الأنساق الثقافية في رواية الديوان الإسبرطي لعبد الوهاب عيساوي
Cultural patterns in the novel of the SpartanDiwan by Abd al-Wahhab al-Isawi
د. لخضر بن عيسى ذيب ـ جامعة عمار ثليجي الأغواط – الجزائر.
Lakhdar Ben Aissa Dib Université Amar Telidji de Laghouat-Algeria.
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 71 الصفحة 9.
Abstract :
This research paper attempts to reveal the various cultural patterns hidden in the text – Accordingly, it seeks to study The SpartanDiwan of Abdel-Wahhab Al-Issawi – of study in order to clarify the various aspects of the different cultural ; After the study and analysis, we have reached a set of results, which we summarize as follows
– Writing for Abd al-Wahhab al-Isawyis the greed of my readers and my contact with writers inside and outside the country.
– The novel understudy captures a historical aspect that Algeria experienced during the Ottoman and French presence
Cultural patterns start from the title that was provocative, semantic, linguistically, and epistemological, as well as historically
Keywords: Cultural Formats- The Novel- The SpartanDiwan
ملخص :
تهدف دراستنا إلى الكشف عن مختلف الأنساق الثقافية الموجودة في الرواية لعبد الوهاب عيساوي من خلال السعي إلى دراسة رواية الديوان الإسبرطي بغية استجلاء مختلف تجليات الأنساق الثقافية المختلفة التي تضمنتها الرواية. ; وقد توصلنا بعد الدراسة والتحليل إلى مجموعة من النتائج ، نلخصها فيما يأتي :
الكتابة عند عبد الوهاب عيساوي هي نهم قرائي واحتكاك بالكتاب داخل وخارج الوطن.
– الرواية محل الدراسة ترصد جانبا تاريخيا عاشته أرض الجزائر إبان وجودين العثماني والفرنسي .
– الأنساق الثقافية تنطلق من العنوان الذي جاء مستفزا دلاليا ولغويا ومعرفيا وكذلك تاريخيا
الكلمات المفتاحية: الأنساق الثقافية- الرواية-الديوان الإسبرطي –
مقدمة:
لا تقوم قراءة الرواية على الطريقة التقليدية السائدة أي: البحث عن معنى مباشر، وثابت في النص، هو ذلك المعنى الذي رمى إليه المؤلف، ومن جهة أخرى لا تقتصر قراءة الرواية على تلقي الجانب المعرفي من النص، وإنما تشمل أيضا الاستمتاع، والتلذذ بقراءة السرد، والاندماج بما فيه من عوالم متخيلة، قراءة تأملية دقيقة، لا تكتفي بالنظر الأفقي السطحي، الذي يقتصر على متابعة الأحداث، وتتبع الزمن، والتعرف إلى الشخوص، بل ينبغي أن تكون القراءة مرتكزة على التحديق في الزوايا الظليلة، والبقع المعتمة، من المبنى الحكائي، ومعرفة ما لم يقل عن طريق ما يقال، من باب الإيحاء، والتلميح، وهذا بطبيعة الحال ينقل القارئ من قارئ متقبل فحسب، إلى قارئ منتج، على أساس أن النص الروائي بما يحيل إليه من مرجعيات مختلفة، ومتعددة، نص مفتوح على احتمالات عدة تعرف بالمعنى الذي يجمع عليه المفسرون، وليس المعنى الذي قصد إليه الكاتب والمبدع، فالنص ما هو إلا “نسيج فضاءات بيضاء، فرجات ينبغي ملؤها، ومن يبثه يتكهن بأنها )فرجات( سوف تملأ في تركها بيضاء لسببين: هو أن النص يمثل آلية كسولة ) أو مقتصدة( تحيا من قيمة المعنى الزائدة التي يكون المتلقي قد أدخلها إلى النص و هذا ديدن النقد الثقافي . من أجل ذلك كله اخترنا لدراستنا رواية عبد الوهاب عيسىاوي الموسومة بــــ : الديوان الإسبرطي ، و اخترنا هذه الرواية لسببين اثنين : أولا لتشجيع الرواية الشبابية الجزائرية ، ثانيا لأن الرواية تحصلت على جائزة البوكر العربي.
ويهدف البحث إلى الكشف عن حقائق تاريخية عاشتها الجزائر ( المحروسة ) إبان التواجد العثماني و الاحتلال الفرنسي. بكل موضوعية وإنصاف.
إن لهذا البحث إشكالية محورية تمثلت في: ما هي أهم الأنساق الثقافية التي شكلت البنية النصية لمدونة الديوان الإسيرطي ؟
ولنتمكن من الإجابة عن هذا التساؤل : اقترحنا الفرضيات الآتية :.
أول نسق يستفزنا في الرواية هو نسق العنونة .
بما أن الرواية غلب عليها الطابع التاريخي الذي يسجل مرحلة هامة من تاريخ الجزائر وهو الوجود العثماني ثم الاحتلال الفرنسي ، فلا بد من وجود شخصيات متعددة و متباينة تحرك الأحداث ، مما اضطرنا إلى معالجة نسق الآخر في الرواية.
ونسق ثالث بدى لنا أنه يستحق الدراسة هو نسق العنف.
ولدراسة هذه الرواية اعتمدنا المنهج الوصفي التحليلي فضلا عن المنهج التاريخي .
النقد الثقافي:
هو فعل الكشف عن الأنساق، وتعرية الخطابات المؤسساتية، والتعرف على أساليبها في ترسيخ هيمنتها، وفرض شروطها على الذائقة الحضارية للأمة يهتم بالمضمر في النصوص والخطابات، ويستقصي اللاوعي النصي، وينتقل دلاليا من الدلالات الحرفية والتضمينية إلى الدلالات النسقية ، وهو معني بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي، وما هو كذلك، سواء بسواء….وهو لذا معني بكشف لاالجمالي .
إنه نظرية ومنهج في الأنساق المضمرة أو المعتقدات الذهنية العميقة باعتبارها نماذج راسخة ومنظومة فكرية ثابتة ، ذات أثر في النصوص الثقافية، والجمالية بالذات ، تتولد منها هذه النصوص بالضرورة و يمكن القول بأن النقد الثقافي استعمال للأدوات النقدية لنقد الخطاب الثقافي وكشف مجموعة الأفكار المتآزرة والمترابطة التي تتمكن في الأعماق، وتؤثر بشكل حتمي في الفعل الجمالي والثقافي ، حتى تصبح ذات وجود حقيقي يمثل الأصل النظري للكشف والتأويل. ويعد النقد الثقافي، في دلالته العامة نشاط فكري يتخذ الثقافة بشموليتها موضوعا لبحثه وتفكيره، ويعبر عن مواقف معينة إزاء تطوراتها وسماتها.
النسق :
عرّف (الخليل الفراهيدي) النسق قائلاً: ((نسق: النسق من كل شيء: ما كان على نظام واحد عام في الأشياء، ونسقته نسقا ونسقته تنسيقا، ونقول: انتسقت هذه الأشياء بعضها إلى بعض أي تنسقت
أما الزمخشري فقال: النسق الدر وغيره، ونسقه ودر منسوق، ومنسق ونسق وتنسقت هذه الأشياء وتناسقت، ومن المجاز كلام متناسق، وقد تناسق كلامه، وجاء على نسق ونظام، وثغر نسق، وقام القوم نسقا، وغرست النخل نسقا.
إن النسق يرتكز على معايير وقيم، تشكّل مع الفاعلين الآخرين جزء من بيئة الفاعلين، وهدف كل فاعل هو الحصول على أقصى درجة من الإشباع، وإذا ما دخل الفاعل في تفاعل مع آخرين وحصل في ذلك الإشباع فذلك مدعاة لتكرار التفاعل ، “بمعنى نظام، أو منظومة، أو شبكة أو طريقة System .ومن مشتقات الجذرSystem ،تصنيفي/ تر تيبي/ منظوم، مصوغ في صورة نظام أو مجموعة متماسكة من الأفكار المبادئ Systematical.
المضمر :
الصيغ غير المباشرة التي تتطلب فائضا من العمل الإنتاجي والتأويلي تتعارض مع مبدأ بذل أقل جهد ممكن ، و”يعد القول المضمر ” قوال مبطنا” يتم الإدلاء به من “طرف خفي” و”تلميحا”، وبهذا المعنى يمكن تشبيهه بالإغراق. فهو كل المعلومات التي يمكن للكلام أن يحتويها ولكن تحقيقها في الواقع يبقى رهن خصوصيات سياق الحديث، و يرتبط بوضعية الخطاب ومقامه على عكس الافتراض المسبق الذي يحدد على أساس معطيات لغوية، ويتم إدراكه عن طريق العلامات التي يتضمنها القول ، فقد لقد لاحظنا مرات عديدة أَّن لغة التخاطب الطبيعي ليست صريحة؛ ذلك أنه توجد قضايا لا يقع التعبير عنها تعبيرا مباشرا ، ولكن يمكن استنتاجها من قضايا أخرى قد عبر عنها تعبيرا سليما – على حد تعبير فان دايك.
و أخطرها في دعوانا قناع الجمالية، أي إن الخطاب البالغي الجمالي يخبئ من تحته شيئا آخر غير الجمالية، وليست الجمالية إلا أداة تسويق وتمرير لهذا المخبوء، وتحت كل ما هو جمالي هناك شيء نسقي مضمر، ويعمل الجمالي عمل التعمية الثقافية لكي تظل الأنساق فاعلة ومؤثرة ومستديمة من تحت قناع”.
خلف المعنى الظاهري، وفي هذا يقول أفلاطونPlato” :ذلك أن العالم المرئي بما له من ظواهر خاصة إذا كان يستمد وجوده الحقيقي من العقل الكلي، فقد يجد هذا المعنى تطبيقه في اللفظ البارز إلى عالم الظاهر. فهذا اللفظ ظلاله شاحبة؛ أما حقيقته فتقع في عالم المثل التي تعد الألفاظ صورها الظلية.
وقد حدد النقاد والمشتغلون في النقد الثقافي شروطا أربعة للنسق المضمر، حددها الغذامي في كتابه (النقد الثقافي )، بقوله: “يتحدد النسق عبر وظيفته، وليس عبر وجوده المجرد، والوظيفة النسقية لا تحدث إلا في وضع محدد ومقيد، وهذا يكون حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمر، ويكون المضمر ناقضا وناسخا للظاهر. و يكون ذلك في نص واحد، أو في ما هو في حكم النص الواحد. ويشترط في النص أن يكون جماليا، وأن يكون جماهيريا. ولسنا نقصد الجمالي حسب الشرط النقدي المؤسساتي، وإنما الجمالي هو ما اعتبرته الرعية الثقافية جميلا.
النسق الثقافي :هو تنظيم صورة واضحة للعلاقات الاجتماعية ضمن ثقافة محددة” . كما نشير في هذا السياق، إلى العالقة الوثيقة بين النسق الثقافي، والنسق الاجتماعي؛ وكأنهما وجهان لعملة واحدة. ويعرف النسق الاجتماعي، بأنه، “منظومة من الأفعال والتفاعلات بين الأشخاص الذين توجد بينهم صالت متبادلة.
وقد أشار لومان نيكوالسLuhmannNiklas في كتابه( مدخل إلى نظرية الأنساق)، إلى هذا الترابط بين النسقين الثقافي والاجتماعي، بقوله: ” الثقافة يجب أن تتمأسس، أي أن يتم إعدادها اجتماعيا، وتكون قابلة للاستعمال الاجتماعي. تداخل الثقافة في النسق الشخصاني تكون عبر “التربية الاجتماعية” “: الأفراد يجب أن يتكيفوا اجتماعيا عبر اللقاءات الاجتماعية لكي يتمكنوا من إنجاز مساهمتهم في نسق الفعل”.
و النّسق الثّقافي له روافد عديدة، منها أنساق الأفكار والمعتقدات، وأنساق الرّموز التّعبيرية، وأنساق التّوجيه ، وهذه الأنساق هي وحدات أو أنساق فرعية تحقّق وحدة النّسق الثّقافي الذي يعدّ بدوره أحد الأنساق العامة للفعل.
فالروائي ينطلق في رحلة الكتابة من خلفيات ثقافية أو اجتماعية أو إثنية وغيرها ،فالرؤيا عنده موقف فلسفي يتهيأ من الإدراك العميق لمجموعـة قـضايا جوهريـة تتـصل بالإنسان والمجتمع والكون، إنها تتسع نسق العنوان :
يعتبر العنوان عنصرا أساسيا في بنية النص و فهم ما غمض منه، إذ هو المحور الذي يتوالد و يتنامى و يعيد إنتاج نفسه فهو إن صحت المشابهة بمثابة الرأس للجسد و الأساس الذي تبنى عليه، غير أنه إما أن يكون طويلا فيساعد على توقع المضمون الذي يتلوه و إما أن يكون قصيرا و حينئذ فإنه لا بد من قرائن فوق لغوية توحي بما يتبعه، فهو يتمتع بخصائص تعبيرية و جمالية تتحكم في دلالية النص، في التأويل الأدبي مثل بساطة العبارة و كثافة الدلالة ، ويؤدي أدوارا هامة في إيضاح الغوامض، و خلق الانسجام المطلوب بين المادة المعنوية و بين مؤلفها و سياق التأليف والقراءة معا و من هنا تنبع الأهمية القصوى لمقاربة التأويلية لكثير من العناوين من حيث هي نصوص مصغرة تحيل على نصوص موسعة، أو باعتبارها مرايا معلقة واجهة النصوص، تتوجه إليها عيون القراء لترى تفاصيل النص ،فالعنوان يمدنا بزاد ثمين لتفكيك النص و دراسته.
لأول وهلة أجزم أن الرواية قد نجحت بشكل من الأشكال في كسر أفق الانتظار عند المتلقي، بسياق لم يكن في الحسبان فالتركيب اللفظي الاسمي- الديوان الإسبرطي – يحدث ما يشبه الإرباك يؤثر سلبا على المسافة الجمالية التي هي الفرق بين التوقعات وبين الشكل المحدد لعمل بمقدار اتساع الثقافة والتحاقها بالتجربـة الإنـسانية مـن خلال أحداث الحياة اليومية .
وتلحظ هذه المسافة، بشكل واضح في العلاقة بين الجمهور والنقد، فالديوان هو الدائرة الرسمية التي تكون مهمتها القيام بالأعمال الإدارية، وتقابل الوزارات في وقتنا الحاضر، وتُحفظ فيه السجلات، ويدخل فيه كُتَّاب الرسائل ومكان جلوسهم، وكتّاب الجند والنظر في أعطياتهم، وكتّاب الخراج وسجلاتهم. و يسمى أيضاً “ديوان الجيش” و”ديوان العسكر” ، فيه يتم تسجيل أسماء الجند وأصنافهم وأنسابهم.
أما الصفة ( الإسبرطي ) فيحيلنا مباشرة إلى مدينة إسبرطة ، مدينة التناقضات ، حيث أن الأساطير فيها أكثر من الحقيقة، و ماضيها تقريبا مجهول، سكن المنطقة الآخيون و بعدها الدوريون في القرن الثاني عشر قبل الميلادي، أسسوا مدينة إسبرطة، عن طريق إدماج خمس قرى – وبالمناسبة الرواية تتكون من خمسة فصول – و من مميزات السكان فيها التصميم عن العزلة عن الشعب الذي غزوه، فقد ظلوا على نظامهم وطبقيتهم . إرسالهم لجاليات إلى الخارج، و قيامهم بغزوات عدة . لديهم جيش قائم منظم ، و قد حرموا على أنفسهم النشاط الزراعي و التجاري ، الذي كان يترك للعبيد بمعنى أنهم كانوا يعيشون على عاتقهم ، تركيزهم على الجانب العسكري.
فالرواية من خلال عنوانها تأريخية بامتياز ، فلطالما كانت العناوين مداخل كاشفة للمتون السّردية وحتى الشّعرية. والتأريخ كما هو معروف هو تلك المادة المنجزة و المنتهية التي مر عليها زمن لا بأس به ، يضمن حدود المسافة التأملية بيننا و بين المادة المعنية.
و الرواية تؤرخ بل تحاول معالجة موضوع الجزائر العثمانية (مرحلة مهمة من تاريخ التواجد العثماني بالجزائر) ، فيا ترى لماذا يريد الكاتب استقصاء واقعة إنسانية منقضية ؟ هل غدت الجزائر معادلا موضوعياً لإسبرطه اليونان ؟ فالإسبرطيونأشبه بالعثمانيين، أمة لا تقوم إلا على قوة السلاح.
فتتبع ارتحالات المعنى من الثقافة بعناصرها المركبة من أفكـار، وممارسـات إلـى العقل الإبداعي (المؤلف)، الذي ينجح في تحويل العناصر من الصيغ الثقافية إلى الصيغ الأدبية واختزالها في صورة خطاب أدبي جمالي ينتظر قارئا
واعيا، يحل شـفرات الثقافـة المركبـة، ويكشف عن دلالات تحولها من الثقافي إلى الأدبي لإنتاج خطاب نقدي حول النص ، يؤسس لظهور جملة من الأنساق لم تكن في الحسبان .
نسق الآخر في الرواية :
“الديوان الإسبرطي”؛ هذه الرواية وثيقـة تاريخية رجعت بنا إلى محطة حاسمـة في تـاريخ الجزائـر ، تلك المحطة التي توسطت تاريخ العهد التركي- وهو أطول العهود في الجزائر ( 1514 -1830) -والتواجد الفرنسي بعده، إذ حاولت الرواية من خلال كاتبها أن تتفاعل مع الشخصيات الأخرى إما سلبا أو إيجابا ، فمن العثماني ( التركي ) إلى اليهودي فالفرنسي ، كلها شخصيات اتضحت ملامحها عن طريق المقارنة والإسقاطات التاريخية .
- صورة الآخر ( العثماني ) : لقد تعاملت الرواية مع الآخر( العثماني ) – في بعض وقفاتها بصورة لم تلامس الموضوعية ، فهو البلاء الأعظم والطاعون المقيت و الشرير المترصّد لمن حوله، حملات تشويه التاريخ العثماني ، يقول “ديبون” : ” كنت أحب هذه السفينة ومؤمنا أنها ستعود منتصرة ، اقتربت أكثر منها، حتى رأيت قبطانها يدخن غليونه من هناك، وددت لو دونت بعض ما يجول برأسه، هل تراه يتفاءل بهذه الحملة؟ أم أنه يخشى الأتراك ؟ فلم يكونوا في يوم ما لقمة سهلة……تعلن لمن كان حوله مدى خوفه مما كان ينتظرهم عند السواحل الإفريقية” .
هذا الخوف الدفين وفوبيا الدولة العثمانية قديم، فقد كان الآباء يخيفون أبناءهم ببربروسا جاعلين منه غولا يأكل الأطفال ، طبعا هو خوف مفتعل ومصطنع تتبناه الدوائر الاستشراقية لتعمل على تشويه صورة و سمعة الدولة العثمانية و الانتقاص من التاريخ العثماني، فالأوروبيون عندما كانوا يفرون من الظلم، كانوا يحتمون بالدولة العثمانية، ولعل وفاة فرانسوا الأول كان سببًا في تيسير عَقْد الصلح الذي كانت فرنسا تَسْعى للحَيْلولة دون إتمامه؛ طَمَعًا في تجديد اتفاقياتها مع الدولة العثمانية، إلا أن شعورهم بخطر التَّمَدُّد الإسلامي، وتَوَسُّعه، سيُجْبِرهم على التَّوَحُّد ضده، وإن تَنَكَّروا للصَنائِع، ونَبَذوا العهود. وفي مناسبة أخرى يقول ” ديبون”: قالها بعنف، بالرغم من أنني كنت أرنو إلى الطاولة الأخرى . بدا لي أنه لا يختلف عنها ستظل تحدق بي طويلا؟ الآخرين في سأمه من الانتظار، لذا تشجعت و قلت:
-أهذا الحنق بسبب تأخير الرحيل أم خوفا من الأتراك؟؟ وأجاب بالحنق نفسه
ويقول أيضا :
” قبل أشهر كنا نحمل لباشا الجزائر الهدايا ليرضى عنهم ، واليوم يسوقوننا إلى هناك لنقتل بيد الأتراك القراصنة.”
فصورة الأتراك عند ديبون هي أنهم مجرد قراصنة غزاة استولوا على أرض الجزائر، مع أن الأمر ليس كذلك ، لأنّ الجزائريين في مقاوماتهم العنيفة للإسبان فضّلوا الاستعانة بالأتراك لسدّ الطريق أمام التسرّب الإسباني ، فقد كانت نجدة القائدين لمدينة الجزائر تلبية لاستغاثة إسلامية بهما من شيخ تلك المدينة إذ ذاك سالم التومي، ولقي القائدان من رجال الجزائر ما يريدان من تأييد وإعانة وطاعة وثبات وبطولة. فنحن اليوم بحاجة إلى قراءة التاريخ بأعيننا نحن، لا بعيون غيرنا.
أما كافيار فقد أظهر عدائية منقطعة النضير للأتراك ، يقول : “لن أضطر إلى تفحص الوجوه لأقرأ ما تبطنه النفوس، المور والأتراك والأعراب والقبائل وحتى الصحراويين أعرفهم مثل أصابع يدي، والأرض الممتدة من حول إسبرطة مثل راحتي” .
ويقول : ” كان القائد التركي يريد فقط أن يوافقه أحد على أنهم خارجون عن القانون ” .
وهذا مبرر كاف لإذكاء الفتن و قتل مئات الآلاف من الجزائريين ، كان الدم يجري لأقل شبهة والعذاب الأليم يحل فيشنق الباشاوات وتستل أرواحهم من أسفلهم ويجعلون العصاة على الحديد ويحزون الرؤوس وبذلك كان يتمكن الباشاوات من توطيد سلطانهم على الرعايا وإلا أصبحوا عرضة للحرق والشنق ،وكل يوم تتجدد مطالب الباشا ،وهؤلاء الأتراك طماعون لدرجة لا تتنبأ فيها بحجم مطالبهم، تهبهم ألفا فيضاعفون الأرقام، مهووسون بالنساء والذهب “. .
غاب عنهما لتجسد الحي للفضائل الإسلامية . وبذلك تيسر له حكم هذه الإيالات ووضع ضرائب شديدة عليها ما كان القوم يتحملونها لو لم يكونوا من عناصر وأديان مختلفة، وكان شريف باشا حاكما على الشام كله وتحت يده الحكام ، وكان طماعا في المال .
وهذا كان شعار معظم الجزائريين الذين تأثّروا بالثقافة الفرنسية هو شعار الكتّاب الفرنسيين أنفسهم، الذين اكتفوا برمي العثمانيين بالوحشية الثقافية والاستبداد السّياسي والشّره الاقتصادي.
وفي مفارقة عجيبة تنسخ التصور القبيح الذي ارتسم في الأفق المعرفي للمتلقي عن الدولة العثمانية، يفاجئنا كاتب الرواية عبدالوهاب عيساوي بمقاربة أشبه ما تكون بمسافة التوتر التي تنشأ لا على صعيد المكونات اللغوية الجزئية فقط؛ بل على صعيد المواقف الفكرية ليمنح المتلقي القدرة على المشاركة في إنتاج النص الروائي وتخصيبه برؤى جديدة وإعادة صياغته في إطار معطيات جديدة ، ليعيد رسم الصورة الذهنية عن الوجود العثماني – سيئ الصيت –بالجزائر ، وهذا نفسُ ما وقع بالجزائر من تشويهِ تاريخها وتصويرها في جميع عصورها -خصوصًا في العصر العثماني- بأقبح الصّور ،
يقول “ابن ميار” التاجر والسياسي الجزائري في حديثه عن العثمانيين: ” لم يكن المشهد ليغيب عن ذهني أصواتهم تتعالى وقهقهتهم وهم يدخنون غاليينهم ويحتسون القهوة معيدين سير المعارك القديمة، يومها كانت المحروسة عرسا لنا ولهم، وبعد رحيلهم أضحت مدينة تختلط فيها الدماء بالغبار”، ترى لم حدث هذا “.
يؤكد ابن ميار ما ذهب إليه الدكتور مولود قاسم حين قال : ” إنّ الوثائق الرّسمية الفرنسية والعثمانية بالدرجة الأولى، تُضاف إليها تقاريرُ الزّائرين الآخرين تعطينا صورةً مختلفةً للجزائر عمّا يُقال عنها اليوم، فكلٌّ من شهادات المسيحيين والمسلمين تتفق على إعطاء الدولة الجزائرية علامات مرتفعة (وشهادات عليا) على ما عرفته من الانضباط والاستقرار واحترام القانون والارتباط الاجتماعي والمستوى الثقافي الذي بلغته ” .
والحقيقة التاريخية التي لا يمكن إنكارها أن الدولة العثمانية قامت على نصرة الدين والدفاع عن المظلومين ، كانت خير حامي لكل المعتقدات والأديان والقوميات وتراثياتها وتقاليدها، وكانت مضطلعة بحراسة دور العبادة لكل الأديان السماوية، وأيضًا كانت الدولة العثمانية هي الملجأ الآمن لكل المضطهدين في العالم من كل الأديان.
فتحسر ابن ميار الجزائري عن الخروج العثماني غير المعلن من الأراضي الجزائرية دليل على أن الوجود العثماني لم يكن شرا مستطيرا ، بل كان حافلا بالأفراح والمسرات والانتصارات كما أشار ابن ميار ، فقد تم تحرير مدينة جيجل من الاحتلال الجنوي الإيطالي، وتحرير بجاية ومدينة الجزائر من الاحتلال الإسباني ، و الفضل يعود إلى العثمانيين، في تأسيس دولة مركزية قويّة في العصر الحديث باسم الدولة الجزائري ، فرَضَت هيبتها على الأوروبيين عن طريق سيطرتها على الحوض الغربي للبحر المتوسط،
يقول ديبون منتصرا للعثمانيين ومنحازا إليه رغم أنه فرنسي : ” فركت عيني غير مصدق ما أراه ، أفعلا هذه هي المدينة التي حدثونا عنها ، ورسموا الصورة المخيفة لها؟ أهذا هو الجحيم الذي أخاف أوربا قرونا ثلاثة؟! تخيلتها مثل فوهة بركان، أو ثكنة رمادية الجدران، وإذ بي أفاجأ بمدينة جميلة ، لم أصدق أنني كنت أراها بذلك الشكل، والصور لم تطابق ما قيل عنها ، هل هو وهم آخر قد عشته ؟ قد أوهموا الجميع بتلك القصص الخرافية عن الجحيم في مدينة القراصنة”. .
وقد تصاهر الجزائريون مع العثمانيين واندمجت أسرٌ كثيرةٌ من الطرفين حتى كوّنت نسيجًا اجتماعيًّا واحدًا، وكان العثمانيون في المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لا يكادون يختلفون عن الجزائريين ، فالباشا رجل طيب يحب رعاياه، وإن الناس هناك يحبون الخير ويرتادون المساجد على الدوام، ويحث منصور أن يكبر كي يرسله إلى الجامع الكبير، ليحصل على علم سادته المالكية ، فأهل العلم دوما مقدمون بين الناس وعند الباشا.” .
هذه الحقائق والوقائع التاريخية تظهر مدى موضوعية عبدالوهاب عيساوي إزاء الوجود العثماني بالجزائر ، فقد كان منصفا في طرحه ، حيث عرض أفكاره – السجلات التاريخية التي تؤرخ لهذه الحقبة و التي استقى منها رؤاه وبنى عليها مواقفه – بكل أمانة ،إذ إن المؤرخين والمهتمين بهذا الشأن في الجزائر انقسموا إزاء هذه القضية إلى فريقين : فريق يتهم ويهاجم و يرمي بشرره ، وفريق يدافع وينافح ويرافع ، والكلام الفصل في هذا الأمر هو الوسطية و بعيدا عن المغالطات التاريخية و الأحكام المسبقة أو القراءات الإيديولوجية أو التحليلات السّياسية أو الخلفيات المذهبية ، فآل عثمان لم يكونوا مثاليين و لا مستعمرين ، وقضية الأخطاء و المظالم ، يجب تناولها على أساس أنّها ظاهرة سلطة وليست ظاهرة قومية.
صورة اليهودي : يتعامل الأدب مع حتمية وجود الآخر الذي قد يكون آخر للكاتب والهوية الجمعية التي يمثلها ولا يكون آخر للآخرين ، وإن كان ذلك الآخر هو ذلك اليهودي الذي طالما اتسم بالحقد والجشع والمكر والخبث ، فاليهود لا يحترمون عهداً ولا ميثاقاً، لأن العهد عندهم وسيلةٌ مؤقتةٌ للحصول علـى مكسبٍ آخر ،( فاليهودي الذمي الذي يُدعى سطورا ، و كان يشتغل قابض مكس، فتح الباب للإسبان، على حين غفلة من المسلمين بمعية عيسى العريبي وابن قائص، وقد أسفر الغزو عن مقتل 04 آلاف مسلم وأسر 08 آلاف) و رغم الحرية التي عرفها اليهود أثناء الوجود العثماني والمكانة التي كانوا يتمتّعون بها ( كانت الدولة العثمانية أكثر مكان عاش فيه اليهود بحرية وراحة طوال تاريخهم. فحتى في القرن التاسع عشر لم يكن اليهود يتمتعون بالحرية الدينية ولا حتى الحق في الحياة في معظم الدول الأوروبية) إلا أنهم خانوا العهد بمجرد دخول الاحتلال الفرنسي إلى الجزائر. فلن يتحول العدو إلى صديق، ولا النخالة إلى دقيق! حيث ساهمت هذه الفئة – اليهود –في تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية للبلاد وكانوا وراء كل التوترات والاضطرابات التي حلت بالبلاد فكيف ننسى يهود الدونمة و ما فعلته جمعية الاتحاد والترقي… بالدولة العثمانية آخر الخلافة الإسلامية.؟
يقول “كافيار” متحدثا عن اليهود:”… المسافة التي يتركها المور بينهم وبين اليهود، لا تسمح لهم بفهم دواخلهم بشكل كاف، في إسبرطة يخضع اليهود فيما بينهم إلى قوانينهم لا إلى قوانين المدينة، إذ يتولى إدارتهم رجل من أبناء الطائفة يعينه الباشا، ويسمح لهم بممارسة التجارة، ولكن الضرائب كانت مضاعفة (…) وكلما تأملت سلوكهم أدرك أن ما يحمله هؤلاء اليهود من خنوع، كان أكثر مما يحمله المور ، الذين يصرفون سلطة الأتراك عنهم تجاه الأتراك ، وأيضا تجاه نسائهم.” .
فاليهود حسب ما ذكر كافيار قلة من الناس داخل المجتمع الجزائري لهم قوانينهم الخاصة ، والحقيقة أن وجودهم في الجزائر يعود إلى فترة قديمة ، يسكنون أحياء خاصة ويدفعون الضرائب أسوة بباقي الطوائف غير المسلمة في الإمبراطورية العثمانية. فكل مساء خميس، قبل غروب الشمس يحمل رئيس الأمة إلى الجنينة أو القصبة مبلغ 7000 بوجو، ويضعه في يد الباشا ، وقد تمتعوا بامتيازات اقتصادية كبيرة إبان التواجد العثماني فهم يمارسون التجارة. وتبوؤوا مكانة مهمة لدى السلطات إذ كانوا تحت حماية الداي وحكومة الأتراك. لكنهم رضوا بالخنوع.
والخضوع وضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا . و “مادام أولئك اليهود بها أعتقد أنه ليس من الصعب احتلال هذه الربوة، ميولاتهم إلى المال تجعلهم يخدموننا مقابل فوائد دائمة.” .
اليهود لا يتخلون عن دسائسهم و حقدهم ، لم يتخلوا عن مكرهم وكيدهم؛ فكلما سنحت لهم فرصة اهتبلوها، وبادروا إليها. فقد لعب اليهوديان بكري وبوشناق – اللذان قدما من إيطاليا إلى الجزائر سنة 1770 – دورا مهما في إشعال نار الفتنة وتفاقم الفتنة بين الجزائر وفرنسا قبيل الاحتلال حول مسألة ما تبقى من ديون الجزائر في ذمة فرنسا. لم يعارض يهود الجزائر الاحتلال الفرنسي، بل كان موقفهم يتجه إلى تشجيعه ،فقد مهدوا الطريق لفرنسا حتى تحتل الجزائر ولما احتلت فرنسا الجزائر عام 1830 تمتع اليهود الجزائريون بامتيازات كثيرة جعلتهم في مركز أفضل من بقية السكان المسلمين، وذلك بهدف بذر الفتنة بين الجزائريين لتسهل السيطرة عليهم. فإذا أر ادت حكومة الديراكتور – حكومة الإدارة (بالفرنسية Directoire)- أن تكظم غيضها، وتعقد سلاما مع الجزائر فهي لا تحتاج إلا إلى تدخل بكري سريا لهذه الغاية. ومعروف من هو بكري. يقول ابن ميار في حقهم : ” خطر لي أن أنعطف تجاه الغرب، لكني تذكرت أحياء اليهود، لم أعد أثق بهؤلاء الناس، كانوا يقاسموننا الخبز والملح ثم فجأة بعد دخول الفرنسيين بدأوا يهتفون لهم ” .
فاليهود كما صورتهم الرواية بل كما صورهم التاريخ خونة العهود، لا يؤمن شرهم، و لا يؤمن مكرهم، لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً .
و يضيف ابن ميار قائلا مظهرا تشاؤمه منهم : ” هؤلاء اليهود غريبون بالمدينة حتى تعتقد أنهم يحبونها أكثر منا نحن أهلها .وآخرون رأيتهم يسيرون أمام صفوف الجنود ويهتفون بحياة الفرنسيين “.
فابن ميار مندهش من وقاحة و نذالة و وضاعة هؤلاء اليهود يأكلون الغلة ويسبون الملة ، فمجرد دخول الفرنسيين إلى الجزائر خرجوا إلى الشوارع هاتفين “: فيفا لا فرنصيص يحيا الفرنسيين. “!بل أكثر من ذلك فقد أعلنوا تاريخ الاحتلال عيدا لهم، وذلك تعبيرا منهم عن تأييدهم الكلي له.
إن الرواية لم تقدم جديدا بخصوص الصورة النمطية الراسخة في الأذهان بشأن الشخصية اليهودية ، الكذب والخداع والظلم والغش والربا، والقتل وهتك العرض، وكل وسيلة قبيحة خبيثة في معاملة الأمم.
صورة سكان الجزائر :
يقول “ديبون”: “… والأتراك فقط من يمتلك كل شيء، أما العرب فلم يكونوا إلا عمال في مزارعهم .
يبدو أن سكان الجزائر (المحروسة) من العرب على لسان ديبون كانوا مجرد أجراء (خماسة) في أراضيهم التي استحوذ عليها العثمانيون حسب قوله ، ومورس عليهم التسلط والظلم حتى أصبحوا مواطنين من الدرجة الثالثة في بلدهم ، وربما كان هذا مبررا كافيا لفرنسا بأن تشن حملتها ضد الجزائر لتخليص الجزائريين وتحريرهم من جرائم الاحتلال العثماني حيث تأثرت بها العديد من المناطق في إيالة الجزائر خاصة الغربية منها، التي تأثرت أثرا عميقا كانت آثارها لا تزال باقية حتى بداية عهد الاحتلال ، ويقول كافيار : ” لا تختلف ذهنيات أولئك الفلاحين إلا بالقدر اليسير عن المور ميالون إلى الاسترخاء ، لا يعملون إلا والسوط فوق ظهورهم اعتقدت دائما أن الشعوب الإفريقية والعربية ، لا يمكنها تحقيق مصالحها إلا بالفرد الأوروبي لا يستطيعون تنظيم حياتهم ، يجب دائما أن يكون هناك سيد ينوب عنهم يسير لهم حياتهم وهم ليس عليهم فعل شيء سوى جدهم في العمل، ولكنهم بالرغم من كل هذا أميل إلى الكسل، قانعين بحياة لا تختلف عن حياة حيواناتهم”.
الفرنسيون من خلال كافيار احتقروا آدمية الجزائريين عربا وبربرا وساووهم مع الحيوانات وكانوا محل سخريتهم، كما احتقروا يهود الجزائر برغم التضحيات الكبرى التي قدمها هؤلاء لفرنسا .
نسق العنف : حيث يتداخل الثقافي مع الأدبي لتكوين فكرة داخل النص، هذه الفكرة تلعـب بـدورها، أدوارا مختلفة داخل النص أيضا، وهي تبدو معقدة، و صعبة الفهم لاعتمادهـا علـى العناصـر الثقافية والأدبية في الوقت نفسه، وما يميز هذه الطبقات اعتمادها على بعضها أو يكمل بعـضها بعضا، فيصبح ذلك الحيز الذي تنزل عليه قوى القمع والتنشئة الاجتماعية والضبط والعقاب و يترتب عليه أذى أو معاناة، سواء من الناحية الجسدية، أو الجنسية، أو النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة .
حيث تحول العنف إلى سلطة تمارسها المجتمعات بوسائل مختلفة تدفعها غريزة التسلط والسيطرة على الآخر .
يقول ديبون : “من يا ترى بقي يحتفظ بأحلام المجنون الذي أراد أن يُتوّج ملكًا على العالم؟! بالرغم من أن اسمه بقي ينوس في ذاكرة الناس، إلا أنّ صديقي كافيار كان أكثرهم اشتعالا بسيرة القائد المجنون، أُحب أن أُسميه شاول اللَّعين، يضحك حين يسمعها. يتّفق مع تجار مرسيليا في جدوى بقاء الفرنسيين في هذه المدينة الإسبرطية التي ترتفع خلف البحر، فالتجّار في مرسيليا يريدونها بالتأكيد ليس فقط من أجل أمجادهم السالفة، بل لأشياء أخرى، المال كما يقول شاول إله جديد وما أكثر الآلهة! آلهة في البحر وأخرى في البر .
هذا العنف التسلطي الذي مارسه الخطاب الروائي في استهداف الآخر موقفا أو سلوكا لا مبرر له سوى ذلك الهوس والجنون الذي يترجم أطماع فرنسا الاستعمارية والإمبريالية منتقلا عبر الأجيال ومسهما في قبول العنف وتمثلاته في الثقافة . إذ حاول الروائي الاستغراق في فهم إشكالية العنف ودوافعه ، فأشار إلى عنف آخر مارسه العثمانيون ، يقول حمة السلاوي :
” كل سنة كنت أراهم يفدون بالمئات من أناضولية، لا يحملون شيئًا معهم سوى كونهم أتراكًا، يبنون لهم أوجاقًا جديدةً. أيام فقط حتى يصبحوا جنودًا يسيّرونهم إلى أريافنا، من أجل ضرائب تعود إلى خزينتهم، أما في سنوات الوباء فلم تُرفع الضرائب، ولم تُفتح مخازنهم لأحدٍ منا، بل ظلّت معاشاتهم تزداد. يَحذَر الباشا أن ينتقص منها ريالاً واحدًا…. منذ وعيت رأيتهم يملأون المحروسة. كانوا مختلفين عنا، يُنبّهني التُّجار أنهم مسلمون مثلنا ولم يبد لي أن الأمر متعلقٌ بالدين بل بعرقهم. بسهولة تكتشف طبع هؤلاء الأتراك، كبرياؤهم لا حدود له، ميّالون إلى إهانة الناس، كانت بيوتهم أجمل من بيوتنا، ومزارعهم أوسع من مزارعنا، ومُفتيهم له الكلمة الكبيرة عند الباشا الكبير. بالرَّغم من أنّنا أكثر عددًا. “
وجود عثماني غدا نقمة على سكان المحروسة المغلوبون على أمرهم و المستضعفون في الأرض ،فرضت عليهم المكوس الظالمة. والضرائب المجحفة و ساءت علاقة العثمانيين بالمجتمع الجزائري و أصبحت المحروسة مستعمرة استغلال ، في صورة أراد من خلالها الكاتب أن يحمل هذه الاستكانة هذا التخاذل وهذا التجابن إلى أهل المحروسة كونهم رضوا بالخنوع و رضوا بأن يكونوا من الخوالف ولم يظهروا أي نوع من المقاومة التي تحفظ ماء الوجه ، فكان ضريبة الذل أن صاروا على حد قول أحد شخصيات الرواية : نحن الرجال هكذا دائما، حين يضطهدنا الحكام نبحث عن أقرب امرأة لنثبت لأنفسنا أننا أقوياء، مع أن البغاء الحقيقي هو ما يمارسه هؤلاء الحكام علينا، كل يوم يضاجعوننا بالضرائب والإتاوات وكنا نرضخ لهم، حتى في الطرقات كان العربي حينما يمر بالتركي ينتحي مكانا أقصى الطريق، يخشى تلامس الأكتاف ببعضها، وإن حدث فسيكون مصيره مئة فلقة .
وتومئ الرواية إلى نوع آخر من العنف ، وهو ذلك العنف الذي يمارس على المرأة باغتصابها ودفعا إلى الرذيلة دفعا ، فمزوار الخائن الذي اغتصب دوجة (المرأة التي أتت من الريف بعد أن فقدت عائلتها) وهي حبية السلاوي ، هذه المرأة المنكسرة التي جاءت إلى المحروسة طلبا إلى حياة أفضل ، لكنها تفاجأت بعد أيام من دخولها إلى المحروسة أن تلك الأيام اختلفت عن الأيام الأولى لدخولي المحروسة، لم أرها مثلما رآها”حمة”، ولاكما اعتقدها “ابنميار” كلما مضى منها يوم يوَلد في نفسي مزيدا من الكراهية لأهلها، حتى شيخ الحي الذي ظننت أنه أفضلهم لم يكن ليختلف عنهم .
فدوجة تعرضت للعنف في مسقط رأسها (الريف) حيث التضييق والتعنيف و الحرمان من الخروج للجيران والأقارب والحرمان من التعليم فضلا عن العنف الجسدي، ولاحقها هذا العنف إلى المحروسة ، فتارة تمارس البغاء مع مزوار الذي استباح جسدها ، وتارة مع الأتراك وتارة أخرى مع الفرنسيين هي أشبه بأرض المحروسة وطأتها أقدام وأقدام .
دوجة الغانية التي كانت تتطلع إلى أن يحتضنها السلاوي فيؤمن لها حياة كانت تنشدها أو يهرب بها بعيدا حيث الهدوء والسكينة، لكن السلاوي خيب ضنها ، تقول : ” وخلفني وحيدة في هذه الغرفة الضّيقة، يُقابل وجهي السَّطح وأعدُّ أعمدته، عناكب مسرعة على شباكها، رأيت الخطوط الشّفافة لها عبر الضوء المنبعث من كوة في الجدار “.
خاتمة :
نتفق مسبقا على أن الرواية كجنس أدبي لا تخلو من الثقافة كونها نسق مضمر، يسعى النقد الثقافي إلى الكشف عنه.
– الكتابة عند عبد الوهاب عيساوي هي نهم قرائي واحتكاك بالكتاب داخل وخارج الوطن .
– النقد الثقافي يقارب النص من خلال تعريته من أنساقه المضمرة و اكتشاف خلفياتها ومبرراتها وفضاءاتها المعرفية .
– الرواية محل الدراسة ترصد جانبا تاريخيا عاشته أرض الجزائر إبان وجودين العثماني والفرنسي .
– الكاتب في موقفه إزاء الوجودين ( العثماني ، الفرنسي ) ،تبنى موقفا تاريخيا موضوعيا وعلميا
– الأنساق الثقافية تنطلق من العنوان الذي جاء مستفزا دلاليا ولغويا ومعرفيا وكذلك تاريخيا .
– النسق الذى بدى لنا مهما في هذه الرواية هو نسق الآخر الذي تبددت صوره وتلونت وتعددت ، ما بين العثماني ( التركي ) واليهودي والفرنسي والعربي ( الجزائري ).
– قدم لنا نسقا ضجت به الرواية وهو نسق العنف الذي تمثل في جرائم خلفها الطرفان : العثمانيون والفرنسيون وسجلها التاريخ عليهم . احتقار وامتهان وتعال وكبرياء و ظلم .
– عنف آخر أشار إليه الكاتب وهو العنف الذي مورس ضد المرأة سواء محليا أو من أطراف خارجية .
– اللغة في الرواية كانت طيعة وراحت تجاري السرد التاريخي فافتقدت إلى الفنية و الجمالية والشعرية .
قائمة المصادر :
- عبد الوهاب عيساوي ,2019 ، الديوان الإسبرطي ، دار ميم للنشر ، الجزائر.
المراجع بالعربية :
- إبراهيم رماني ، 2009 ، إضاءات في الأدب والثقافة والإيديولوجية، ط01 ،دار الحكمة ، الجزائر .
- أحمد يوسف عبد الفتاح ، 2009 ، قراءة النص وسؤال الثقافة، عالم الكتب الحديث ، إربد ، الأردن .
- حامد أبو أحمد، 2003 ، القارئ والحكاية، مركز الحضارة العربية، ط2 ، القاهرة.
- سليمة عذاوري ، 2012 ، شعرية التناص في الرواية العربية الرواية والتاريخ ، رؤية للنشر والتوزيع ، القاهرة .
- عبد الله محمد الغذامي ، 2000 ، النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية ، ، الدار البيضاء، بيروت، المركز الثقافي العربي.
- عبد الله محمد الغذامي و عبد النبي اصطيف 2004 ، نقد ثقافي أم نقد أدبي ، دار الفكر ، ط1 ، دمشق ،سوريا.
- عبد المجيد الحسيب ، 2014 ،: الرواية العربية الجديدة إشكالية اللغة, عالم الكتب الحديث ، الأردن,
- محمد بازي ، 2012 ، العنوان في الثقافة العربية التشكيل ومسائل التأويل، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ط 1 ، الجزائر.
- محمد كرد علي ، 1983 ، خطط الشام ، مكتبة النوري ، ط3 ، دمشق.
- ميجان الرويلي ، 2007 ، دليل الناقد الأدبي ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، بيروت.
المراجع المترجمة :
- أمبرتو إيكو، 1996 ، القارئ في الحكاية) التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية (ترجمة أنطوان أبوزيد، المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ، بيروت.
- إيان كريب (1999). النظرية الاجتماعية من بارسونز الى هابرماس. ترجمة محمد حسين غلوم. مجلس الثقافة والفنون والآداب. سلسلة عالم المعرفة. الكويت.
- فان دايك، 2000 ، النص والسياق (استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي)، ترجمة عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ـ. بريوت.
- لومان نيكلاس، 2010 ، مدخل إلى نظرية الأنساق، ترجمة يوسف حجازي، منشوارت الجمل. بغداد.
- المجلس الاقتصادي والاجتماعي ، المنتدى الدائم المعني بقضايا الشعوب الأصلية الدورة الثانية عشرة، البند 07 من جدول الأعمال المؤقت، نيويورك حقوق الإنسان ، ص02 .