التخييل والفلسفة والتاريخ
Fiction, Philosphy and History
أ.د.عثماني الميلود، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، جهة البيضاء- سطات، المقر الرئيس، المغرب
Dr.Atmani El miloud, CRMEF-Casablanca-Settat, Morocco
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 81 الصفحة 27.
ملخص:
تستند هذه المقالة على مقترح مفاده إمكانية معالجة التخييل والفلسفة والتاريخ انطلاقاً من منظور إبستمولوجي، قصد التفكير في أوجه الشبه التي تربط هذه التخصصات الثلاثة، على مستوى نماذج بناء معارفها تباعا. سيكون منطلقنا هو: هل ثمة حوار ممكن بين هذه التخصصات؟ أما السؤال الثاني فهو ذو طبيعة إبستمولوجية: ما المقصود بالمعرفة بالنسبة للتخييل والفلسفة والتاريخ؟ وأخيرا سنتساءل عن الكيفية التي تبنى بها المعرفة في هذه التخصصات.
الكلمات المفتاحية:التخييل، الفلسفة، التاريخ، الوضعانية، البنائية، التجديد اللغوي، النمذجة.
Abstract:
This article suggests that the triangle of history, fiction and philosophy can be addressed from an epistemological perspective to reflect on the similarities between these three disciplines at the level of their knowledge-building models.
Our starting point is: Is there a possible dialogue between these disciplines? The next question is of an epistemological nature: what is knowledge in Fiction, philosophy and history? Finally, we will ask how knowledge is built in these disciplines.
Keywords: Fiction, Philosophy, History, Positivism, Constructivism, Modelisation.
مقدمة :
لنسجل بداية، أن مثل هذه المقاربة تفترض إمكانية معالجة قضية المعرفة بين هذه التخصصات الثلاثة، أي ليس بين الفلسفة والتاريخ، وهو أمر مألوف ومعهود، ولكن بينهما و التخييل كذلك. إن هذا المقترح الذي يتيح اقترابا أوليا، ليس أمرا بدهيا في حد ذاته. فمنذ سنوات قليلة مضت، كانت هذه التخصصات الثلاثة تتطور بكيفيات شبه مستقلة؛ فكيفيات اشتغالها وروابطها بالواقع وبمعارفها كانت تعد أمورا شديدة الاختلاف. وجواباعن الأسئلة السابقة، لن يكون الجواب إلا كما يأتي :
إذا كان التخييل استحضارا لعوالم تخييلية، ولا يتضمن أية حمولة معرفية، فإن الفلسفة تضع معرفتها على مستوى المعارف الأولى، أو إذا أردنا على مستوى المعارف الميتافيزيقية؛ فإن المعرفة التاريخية هي إعادة بناء وقائع من الماضي.
منذ عشرات السنين، تغيرت الوضعية، بشكل جذري؛ فبفضل شيوع وانتشار المفاهيم الإبستمولوجية ذات الطبيعة البنائية، والانفتاح على معارف متعددة الاختصاص، لم يعد ممكنا خلق حوار بين هذه التخصصات الثلاثة فقط، بل تبين أن نماذج بنائها ليست مختلفة كثيرا، كما ساد الاعتقاد بذلك لمدد طويلة. وعلى النقيض من ذلك، تمثل هذه التخصصات كيفيات للاشتغال المعرفي والإبستمولوجي، تمكن من إحداث تقارب بينها. وعلى مثل هذا التقارب سنركز، حيث سنهتم كثيرا بشروط إمكانية إرساء حوار ثلاثي، والاستدلال على الفائدة المرجوة من تعميقه.
- التخييل والفلسفة والتاريخ وانتشار البنائية:
ابتداء من سنوات السبعينات، أثرت المفاهيم الإبستمولوجية ذات التوجه البنائي، تأثيرا بالغاً في كثير من أمور الحياة، وشكلت علة لما حصل من تغيرات عميقة طالَتْ مسألة اشتغال تخصصات شتى، في العلوم الإنسانية، وغيرها. وفي سياق هذا التغيير، أصبح مفهوم التخييل مركز النقاشات: التاريخ والأنثروبولوجيا والنقد التخييلي، وفي حقل الفلسفة، بكيفية من الكيفيات.
لقد اتضح أن التخييل مفهومٌ يمكنُ من الثورة على المفهوم التقليدي للمعرفة، من جهة أولى، وهو مفهوم قادرٌ على أن يتحول إلى عنصر مشترك، مرتبط بأي تخصص يقوم بكيفية من الكيفيات، على النص المكتوب، كي يبلور معارفه أو يرسخها أو ينقلها.
- مفهوم التخييل في العلوم الإنسانية:
لو عدنا إلى الوراء قليلا، لاتضحَ لنا أن مفهوم التخييل قدْ أَضحى بؤرة كثير من التأملات، في العلوم الإنسانية، موازاة بفترة هيمنة الإبدال البنائي، وانحدار الإبدال الوضعاني. وكان من تداعياته تنامي هذه المواقف الجديدة بحصول تبدل جذري، على مستوى تصور اللغة وطرق اشتغالها الإبستمولوجية: فمن تصور يعد اللغة العلمية وسيلة محايدة وشفافة تنتقل، من خلالها، التمثيلات المضبوطة عن الواقع، اتجهت العلوم الإنسانية إلى تصور للغة يرى فيها فضاء مركبا لبناء المعارف.
إن هذا التغيير الذي طَالَ التصورات الإبستمولوجية، قد اضطر مختلف التخصصات إلى إعادة النظر في خصائصها وحدودها، في إطار حركة حفز عليها كثيرٌ من الباحثين، ومن بينهم ما قام به فانسوندبايين الذي رفض أن تُحتكر الأموربين فئة محدودة، فآمن بما سماه بـ”التقاسمات الكبرى” بين العلم و التخييل، الإثنوغرافيا والتخييل، الواقعي والتخييلي، الموضوعي والذاتي، إلخ، أو ما اعتبره تهجيناً لممارسات خطابية مختلفة (الإثنوغرافيا، محكي الذات، التخييل، العلم، التخييل) أو أية صيغة تدهشنا بقدرتها على التواصل فيما بينها، بعد أن تبين أن الحدود الفاصلة ما بينها، لم تكنْ حدودا دائمة ولا أبدية[1].
في هذا السياق بالضبط، حيث فرض التخييل نفسه على العلوم الإنسانية، بوصفه مفهوماً قادراً على الدلالة على الطبيعة البنائية للمعرفة تماما، على النقيض من التصورات التمثيلاتية أو التي تعيد إنتاج المعارف، وفق المنظور الوضعاني. ومن الأمور التي شدد عليها التصور البنائي، الأهمية البالغة لفعل كتابة الباحث، وهو فعل يقوم على إعادة صياغة المعارف وتجويدها.
وعليه، فقد اتضح للعيان، أن عملاً مماثلاً للكتابة يوجد بشكل عملي، في صلب معظم تخصصات العلوم الإنسانية؛ التاريخ، الأنثروبولوجيا، وفي التخييل والفلسفة بشكل أكثر وضوحاً، إذا قبلنا ضمها إلى العلوم الإنسانية. هذه المعاينة حثت عينة من الخطابات على تبني نوع جديد من المعادلات (بشكل ضمني) بغرض إعادة تنظيم الروابط الناشئة بين مختلف التخصصات المشار إليها:
التخييل = البناء- الكتابة =العلوم الإنسانية = التخييل =الفلسفة |
مثل هذه المعادلة هي،في العمق، معادلة تبسيطية ومطبوعة بالعمومية، غير أنها تعكس رغبة في إزاحة المقولات والحدود التخصصية التقليدية. مثل هذا السياق النظري، هو ما أتاح لمؤرخ كبير مثل هايدين وايت(HaydenWhite) التأكيد على أن النصوص التاريخية هي “تخييلات لفظية”[2]، أو ما جعل كليفورد غيرتز(Clifford Geertz) يقرر أن النصوص الإثنوغرافية هي “تخييلات” بالمعنى الذي تكون فيه “مفبركة” أو” معدلة”[3].
- دفاعا عن التخييل:
لقد مكَّنَ مفهوم “التخييل” من إعادة قراءة التخييل، في ضوء الإبستمولوجيا البنائية الجديدة، وهو ما جعله موضوع نقاشات بين تخصصات مختلفة؛ غير أنه، في هذا المجال الذي يتسم بنقص في المعارف، مكنت هذه النقاشات من إثارة فكرة أن التخييل (والتخييل، بعامة) والدفاع عنها، سيكون لها إسهامٌ معرفي، أي اتصافها بقيمة إبستمولوجية. فإذا كان التخييل في دائرة المنطق الوضعاني، قد اعتُبِرَ خطاباً دون مرجعية ولا قيمة حقيقية، أو نُظر إليه على أنه مجرد كذب(أي ليس له أية فائدة بالنسبة للإبستمولوجيا)، فإنه، مع بروز المقترحات البنائية، قد انفتح المجال واسعا، أمام إمكانية تصور صيغ جديدة لمعنى المرجع، وصيغ جديدة لمعنى الإسهام في بناء المعرفة.
وفي هذا الإطار النظري الجديد، فإن البعد التخييليّ والخيالي الخالصين هما اللذان حازا تثمينا على الصعيدين المعرفي والإبستمولوجي. وقد أسهم بول ريكور، بشكل صريح ومباشر، في تقييم مساهمة التخييل وقيمته، مع الإلحاح، مثلا، على تصور صيغ غير مباشرةوغير ذات طبيعة واصفة للإحالة على الواقع. يقول بول ريكور(P.Ricoeur):” يتميز التخييل، إذا أمكن القول، بتكافؤ مضاعف بإزاء المرجع، فهو يتجه بعيدا، أي إلى لا اتجاه. ونظراً لكونه يشير إلى لا مكان، بإزاء أي واقع معين، فهو يستهدف، بطريقة غير مباشرة، هذا الواقع، وفق ما يحلو لي أن أسميه مفعولا جديداً للمرجع. هذا المفعول الجديد للمرجع، ليس شيئاً آخر سوى قوة التخييل على إعادة وصف الواقع“[4].
- دفاعاً عن الفلسفة:
يصعب على المرء، أن يصدر حكماً على مقدار الأثر الذي خلفه هذا المتغير الإبستمولوجي. فلمْ تتأثر الفلسفة بالمستجدات التي أدمجها هذا الإبدال الجديد، نظراً لعدم اعتبار الفلسفة علماً موضوعياً، من جهة أولى؛ ومن جهة ثانية، حصلت هناك تغيرات مهمة أخرى، بالموازاة مع انتشار البنائية التي أسهمت، بشكل عميق، في تعديل التخصص خلال المائة سنة الأخيرة.
هناك اتفاقٌ على أنه انطلاقاً من بداية القرن العشرين عاشت الفلسفة تغيراً هاماً، على صعيد انشغالاتها واهتماماتها. فمن تأملات تنصب على القضايا الميتافيزيقية، تحولت الفلسفة إلى تخصص يتطور ويـبئر اهتمامه وتأملاته على الأنظمة المتعالية الواقعية، على مستوى شروط إمكان الخطاب والمعارف والعقائد وتحققها.
لقد كان للثورة اللسانية أثر بالغ في هذا الانزياح، إذ بصمتْ، وما تزال تفعل ذلك، وبشكل عميق، كل تأمل فلسفي. ومن تجليات هذا التحول اتخاذ القضايا اللغوية والخطابية موضوع تفكير واهتمام كبيرين[5]. من اللازم مع ذلك، التأكيد على أن”الثورة اللسانية” بدأت مع النزعة الاختبارية الجديدة أو الاختبارية المنطقية، أي في سياق تطبعه التصورات الإبستمولوجية الوضعانية. ولم يحصل تقاطع بين القضايا اللسانية وتطور الاتجاه البنائي إلا مع منتصف القرن الفائت(1950)، الشيء الذي أسهم في ميلاد ثورات أخرى شأن الثورة التداولية[6] والنصية[7]والهيرمونطيقية[8].
أما فيما يتعلق بالدور الحاسم الذي لعبه مفهوم التخييل في التطور الحالي للفلسفة، فيبدو من الضروري التأكيد علىأن دور التخييل بقي ثانوياً بالنسبة للفلسفة. فعلا، نجد اهتماماً كبيراً من لدن الفلسفة بما هو تخييلي، منذ فريجه(Frege)وراسل (Russel)وريكور، مروراً بــسورل(Searle) وآخرين، بطبيعة الحال. وعلى النقيض من التخصصات الأخرى، بقي التخييل موضوع دراسة للفلسفة، لكنه لم يتحول إلى آلة تغيير داخلية.
لم تدَّع الفلسفةيوماً، وجودَ إحالة مرجعية مباشرة ووصفية للواقع الموضوعي، ولم تشعر بأي تهديد نظراً للتسرب الذي أوقدته شرارة التخييل. فبدل نشوء حركة للصوغ التخييلي، كما حصل في العلوم الإنسانية، ظلَّت الحركة مركزة على التثبيت، جاعلة التساؤل منصباً على الروابط القائمة بين الفلسفة والحقيقة. وهكذا، صرنا أمام نوع من انكماش قيمة حقيقة الخطاب الفلسفي، نرى صوره في المواقف النسبية والتفكيكية أو الحوارية، التي نمت خلال العشرية الأخيرة.ومن الأمثلة الدالة على ذلك، نذكرُ موقف الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي(RichardRorty)[9]. فبعد أن وجه نقداً قوياً ولاذعاً للتراث المعاصر، خلُصَ إلى أن الفلسفة ليستْ سوى مجرد أسلوب للحوار الخاص، شأن التخييل أو التاريخ. وأتبع ذلك بقوله إن” جوهر الفلسفة[…] هو متابعة الحوار، وليس العمل على اكتشاف الحقائق الموضوعية”[10]. وفي هذه الحال، لن يكون لمفهوم “التمثيل المطابق” من معنى سوى دلالته على الانحناء الآلي الذي نفصح من خلاله، عن توقيرنا للعقائد التي تقودنا إلى بلوغ غاياتنا[11].
إن ما يبدو واضحاً، سواء تحت تأثير مفهوم التخييل أو تحت ضغط النسبية، هو وعي هذه التخصصات الثلاثة بالدور الذي يضطلع به الوسيط اللساني في حسن الاشتغال الإبستمولوجي لأي من هذه التخصصات. واليوم، لم يعد الأمر يبدو خاصا ومتميزا، ولربما لم يكن الأمر كذلك يوما ما؛ فما دمنا نعد اللغة، في العلوم الإنسانية وغيرها، أداة محايدة تتقيد بالواقع أو الفكر أو المعرفة باعتبارها منتوجاً للغة ما، سيكون من شبه المستحيل تصور تشابهات ما بين هذه التخصصات الثلاثة، إذ ما يزال ينظر إلى هذه التخصصات على أنها ممارسات مختلفة تهتم بموضوعات متباينة. وعليه، فإن عودة الروح هذه هي ما يسمح، الآن وهنا، باعتباره قاسما مشتركا بين هذه التخصصات الثلاثة، والدعوة على هذا الأساس، إلى حوار مشترك بينها.
- المرحلة الثانية من انتشار البنائية:
نحن، الآن، في وضع مختلف؛ فالأمور تغيرت، بشكل ملفت، ليس لأننا تركنا وراء ظهرانينا التصور الوضعاني عن اللغة والمعرفة، ولكنْ لأننا تجاوزنا، أيضا، الفترة التي كان فيها ضروريا، أن نندد بالطابع التخييلي أو النسبيّ لهذا الخطاب أو ذاك، بل يمكننا أن نؤكد أننا أضحينا في مرحلة ثانية من انتشار التوجيهات البنائية[12].
لقد فرض التوجه البنائي نفسه، في كثير من العلوم الإنسانية، تقريباً، فأصبح التمايز عن الاتجاه الوضعاني أمرًا مطلوبًا ومرغوبًا فيه. وقد نجم عن كل ذلك، أن فقدَ مفهوم التخييل من قيمته، بشكل تدريجي. والتشديد اليوم، على أن التاريخ أو الأنثروبولوجيا، هما بعدان تخييليان لم يعدْ مثيرا للهرطقة، كما كان الحال قبل نصف قرن. إننا نعاينُ ضرباً من تسليع مفهوم التخييل، حيث انتقل من مفهوم جدالي وثوري إلى مفهوم عادٍ جدًا، دالٍّ على أن كل معرفة هي ضرب من البناء؛ غير أن هذا التوكيد، داخل الإبدال البنائي، لم يعدْ يشكل أية أهمية، فقد صار مكسبا، ومن شأن تكرارِ ذلكَ تحويلهُ إلى أمر عاد وسخيف[13].
وعليه، فقد صارَ ممكنًا التساؤل عن الأهمية التي نضفيها، حاليا، على استخدام هذا المفهوم. ولربما وجبَ، كما يقترح ذلك العديد من المؤلفين[14]، أن نجعل مفهوم التخييل مفهوماً مركزيًا في كل الممارسات الكتابية التخييليةو الفنية، والكفّ عن الاستخدام العام الذي يقود لامحالة، إلى ضرب من التخييل العابر حيثُ يعتبر كل شيء تخييلياً، وهو أمرٌ قليل الأهمية، في السياق الإبستمولوجي الحالي. ولعلَّ ما يستوجبُ الصفة الاستعجالية، أن نَعودَ إلى الصفات المختلفة لهذه التخصصات والسعي إلى إعادة بناء حدودها، لكن اعتماداً على أسس إبستمولوجية جديدة ومتجددة. ومن هذه الزاوية، نجدُ أن الأعمال الأخيرة لجان ماري شايفر(J.M. Schaeffer)ذاتُ أهمية قصوى، خاصة مقالته المعنونة بــ”أية حقيقة، لأي تخييل”[15]، حيث سعى إلى التدقيق في مختلف استعمالات مفهوم التخييل، حينما لاحظ وجود استعمال غير دقيق وغير موفق لمصطلح التخييل، وذلك بإجراء تمييز بين مختلف صيغ بناء التمثيلات في كل تخصص استخدم أو استوحى هذا المفهوم(شأن التاريخ، الأنثربولوجيا أو التخييل على وجه الخصوص).
من جهة أولى، يرى شايفرأنه بتغيير الإبدال الإبستمولوجي فإن معالجة التخييل وفهمه ستتغير كذلك. فقد صارت معالجة التخييل تتم بعيدًا عن لعبة التعارضات بين التخييل وخطاب الحقيقة، بل صارت تدرس بالنظر إلى سياقات الاستخدام وصيغ الاستعمال. يؤكد شايفر أن “ميزة التخييل تكمنُ في كون تمثيلاته ليست ذات طابع إحالي، ولكن الأمر يتعلق بالطريقة التي نتقيد بهذه التمثيلات”[16]. ومن جهة ثانية، فإن مقاربة شايفر توضح لنا اليوم، أننا غير قادرين على إطلاق وصف تخييل على كل خطاب مبنينٍ لأن التخييل هو كل خطاب يمكنُ إعادة وصف خصائص كتابته في ضوء الإبستمولوجيا الجديدة (الإبستمولوجيا البنائية)، وذلك لأن كل ممارسات الكتابة أصيبت بمعضلة تعميم مفهوم”التخييل” وتعويمه.
وفق هذه الرؤية، نجد أن المنظور البنائي يوفر لنا شبكة جديدة لتحليل يسمح بوصف بنائي لكل المعارف من داخل تخصصاتها. فإذا كانت التصورات الوضعانية، في اللغة والمعرفة، قد عودتنا على التفكير في اتجاه أحادي للمعنى والمرجع والمعرفة، فإن البنائية دعتنا على النقيض من ذلك، إلى الفصل بينها. إن مثل هذه الإبستمولوجيا، تدعونا إلى تمييز أربعة مستويات تتعلق بكيفيات بناء المعرفة:
- إن عمل النمذجة الرمزية، الذي يتم عبر اللغة، نقصد به عمل بناء التمثيلات الواضحة والمفهومة، التي تمدنا بمواضيع سواء أكانت واقعية أو خيالية.
- إن إرساء الإحالة، التي تقودنا إلى عنصر خارج-نصي، وقائعي أو عاطفي، هو ما يحفز فعل النمذجة ويُسوغه؛
- الحكم على القيمة الإبستمولوجية لهذا التمثيل أو ذاك يتمُّ من داخل المجموعة التخصصية.
- الوعي بما لدينا، وما ننتج من تمثيلات.
وحينما نأخذ هذه المعطيات بالاعتبار، سندرك أن هذه التخصصات الثلاثة تتقاسم فيما بينها، بشكل يقيني، فعلاً متشابها في النمذجة الرمزية؛ ذلك أن التخييل والفلسفة والتاريخ تشيِّدُ تمثيلات يُفترضُ فيها أن تحمل دلالات واضحة ومفهومة وتكشف عن رؤية مواد حقيقية أو خيالية. وبناء عليه، وفيما يتصل ببقية المستويات، فثمة فروقات مهمة، ستبرز،لاشك في ذلك. أما ما له علاقة بالنقطة الثانية، ولنأخذ الخطاب التاريخي مثلا، فإنه، على العكس من التخييل والفلسفة، بحاجة ماسة إلى الإحالة على موضوع خارج-لساني(أثر ما، وثيقة معينة من الماضي) يسوغ ويحفز بناء تمثيليا ما. فمعيار الإحالة سيتدخل باعتباره عنصراً حاسماً ودالاًّ لكي يكون بالإمكان إنجاز تقييم إيجابيّ لطبيعة التمثيلات التاريخية. وعلى النقيض من ذلك، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للتخييل أو الفلسفة، حيث الإحالة عنصر خارجي(من العالم)، أمر ممكن، غير أنها لا تضطلع بالدور نفسه للحكم على قيمة تمثيل داخل التخصص. وفي بعض الحالات(حالة الخيال العلمي، مثلا)، أو حالة الفلسفات التأملية، تصبح القدرة على الابتعاد عن مرجع مباشر للواقع ميزة خاصة.
وأخيرا، فإن من الأمور المثيرة للانتباه، أننا لا نستشهد أبداً بنص أدبي أو فلسفي، خلال محاكمة، بينما نعود إلى نص تاريخي قصد إعادة بناء وضعية مخصوصة، في حين قد يحصل أن نبكي حرقة ونحن نقرأ نصا روائيا أو نصا تاريخيا، غير أن هذا الأمر لن يحدث لنا أبدًا، ونحن نقرأ نصا فلسفيا.
ونظراً لإحساسنا بصعوبة تحليل هذه المستويات الأربعة، سنكتفي بالتركيز على المستوى الأول، كي نتعمق خصائص فعل النمذجة الرمزية، لأنه أساس مشترك وقادر على ربط التخصصات الثلاثة.
- الاشتغال في حدود اللغة
بإمكان مجالات التخييل والفلسفة والتاريخ أن توجد قاسما مشتركا بينها، وهو الاشتغال على صعيد بناء النمذجة الرمزية. والأمر، في تقديرنا، يتعلق بفعل تجديد وتنظيم عناصر معلومة أو معارف مبنية أو انتقاء البعض منها أو بنينته؛ غير أن هذا العمل يجب أن يتميز بالإبداع والتجديد والابتكار. وما نسميه اليوم تقدما، في هذه التخصصات، ليس سوى ما تفيده اللغة بخصوص أشياء لم تقل، لحد الآن، أو تمَّ نسيانها: حدث مضى أو توليف وقائع مجهولة أو تعبير أصيل عن شعور أو انفعال أو توليف تصوري.
إن التشديد، هنا، على هذين البعدين الإدراكيين، لا يكتسي، في حدّ ذاته، أية ميزة خاصة. وإذا دققنا جيدا، فإن فكرة التخييل نفسها، تحملُ في أحشائها أفكار الابتكار والخيال، غير أن هذه الأفكار وضعت بين قوسين دلالةً على تفضيل البعد البنائي. ولربما يكون البعد الإبداعي مطبوعاً بالانزياح والخطورة كي نتمكن من إدماجه في تصور جديد للمعرفة.
إن المعرفة، من منظور بنائي، ليست صياغة لوصف مناسب لواقعة حقيقية، وليست بناءً لتمثيل يطابق واقعة خارج-نصية، وإنما هي اتصال الموضوع بإنتاج معنى جديد. وهكذا يصح أن نقول إن الأمر متعلق بإنتاج جديد وأصيل لتمثيل يحترم المعايير المنهجية التخصصية، تقره المجموعات العلمية المعترف بها باعتباره تمثيلاً مناسباً حاملاً لمعرفة معينة. وهو الأمر الذي سيحثنا على أن نتصور التخييل مكاناً لتشكل المعارف. وتلتقي هذه الصياغة بفكرةَ “التجديد الدلالي” التي عمل بول ريكور على تطويرها في بحثه في موضوع الاستعارة. إن التجديد الدلالي هو حصيلة لغويات جديدة وأصيلة، تفاجئنا نظراً لطابعها غير الملائم؛ فهي “نتاج ملاءمة دلالية جديدة لوصف غير ملائم”[17]. ومثل هذا التوصيف غير الملائم يقع في حدود اللغة المألوفة؛ فهو يستكشف الممكنات ويدّعي تركيبات غير اعتيادية، ولربما تكون، أحيانا، مزعجة.
وعليه، يبدو أن هذا التقابل ما بينَ الصياغة الأصلية وحالة من اللغة الخاصة، ليس ميزة خالصة لأي تطور في مجال التخييل.
والآن، دعونا، نستدل بما يؤكدُ ما سبق، أمورا ذات صلة باكتشافات مشهورة. لنأخذ مثالا عربيا:
“قد ضل من كانت العميان تهديه”.
أو قول غاليلو حين قال:”هناك جبال فوق القمر”.
أو أنريكو فيرمي حيث يقول:”الذرة قابلة لأن تتجزأ”.
وهي تعابير ترفد اللغة بأمور جديدة نسبيا؛ لأنها لم تكشف عن وجود حقيقة مستترة، ولكنها جددت لغة تخصصاتها. في نظام بطليموس، يكون الحديث عن جبال فوق القمر لا معنى له، ولا حتى في الفيزياء القديمة، حيث لا معنى لقولنا إن الذّرّة (غير القابلة للتجزيء) يمكن تجزيئها…وقياسا على ما سلف، يمكن أن نستشهد بعينة من الجمل الشهيرة التي ميزت انعطافات في الفلسفة، مثلا: “أنا أفكر إذاً أنا موجود” (ديكارت).
أو قول هايدغر:”اللغة مأوى الكائن”
فهؤلاء الباحثون أحدثوا نوعا من التجديد الدلالي لم يعد يقتصر على الاستعارة، بل صار موضع اهتمام كل منتوج غير ملائم، على صعيد اللعب اللغوي في مختلف التخصصات التي ذكرنا. فقد ولَّدوا مستجدات دلالية لا تختلف كثيراً عن بيت إيلوار:” السماء زرقاء مثل برتقالة”.
فقد أتى هؤلاء الباحثون بأمور لم يسبق لأحد أن جاء بها، في سياق مشابه، وأصبغوا على هذه التوكيدات قيمة كانت حكراً على توكيدات أخرى.
خاتمة:
ختامًا، لا يسعنا إلا الإلحاح على أهمية وقيمة السيْر قدماً، في تعميق النقاش على مستوى النمذجة الرمزية، التي تستدعي استكشاف حدود اللعب اللغوي لهذه التخصصات الثلاثة تباعا. وهذا أمر حيوي وضروري قصد الوصول إلى صياغة جديدة ومتقدمة. بطبيعة الحال، يلزم أن نكون قادرين على مواصلة هذا التأمل، وذلك بتحليل تفاصيل عمل النمذجة داخل كل تخصص من التخصصات موضوع مقالتنا (التخييل، الفلسفة، التاريخ)، ولذلك من الواجب أن نكون قادرين على إرساء حوار بين المشتغلين في هذه التخصصات.
قائمة المراجع:
- توماس س. كون: بنية الثورات العلمية،ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة،توزيع مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت-لبنان، [1962]2009.
- ريكور، بـول:من النص إلى الفعل، ترجمة محمد برادة وحسان بورقية، ط 1،عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، مصر، [1986]،2001.
- Armengaud,Françoise:La pragmatique,PUF,Paris,1985.
- Clifford,James et Georges Marcus(dir):Poetics and Politics of Ethnography,Berkeley et Los Angeles, Univ. Of California Press, 1986.
- Colleyn,Jean-Pierre :« Fiction et Fictions en anthropologie»,L’Homme,N°175-176,
- Debaene, Vincent :« Ethnographie/fiction», L’Homme, N°175-176,2005.
- Gourdin, Jean : Le tournant hérméneutique de la phénoménologie, PUF, Paris, 2003.
- Ricoeur,Paul:La métaphore vive,PUF,Paris,1975.
- Ricoeur, Paul:Temps et Récit I/II/III,Seuils,Paris,1983/1984/1985.
- Schaeffer,Jean-Marie :« Quelles vérités pour quelles fictions»,L’Homme,N°175,2005.
- Schaeffer,Jean-Marie :Pourquoi la fiction ?,Seuil,Paris,1999.
- White, Hayden: Tropics of Discourse. Essays in Cultural Criticism, Baltimore et Londres, John Hopkins University Press, 1978.
[1]ديبايين، 2005، ص224.
[2] هايدن، وايت، 1978، ص84 .
[3]غيريتز، كليفورد،1998، ص87.
[4]ريكور، بول، 2001، ص.246.
[5]يكفي أن نذكر المنطق الصوري وقضايا الإحالة وقيمة الحقيقة ونظرية أفعال الكلام وموضوعات الترجمة والتأويل والتيارين الهيرمونيطيقي والتفكيكي، إلخ.
[6]خاصة مع فرانسواز أرمنغو(1985)، ويورغن هابرماس(2001) الذي يشكل تمثيلاً مثيراً للاهتمام، لكل ما له صلة بالرهانات التي صاغتها الثورة اللسانية التداولية.
[7]ماوريز فيراري(1986)؛
[8]نجد هناك إزالة الحدود التي ألمحنا إليه.
[9]انظر كتابه « Homme spéculaire »، 1990.
[10]نفسه، ص377.
[11]نفسه، ص21.
[12]إن الأمر لا يتعلق بمرحلة ثورية، بل بمرحلة إرساء وتطبيع إذا اقتبسنا مقولات طوماس كون.
[13]يقول فانسون ديبايين:” إن فهم التخييل باعتباره بناء هي إحدى المقولات التي تشمل كل منتوج خطابي متماسك؛ فهو لا يقع على النقيض من أي شيء، سوى المنظور الواقعي التقليدي الذي كان من هفواته تجاهل التخييل واعتبار اللغة شفافة”(223:2005).
[14]كليفور دوماركوس(1986)، دبايين(2005)، شايفر(2005)، كولين(2005)، بونولي(2007/2008).
[15]« Quelle vérité pour quelle fiction ».
[16]شايفر، ج.ماري، 2005، ص34.
[17]ريكور، بول، 1975، ص09.