دفع الضرائب، فقد حرّر في أحد تقاريره: “لمّا توجّهت إلى باجة أرسلت إلى جميع مشايخ عمدون ومشايخ الطبابه وفطناسه ومشايخ كوكه…وصالحت بينهم في كلّ ما لهم من عداوات سابقة…اتفقوا كبار كل فرقة على أن يكونوا مع بعضهم على وتيرة واحدة في خلاص ما بقي من الإعانة”، ولكن فيما بعد تنصّل بعضهم من الاتّفاق[10].
الجغرافيا: المنعة والتحصّن والثورة
تُعدّ جبال قيادة باجة أماكن حصينة أمام السلطة، فقد أوردت أحد الوثائق خبر رجل “يسكن بالجبل ولا يصنع إلا في الأمور الناقصة ومداوما للسرّاق”، وكان دائما بفتكّ دواب المسافرين[11]. ولم تُخفي بالمقابل الدولة توجّسها من سكّان “الجبل”، فقد ورد في أحد الوثائق: “لا يخفاكم سيّدي حال أهل الجبل لا يخلصوا إلاّ مع وجود المحلّة خصوصا ماكنه ووشتاته وبعض أطراف نفزة”[12].
تُمارس العروش المعارِضة للباي ضغوطات متنوّعة على السلطة وأخطرها مهاجمتهم لأرزاق النّاس وحرق المحاصيل و”قهر الفلاّحة” و”أخذ متاعهم ومكاسبهم” و”الجور والتعدّي” والتعدّي على النّساء[13]. وشارك عدد من رجال الدّين في تحريض السكّان ضدّ الدولة أو من أجل إنشاب المعارك بين العروش، فقد ورد في أحد التقارير أن “شيخ الجامع عمّار بن علي الغربي الجلجلي…ساعيا في الفساد في الغرابه ونفزة وفطناسه قصد إيقاع الغرم بينهم وبين عمدون”[14]. فكثيرا ما أبرز سكّان الريف والمرتفعات الجبلية في باجة، ما يُطلق عليهم في الوثائق مصطلح “الجباليّة”، نفورهم من الحكم المركزي وتمنّعهم من سلطة الباي ونائبه قائد باجة. ورد في أحد الوثائق بتاريخ 29 سبتمبر 1841 أن قائد باجة أرسل مكاتيب إلى شيوخ “الجبالية” وكبار رجالهم “لنتكلّم معهم مُشافهة ونحذّروهم بطش الحضرة العليّة”، خاصّة بعد “صدور عيب من سفهاء أعراش عمدون ليلا…أهل العيب طافوا على النّاس فلم يتبعهم أحد من أعراش الجباليّة”، وقد نبّه القائد على النّاس والمغيرين بإرجاع الأغنام المسروقة[15]. وقد قام عرش عمدون بتهريب الأغنام إلى خمير ومنها إلى الجزائر[16].
أظهر عدد من سكّان القيادة كرههم للسلطة المركزية مثل حالة رجال أطلقوا النّار على جنود المحلّة عند نزولها بأحد وديان باجة[17]. وقد استغلّ عدد من رجال العروش العسف الضرائبي المسلطة من البايليك على الأهالي للحثّ على الثورة والتمرّد، فقد وصل خبر إلى القائد يُفيد بوجود رجال “يدورون على العروش بالفساد ويقولوا لهم أنتم لكم سبعة أعوام لم يُجر عليكم حكم منهم أعوام لم تُؤدّوا مال الإعانة والعشر فهل وقع لكم شيء منها”، ويشتمون في المشايخ[18].
لم تكن عروش الجباليّة على قلب رجل واحد، فقد تشابكت المصالح وتعدّدت، فقد وصل خبر إلى قائد باجة بأنّ رجلا “ساع في عرش عمدون بالفتنة والفساد ويُفتّن بين المشايخ وكذلك بين المشايخ وأخوتهم” ويحثّ النّاس على عدم “أداء مطالب البايليك (أي الضرائب المدفوعة للدولة) كالقمح والسّمن، ومهما يأتي التعيين لأحد إلاّ و…يُحرّضه على عدم الطّاعة، يُوقع الفتنة بين العروش”[19]. وورد خبر آخر عن رجال “يعملون في الفساد (أي معارضة للسلطة الحاكمة) ويضربون في البارود (الأسلحة النارية) وتعطّلت علينا خلاص جميع المطالب (الضرائب) حتّى الطعام المأذون بشرايه (شراءه) من سيادتكم للحضرة العليّة”[20]. وتُخبرنا التقارير الأمنية عن عدد كبير من “الجباليّة” الذين يُهاجمون القُرى والمشيخات الصغيرة و”يصنعون الخبايث ويغوروا على الهناشر ويأخذوا البقر منها”، غير متردّدين على قتل النّاس، وبعدها يتحصّنون بجبالهم الوعرة[21].
أبرز عامل باجة عوائق عديدة تمنع الدولة من فرض سيطرتها على مجال باجة الجبلي. أهمّها عجز السلطة على اقتحام الجبال الوعرة للجهة خاصة لصعوبة مسالكها الجبليّة. أقدمت السلطة في هذه الحالة على تقديم امتيازات لأهل الجبال وأهمّها إسقاط ديونهم. فقد أمر عامل باجة بتسخير “برّاح يدور في الأسواق ويُنادي أن من له حقّ على جبالي ويراه في البلاد لا يُطالبه بشيء…لمّا سمعوا أهل الجبل بهذا تسرّحت ثناياهم لدخول البلاد ولم يغب أحد من أعيانهم علينا…وتلقّيناهم بما يُناسب سياستهم من إطعام الطعام والحديث الدال على مصالحهم”. ولكن لم تنجح هذه السياسة مع أهل الجبال، فلمّا رجعوا للجبل تراجعوا على الاتفاق في الدفع و”الحاصل سيدي أن مثل هذه السياسة لا تنفع معهم فقد تجاسروا وبغوا ولا ينفع معهم إلا القهر والغلبة والعقاب”[22]. كما أمر الباي بمُسامحة كل من ثبت مشاركته في ثورة 1864 وعدم مطالبتهم بتعويضات خاصّة من استغلّ الثورة للإغارة على أرزاق النّاس[23]. وأخبر العامل الباي بأنّ العروش أضرّت بمصالح الدولة وبمدينة باجة، و”معلوم سيدي أن الجبل في غاية ما يكون التشويش لمّا كثر الخاطر (لما كثر غضب السكّان من السلطة) بنواحيهم”[24]. نلاحظ هنا أن العنف يلعب دور المنظومة المؤسّسة لتبادل المصالح. فمن مصلحة العامل والدولة وبدرجة أقلّ السكان المحليين تأسيس للصورة النمطية حول تمنّع الجبل والعروشيّة والجباليّة. وكثيرا ما كان العامل يُشير إلى أنّ أهل الجبل كثر “تلاعبهم، وكثرت مُماطلتهم. وقد اقترح العامل فكرة على الباي في أن يسعى إلى القبض على كبار عروش الجبل من خلال استدعاءهم إلى مدينة باجة بغية الاجتماع معهم، ومن ثمّة “نتمكّنوا عليهم” أي القبض عليهم[25].
بسبب كلّ هذه الأسباب وجد أعوان الدولة صعوبات كبيرة في استخلاص الضرائب من الأهالي، مثل حالة الشيخ عمر بن أحمد “قاموا عليه (أي ثاروا عليه) جماعته من العرب أولاد خضر لمّا طُلبوا بأداء المجابي المرتّبة عليهم وحاسبوه بجانب منها استخلصها وأكلها”، أي اتّهموه أنه سرق جانب من الضرائب لصالحه[26].
يوسف بن بشر: سياسة الأمر الواقع
تمثّل جبال باجة عائقا أمام الهيمنة الكاملة للسلطة المركزيّة على العمالة. وقد أُجبرت الدولة على التعامل مع الرجال المتنفّذين من سكّان باجة وظهيرها الجبلي. فهل يمكن أن ينتقل شخص مُعارض للمخزن إلى عون من أعوان الدولة؟
تواجد في جبال باجة عدد من المشهورين بالتمرّد منهم “سي أحمد بن الدمغوني قايد أولاد بوسالم يدور على العرب كلها بالفساد”[27]. وورد اسم الرجل يوسف بن بشر كثيرا في الوثائق حيث جهر بعداوته لقايد باجة وأراد أن يجمع العروش حوله ويُصبح واليا على العمل، ونشر في القيادة أنه يريد أن يحمي السكان من ظلم السلطة لهم خاصة على مستوى الضرائب، ويرغب أن يجعل من سكان باجة “كلمتكم مسموعة كما كنتم أوّل الزمان”، وقد حرّض العروش على عدم الذّهاب لباجة و”تقييد الرقاب والمواشي إلى أن يتولّى هو عليهم”[28]. وورد في وثيقة أخرى أن”القايم مقام سي يوسف بن بشر كاهية ضجّت النّاس من فعله وتكرّر شرّه”[29].
تُثير شخصيّة يوسف بن بشر جدلا وتشابكات مهمّة تساعدنا على تفهّم تقنيات بناء المكانة الاجتماعية لأعوان الدولة خلال الفترة قيد الدرس خاصة علاقته المتوتّرة والصراعيّة مع قائد باجة واختلاف دوره العسكري مع الدور السياسي للقائد. تميّزت علاقة أعوان الدولة باجة بالأهالي بالتوتّر وقلّة الثقة. فقد وردت أخبار على يوسف بن بشر كاهية باجة مفادها أنّ “أناسا من العروش ساروا إلى المحروسة (أي مدينة تونس) قاصدين الشكاية بنا للحضرة العليّة (للباي) مدّعين أني مضرّ بهم”. وقد برّر القائد فعلهم بأنّهم لا يريدون دفع الضرائب: “لكن قصدهم معروف ولا يخفاكم أنهم أخذوا على الفساد في كلّ عام لما يصدر الاذن العليّ في خلاص الإعانة فيجعلوا هذا الفساد لتتعطّل أيّام الخلاص عليهم لوقت آخر”[30].
حاول يوسف بن بشر أن يُبرز تفانيه وحزمه في خدمة البايليك خاصة عبر اتقانه جمع الضرائب من الأهالي، فقد أرسل رسالة إلى الوزير الأكبر مصطفى خزندار بتاريخ 19 ماي 1861 قائلا فيها أنّه جمع “من مال الإعانة ما يقرب من 45 ألف ريال، ولازلت متشدّدا في الخلاص”[31]. وحرّر يوسف بن بشر تقريرا آخر بتاريخ ماي 1861 ذاكرا فيها أنّه تفانى في إحصاء ماشية وعدد سكّان قيادة باجة، وأشار بذكاء إلى أنّه مع إشرافه على الإحصاء ازداد عدد السكّان مقارنة بمن أشرف قبله على الإحصاء، كما أنّه تفطّن إلى أن خلافة نفزة تمتلك أكثر من 800 ماشية مع أنّهم “قيّدوا نصف القدر”[32]. وقد لعب “كاهية باجة ومتولّيها” يوسف بن بشر دور المحكّم في الخلافات المتعدّدة بين العروش، فقد حرّر في أحد تقاريره أنّه: “وصلنا لباجة جمعنا بين عمدون ونفزة والغرابه والطبابه وحضرت الرجّالة الكبار منهموراودنا الجميع إلى الصلح”، وأُبرم عقد الصّلح على يد عدل “وكلّ من عليه دمْ لصاحبه تحمّل به”[33].
انتقل القايم مقال يوسف بن بشر إلى العمل كاهية وجق بسوسة، ولم تنقطع علاقته عن باجة، فقد راسله أمير الأمراء رشيد آغة وجق باجة طالبا منه دفع أموال مُقتطعة من ضريبة باجة زمن تولّيه القيادة بها[34]. وظهرت شخصيّة يوسف بن بشر مؤثّرة مرة أخرى حينما كلّفته السلطة بتتبّع تحرّكات علي بن غذاهم، فقد كتب في رسالة له إلى إسماعيل صاحب الطّابع بتاريخ 22 جويلية 1864 أنّه “لما وصلنا إلى البلد وجدنا ميعاد أولاد بوسالم الظهاره وأخبرونا بأنّ بن غذاهم لما وصله الأوامر ومكتوب السيادة برحوا به وسط زموله وفرحت بذلك أناس وحزنت أناس”[35]. وأبرز يوسف بن بشر في رسالة أخرى له إلى الوزير إسماعيل صاحب الطابع خلال نفس الفترة رفض العروش له وكرههم لشخصه ورفضهم التعاون معه، حيث أنّ “بعض أعراش ممّن أنا مُستوليا (أي: مسؤولا) عليهم منم الجباليّة اشتكوا منّي…وأيضا الوجق مازال متشكّيا منّي”[36].
تعمّق يوسف بن بشر في تحليل طبيعة علاقته مع سكّان باجة وأريافها في رسالة له إلى الوزير الأكبر يوسف صاحب الطابع حيث قال: “منذ توجّهت لناحية باجة في موصيات الخدمة اعتقدت أن وجهتي لا خلل فيها…لمّا بلغت المحلّة المنصورة لباجة…القمح والشعير والحطب والزيت وغير ذلك بحيث لا نتوقّف بحول الله في شيء ممّا هو أقدر عليه من مطالبها، حتّى قدمت أعراش الغرب الذي مع بن غذاهم فاشتكت في البعض من جندوبة اللذين هم من أكابر الفسايدية وكنت عرفت في شأنهم وبيّنت أسماءهم…وهم أقلّ من نصف العرش وأكثرهم معي، بحيث أن جندوبة الظهارة الذين عليهم العِمْدَة وعليهم وبهم الكلام من حزبي ولا يخفى أن هؤلاء الثلاثة (رجال من قادة الثورة في العرش) هم قيّاد الشرطة حال فسادهم…كذلك عرش نفزة اللذين هم توجّهوا لمقابلة الحضرة العليّة بعد قدومي لباجة تشكّوا مني وطلبوا رفع يدي عليهم وذلك لمّا أن خاطبتهم عن توجّههم لزمل بن غذاهم حال إقامته بالدخلة ولُمْتُ عليهم في ذلك حيث افترزوا من عروش الجبل وتوجّهوا نحو من ذكر…وقد رأيت أن هذا كله لا يمن أحد وإنّما اطّلعت بنور القلب أن جميع من هو في دايرة سيدي صاحب الطابع كالسيّد باش حانبه والسيّد باش حانبه لمّا أن رءا ولد الشريف الدراجي الذي هو من أعيان جندوبة من حزبي ومعارض إخوته عن رفع يدي لدى سيدي صاحب الطابع أخرجه ووكزه، ورأيت أن لا ناصر لي في جملة هاته المحلّة، فمن أجل ذلك كتبت تسليما ومكّنته بيد سيدي صاحب الطابع…ولا ترضى سيدي أن خديمكم يناله هذا”، و”بلغنا أن رمضان الورغي قايد الشرطيّة استولى على تبرسق ثم تولّى على ورغمه بغير طيب…البعض منهم. ولمّا أن توجّه غار عليه ورغمه وأخذوا سعيه وقتلوا ابنه وفضحوا حريمه وفعلوا به ما فعلوا وهذا أمر غريب”[37].
وقال في رسالة أخرى له إلى الوزير الأكبر في شهر نوفمبر 1864 أنّ الرجل “حميده عامل جندوبة تشكّى منّي ومن أخي عوادي بأننا مفسدين عليه في عرش جندوبة…أهلنا جندوبة اعتدوا وبغوْ…واقتضى نظر مولانا برفع يدي عنهم فكيف…دخلوا تحت حكم بت غذاهم وأخذوا امتاعْ الناس وجعلوا منهم قيّاد الشرطيّة وتمنّوا في أخي الموت حتّى أنه فرّ لبلاد الجبل وبقي من عرش إلى عرش ما بين الشيحية وخمير بعيلته (عائلته) وباعوا وشَرُوا مع الشيحيّة بعشرة آلاف لبلوغه إلى بن غذاهم. فبعد هذا الفعل نرجع نركع للولاية عليهم…ظهر لي أن لا نجاة من هذا العرش…أرسلت لأخي يوجّه لي جميع مواشينا التي بوسط جندوبة كلها…ويرحل…بقصد السكنى بباجة أو بالمحروسة”، كما ذكّر بن بشر بفساد عامل جندوبة المالي والإداري وسرقته مال الدولة[38].
لم يُخفي يوسف بن بشر كرهه لعدد من سكّان الجبال في باجة، فقد وصفهم في أحد رسائله للوزير الأكبر بأنّهم “أناس مجرمين مثلهم قطّاع الطريق بالحرابة ونهب أموال النّاس وحالهم لا يخفى عن أهل هذا العمل”[39]. وقد سعى في كلّ رسائله للوزير الأكبر إلى إبراز تمكّنه من عمله وحذقه لوظيفته وتفانيه في خدمة السلطة. وقد أبدى في رسالة له إلى الوزير الأكبر خيبة أمله من طريقة توزيع السلطة للمناصب والوظائف، حيث كتب أنّه “بلغني أن قايد دريد رجعت له ولاية تبرسق وسي علي ساسي رجعت له ولاية ماطر وأنا مع وجودكم عندي تُفتكّ من يدي جندوبة وتُعطى لرجل ليس أثر في الخدمة ولم ترجع لي وأنا مترقّب لجنابكم السامي…لا تبعد عنّي ذلك الولاية أو أكثر منها”[40].
تُبرز وثائق يوسف بن بشر مؤامرات عديدة تعرّض لها هو وأشياعه وأعوانه. فقد دوّن في كتاب في رسالة له إلى الوزير الأكبر أن ثلاثة من رجاله أُتّهموا بقتل نفس والسبب “الذي أنتج لهم هذا الاتّهام المذكور استنادهم عليّ وكونهم منعوا أنفسهم من الفساد وكفّوا أيديهم وقت إنشاء الفساد مع قيّاد الشرطيّة التي ظهرت بعرش جندوبة…هم خدّام وأسلافهم كذلك ولكن خدمتهم أدخلتهم لهاته الواقعة”[41].
تُبرز لنا شخصيّة يوسف بن بشر وجود خيط رقيق يُلامس درجة اللامرئي بين الولاء للسلطة والتمرّد عليها. فرض منطق الجغرافيا على الفاعل السياسي الحذر من وعورة مجال باجة وظهيرها، فالسكان المحليين وحدهم هم من يستطيع مراقبة مجالهم والسيطرة عليه. لعب أيضا يوسف بن بشر دور رجل السلاح مقابل شخصيّة العامل وهو رجل السياسة. وقد تغلّبت شخصية رجل السلاح لطبيعة الشخصية القاعدية لعمل باجة المتأثّرة أساسا بمنعة جبالها، فبدون قوة عسكرية لا تستطيع الدولة أن تُسيطر على المجال.
وظيفة القايد ورهاناتها:
عانت السلطة المركزية من مشكل كثيرا من يُعاد وهو صراع العروش. فقد ورد مثلا في أحد الوثائق “عرش وشتاتة بينهم عداوة مع عرش نفزة وأيضا مع ماكنه”[42]. كما تميّزت قيادة باجة بحدودها الطويلة مع الجزائر، وخلق هذا الأمر منازعات عديدة مع الجار المحتلّ من قبل فرنسا. خاصة مع النفوذ الكبير الذي تحتلّه قبيلة خمير على هذه الحدود. تُخبرنا وثيقة مهمّة عن جزء من هذه الرهانات. فقد أخبر عامل باجة أنه توجّه إلى الحدود الجزائرية لكي يُقابل الجنرال الفرنسي حاكم القالة ليتفاوضوا على مسألة الحدّ. وصف أولا العامل التضاريس الصعبة والمرهقة للمنطقة، فهي تلعب دور العائق أمام سيطرة السلطة على هذه الأماكن خاصة زمن الشتاء وفيضان الوديان. لم تُكلّل مفاوضات العامل مع العسكري الفرنسي بالنجاح بسبب تعنّت قبيلة خمير التي ترى في الحدود حقّا تاريخيّا لها، حيث ورد في مكتوب العامل أن الحدود “ملك بلد خمير وله مدايد مديده (أي زمن طويل) وسنين عديده من أجدادهم وآباءهم ملكا بين أيديهم سلفا عن خلف وبه جبّانتهم (أي مقبرتهم) وروابطهم (أماكن خزن الحبوب) ويَعْلمونه ساير النّاس ملكا للجوابلية من خمير”[43].
يُشرف عامل باجة على ممارسة الضبط والمراقبة والعقاب في المدينة، فقد قُبض على “رجل صغير” بعد أن سرق ثيابا، فقام العامل بجلده بالعصا على “رؤوس الأشهاد في السوق”[44]. كما أنّه يسعى إلى تحقيق الأمن والتهدئة pacification في عمالته. وقد اعتمد في ذلك أسلوبا ناجعا وهو توزيع عملية التشريع بين القوانين المصادق عليها من الصدفة والعرف المحلّي. فقد أصرّ أحد العروش بعد أن قُتل أحد أبناءه من طرف عرش آخر على تطبيق عُرفهم. وكان ردّة فعلهم على الجريمة: “نريد 40 رجلا من خيار أعيان الوسالتية يذهبون معنا إلى سيدي عبد الله بالجمال في خمير يحلفون لنا، وإلاّ يرحلون معنا بيت من أعيان بيوت الوسالتية بأولادهما وسعيه ما ترحل معنا إلى عرش ماكنه…فإن وجدنا قتلوه غيرهم سرّحنا البيت ورجّعناه إلى الدشرة، وإلا البيت المذكور نقتلوه…ونأخذوا السعي في عوض ابننا ونأخذوا الدشره على التراب. فبقيت نسايس فيهم”[45]. يُشرف العامل على مراقبة العمل الفلاحي من الحراثة إلى جني المنتوج. كما يقوم بتوزيع المنح والأعطيات لعدد من أعوان الدولة وحلفاءها وأهمّهم المشرفين على زوايا الأولياء الصالحين، مثل زاوية سيدي علي الصمادحي التي تحصل سنويا على نصيب من القمح والشعير[46].
يحرص القائد، بعد توصيات عديدة من السلطة المركزية، على معرفة العدد الدقيق لسكّان المدينة وظهيرها الجبلي، فقد وردت عليه أوامر من الوزارة الكبرى بإحصاء “جميع سكّان القرى التي بعملنا الرجال كبار وصغار على اختلاف أسنانهم من الرضيع إلى من بلغ الشيخوخة”[47]. ولهذا فهو يسعى العامل إلى مراقبة دقيقة لعدد سكّان عمله. فقد كان كثيرا ما يتلقّى أوامر من الباي أو من الوزارة الكبرى يأن يُحصي “أرقاب من احتوى عليه عمل باجة وعروشها…اسمه واسم أبيه ونسبه ولقبه بحيث لا يشذّ أحد”[48]. ويستقبل العامل أعداد أنفس من شيوخ العروش. يقوم الشيخ بطرح الموتى من إحصاء السنة التي قبلها، ثمّ يُقسم على صدق الأعداد الجديدة، وعادة ما يُقام طقس القسم في مقام الوليّ الصالح بمدينة باجة سيدي بوتفّاحة[49].
تحتاج الدولة إلى الشيوخ رغم علمها بفساد عدد منهم. فقد وردت معلومات في أحد الوثائق عن إنقاص عدد من الشيوخ للعدد الحقيقي لأبناء مشيختهم حماية لهم من الضرائب والتجنيد. كما أخبر القائد في تقرير له إلى الوزارة الكبرى أن الشيوخ يستغلّون تفصيلا مهمّا يساعدهم على فسادهم المالي، فأهل الجبل عندما يدفعون ضرائبهم للشيخ لا يأخذون إيصالا بالمبالغ المدفوعة لهم، وهذا ما يُمكّن الشيخ من سرقة مال وفير وتنقيص العدد الحقيقي لدافعي الضرائب. فقد أشار العامل إلى أنّ عددا من الشيوخ “أخفوا…123 رقبة عن زمام عدد الرقاب”، ولهذا أشار العامل أنّ “عادة الجبل كله لا يأخذون التْواصلْ عن المشايخ أصلا”[50].
تعتمد الدولة على عدد من سكّان الجبل لإرشاد أعوانها على الطرقات والمسالك الآمنة والسليمة مثل حالة “عبد الله بن نصر النفزي، اعتاد إرشاد عسّة طبرقة للطريق ذهابا وإيّابا وأنه يستضيف العسّة كلّما مرّت ببيته”، وقد طلب هذا المرشد من الدولة أن تُمكّنه أن من مشيخة قومه أي “طلب الفضل في ولايته شيخا”[51]. وتحتاج الدولة لمساعدة عناصر محلية أخرى مثل “الحمّار” (أًصحاب الأحمرة) و”السيّار” وهو التاجر وناقل البضائع والمسافرين بين المدن[52]. وقد دأب الباي على إصدار أوامر إلى العمّال والشيوخ بحماية الطرقات، فقد ورد في أحد الوثائق: “أمر مُطاع… إلى كافّة مشايخ الجبل مضمونه في أمن الطرقات في باجة إلى طبرقه…ردّ البال في حفظ غابة الكرسته…منع ساير الأشياء الممنوع إخراجها لغير المملكة التونسية بدون تذكرة سراح”[53].
ننتبه هنا إلى وظيفة أساسيّة يقوم بها عامل باجة ألا وهي التجسّس على كلّ المتمرّدين و”المفدسين”، فقد أرسل مثلا عامل باجة أحمد الدمغوني مكتوبا إلى الوزير الأكبر قال فيه: “لازلنا بغاية الحزم الاجتهاد الكلي من غير زهد ولا غفلة ووجّهنا اخوتنا كلّ منهم لعرش من العروش ليتجسّس”[54]. ويُكثّف العامل تقنية التجسّس خلال الأزمات مثل ثورة 1864، حيث يُسخّر العامل الشيوخ وأتباع الدولة من النّاس العاديين وشيوخ الزوايا ورجال العروش الكبار لجمع كل المعلومات الممكنة[55]. وأخبر العامل عن ثلاثة رجال من مدينة باجة ينتمون إلى عائلات مخزنيّة عريقة موالية للدولة قدّموا خدمات لعلي بن غذاهم، وساهموا في اقتحام منزل عامل باجة وسرقوه[56].كما أخبر العامل في أحد تقاريره إلى الوزارة الكبرى أنّ “أحوال الجبل ليست مستقيمة”[57].
يستقي العامل أخبار العروش من جواسيسه ومن الشيوخ، ويُحاول أن يُقنع كبار القوم بكل مشيخة، “الرجّالة الكبار” بلغة الوثائق أو “الميعاد”، بأن ينصاعوا لأوامر الباي ونوّابه. والهاجس الأساسي للسلطة هنا هو الضرائب. أخبر قائد باجة في أحد تقاريره أنّه تقابل مع ممثّلي عرش ماكنة و”أنذرهم” بطش الباي، فالتزموا بأن يُقدّموا له العدد الصحيح لأفراد العرش ليسهل على السلطة تقدير حجم الضريبة. فلمّا رجع الرجال إلى عرشهم تجمّعوا بالأعراس و”الزرد” (مواكب احتفاليّة تُقام لأجل الأولياء الصالحين) وتناقشوا في أوامر الباي و”صار عندهم ناقض ونقيض لأنّ فيهم رجل اسمه إبراهيم…ومعه أنفار متمادين في الفساد، ورجعوا على ما كانوا عليه من الاتّفاق”[58]. وقد مثّل قرب قيادة باجة من الحدود الجزائريّة مصدر ثورة لعدد من الأهالي، ولكن مصدر قلق للسلطة وأعوانها. وبرزت خطورة هذا الجوار مع الخرب الفرنسية البروسية. فقد دأبت بروسيا على إرسال عدد من الجواسيس إلى الجزائر، مرورا عبر الحدود التونسيّة، لاستنزاف وتشتيت المجهود الحربي الفرنسي. توجّست الدولة التونسية من هذا الصراع، ولهذا أصدر الباي أمرا لقائد باجة بأن يراقب كل ألماني يمرّ بباجة ويمنع أيّ كان من تجاوز الحدود إلى الجزائر، وقد ورد في مكتوب الأمر: “الدولتين الحبيبتين فرانسا ودولة بروسيا هما الآن على حالة حرب وكلتا الدولتين من الدول المحبّة لدولة المعظّم…مع ما لدولة فرانسا من الجوار الذي تلزم مراعاته وربّما كان لبعض الناس مقاصد مع دولة فرانسا تبعثهم في مثل هذا الوقت إلى السّعي فيما يُحيّر بعض ممالكها ويتّخذون من بعض المسلمين عونا لهم على ذلك بالقول أم الفعل، وغير خفيّ ما ينشأ عن ذلك من المفسدة التي يجب التحرّز منها لمصلحة المسلمين…فنبّهتنا سيّدي بهذا لنوجّهوا عنايتنا لمنع القيل والقال في أحوال هذه النازلة وردّ البال من أن يتوجّه لخارج العمالة على طريق عملنا شيء ممّا يُعين المفسدين على التحيير مثل البارود”[59].
كثّف القائد من عمليّات التجسّس تجاه كلّ الغرباء، وحثّ كل أعوانه على مراقبة الحدود والأوروبيين، وقد ورد في أحد التقارير الأمنيّة أنّ “نفرين من رعايا بروسيا أحدهما قصير…والآخر نحيف أزعر شاب، خرجا من الحاضرة في زيّ المسلمين لأنهما يتكلّمان بالعربي ويُقال أن مقصودهما تحيير عمالة الجزائر. ولا يبعد أن يغترّ بهما أحد المسلمين من غير أن يعلم عواقب ذلك”[60]. وقد أوصى العامل أعوانه بالقبض على كلّ “حمّار” (أصحاب الأخمرة المشرفين على نقل الناس والسلع بين العمالات) “أو غيرهم معينا لهما أو مصاحبا لهما (أي للأوروبيين) …نتمكّن عنه ونسجنوه”، وقد كلّف العامل كل شيوخ المناطق المجاورة للحدود الجزائرية[61].
تعتمد وظيفة القائد أساسا على توفير الأمن في القيادة وخاصة على المحافظة على العائدات الضريبيّة، ويمرّ هذا الأمر عبر معرفة دقيقة لعدد السكان والمواشي والأشجار المثمرة. يطلب القائد من شيوخ المشيخات أن يقدّموا له تقريرا بهذه الأعداد في وثائق مكتوبة من طرف العدول، ويقوم القائد بدوره بإعلام السلطة المركزية بكل المعلومات المتحصّل عليها. وكثيرا من يذهب القائد بنفسه إلى العروش لعدّ المواشي خاصة وأن الأهالي يُراوحون الرعي بين الجبل وسفحه، فهم يلتجئون بالقمم عندما لا يأمنون مكر السلطة[62]. ولهذا كثيرا ما يعترف قائد باجة بصعوبة السيطرة على أهل الجبل، فقد ورد في أحد تقاريره: “أهل الرقبة لا يخفي على سيادتكم عصيانهم لمن يتولّى عليهم من القيادة وفسادهم أكثر من صلاحهم”[63].
حرصت السلطة المركزية على توفير أعوان دولة متقنين لعملهم في قيادة باجة، ولهذا فقد أذن الباي بانتخاب “من أهل باجة أنفارا من أهل النباهة والوجاهة ليكون منهم وكيل في الحقوق العموميّة التي تنشر نوازلها لمجالس عملنا باتّفاق أهل البلد…كاتبنا في شأنهم كافّة المشايخ الفقهاء بباجة القاضي والمفتيين بها وخليفتها وكافّة كبراء البلد المذكور وكلّفناهم بانتخاب من يليق”[64]. وبالمقابل تعرّض العمل الإداري بقيادة باجة إلى صعوبات ماليّة وتنظيمية عديدة، فقد تشكّى مثلا أعوان مجلس الجنايات والأحكام العرفية بالمدينة من عدم أخذ أجرهم لمدّة ثمانية أشهر كاملة[65]. دعّمت الإصلاحات سعي الدولة إلى تحسين المستوى العلمي لأعوانها، إلى جانب رفعة مكانتهم الاجتماعية. فقد صدر في 25 أوت 1863 “الاذن المُطاع بانتخاب عضو لمجلس ضبطية بلد باجة عوض محمد بن صالح الغربي وشيخ المدينة بها المُخبر عنه أنّه غير لايق بخطّته ولا يُحسن الكتابة”[66].
يعتمد أعوان الدولة في قيادة باجة على أخذ نصيبهم من الضرائب المدفوعة من قبل السكّان إلى الدولة، فليس لهم أجر شهريّ[67]. ولم يلتزم أعوان الدولة بطبيعة عملهم تجاه الدولة أو السكّان. فقد تشكّى مجلس ضبطيّة باجة بشيخ المدينة وأحد أعضاء المجلس الشيخ محمد بن صالح الغربي “لمخالفته لصريح القانون من أنّه قليل ما يحضر بالمجلس في ساعات الحكم وأنّه لا يُحسن الكتابة ولا استخراجها ويتعاطى فصل النوازل بالأسواق ومتمايل بسبّ النّاس السبّ الفاحش وبلغنا أنّه مُساعف لأناس في السرقات”[68]. وتتشارك السلطة المركزية مع أعوانها في الجهات والفاعلين الاجتماعيين المؤثرين المحليين في إحكام فرض الهيمنة وتقاسم النفوذ. ورد في أحد رسائل كاهية باجة يوسف بن بشر إلى الوزير الأكبر أنّه لمّا بلغ لباجة “حضرت المشايخ الفقهاء بباجة وأعيان البلد ومشايخ أهل الوطن وقرئوا ما أمر به سيّدنا…بالقصد في انتخاب الجماعة لمجلس باجة، فاتّفقوا على من ذكر أعلاه (7 أفراد)…على مشورة السيادة”[69].
تسعى الدولة إلى ضمان ولاء شيوخ العروش. فرجال المشيخات الأقوياء يملكون نفوذا ماديا وأدبيّا كبيرا لدى أهاليهم وبني عشيرتهم تعجز السلطة المركزية على مجاراته. وبرزت كل هذه الرهانات خلال أزمة العادل باي أخو الباي، الذي سعى إلى الخروج على أخيه والتحصّن بجبال باجة المنيعة. أورد وزير الحرب وقائد المحلّة المتوجّه لباجة أحمد زرّوق أنّه فرح لاطمئنان شيوخ العروش بتواجده بباجة صحبة المحلّة، فقد أورد: “أتانا مكتوب من ميعاد خمير يذكرون فيه أنّهم فرحوا بولايتنا عليهم والآن اطمأنّت قلوبهم”، ومعهم الشيخ “محمد صالح من نفزة (الأطرش)، الشيخ بوريال…قدموا إلينا وقالوا نحن خدّام الدولة”. وقد حرص أحمد زروق في تقريره على إبراز عدم تجانس العروش ووجود من يُعارض تعيينه، فقد برز رجل اسمه أحمد ونّاس من شيوخ هذيل عُرف بتحريض قومه على الثورة ضد السلطة و”عدم الدّخول تحت الطاعة”، وقد طلب زروق من السلطة أن تُوفّر لمحلّته، المُقدمة على التوجّه لجبال باجة، الغذاء والسلاح من أجل “أن يكون إذعان المفسدين بغير مُحاربة”[70].
أبرز أحمد زرّوق في رسالة له إلى الباي عمق الأزمة الاقتصادية والمعاشيّة التي تعيشها باجة خاصّة وأنّ “النّاس في مجاعة وأنهم يحصدون من الشعير بقدر ما يقتاتون به فقط”، وحال “المونة (المؤونة) في باجة غير متيسّر من قلّة النعمة وضعف الحركة”. كما قدّم زرّوق معلومات مهمّة حول الخطّة المُزمع اتّباعها قبل دخوله جبال باجة مع الجنود. أوّلا طلب من الباي تمكينه من رخصة تسلّم مفاتيح أبواب مدينة باجة، وثانيا حرص زروق على بثّ إشاعة نيّته على “حرق مزارع الجبالية وشجرهم ومكاسبهم وخراب جبلهم”، وثالثا أبرز زروق للباي معرفته بالمسالك المثالية في الجبل وخاصة ضمانه ولاء عدد من القبائل[71]. وقدّم زروق عروضا عديدة لأهل الجبل وأهمّها أن دفع ضرائبهم وتقديم الطاعة للباي يمكّنهم من دخول مدينة باجة في أمان ويُسمح لهم بالتسوّق (بيعا وشراء) و”لا يُطالبكم أحد بشيء”[72]. وبرزت خطط أخرى لدى زرّوق منها كسب حلفاء بعض “الرجال الكبار” في الجبل أي “نُقرّب أناس من وجق باجة ومن غيرهم نستعين بهم على الخدمة والاطّلاع على أحوال المفسدين”، وقد أبرز زروق وعيا شديادا بخطورة باجة وظهيرها الريفي وصعوبة تجنيد أعوان دولة أو جواسيس لصالح البايليك، فقد كتب للباي قائلا: “لست بغافل عن ذلك وإنّما نتحيّل على اكتساب الأخبار من غير أن نُظهر اكتراثا بذلك لأنّي لست آمن باجة ولا نركن لأحد وحسبي سماع الأخبار من الشيخ سيدي محمد سعيد قاضي باجة ومن الأجلّ علي بن يوسف وأمثالهم”[73].
حُورب عامل باجة بطرق مختلفة منها إيصال أخبار خاطئة عنه إلى الباي، فقد أرسل عامل باجة القايمقام صالح بن مبارك مكتوبا إلى الباي قال فيه إنه علم أن أناسا أوصلوا عنه أخبار كاذبة عندما كان عاملا على الكاف، و”لكن سيّدي: الانسان من حيث هو لا يخلوا من الأضداد والحسّاد سيما زماننا هذا”[74]. وقدّم عدد من سكّان باجة رسالة شكوى إلى الوزير الأمير من تصرّفات العامل، فقد قالوا أنه “أضرّ بنا غاية الضرر”، وقد منعهم العامل من التجارة مع أهل الرّيف، وقد حرّض العامل أتباعه من أحل أخذ المكس والضرائب على تجّار المدينة[75]. وأوردت وثائق أخرى عن بعض شيوخ العروش كونهم “أصحاب العيب والفساد…يطوفون على الأعراش” من أجل التحريض على العامل[76].
يحاول قائد باجة الإمساك بكلّ خيوط اللعبة. تتوجّس السلطة دائما من الأعمال الانتقاميّة لأهل الجبل، فقد أرسلت الوزارة الكبرى تنبيها إلى العامل مضمونه الحذر من قيام بعض الناس بحرق المحاصيل أو الغابات[77]. ولهذا تسعى دائما السلطة المركزية إلى كسب ولاء أعيان العروش رغم عدم انصياعهم التّام. وكان محمد صالح بن منصور عُرف الأطرش من أبرز أعيان العروش في ظهير باجة الريفي (عرش نفزة). وأخبر العامل أنّه توجّه لمقابلته في نفزة عند قياس مساحة الأراضي. وقد اعتمد العامل على قُرب الأطرش من السلطة من أجل السماح للدولة بمعرفة المساحة الحقيقية للأراضي الفلاحيّة خاصة وأن “عروش الجبل فيما مضى يمنعون القيّاس عن طوفان نعمتهم، وإنما يُهنشر (أي يقيس الأرض) لهم المواشي من غير أن ينظر ذلك”[78]. وتبرز لنا الوثائق أن احتياج السلطة لمحمد صالح الأطرش أخطر وأهمّ من حاجة الأطرش للسلطة. ولم يُخفي الأطرش توجّسه من السلطة، فقد دوّن العامل في أحد تقاريره “ما سبب امتناع محمد صالح بن منصور عرف الأطرش من القدوم لدى الحضرة، خاطبته أن يتوجّه إلى الحضرة العليّة فأجابني أنه بعد الخلاص يتوجّه لدى سيّدنا…وليس متمنّع وإنما متخوّف، فأجبته أن لا تخف وأنا ضامن فيك”[79].
كما حرصت السلطة المركزية على عقد حلف متين مع الشيخ محمد بوريال النفزي البوعلي وهو من أقوى رجال عرش نفزة. فقد ورد في رسالة من عامل باجة إلى الوزير الأكبر ما نصّه: “نريد له من حضرة مولانا…طابعا ليكون كبير مشايخ إخوته أولاد بوعلي لأجل نصحه وخدمته في الدولة العلية”[80]. وقد اعتمدت الدولة على الاحسان والأعطيات لتشكيل شبكة حلفاء متينة وصلبة. فمن “عادة” السلطة “إجراء عادة أهل الخطط الشرعية بباجة للواحد منهم قفيزان ونصف القفيز قمحا بالكيل التونسي ومثل ذلك شعيرا أو علفة يوميّة يؤخذ ذلك من المكلّف بالرابطة”. ويمكن أن تُلغى هذه العادة في زمن القحط والأزمات رغم حرص المستفيدين على “مراعاة أهل هذا الجانب…وتوقيرهم وإكرامهم”[81].
الفساد وإنتاج الظلم
يتخلّل العمل اليومي للمشرفين على قيادة باجة ممارسات فساد مختلفة، مثل حالة “صاحب السّجن بباجة” الذي كان يأخذ “من المساجين حين السّراح 4 ريالات ونصف على كلّ نفر”[82]. وعلم المجلس الأكبر في مدينة أنّ أعضاءه المشرفين على تفقّد عمل قيادة باجة وجدوا “بسجن باجة رجلا مسجونا في تهمة روح…وله في السجن عام وشهران ولمّا أن سألوا مجلس الجنايات والضبطيّة أجابا بعدم علم نازلته”[83]. وقد حاول بعض الفاعلين الاستفادة من زمن تأسيس الإدارات الجديدة مثل حالة العدل أحمد بن إبراهيم كاتب أوّل بمجلس الضبطية بباجة الذي رغب “إسقاطه من زمام الإعانة كأمثاله من كتبة المجلس”، أي إعفاءه من دفع الضرائب للدولة[84]. ونجد لهذا وثيقة مهمّة تُفيد بأنّ “أعضاء مجلس الجنايات ومجلس الضبطية بباجة كانوا سالف التاريخ مرسومين بزمام الإعانة ثمّ طُرحوا منه بسبب ولايتهم في المجلس المذكور”[85]. ورفض عدد من الفاعلين الاجتماعيين المؤثّرين والمتنفذين قبل تأسيس المجالس تطبيق الإصلاحات. فقد وردت على عامل باجة رسالة من شيوخ عمدون مفادها أنّ الرجل “الطالب المولهي أحد أعضاء مجلس الضبطية بباجة متعاطي فيهم بالحكم من غير المجلس ومهما يأتي أحد منهم إلا ويتمكّن عليه ويرفعه إلى مخزنه ويسجنه فيه ومنهم راجل أخذ منه 500 ريال ومتكارر (أي يُكرّر) عن فعله، ومضمون الكتب أنه حرّم عليهم المسير والمسواق (أي التسوّق) إلى باجة”[86].
تعرّض الأهالي بمدينة باجة لظلم كبير من أعوان الدولة مثل حالة لزّام المحصولات العربي بن بريك الذي كان “متعاطيا التمكّن بمن يجده من أهل العمل يضعه عنده بالسلسلة من غير أن يحظر لدينا…تشكّت لنا الناس بذلك”، ولمّا طلبه العامل للقدوم لديه رفض و”ذكر أنه لا يرفع يده على أحد والذي يتمكّن عليه من العرش لا يطلقه إلا بأخذ ما يُرضيه ولا يتعرّض له أحد ولا يطلق أحد من سلسلته ولا يعرف إلا نفسه…وأطلق خُدّامه وحوّل السوق عن موضعه الأصلي وأبعده عن مكان نزوله”[87]. وعدد من أعوان الدولة “كثرت منهم الإغارة…يتشكّوا منهم جميع ما بنواحي باجة”[88].
كثيرا ما يتذمّر السكّان من ثقل الضرائب المسلّطة عليهم، فقد ورد في أحد الوثائق اضطرار النّاس على بيع ثيابهم بسبب فقرهم[89]. وقد اشتكى سكان عمالة باجة من ظلم أعوان الدولة وعدد من العائلات المحلية القوية المخزنية المتحالفة مع الدولة. فقد ورد في أحد رسائل الشكوى الموجّهة إلى الوزارة الكبرى أنّ “أبناء المكرم سي محمد الدرويش وأهله تسلّطوا علينا بالجاه المدّة بعد المدّة”، وأجاب الوزير: “الشفاعة في مثله لا تُقبل لأنه من المفسدين المحيّرين لراحة السكان”[90]. واشتكى سكّان آخرون من فساد قاضي باجة حيث كان يأخذ “الدراهم” من السكّان ودأب على “أكل الرشاء عنهم”[91].
تُقدم أحيانا السلطة على عزل الشيوخ المتورّطين في الفساد. وقد أقدم عدد من المعزولين بحملة تحريض ضدّ السلطة، وهذا ما تخافه وتتجنّبه حقيقة الدولة. فقد أزيح أحد الشيوخ من منصبه بسبب سرقته من مال الضرائب وإخفاءه العدد الحقيقي لأبناء عرشه، فقاد جملة تشويه ضد عامل باجة[92]. ولم يكن عامل باجة في مأمن من الأزمات الاقتصاديّة، فقد سُجن ابنه بسبب تورّطه في الديون، فأخذ العامل دينا من أمير اللواء علي ساسي قدره 58 ألف ريال “يكن دفوعهم على شهرين”، ورغب في رهن أو بيع منزله له بمدينة تونس بجانب دار الطاهر بن عاشور[93].
الأزمة:
تعرّضت مدينة باجة لصعوبات مادية واجتماعية كبيرة، فقد كثرت السرقات في المدينة بسبب أنّ “سور بلد باجة وقع به بعض انهدام إلى أن صار يدخل منه ويخرج منه”[94]. كما أعلم مجلس ضبطية باجة بهروب 17 سجينا من “حصار باجة”، حيث وُجدت “الأبواب مخلوعة والأقفال مقطوعة”[95]. ووردت أخبار لدى الباي تُفيد بأنّ شيوخ مدينة باجة والمشرفين على الحراسة الليلية للمدينة مقصّرين “ولا يمنعون من يدور بالأزقّة بالليل ولو كان من أهل الشبه، والحال أنّهم يأخذون أجرهم على كلّ مسكن ريالا ونصف في الشهر…بسبب ذلك وقع من كثرة انهدام سور البلد”[96]. كما تشكّى عدد كبير من سكّان مدينة باجة من غلاء الأسعار[97]. كما تشكّى عدد من السكّان من فساد أمناء القياس بسبب الغشّ في الوزن[98]. كما شهدت قيادة باجة عددا كبيرا من الحرائق سواء المتعمّدة أو الطبيعيّة. فقد تسبّب رجلين في “حريقة نعمة بناحية هنشير…قبلي باجة”[99].
تعرّض وطن باجة إلى تغيّرات مناخيّة مفاجئة. فقد ورد في أحد الوثائق أنّه “تكوّن سحاب أمرا هايلا (هائلا) وفيه وقع صبّ الحجر بوطن باجة عن أنواع منه قدر العضمة (أي البيضة) وقدر الرمّانة ومن نوع الياجور (الآجر)، وأضرّ بذلك هناشر…سواني الغلّة والدخّان لم يبق منهم شيء”[100]. هذا إلى جانب الأزمات البيئيّة والوبائيّة. فقد لاحظ العامل في أحد تقاريره “قلّة النعمة لا قمحا ولا شعيرا”، وهذا ما حمل بعض العروش على زراعة الذرّة تعويضا للحبوب، ولكن “تسلّط عليها الجراد وأكلها”، وقد نصح العامل بعدم دخول المحلّة إلى “الجبل” بسبب هذه الأزمات المعاشيّة، فلا قدرة للعروش على إعالة جنود المحلّة، بل يمكن أن يهاجموها ويثوروا عليها[101].
مرّت عمالة باجة بسنوات صعبة خلال الفترة قيد الدرس مثل سنة 1866 التي ورد الحديث عنها في الوثائق بصيغة: “حال عام التاريخ وعُسْره”، فقد امتلأت المدينة بالنازحين والهاربين من الجوع والفقر والمرض، فقد عصّت شوارعها بأهل ماجر والفراشيش وغيرهم، و”أفعالهم بانت بالفساد والأخذ والتهم وضجّت الناس من أفعالهم”، ومن ضمن الضحايا رجل زرع قفيز شعير “سلتوه (أي خطفوه وسرقوه) وهو واقف وأكلوه عن آخره…لا تخفا أحوالها هذا العام حتى من أعطاه الله عجرودة (المنتوج الفلاحي السيّئ) أتتها هاته الزمول منعوها عن أربابها غصبا ومن يتكلّم عن نفسه يتمالوا عليه بالضرب…أتى الخبر فيه أنهم كلهم قادمين لناحية باجة وبلغنا عن الجبالية أعينهم ناظرة لهذا المعنى وأوذانهم واقفة…ومع هذا سيدي الوجق كلّه صدر فيه الاذن بالقدوم وفي مثل هذا الخطر العظيم”[102]. وولاد في وثيقة أخرى أنّ “البلد الآن متوقّفة على المطر وحالها لا يُرضي حتى أهلها في شدّة ما يكون من التوقّف”، ونجد فرقة من الشيحية “انتقلوا من وطنهم عزّابه (أي متنقّلين بأغنامهم) بسعيهم ونزلوا مُجاورين”، وقد سُرق لهذا العرش 30 رأس بقر[103].
عبّر جزء من السكّان على رفضهم وكرههم لعدد من أعوان الدولة مثل حالة جماعة “غاروا على شيخهم…صرخوا عنه بحبّ الرصاص (أي أطلقوا عليه الرصاص)”[104]. فقد عاشت مدينة باجة توتّرات اجتماعيّة عديدة مثل حالة رجل ضرب ابن قاضي باجة بالرصاص “كسر له عظم فخذه”[105]. وورد في تقرير آخر لعامل باجة أنّ “طايفه (طائفة) من عمدون غير ممتثلين لأمر مولانا…تظافروا كلّهم كلمة واحدة على الفساد…هجموا على جانب وافر من بقر أهل باجة…راموا الهجوم على البلد فوقع التشويش لأهلها عامّة وخاصة وغلقوا أسواقها وحوانيتها ووقعت لهم حيرة عظيمة. فعند ذاك خرجت بنفسي (أي عامل باجة) وفتحت الأسواق والحوانيت”، وعيّن العامل عددا من الحرّاس لحراسة المدينة “وما حولها”، فهجم عليهم رجال عمدون وضربوا “رجلا من الصبايحية بالحبّ”[106]. وتصف الوثائق كلّ من يُعارض الدولة أو يُظهر العداء لها ب”الفاسد” مثل حالة رجال من عمدون أكثروا من “السرقات ليلا” بسبب سجن الدولة لعدد من رحال عرشهم، وقد دأب عرش عمدون على طرد أعوان الدولة وكلّ من يُوجّهه البايليك لهم[107].
تشكّل المشهد الديني في قيادة باجة من عدّة مراكز نفوذ خاصة القاضي وشيوخ الزوايا. وبرزت توتّرات عديدة بين أقطاب الهيمنة هذه. فقد اشتكى مثلا محمد الصمادحي شيخ زاوية جدّه بباجة بقاضي باجة بسبب افتكاكه “بعض أراضي من أوقاف زاويتهم:، وهذا القاضي عليه عدّة نوازل في افتكاك الأراضي، وكان يستعين بزوج عدول لتزوير الشهادات حين كتابة العدالة[108]. وقد عانت السلطات المحلية من عوائق عديدة ومنها الصراع بين أطراف السلطة: الشيخ، الخليفة والعامل. أخبر عامل باجة في أحد تقاريره أن الخليفة بباجة محمد الدرويش دأب على إفساد عرش عمدون بإعطائهم النقود “يريد الولاية عنهم عوضنا”، أي يريد أخذ مكان عامل باجة. ولم يخفي عامل باجة هنا أن يستمرّ منافسه في تحريض العروش قائلا: ” نخاف من فساد الجبل”[109]. وورد في وثيقة أخرى أن “الخليفة محمد الدرويش…صدور الفساد منه…وقع بالفساد معه فهو من كبراء مشايخ عمدون، ولكن لا يمكن لنا محاربتهم حين وجوب الخلاص”. أي أن السلطة لا يمكن أن تفتح جبهة صراع زمن دفع الضرائب[110]. وبعد مدّة قصيرة من ذلك صدر الإذن بسجن “محمد الدرويش خليفة باجة، أتاه التعيين وسجن الآن بحصار باجة…سبب سجنه لتعاطيه الفساد”[111]. وكان ردّ الباي على مخاوف العامل أنّه يرغب في “جلب المشايخ والأعيان للحاضرة هو حثّهم للامتثال والاجتهاد في الخلاص”[112].
خاتمة :
تميّز ظهير باجة الجبلي بصعوبة التضاريس الطبيعيّة. وقد نتج عن هذا نشأة شخصيّة قاعديّة غير منصاعة للسلطة ذات خصائص جغرافيّة منيعة. كما شكّلت الدولة المركزيّة جملة من الصور النمطيّة لصدّ مقاومة أهل الجبال للدولة المركزيّة، من ضمنها “المفسدين” وأهل البغي والمحاربين. سُكّ هذا الوصم من مُعجم فقهي عريق في البلاد التونسيّة لا يثق في “أهل الجبال” مع تعارض مصالحهم مع “السلطان” والسلطة الحاكمة، وهي سلطة مدينيّة بامتياز.
اعتمد سكّان جبال باجة على إطار طبيعي وثقافي مُنتج ومٌلبّي لاحتياجاتهم. ومن الطبيعي أن تُبادر القبائل الحدوديّة إلى المتاجرة مع القبائل الجزائريّة، سُمّيت هذه الممارسة من طرف السلطة الحاكمة “تهريبا”، ولكن المنطق الداخلي لاشتغال العروش والقبائل لا يعترف بالحدود الدقيقة للدولة القوميّة ذات السيادة، فالعرش يلقي اهتماما بحدود العرش والقبيلة والعائلة. إذا مثّلت رغبة السلطة المركزية في إٍسقاط مفهوم الدولة القومية ذات السيادة على واقع العرش اسقاطا سياسيّا خطيرا لم يتلاءم مع الإطار المعرفي والمعيشي لسكّان الجبل.
مثّلت قيادة باجة مصدرا أساسيّا للثروة الفلاحيّة والبشريّة المنتجة أساسا للغذاء والضرائب. اصطدمت الدولة بتمنّع كبير من قبل السكّان المحليّين. نتج عن هذا ولادة سياسيات ظلم وإذلال عديدة لبّ رحاها المحافظة على العوائد الجبائيّة والمنتوجات الفلاحيّة وهوس من التوتّرات الأمنيّة في الحدود الجزائريّة مع رغبة في معرفة المسالك والطرق الجبليّة. اعتمدت الدولة هنا على سياسة البحث على الولاء بين السكّان المحليين أنفسهم، سواء كحلفاء سريين غير معلنين، أي جواسيس. أو كأعوان دولة مثل وظيفة الشيخ. اضطرّت الدولة إلى الاعتماد على السكّان المحليين في وظيفة الشيخ، وهذا ما أنتج وعيا لدى حاملي هذا الوظيف مفاده بأنّ الدولة تحتاجهم أكثر ممّا يحتاجون إليها، وساعدهم هذا السياق على التمادي في ظلهم للأهالي معتمدين على أهميّتهم لدى السلطة، والسلطة المادية والمعنويّة التي يحتلّونها لدى أهل عرشهم. وتحملنا هذه السياقات على الاستنتاج بأنّ الدولة ساهمت، بل شجّعت، على إنتاج الظلم واعتمدت عليه في المحافظة على مصالحها.
اعتمدت الدولة في هذا الإطار على وظيفة القائد كنائب للباي على عمل باجة. تعرّض القائد لصعوبات عديدة منها توجّس السكان المحليين منه، وعدم انصياع الشيوخ له بصفة كاملة، ومعارضة عدد من أعوان الدولة له وخاصة حالمي الرتبة العسكريّة. نتج عن هذا الأمر ولادة سلطات فرعيّة عديدة في عمل باجة، وهذا ما سمح بتعدّد مراكز النفوذ وتنوّع تقنيات تشكيل شبكات العلاقات والهيمنة، وبالتالي استطاعت سياسات الظلم والإذلال أن تتسرّب إلى عدد من هذه السياسات. فهدف الكلّ هو المحافظة على المصالح المكتسبة والبحث عن توسيعها. ومن هنا نفهم اضطرار القائد إلى غضّ النظر عن ظلم الخلفاء والشيوخ كسبا لولائهم، وتمادي أعوان الدولة المحليين في الظلم والسرقة، وتعدّد الصراعات والحروب بين العروش، وكثرة اعتماد عدد من الأهالي على التهريب خاصة مع الحدود الجزائرية. لعب العامل دور حلقة الوصل بين الباي والسكان المحليين، ولهذا اتّخذ دور ناقل وجامع المعلومات (الجاسوسيّة) وجامع الضرائب (الميزانيّة) والمحاصيل (الغذاء) مع السعي إلى تحقيق التهدئة الاجتماعيّة (الأمن)، مع الحرص على تشكيل جهاز إداري يسمح بتحقيق الأهداف السابقة الذكر (الإدارة/البيروقراطيّة). تحتاج هذه المرتكزات إلى عقلنة لفعل الحكم، وهذا ما يتطلّب تفاعلا بين السلطة المركزية والمجتمع المحلّي بوساطة من العامل، وهذا ما لم يتحقّق لرغبة الدولة في إنزال وإسقاط مشروع للحكم تجاهل الإرث الجماعي للمجتمعات التراحميّة المعتمدة على ماضٍ عريق في الحكم مُدعّم بحصانة جغرافية منيعة. فالذهنيّة التعاقدية للدولة المركزية لم تُساهم في تحقيق الأهداف النظريّة للعامل وهي الجاسوسية والأمن والميزانية والغذاء والإدارة.
ساهم الفساد المالي والإداري مع الظرفيّات المناخيّة والكوارث الطبيعيّة في إنتاج سنوات أزمة بامتياز مرّت بها قيادة باجة من أربعينات القرن التاسع عشر إلى سبعيناته. وقد تحصّلنا من خلال هذا المقال على نمط لمحاولة فهم الرهانات الداخلية لتاريخ عمل باجة خلال الفترة قيد الدرس. أسّس منطق الثنائيّة إنتاج هذا النمط. مجتمع تراحمي مقابل دولة تعاقدية. سلطة مركزيّة مقابل مجتمع ذو بنيات جغرافية ومناخية واقتصادية تعتمد على الرعي والفلاحة والمتاجرة على الحدود ولا تحتاج إلى الحدود الدقيقة للدولة المركزية، بل تساهم هذه الحدود في تفكيك المنظومة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لأهل الجبل، وهذا ما يؤسس لاندثار كيانهم الحضاري، أي المسألة مسألة وجود. واقتصاد معاشي مقابل اقتصاد دولة ضرائبيّ بامتياز لا يُراعي مسألة استنزاف المجهود الإنتاجي والغذائي والبشري لأهل الجبال.
ساهمت الظرفيّات الاقتصادية والسياسيّة، والمناخية والوبائيّة أحيانا، في انتاج انسداد سياسيّ عطّل تهدئة الأوضاع بين السلطة المركزية وظهير عمل باجة الريفي. فهل استمرّت هذه العلاقة على نفس النمط من التوتّر خلال النصف الثاني من سبعينات القرن 19؟
قائمة المصادر والمراجع:
1.الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350- 355.
2.صلاح الدين برهومي، الشمال الغربي الجبلي: الجبالية والمجال الزراعي من 1856 إلى 1945، دار سحر للنشر، تونس، 2010
3.محمد بيرم الخامس، صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار، المجلّد الثاني: القطر التونسي، تحقيق: علي بن طاهر الشنّوفي/ رياض المرزوقي/ عبد الحفيظ منصور، المجمع التونسي للعلوم والأداب والفنون: بيت الحكمة، قرطاج، 1999.
- M. V. Duraffourg, Béja et ses environs. Communication faite à la société de la géographie de Lille, Imprimerie L. Danel, Lille, 1886.
[1] M. V. Duraffourg, Béja et ses environs. Communication faite à la société de la géographie de Lille, Imprimerie L. Danel, Lille, 1886.
[2]صلاح الدين برهومي، الشمال الغربي الجبلي: الجبالية والمجال الزراعي من 1856 إلى 1945، دار سحر للنشر، تونس، 2010.
[3]محمد بيرم الخامس، صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار، المجلّد الثاني: القطر التونسي، تحقيق: علي بن طاهر الشنّوفي/ رياض المرزوقي/ عبد الحفيظ منصور، المجمع التونسي للعلوم والأداب والفنون: بيت الحكمة، قرطاج، 1999، ص.357.
[4]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.101 (9 نوفمبر 1859).
[5]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.51 (22 سبتمبر 1854).
[6]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.94 (20 أكتوبر 1870).
[7]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.4 (13 أفريل 1870).
[8]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.51 (25 جويلية 1870).
[9]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.9 (24 أفريل 1870).
[10]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.60 (28 جانفي 1857).
[11]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.79 (1 أفريل 1857).
[12]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.8 (4 سبتمبر 1860).
[13]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.67 مكرّر (28 ماي 1867).
[14]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.14 (6 مارس 1861).
[15] الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.2.
[16]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.8 (29 أكتوبر 1847).
[17]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.28 (17 جوان 1862).
[18]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.96 (21 سبتمبر 1859).
[19]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.48 (29 جانفي 1854).
[20]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.50 (جانفي 1854).
[21]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.59 (59 ماي 1857).
[22]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.92 (نوفمبر 1867).
[23]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.145 (15 مارس 1870).
[24]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.104 (ماي 1867).
[25]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.109 (3 ماي 1868).
[26]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.21 (18 جوان 1868).
[27]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.106 (29 مارس 1860).
[28]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.82 (1 ماي 1859).
[29]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.110 (14 ماي 1860).
[30]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.10 (18 ماي 1861) (رسالة من يوسف بن بشر كاهية باجة إلى مصطفى خزندار).
[31]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.12 (19 ماي 1861).
[32]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.13 .
[33]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، (11 مارس 1861).
[34]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.37 (4 أوت 1863).
[35]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.98.
[36]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.99 (جويلية 1864).
[37]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.100 (20 أكتوبر 1864).
[38]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.110.
[39]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.111 (10 ديسمبر 1864).
[40]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.114 (3 جانفي 1865).
[41]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.115 (8 جانفي 1865).
[42]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.63 (25 جوان 1857).
[43]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.76 (31 مارس 1859).
[44]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.132 (5 فيفري 1870).
[45]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.133 (18 فيفري 1870).
[46]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.38 (15 أوت 1866).
[47]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.17 (4 ديسمبر 1860).
[48]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.8 (18 أفريل 1870).
[49]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.16 (5 ماي 1870).
[50]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 355، و.25 (12 جوان 1871).
[51]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 355، و.18 (2 ماي 1871).
[52]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 355، و.21 (13 ماي 1871). ورد في أحد الوثائق أخبار عن تسليم سلع إلى “أحد حمّارة باجة” لحملها لمدينة تونس. أنظر: الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 355، و.63 (15 أكتوبر 1871).
[53]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 355، و.50 (أوت 1871).
[54]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.147 (20 ديسمبر 1865).
[55]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.141، 143 (15 ديسمبر 1865).
[56]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.18 (7 جويلية 1866).
[57]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.20 (11 جويلية 1866).
[58]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.63 (25 جوان 1857).
[59]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.67 (27 أوت 1870).
[60]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.71 (28 أوت 1870).
[61]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.72 (28 أوت 1870).
[62]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.88 (7 ماي 1859).
[63]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 350، و.93 (سبتمبر 1859).
[64]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.34 (10 جويلية 1862).
[65]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.29 (23 جوان 1862).
[66]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.44.
[67]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.75 (2 جويلية 1862).
[68]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.80 (30 ماي 1863).
[69]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.21 (8 مارس 1861).
[70]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.65.
[71]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.66 (27 ماي 1867).
[72]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.67 (28 ماي 1867).
[73]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.67 (28 ماي 1867).
[74]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.78 (22 أكتوبر 1867).
[75]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.103 (10 جانفي 1868).
[76]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.26 (15 أوت 1866).
[77]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.20 (25 ماي 1870).
[78]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.18 (15 ماي 1870).
[79]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.27 (14 جوان 1870).
[80]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.123 (15 فيفري 1871).
[81]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.12 (31 ديسمبر 1860).
[82]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.25 (4 جوان 1862).
[83]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.27 (12 جوان 1862).
[84]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.34 (7 جويلية 1863).
[85]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.90 (9 ماي 1864).
[86]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.78 (24 مارس 1864).
[87]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.134 (جوان 1865).
[88]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.9 (ماي 1866).
[89]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.28 (أوت 1866).
[90]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.75 (15 سبتمبر 1870).
[91]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.84 (4 أكتوبر 1870).
[92]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 355، و.81 (31 ديسمبر 1871).
[93]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.25 (جويلية 1866).
[94]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.54 (20 فيفري 1863).
[95]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، (14 مارس 1863).
[96]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.62 (12 أفريل 1863). رسالة من أمير الأمراء رشيد أغة باجة وعاملها إلى مصطفى الوزير.
[97]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.63 (12 أفريل 1863).
[98]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 351، و.71 (25 أفريل 1863).
[99]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.61 (8 أوت 1870).
[100]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.29 (15 جوان 1870).
[101]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.24 (7 أوت 1866).
[102]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.55 (أفريل 1867).
[103]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 353، و.61 (مارس 1867).
[104]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.62 (10 أوت 1870).
[105]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.41 (25 أوت 1863).
[106]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، (29 مارس 1864).
[107]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 352، و.154 (جانفي 1866).
[108]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.36- 45 (15- 29 جوان 1870).
[109]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.27 (14 جوان 1870).
[110]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.32 (26 جوان 1870).
[111]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.38.
[112]الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق: 29 مكرّر، ملف: 354، و.27 (14 جوان 1870).