آليات الأسلوب السردي في رواية لقلق النبي يونس ومخطوطة التاريخ الآخر لمحمود جاسم عثمان
Mechanisms of narrative style in a novel the Stork of the Prophet Yunus and the Manuscript of other History For Mahmoud Jassim Othman
أ.م.د. مصعب مكي زبيبة ـ كلية الآداب ـ جامعة الكوفة ـ العراق
Assistant Professor Dr.Musab Makki Zabiba College of Arts, University of Kufa, Iraq
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 70 الصفحة 113.
الخلاصة:
تحتفي رواية (لقلق النبي يونس ومخطوطة التاريخ الآخر) بالعقل الذي هو مدار الإنسان وكيانه، وتضع أمامه الأساطير، وبعض مرويات التاريخ غير المنطقيّة وغير المفهومة، وتدعو من خلال الشخصيّة الرئيسة التي هي أستاذ جامعي مختص بفلسفة التاريخ إلى القيام بحفريات ثقافيّة وتاريخيّة للوصول إلى صحّة أو عدم صحّة هذه المرويات. تتضمّن الرواية بعض تأريخ الكوفة، وعادات ناسها، وعلاقاتهم الاجتماعيّة، وتتضمّن أيضاً قصّة حب غريبة عاشتها الشخصية المذكورة التي شكّلت جزءا كبيرا في علاقاته مع الآخرين ونظرته إلى المجتمع.
الكلمات المفتاحية: لقلق النبي يونس، الأسلوبية
Summary
The novel (the Stork of the Prophet Yunus and the Manuscript of other History) celebrates with the mind which is the path of man’s own ,and puts in front of him myths, and some illegal and in comprehensive narratives of history and calls through the main character who is an academic professor specialized in philosophy and history to perform cultural and historical excavations to reach correct or incorrect of these narrations. The novel implicates some of the history of Kufa, habits of its people, and their social relations, and also includes a strange love story that the aforementioned character lived which shaped a large part in his relationship with others and his view of society.
Key words: Stork of the Prophet Yunus, stylistic
أولاً: المدونة الذاتيّة:
مؤلّف رواية (لقلق النبي يونس ومخطوطة التاريخ الآخر) الأستاذ محمود جاسم عثمان النعيمي من مواليد ١٩٤٩. دخل مدرسة غازي الابتدائية في الكوت عام ١٩٥٥م، وأكمل الدراسة الابتدائيّة في مدرسة الرشيد في الرمادي، ودرس المتوسّطة في مدرسة الخورنق في النجف الأشرف، والدراسة الإعداديّة في مدرسة النجف الأشرف، دخل كلّية الشرطة العراقيّة عام ١٩٦٧م، وتخرّج فيها عام 1980م، انتمى لنقابة المحامين عام 1982م، وترأّس نادي القصّة في اتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف (2007ـ 2017)، ويشغل عضويّة نادي اَلْمُتَنَبِّي الثقافيّ في الكوفة حاليا، وترأّس اتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف من سنة 2019. صدر للمؤلّف عدداً من الروايات هي: 1ـ حي السعد، دار المواهب للطبعة، النجف، ط1، 2009.
2ـ ما انكشف عن حجر الصوّان، دار سطور، بغداد طبعت في لبنان ط1، 2015.
3ـ الآسرة وخاصرة التفاح دار d4 للطباعة والنشر، النجف الأشرف، ط1، 2017.
وصدر له أيضا مجموعة قصصيّة بعنوان: تداعيات فتى مراهق، من إصدارات اتحاد والكتّاب في النجف، ط1، 2011. وله أيضا معجم كتاب القصّة في النجف الأشرف (1920ـ 2010)، ط1، 2011. عن دار المعارف للمطبوعات، والقصة في النجف الأشرف (النشأة والتطور 1921ـ 2021) من إصدارات اتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف.
ثانياً: مدخل نظري: في أسلوبيّة السرد
الأسلوبيّة هي المشترك العضويّ مع الأدب، فالأدب هو الدم الذي يغذي الأسلوبيّة، لاستجلاء الأبعاد الفنيّة والجماليّة، وحضوره في جسدها حضور حياة وتفاعل وتكامل، والأسلوبيّة لا تنمو أو تزدهر في التعبير غير الأدبي، ولا تظهر بغياب الإبداع؛ لأنّ عملها الرئيس هو استقراء أسلوب كاتب ما، وتفاوته عن أسلوب كاتب آخر.
والأسلوبيّة السرديّة لها نمطها الخاصّ المختلف عن الأسلوبيّة الشعريّة؛ لأنّها تشتغل على خط أفقي مناظر لطريقة السارد، لا على الموضوع الذي تحكيه الرواية؛ لأنّ ((حقيقة الرواية، كما هي الحال في الرسم ليست في الموضوع؛ بل في الأسلوب، ولست أقصدُ بالأسلوب طريقة الكتابة؛ لأنّنا في هذه الحال سنحصل على لغويّين وأسلوبيّين، لا على روائيين؛ بل أفهم من هذه الكلمة الطريقة، ونبرة المؤلّف الخاصّة))([1]). لتتبلور الفرادة الأسلوبيّة في السرد الفنّي، ولتشحذَ الكلمة الروائيّة النثريّة تميّزها وإبداعها، ويعلو أفقها في سماء التحليل والنقد الأسلوبيّينِ، و((تحتلّ مكانتها في الأسلوبيّة، فمن جهة ظهرت مجموعة من التحليلات الأسلوبيّة المشخّصة للنثر الروائيّ، وقامت من جهة أخرى محاولات مبدئيّة، لإدراك أصالة النثر الفنّي بالنسبة إلى الشعر، ورحم ملامح هذه الأصالة))([2]). فالرواية تسير على مسارات متعدّدة متوازية ومتقاطعة، فيها الوظائف المتنوّعة التي تعتمل على التأسيس غير المنطقي للغة؛ لأنّها تحاكي عواطف الناس ومشاعرهم وأفكارهم وأنماط معيشتهم، وطموحاتهم، وصراعاتهم غير المنطقيّة في بعض الأحيان، ليكون منحني دلالاتها الإيقاعيّة والتشكيليّة الذي يربط تناثر الأحداث والذي يشعرنا بالمفاجآت غير المتوقّعة؛ حادَّ البيانات؛ لأنّها تصوّر الخصوصيّة الاجتماعيّة، وعبر حوارها الانفعالي المكثّف تنكشف الطاقة الكامنة في لغتها ورسالتها. و((فرصة الكتابة نثرا يتيح مجالا أوسع للتعبير عن الحياة، وواقع المجتمعات؛ لأنّها تعمل على تقريب المتخيّل من الواقع، كما تمنح للراوي حرية أكبر؛ لأنّه يبتعد عن قيود الشعر))([3]). وهذا عائد إلى اللغة البسيطة التي تكتب بها الرواية، والقرب الأسلوبيّ مع الواقع المعيش، كلّ ذلك يجعل من الرواية ذات أسلوبيّة شديدة الالتصاق بالواقع لما ترصده من شخوص وعلاقات سيميائيّة تربط الأحداث بالمكان.
وهي تضحي بمركزيّتها الدائرة حول مؤلّفها من أجل الانتصار إلى شخوصها وحوارها وأحداثها، ولهذا يختفي صوت المؤلّف وينزوي أمام الحركة العكسيّة التي تكثّفُ الأحداث الدراميّة، ولهذا يهيمن على التحليل الأسلوبيّ النظر إلى التعدّد الصوتي في الرواية، واللغة الكاشفة عن عصرها ومكانها؛ فيجب أن تكون ((لغة الرواية متعدّدة بتعدّد شخصياتها وأيديولوجياتها))([4]). والأسلوب هو الذي ينظّم إيقاعها الراصد، ويؤلّف عوالم الأمكنة والأزمنة والأحداث فيها، فضلاً عن حركة الرواية وتغييرها وبنائها ومدلولاتها، وذلك برسم الخطوط الإيقاعيّة المنتظمة فيما بينها، مشِّكلةً بناء روائيّاً متصاعداً([5]). والقيمة الأسلوبيّة للسرد تبدو في إضمارات متعدّدة في العلاقات الروائيّة، التي يمكن قراءاتها على أنّها شفرات تحتاج فكّها واستظهار مقاصدها من أجل تحقيق ((سمات أسلوبيّة غير متوقّعة من لدن أغلب القرّاء؛ لأنّ عدم التوقّع يُقَوِّي الانتباه عند القارئ، وعندما يفاجأ هذا بإدراك هذه السمات يكون المسنّن عِنْدئِذٍ حقّق هدفه بإيصال المقصديّة والتأثير الأسلوبيّ في آن واحد))([6]). والأسلوبيّة السرديّة نتاج خيالي يشتغل على الواقع، ومن ثماره إظهار الخطاب المقصود من السرد بصورته المضمرة؛ لأنّ الخطاب الظاهر البيّن يبدو كأنّه خطبة وعظيّة لا تنتمي إلى الأدب، وفعل الراوي يشتمل على ((مجمل الظروف المكانيّة والزمنيّة والواقعيّة والخياليّة التي تحيط به، فهو إذن عملية إنتاج يمثّل فيها الراوي دور المنتج، والمروي له دور المستهلك، والخطاب دور السلعة المنتجة))([7]). ووظيفة السرد هو تنظيم سير الأحداث من حيث الزمان والمكان والوصف، وهو ((يقابل التعليق الذي ينقل رأي الراوي (أو الكاتب) في الحدث، ويقابل العرض الذي تتميّز به المسرحيّة عن القصّة، والسرد بهذا المعنى لا يمكن حصره في نوع أدبي واحد، ولا في الأدب وحده))([8]). وعلى هذا يمكن الإجابة على التساؤل السردي عبر مسارين الأوّل: هو النص السرديّ المؤسّس باللغة الاعتياديّة، والتتالي الطبيعي المتحقق من رتابة العلاقات الزمانيّة والمكانيّة، والثاني المتحقّق من التمظهر الوظيفي غير المنسجم الذي يؤدّي بالنتيجة إلى الانسجام الدلاليّ، والتمثيل الموضوعي المتلائم. أمّا رواية لقلق نبي يونس فقد استطاعت أن تحقّق المسارين في تقنية لافتة تحسب للراوي، فهي تعتمد في بعض فصولها إلى الرتابة في العلاقات، وعلى عدم الانسجام المؤدِّي إلى التمثيل الموضوعي المنسجم مثلما يبدو في الأحداث التي تتشابك في تأرخة مدينة الكوفة في حاضرها وماضيها.
ثالثاً: إضاءة حول رواية (لقلق النبي يونس ومخطوطة التاريخ الآخر)
تحتفي الرواية بالعقل الذي هو مدار الإنسان وكيانه، وتضع أمامه الأساطير، وبعض مرويات التاريخ غير المنطقيّة وغير المفهومة، وتدعو من خلال الشخصيّة الرئيسة التي هي أستاذ جامعي مختص بفلسفة التاريخ إلى القيام بحفريات ثقافيّة وتاريخيّة للوصول إلى صحّة أو عدم صحّة هذه المرويات. تتضمّن الرواية بعض تأريخ الكوفة، وعادات ناسها، وعلاقاتهم الاجتماعيّة، وتتضمّن أيضاً قصّة حب غريبة عاشتها الشخصية المذكورة التي شكّلت جزءا كبيرا في علاقاته مع الآخرين ونظرته إلى المجتمع.
وتشهد الرواية عملية الاسترجاع المتكرّرة للذكريات وربطها بالحاضر، وهموم هذه الشخصيّة وتفكيره بما سيؤول إليه المستقبل، وانغماس هذه الشخصيّة بحركة احتجاج الشباب في ثورة تشرين، وتعديل فكرته عن كيفيّة كتابة التاريخ برؤية جديدة بعد سقوط أسطورة لقلق النبي يونس، والرواية تحاول معالجة بعض العادات التي يقوم بها.
رابعاً: عتبة العنوان:
يمكن استثمار بعض النظريات اللسانيّة والبنيويّة في السيميائيّة؛ لإدراك المغزى الذي يؤدِّيه العنوان في البينة النصيّة؛ لأنّ العلاقة القائمة بين العنوان والنصّ تشير إلى التداخل الدلالي والوظيفي التي يُصْدِرهَا النص للمتلقّي، فمن التأثيرات التي يبعثها العنوان على أرجاء النص، الانطباع الأوليّ الذي يتمفصل على حدوده وتفرعاته الموازية. والعنوان في الرواية تم بثلاثة محاور هي: (لقلق النبي يونس ـ مخطوطة التاريخ الآخر ـ رواية عن الكوفة، وعكد اللّوي)، والخيط الذي يجمع عقد العنوانات يبدو من الدلالة المكانيّة التي يوضّحها العنوان الفرعي الثالث، فإنّ ((المكان في السرد لا يخضع للتحديدات الفيزيائيّة الصارمة، ففضاء الرواية مكان منتهٍ، وغير مستمر، ولا متجانس، وهو يعيش على محدوديّته، كما أنّه فضاء مليء بالحواجز والثغرات، وخاصّ بالأصوات والألوان والروائح، وباختصار فإنّه ليس فيه أي شيء إقليدي))([9])، والمكان في الرواية يتّخذ مع المكان الخارجي الواقعي (الكوفة)، بنية أدبيّة يرفد النص السردي، بما يتضمّنه المكان ـ الكوفة ـ بصورته العامّة من إملاءات نفسيّة يضخها القاصّ (محمود جاسم عثمان النعيمي) من نفسه حبّاً للمكان بحسب مزاجه وانطباعه العامّ الذي أختزنه في فكره على وفق ما يجذبه من محاولة بأمل أن يأخذ المتلقّي الانطباع نفسه الذي يختزنه الراوي، فالفضاء اللفظي في الرواية منحاز بشدّة إلى مدينة الكوفة، ذلك الصرح التاريخي الجليل ماضياً وحاضراً، فالرواية من ((العناصر البنائيّة المشكّلة للعمل الروائي ليس إبداعا لغويا، فالمكان كذلك لا يوجد إلّا من خلال اللغة يعطيه النصّ مميّزاته الخاصّة وأبعاده التي تحدده))([10]).
وعلى هذا كانت البنية الدلاليّة في العنوان تشتغل على فضاء مكاني بحسب إطار معرفي وثقافي، إذ يمتدُّ أفق التوقّع في رسم (سيرة المكان)، وهي سيرة مكانيّة زاخرة بالأسماء، تلك الأسماء الحيّة في الذاكرة، لما ألقتها من تشكيلات على المشهد المعادل للواقع الحقيقي. إذ قُسِّم العنوان في الرواية على ثلاثة أقسام هي:
أـ العنوان الرئيس: لقلق النبي يونس
قد أخذ العنوان في الرواية مقاصد دلاليّة اعتمل عليها الروائي في طيات روايته على وفق منظومة من الأبنية التركيبيّة، حتّى يمكن القول إنّ العنوان هو نصّ متولّد عن نصٍّ أو نصّ ثانوي موازٍ للمتن الرئيس، وهذا ما عُبِّرَ عنه بتعبيرات مختلفة من قبيل: الملحق المحاذي، أو المرادف، أو النصّ الموازي، والنصّ المرافق، وغيرها من المصطلحات والتعبيرات التي تؤيّد أهمّية العنوان، وحضوره في الكتابات الحديثة، وأبعاده الجماليّة والدلاليّة والفنّيّة، حتّى قيل عنه إنّ ينوب عن المتن، أو النصّ الأساس، فهو نص داخل نص، ففي عنوان الرواية نلحظ ذلك اللقلق الذي يقف بكلّ شموخ على منارة مقام النبي يونس (عليه السلام)، بساقيه الطويلتينِ المحمرتينِ، وبمنقاره المعقوف الطويل، وريشه الملوّن بالأسود والأبيض، وبرقبته الطويلة الممشوقة، إذ حيكت حوله وحول عشه الأساطير والحكايات، وأُعطيت له النذور، والأطفال تخشاه، والنساء تبتهل إليه، إذ غمرت العقل الشعبي مراسيم تقديس هذا اللقلق، وأصبحت إحدى التابوهات المحظورة التي يخشاها المجتمع، ويقدّم لها القرابين، و (حلال المشاكل)([11])، ومنشأ هذه القدسيّة والتابوه قد جاء بسبب أنّ هذا الطائر يقف على منارة إسلامية في مقام النبي يونس عليه السلام الواقع مقابل كورنيش الكوفة، ولكن (المطيرجية)([12]) يتمنّون موته، ويتطيرون منه فزعا، وليسوا معنيّين بهذه القدسيّة؛ لأنّه يرهب طيورهم، ويجعلها تهرب من مكانها إلى غير رجعة، إنّهم لا يخشون هذا التابوه، على الرغم من التدني الثقافي لهم، فأخفوا في صدورهم الضغائن والأحقاد للقلق، ولما فشل المثقفون في رفض هذه الخرافات التي لم يأتِ بها الله بسلطان، ولم يستطيعوا أن يقنعوا الناس بفساد هذا الاعتقاد، وأزالته من أذهان الناس وعقولهم؛ استطاع (المطيرجيون) القيام بهذه المهمة بالنيابة عنهم، ليموت اللقلق وتعيش طيورهم، واصبح الناس يرددون: (هذا اللقلق راح نحنطه، قشمرناه بلعبة وحنطه)([13]). ليذهب زمان، مات مع أسطورته، ويأتي فكر آخر ينبئ بوعي جديد، لتنطلق صفارة البداية لكي تنفتح مغاليق عوالم الناس الذي كان يراد لهم أن يعيشوا خلف أبواب الخرافة، وقصص الخيال، وتأليه الأسطورة، والنسخ والنقل([14])؛ ولتترسخ المفارقة المضحكة المبكية في آن واحد؛ لأنّ المثقفين انشغلوا بالتنظير، وتأسيس النظريات على الورق من دون التغلغل في أوساط المجتمع، والتعايش معه، وهذه هي الخطابيّة أو الرسالة التي حاولت الرواية أن تبثها بشكل (مضمرٍ) غير مباشر.
ب ـ عتبة العنوان الداخليّة
العنوان الفرعي: مخطوطة التاريخ الآخر
لقد أعرب العنوان الفرعي (مخطوطة التاريخ الآخر) عن مجموعة من الدلالات المرموزة المضمرة التي تختبئ وراءها شفرة سرديّة سيفصح عنها المتن الروائي بصورة مُتَتَالِيَة منظمة، ويجعل القارئ أمام بعض الفرضيات الناشئة من مختزن دلالي في ذاكرة القارئ، فالرواية تحكي ضمن اشتغالها الرئيس عن تاريخ مدينة الكوفة العريق، معرفاً بالمدينة تعريفا تاريخيا منحازا، لقد كان السرد في الرواية محابياً للمكان لا شُعُورِيًّا، فالروائي (محمود جاسم عثمان) تمكّن من أن يسقط ذاته على المكان بشعور غير إرادي، بقوّة العقل الباطن، الذي اختزن حبّاً دفيناً للمكان الذي نشأ فيه الأديب وعاش به؛ لأنّ المكان لا يمكن أن ينفصل عن الذات في حال من الأحوال. وهذا ما يُعبّر عنه بالسرد المدرّج([15])، وهو النوع السردي الأكثر تعقيداً تقنياً وفنّياً، إذ إنّه يقع في مدد حكائيّة متفاوتة، مثلما تكون شخصياته متفاوتة أيضا، ولهذا صوّرت الرواية مدينة الكوفة قديما وحديثا، بتناوب تقني ملفت؛ لأنّ الرسالة التي تريد الرواية أن تطرحها في غاية الحساسية والتقعيد. فهي حبّ مختلط بين الماضي والحاضر، إذ تقول الرواية: ((لا أكتمكم، فأنا أحبُّ أن أسمّيها (خد العذراء) مثلما كانت أرضها تسمّى في زمن النعمان، فهو اسم يحمل من الشاعريّة ما يدغدغ النفس؛ شاءت أم أبت، ولهذا أغضب عندما تؤذى بكلام قيل ويُقال عنها، ويأخذني الحرص عليها…))([16]). وهنا تمتزج الرؤية الروائيّة مع الراوي في اصطفاف فكري وعاطفي مع المدينة، لم يستطيع القاص أن يمنع دفقها؛ لأنّها تمثّل دفق الحياة، ولهذا لم تغادر قلبه النابض بالحبِّ لهذه المدينة، أو أن ينساها؛ لقد كانت ((الكوفة، حقيقته التي يؤمن بها منذ التأسيس، وإلى أن يشاء الله))([17])، حتّى امتزجت في مخيّلته مع من يعشق، فأصبحت الفتاة التي أحبها حبا صادقا صامتا كبيرا والكوفة معشوقة واحدة في جسدين: ((كانت تسخنُ في داخله مثل مدينته، كان يرى فيها الكوفة؛ لذا حبسهماً معاً في قلبه وعقله))([18]). الكوفة وعشيقته كانتا وعاء روحه، وسلسبيل نشوته الفياض، وأحلامه المختزنة في صدره، كانتا نسخة منه، كانتا كلّه.
وهنا نجح الراوي في أن يؤرّخ لمدينة الكوفة التي أراد من روايته أن تكونَ أوّل رواية تحكي قصّة مدينة (الكوفة)، ممّا أكسبها أهميةً واستعداداً سياقيا للقارئ، فقد أضمر العنوان الثانوي (مخطوطة التاريخ الآخر) مجموعة من التساؤلات والاحتمالات المفتوحة التي تشوّق القارئ لاستظهارها، وفكّ شفراتها، فكان العنوان نمطاً من الاتّصال اللغويّ بين كاتب الرواية والقارئ، فهو اتّصال مبني على مهاتفة بين جهتين، كانت الجهة الأولى (الراوية العليم) الذي عاش في هذه المدينة الحاضرة الإسلاميّة الكبيرة مدينة الكوفة، فهي: ((كوفة الجند، كوفة الحمرا، كوفان، سمها ما شئت، فهي الكوفة ـ على الرغم من المسمّيات ـ تتيه بنفسها على الزمان والتاريخ بما حباها الله من نعمة الموقع وإرهاصات التكوين وصيرورته))([19])، فقد استجلى المكنون الحضاري القديم والمعاصر على حدّ سواء، واستبطن شخوصها الذين كانوا حاضرينَ بقوّة وبصورة متفاعلة مع أحداث الرواية، والجهة الثانية هي المتلقّي الذي تفاعل مع العنوان بوصفه بوابة أولى للولوج نحو عمل فني لابدّ أن يكون بينه وبين العنوان اتّصال روحي، ولابدّ أن يكون المتلقّي قد سمع بهذه المدينة (الكوفة)، أو عاش فيها، أو زارها أو قرأ عنها؛ ولهذا كان العنوان عبارة عن مجموعة من التساؤلات المغرية المتعلّقة بجوهر هذه المدينة الحاضرة في الذاكرة الإسلاميّة والذاكرة التاريخيّة أيديولوجيا وأنطولوجيا محقّقة للمتلقّي مطمحاً واستشعاراً جمالياً وفنياً عبر ما قدّمه القاصّ من معطيات بنائيّة وفنّيّة وشعريّة لم تكتفِ بالسرد والتأرخة للأحداث؛ بل تجاوز التقريريّة المباشرة إلى المناحي الجماليّة الخصبة المتنامية.
جـ ـ العنوان التعريفي: رواية عن الكوفة وعكد اللوي
أدّى العنوان الفرعي: (رواية عن الكوفة وعكد اللوي) وظيفة التنبيه إلى الجنس الأدبي التي تشتغل عليها المدونة النصيّة، وأدّى وظيفة تكميليّة للعنوان الرئيس والثانوي، فضلاً عن وظيفة الترابط بين العنوانات، إذ نلحظ علاقة ديناميّة رابطة بين العنوان الرئيس والفرعي رسم معالمها المهيمن السردي الذي تبثّه الرواية في عملية الخطاب، فكان مدخلا لمقاربة العمل وشعريته، فالمقصود بمخطوطة التاريخ الآخر: هي تاريخ الكوفة القديم بجميع كبريائها وتاريخها الشامخ، إذ اختارها الإمام علي (عليه السلام) عاصمة لخلافته، وعكد اللوي، المقصود به التاريخ المعاصر، ذلك الزقاق الذي يقع وسط مدينة الكوفة، بحسب تصميم المدينة؛ فمنح أهله الوسطيّة؛ لذا مثّل الحاضر والمستقبل، بجمع تناقضاته واتفاقاته، وصراعاته الفكريّة بين الأجيال المختلفة. فاستطاع الروائي (محمود جاسم عثمان) بما يمتلكه من خبرة روائيّة، إذ إنّ هذا العمل الروائي ليس الأوّل له؛ وإنّما تسبقه تجارب روائية بارزة؛ منها: رواية حي السعد، ورواية حجر الصوان، ورواية الأسرة وخاصرة التفاح، أن يعيد توزيع عناصره الروائيّة خلال فوضى جماليّة وانسجام دلاليّ.
خامساً: نقطة الشروع:
نقطة الشروع من الوسائل السرديّة المهمّة التي يمارسها القاصّ في استشعار اهتمام القارئ، فالبداية تمنح القارئ الدافع الأوّل لمواصلة القراءة في عمل روائيّ طويل نسبياً على مدى (262) صفحة، إذ شغلت بداية الرواية أهمية كبيرة في الفهم الأسلوبي الذي يريد أن يمارسه النص وانفتاحه المستقبلي على الأفكار المبثوثة، فقد كان موجّها وقائدا للدلالة بعد غموض متعمد، وتكثيف في الحقول المعنويّة، وهذا ما اشتغل عليه الروائي (محمود جاسم عثمان النعيمي)، بتقنية سرديّة عالية، ولهذا كان الاعتناء في هذه البداية ضروريا في اختطاف شهية القارئ لمواصلة القراءة بطريقة نهمة قد تضطره إلى القراءة من دون انقطاع حتى إكمالها إلى آخر رمق فيها.
وهذه البداية الضاغطة على القارئ من أجل الإكمال نجدها جلية في القول: ((صارت هوايته التي شغف بها، وفضلها على غيرها من الهوايات، والتي لا تنافسها سوى القراءة، التحديق من خلف شباك غرفته المطل على الزقاق))([20])، وهنا تأتي مجموعة من التساؤلات الضاغطة على القارئ من أجل الوصول إليها؛ هي على سبيل المثال: ما الذي ينظر إليه من خلف الشباك؟، ومن هو هذا الشخص الذي أشار إليه الضمير في (هوايته)، بوساطة الإحالة السرديّة سواء أكانت إحالة نصيّة أم مقاميّة([21])؟، وهو ما يعطي للمتلقّي وظيفة المشاركة والمساهمة في إنتاج النصّ السرديّ، إذ تسهمُ نقطة شروعه الأولى وظيفة الإحالة المقاميّة، فلا يعود على شخص سابق أو حوار سابق؛ ممّا يقوّي التأويليّة السرديّة لدى المتلقّي، ويزيد من توتّر الأحداث في التوقّع أو خارج التوقّع، كلّ تلكم التساؤلات تظهر نقطة الشروع الأولى التي وفّق فيها الروائي ببلورتها محفزاً بنيوياً يعتمد عليه النصّ في الإخبار عن الرسالة التي أخفاها جزئيّاً عن المتلقّي من أجل التشويق والتضليل المهمين في العمليّة السرديّة، ثمّ لتظهرها تدريجيّاً من أجل تحقيق التسلسل الحكائي للسرد، ووصلها إلى نهاياتها في اعتبارات تتكئ على التواصل السرديّ؛ لإكمال الرسالة الخطابيّة، إذ وفقت الرواية في استحضار تقنية (ما وراء السرد)([22]) التي ركّزت على معاناة بطل الرواية التي أصيب …. حتى أننا في حيال روايتين متوازيتين في آن واحد. فهو يعني بناء رواية جديدة على أنقاض رواية بديلة، فالبناء يتم من أجل رواية (ما فوق الرواية)([23]).
كلّ ذلك نوّهت عنه نقطة شروع الرواية؛ لأنّه ((ما من شيء يحدث في النص إلّا وله نواة في الاستهلال))([24])، ولم يتّضح سبب جلوس بطل الرواية على الكرسي المتحرك وإعاقته إلّا في الصفحة الأربعين، وهو مدى طويل نسبيا في عملية استجلاء الأحداث السرديّة التي ترويها الحكاية إذ يوضّح الراوي العليم في هذه الصفحة سبب الإعاقة بأنّه كان ذاهبا إلى بغداد من أجل البحث عن كتب جديدة تعينه في تأليفه لكتاب جديد، عندما أُطلق عليه عشر رصاصات مجهولة المصدر والغاية، إلّا أنّه يكفي في أيّام الشحن الطائفي أن يكون أستاذا جامعياً من ذوي الكفاءات، ومن أصحاب الآراء الحرة الرافضة للتكتل والتشرذم أن يكون هدفاً لأصحاب العقول المقفلة أو كما وصفهم الراوي بـ (جماعة العقل البديل)([25])، بمعنى الأشخاص الذين يعيشون في ظلام العقل والروح الغارقون بالجهل والفوضى، هؤلاء الذي يكفِّرون الآخر لا لسبب سوى أنّهم يخالفهم في الاعتقاد، فيصدرون فتاوى ما أنزل بها الله من سلطان، إنّ ((الإدراك هنا مرتبط بالهوية والاختلاف، ومنطقه هو منطق الهوية والاختلاف معنا، فالأنا في ظلّ هذا المنطق المزدوج لا يمكن أن تلتهم الآخر وتنسبه إليها؛ لأنّ الفرق بين الأنا والآخر ليس فرقاً معرفياً وحسب؛ بل هو فرق أنطولوجي، أي إن الاختلاف ـ إضافة إلى الهوية ـ هو أساس الوجود، فوجود الأنا مرتبط بوجود الآخر، فلا توجد الأنا وحدها ولا يوجد الآخر ملحقا بالأنا))([26]). لقد أظهرت النظرة الحقيقية الفاحصة في التاريخ العقلي، وعلى امتداد حقب ماضية طويلة مدى فداحة تراجع العقل والفلسفة والمنطق، و((توضح لنا مدى تجذّر وسيادة (الوعي النقلي) على (الوعي العقلي) مع استثناءات مستفزة حوربت في وقتها، وما زالت تتعرّض للضغط))([27])؛ وذلك بأثر السياسة الحاكمة وبعض رجال الدين المزيفين الذين كانوا اتباعا سيئين للحاكم الظالم، فكانت ((عصبيّة مذهبيّة حادّة وفكريّة ضيِّقة ، أشاعت الخراب في الفكر والنفس، وانتزعت من العقيدة الشيء الكثير، فكانت البلوى التي نعيشها الآن، ونكتوي بنارها))([28])؛ لأنّ إدراك الآخر تؤسِّس لماهيّة الذات والاختلاف، ومن دون الاختلاف لا تتبلور المسافة الوجوديّة المستقلة، إذ لا وجود للانعزال والانفراد في ظلّ عالم استمرّ بالعلاقات المختلفة سواء أكانت اقتصاديّة أو ثقافيّة أو اجتماعيّة، والرواية تدحض نظريات التصادم والتناحر؛ لأنّ الحضارات المختلفة تتوالد الواحدة من الأخرى، وهذه هي الرؤية التي ركّزت عليها الرواية في الدعوة إلى تحكيم العقل، وعد الأنا والآخر والعقل هم مصدر الوجود الحقيقي غير الضبابي، والدعوة إلى العقلانيّة، ونبذ التعصّب والتناحر والتحزب، فالعقل هو مصدر المعرفة، وعدم الركون إلى المرويات الأسطوريّة التي تشرعن القتل والذبح والاقتتال، هذه هي الرؤية الخصبة التي تقدّمها الرواية لنا في تأرخة مدينة الكوفة التي تعدُّ حاضرة إسلامية بيضاء لم تعرف التخاصم والتصادم، بل نشدت الأخوة والتعاون والتعاضد، وسيّد مدينة الكوفة الإمام علي (عليه السلام) هو القائل: الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.
سادساً: التنوّع الأسلوبيّ في رواية لقلق النبي يونس
ينشأ التنوّع الأسلوبيّ في الرواية من تعدّد الأشخاص، واختلاف أصواتهم (وجهات نظرهم)، وأفكارهم وقيمهم ومبادئهم، إنّ الاختلاف في الأفكار، وتعدّد الأصوات، والأشخاص في الرواية ينتج عنه تعدّدا في أقنعة الكاتب؛ ممّا يُوَلِّد شحنة محرّكة للعمل الروائيّ تدفعه نحو التصاعد واحتدام الصراع، وهو ينشأ عادة من اختلاف المستويات الشخصيّة (الفرديّة) والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والفكريّة؛ ليحقّق محوراً تمثيلياً ضرورياً للأعمال الأدبيّة في الرواية، وإطاراً من التنوّع في الأشخاص وأنواع الحكي.
ولهذا يوصف تطوّر المتن الحكائي بأنّه مرور من وضعيّة إلى أخرى؛ وذلك لاتّصاف كلّ وضعيّة بصراع المصالح أو بالصراع بين الشخصيات، وهو تطوّر جدلي في المتن الحكائي، وهو شبيه بتطوّر السيرورة الاجتماعيّة والتاريخيّة التي تقدّم كلّ مرحلة تاريخيّة جديدة ناتجة لصراع الطبقات الاجتماعيّة في مرحلة سابقة، وفي الوقت نفسه شبيه بالساحة التي تتضارب فيها مصالح المجموعات الاجتماعيّة([29]). ولهذا يصعب على الدارس الأسلوبيّ أن يجد مشتركا أسلوبياً في الرواية الأدبيّة؛ لأنّ معنى الانسجام الأسلوبيّ موت العمل الروائيّ وقتله، فتعدّد الأصوات ضرورة أسلوبيّة ملحّة في الإجراء السرديّ.
فهناك الرجل (نصف المتعلم)([30])، الذي كان على الرغم من أمّيته يبدو كأنّه قاموس شعر وأدب وتاريخ، على طريقته الخاصة، وهو يغوص في عادات وتقاليد الناس وأنسابهم وسلوكهم([31]). وهناك بطل الرواية الأستاذ الجامعي التي يتكلّم بلغة عالية نسبيا، وهنا الشاب وضّاح الشاب المندفع الطموح، الذي يتكلّم بأسلوب المسلَّمات والوثوق، وهكذا تعدّدت اللغات والأساليب في الرواية. هذا التنوّع في الأسلوبيّة لم ينشأ من تعدّد في طريقة الكاتب أو تنوّع أسلوبية السرد، وإنّما نشأ من تنوّع الأشخاص الضروري في العمل الروائي، فجاء من الداخل، وليس من عوامل خارجيّة، إنّ الكاتب واحد وأسلوبه البلاغي واحد، ولكن ما يميّز الرواية عن الشعر هي إمكانية اختلاف المستويات الأسلوبيّة (البلاغيّة)، تبعاً لاختلاف الشخصيّة وتعدّد أصواتها؛ ولهذا نجد بعض الألفاظ العامّية في الرواية كانت مفروضة على العمل الروائيّ؛ لأنّها تمثّل مستويات الشخصيات فيها؛ منها: بائع ماء الأورو وهو يحمل الخزان على الستوتة([32])، لصحن (بالوتة)([33])، وحرب وكركه، اللكو وسي ورق([34])، وسنزه بدر يابو الخس، خلّي العجم تتونّس([35])، مطبك برياني([36])، نومي حامض، حمام كظوم([37])، خطّية مخيف الشرطي([38])، وكانت هذه الضرورة تحتم على القاصّ أن يجلب بعض الأبيات من التراث الشعبي؛ لأنّها تلبي التنوّع الأسلوبيّ والتعدّد الصوتيّ؛ فكانت ضرورة منهجيّة لتحاكي مستوى الشخصيّة، ونابعة من الصدق الفني الذي يوازي الواقع ويتمثّله. ومن تلك الأشعار:
ترافه/ وليل/ ودك ريحان/ يا أسمر لا تواخذنه/ يلن كل دكه من حسنك/ شتل ريحان للجنه/ ليالي/ ودكـ نحر حدار/ واحنه الشوكـ ناحرنه/ ومن تلك الالفاظ القصيدة الشعبية الآتية:
تحنن/ دوس/ فوكـ الروح/ وأحسبها على منه/ أطكن ورد من تجزي/ وألف نمّام يتحنّه/ بترف جدميك أطيرن فوكـ/ فوكـ الفوكـ/ اكتن عل الورد مزنه من أشوفك/ أنذر النجمات ترجيه لسوالفنا/ ووديلك هوى شكابين/ وتردني بطركـ ونّه/ بوشل هجرك، يلمذبّل/ شتلنه العشكـ/ والصندل([39]). إلى آخره من الامتياز الشعبي الذي يلبي حاجة أسلوبيّة في الرواية، وهذا التعدّد في اللغة والأصوات والأنماط؛ سببه أنّ الرواية ذات بنية متعدّدة الأساليب واللغات والأصوات، ربّما يكون التنافر في أسلوبيتها، ولكنه تنافر إيجابي بمعنى الخضوع إلى الوحدة المركزيّة التي تشمل الاتجاه العام للرواية، هذا الاختلاف في المستوى الثقافي الذي يؤدّي بالنتيجة إلى الاختلاف في أسلوبيّة الرواية تؤكّده الرواية نفسها في متنها؛ إذ تقول: ((نحن الآن نعيش القرن الواحد والعشرين، تبدلت الناس وتعدّدت حاجاتهم باختلاف رغباتهم، نحن الآن نعيش عصر العلم بكلّ تجلياته، كيف يمكن لي أن أقنع جيل هذا القرن بآراء وأفكار نشأت وفصّلت لتلك القرون؟، كيف يمكن لي أن أضرب لهم مثلا عن أشخاص كانت حدود دنياهم هي البيت والزقاق فقط….))([40]). وهنا نسجّل التميّز الملحوظ في الرواية، إذ شكّلت اللغة مستويات متعدّدة، وهي بالضرورة لا تمثّل مستوى الكاتب، إذ اختفى وراء شخصياته، لتعّبر عن نفسها، بلغتها الخاصّة، وبأسلوبها الخاصّ، من دون تدخل الكاتب المباشر.
سابعاً: شعرية المكان والأشخاص في رواية لقلق النبي يونس:
المكان هو من العناصر الكامنة في الرواية، وهو أحد مثيرات اللغة من خلاله تخلق الإيحاءات لإدراك العالم الروائيّ، واستجلاء بذوره التصويريّة، ((إنّ المكان عندنا شأنه أي عنصر من عناصر البناء الفني، يتحدّد عبر الممارسة الواعية للفنّان، فهو ليس بناءً خارجياً مرئياً، ولا حيزاً محدّد المساحة، ولا تركيباً من غرف وأسيجة ونوافذ، بل كيان من العقل المغير والمحتوى على تاريخ ما))([41]). فقد كان المكان في رواية (لقلق النبي يونس)، مكاناً واقعياً يصوّر الخارج تصويراً أميناً، ولكن في الوقت نفسه تصويراً فنّياً يصل إلى شعريّة المكان بمعنى استيعابه للقدرة على إثارة خيال المتلقّي، وجذب انتباهه، فكانت الرواية مظهراً للمكان المبني على الخلفية الواقعيّة المنسجمة مع إيقاع الشخصيات، وتفاعلها مع الظروف المحيطة بها. يقول الراوي: ((نواعير تدور، ومكائن حديثة تجأر لتسحب ماء الفرات، وتقذفه نحو المرتفع من الأراضي؛ كي يسقي الزرع المبسوط على أديم الأرض))([42]). وفي هذا المكان ((مقاطعات وقطع أراضي أعطيت لها مسمّيات حسب سكان الناس وملكياتهم واستقرار العشائر: آل عيسى، ألبو نعمان، ألبو حداري، ألبو ماضي، القزوينيّة، النفاخيّة))([43])، فهذا الوصف للمكان القائم على الاستقصاء والتحري للمحطّات المهمّة؛ ممّا أعطى للرواية زخماً فنياً قائماً على الواقعيّة في التعبير، وتفاصيل المشهد، وكأنّنا أمام فلم سينمائي مليء بالتفاصيل ومشاهد المدن، والراوي يعطي أيضاً تفسيراً لأسباب التسمية المكانيّة، ومن هنا أعطى للرواية وظيفة إضافيّة يمكن تسميتها بـ (الوظيفة التعريفيّة)، فقد حرص القاص محمود جاسم عثمان على تعريف القارئ بالتفاصيل المكانيّة، وكأننا في جولة سياحيّة حقيقة لمدينة الكوفة، وهو يبيّن مدى الارتباط الروحي والشعوري لمدينة الكوفة التي نشأ وعاش فيها القاصّ.
أمّا شاعريّة الأسماء التي ظهرت في الرواية؛ فقد تناوبت بين الخفاء والظهور، فبطل الرواية الأستاذ الجامعي التي أصيب برصاص الطائفيّة، لم يُعطَ اسما معينا في داخل المنظومة السردية؛ إذ لم يشأ مؤلّف الرواية أن يعطيه اسما مستقلاً؛ ذلك لأنّ فكره وتكوينه العقلي كان مزيجاً من أفكار ونظريات مجموعة كثيرة من المفكرين والفلاسفة، فهو يمثّل أسماء جميع هؤلاءِ المفكرين، وعندما يعطى اسما محدّدا فإن هذه الشموليّة ستفقد، أو أنّه كان يمثّل المؤلّف نفسه، بما يحمله من فكر تنوري استشراقي، وكأننا في حيال سيرة ذاتية، وهذا الشيء لم يرد القاص أن يبديه علانية للقارئ، فلو أنّه وضع له اسم (محمود)، لافتضحت اللعبة السرديّة، التي شاءت أن تكون بينية، بين الرواية الطبيعيّة، والسيرة الذاتيّة، والحاكم الفاصل في تحديد الجنس الأدبيّ هو المتلقّي نفسه فعليه أن يصل إلى النتيجة النهائيّة.
ثمّ أنّنا نجد أسماء لأشخاص حقيقيين من قبيل: الفنان التشكيلي محمّد حسين جودي([44])، ومحمّد الفنطازي الذي كان يجوب النهر([45])، وهادي عبيد، صاحب المقهى على كورنيش نهر الكوفة([46])، والشاعر الشيخ علي البازي([47])، والشاعر والأديب محمّد الخالديّ الذي فقد ابنه في أحد الانفجارات العبثية في سوق الكوفة الكبير([48])، وغيرهم كثير.
في المقابل نجد الأسماء غير الحقيقية من قبيل: وضّاح الابن الأكبر لشقيقة بطل الرواية، الذي كان ذا فكر متنوّر ثرٍّ، وقد ترجم هذا الفعل ترجمة حقيقية، وليس نظرية مثلما كان عليه الجيل السابق عندما اشترك في الثورة التشرينيّة مع أقرانه الشباب، واسم (وضّاح) يحمل دلالة رمزيّة على النقاء والطهر والوضوح. والقاص اشتغل على تقنية تحوّل الشخصية الثانويّة إلى رئيسة في شخصية وضاح (الثانويّة) التي سرعان ما تحوّلت إلى شخصية رئيسة، وكيف لا؟!!، وجيل وضاح هم من اعتمل التغيير، وليس الجيل السابق، وفهم من حاول إخراج الوضع السياسي والاجتماعي من مستنقع الظروف الذي يمر به، إلى مستقبل أكثر بهاءً، وهكذا قامت الرواية على جدليّة بين الجيل القديم وجيل الشباب الذي تمكن من التغيير في العملية السياسية السلبية الباحثة عن المنافع والمردودات الشخصيّة، في حين يئس الجيل السابق من التغيير، واستسلم للواقع المزري المرير، كان هؤلاءِ الشباب مؤمناً بقدراته متيقنا من الانتصار والظفر، فتحوّل الحلم إلى حقائق ملموسة، والتراخي إلى ضغط نحو الاستجابة للمطالب الجماهيريّة الحقّة، إنّ التنمر من الوضع واليأس لم يخرج المجتمع من وضعه، ولكن العمل والثورة هي التي أوجدت الإدراك وأصبح الأمل حقيقة، والخسارة فوز، والهزيمة انتصارا.
إنّ اختيار الأسماء لم يكن جاريا بطريقة اعتباطيّة؛ بل كان يخضع للحركة الدراميّة في الرواية، وكان الكاتب حريصا على مد الرواية بما تحمله ذاكرته من أسماء وأماكن أسهمت في مدّ الأحداث بدفق الحياة والواقعيّة.
ثامناً: شعرية الأداء
ابتعدت رواية (لقلق النبي يونس) ـ بقدر الإمكان ـ عن التعبير المباشر الاعتياديّ الذي يضعف الأداء السردي؛ لأنّ ((السرد المباشر هو خطاب للمؤلف قد يُوظّف إلى جانب الأسلوب الأدبيّ، أشكالا أسلوبيّة أخرى غير أدبيّة بالضرورة كالمواعظ الأخلاقيّة، والفلسفيّة، والخطابيّة، والوصف الإنثوغرافي، أسلوب التقارير))([49]). وهذا يحرم القارئ من النشوة الأدبيّة التي ينشدها من القراءة، ويضعف الإحساس بتقبل العمل الأدبي، ولهذا ابتعدت الرواية عن مجانية التعبير، وسطحيته لتنتقل إلى مصاف الشعريّة في الأداء، وهنا لا أقصد بـ (شعريّة الأداء) أن يكون العمل الروائي جنساً شعرياً؛ بل أقصد الانتقال من السرد المباشر إلى السرد الخلّاق. ومن ذلك ما جاء في الرواية من قول: ((لكنه يصل إلى محصلة: ليس هناك ثابت كما يوحي بعضهم للناس: هناك فراغات/ هناك دناملٌ/ هناك جروح هناك إشراقٌ/ هناك مجدٌ وعزٌّم هناك دمعٌ/ هناك فرحٌ/ وهناكَ/ وهناكَ/ وهناكَ))([50])، وأيضا نجد ذلك على سبيل المثال عندما يترجم حزن الشاعر (محمد الخالدي)([51])، الذي فقد ولده في هجوم إرهابي اهتزت له البيوت واهتز له السوق، يقول: ((آه، ها هو ألمك يا (محمد الخالدي) يشق الجلد ما بين الوسط والسبّابة والإبهام، كي تترجمه لشعر يحيى في قلبك مرّة، ويموت على شفتيك أخرى، وأنت ترثي ولدك (الحسين) وهو ممدّد في جنب السوق بفعل تفجير الأشرار، تبكيه وأنت تحمل نعشه، تتفجر كل خلاياك وأنت تحدق فيهم وهم يهيلون التراب عليه، وأنت جامد في مكانك وعاجز لا حول لك ولا قوة، ترثيه شعرا متمردا))([52]). كلّ ذلك يبدو في صراخٍ يشبه الهمس، صراخ يرفض جحيم الحروب العبثيّة والخراب، يرفض سنوات القهر والفراق، إذ يقول: ((بدأ همسا في ثناياك، ثمّ تحوّل إلى صراخ يشقّ الأثير، وأنت تتمنّى أن ترقد جنبه، أو أن يهيلوا عليك التراب بدلاً عنه، أو عليكما أنتما الاثنين، وخدّك على نعشه تمسح به دمعك الذي اختلط برائحة عطره، وكأنك تريد أن تشمّ الوجود الأخير له على هذه الأرض))([53])، هذا الحزن العميق لا يمكن أن يبثَّ بلغة سطحية؛ ولهذا كانت الدموع تنزف مع قراءة هذه الكلمات الصادقة.
تاسعاً: القيم الرؤيوية
كانت الرؤية التي تدور حولها الرواية، وتحاول إبرازها، والتأكيد عليها؛ تتلخص بحاكميّة العقل، وفضله في تغيير الواقع الإنسانيّ نحو الارتقاء والتطوّر، فمن دونه تبقى عجلة التقدّم متوقّفة راكدة، لا تستطيع السير، وهو السر الخالد الذي يخلد الإنسان، ويظهر حضاراته وثقافته، فالرواية يمكن وصفها بأنّها (ملحمة العقل الإنسانيّ)، فهي تحتفي بالعقل، وتحارب الخرافة والاعتقادات الباطلة المبنية على الموروث الذي لا يأتِ الله تعالى به بسلطان، وهذا ما نجده في الحوار الدائر بين بطل الرواية وأحد أصدقائه: ((ـ ألا ترى أنّك تقضُّ مضاجعهم بأفكارك؟ ـ من هم؟ ـ أولي الأمر يا صديقي. ـ وما علاقتي بهم؟ أنا أصلا لا أعرفهم. ـ ولكنهم يعرفونك. ـ أنت تدري؛ أنني في كلّ كتاباتي لم أتطرق لشخص ما، أو فئة معيّنة، أنا كنت أطرح أفكارا، بمعنى أن أؤسس لنظرية فكرية عامة))([54]). إذن المرجعيّة الرؤيويّة للرواية تعتمد على الفكر بوصفه مخلصاً ومؤسّسا للمجتمع.
والعقل حاضر بقوّة في أغلب صفحات الرواية: ((ـ نظرياتك التي تؤكد على أهمية العقل، والاحتفاء به. ـ ما زلت لا أفهم. ـ العقل، الذي تريده أن يكون متوهجا، ناشطا، مخترعا للأشياء، هذا العقل الديناميكي ، هو المطلوب رأسه))([55]). فالرؤية تؤكّد العقل البديل أو المغاير عقل يحارب الخرافة والاعتقادات المجترة من دون تمحيص، العقل المصنوع مسبقاً من قبل الآخرين، يحركونه ويديرونه كما يشاؤون، إنّه العقل الاتّكالي، المتأسلب المتجمّد عند حيطان الماضي، يتم التفكير به كما فكر السابقون، فالرؤية في الرواية ترفض هذا العقل وتطالب بـ ((إلغاء العقل الذي كنت أؤكد على جعله فاعلا ومتوهجا، أو بالأحرى؛ قطعه وإحلال البديل، لكن الله سبحانه أكد على أهمية العقل في حياة الإنسان، ألم يقلْ سبحانه: لعلكم تعقلون، يا أولي الألباب، أفلا يتدبرون، ألم يقل: لعلكم تؤمنون، إذن؛ كيف لي أن أمارس كل هذا إن لم استخدم عقلي لمعرفة الظواهر الكونية والتفكر في الخلق وأسبابه))([56])، والرواية تطالب بالفكر الذي يقوم على التحدي، واستجلاء المنطق المؤسّس لمفاهيم جديدة، مرتكزة على العقل الواعي، وتطالب بخلخلة البنية التفكيريّة القديمة للمجتمع، وقلع جذورها من تربتها التي باتت غير صالحة، وتشذيب كلّ الشوائب والخرافات والعقائد الموهومة، إذاً الرواية تؤسّس لنظرة جديدة تتلخص بـ (العقل المغاير)، أو كما تسميه الرواية (العقل البديل).
ومن الأمثلة على هذا العقل البديل، محاربة الرواية أفكار المنابر المأجورة، إذ تقدم الرؤية المدجّجة بالعداء للإنسانيّة، ((ـ كنت أتابع هذا الشيخ وأمثاله من خلال حديث المنابر وعبر الفضائيات، منقطعون عن العصر، مغرقون في القِدم، مشّبعون بالتراث، تهيمن عليهم منهجية المحاكمات، وذهنية الانتصار بين الفرق، والمذاهب، والطبقات، والملل في إطار علم الكلام القديم))([57]). فالرؤية في الرواية تمسرح المشاهد الاجتماعية عبر أحداث حديثة مثلما جاء في عبارة كنت أتابع عبر الفضائيات، عارضة لهموم الناس، ومخرجات تفكيرهم، وتحاول من خلال هذا العرض الممسرح أن تضخ ما يمكن تسميته بـ (الإصلاح المجتمعي)، وتخليصه من المخيال الشعبي الموروث، وإخراج الحيز الثقافي المتنوّر أو ما تطلق عليه الرواية تسمية (العقل الفاعل)([58]) إلى عامة المجتمع، في سعي إلى تفتيت الأساطير والرموز التي صنعت للناس تهويلا لا مسوغ لها. والرواية تدعو بكلّ ثقة إلى الحوار فقد جاء فيها: ((نحن لسنا أقوى منكم، وأنتم لستم أقوى منا، صراعنا ليس بدنيّا، هو صراع فكري يقوم على العقل والمنطق، فلماذا ترفضون أن نتحاور؟ تعالوا كي تسمعوا منّا، العالم يتغيّر في مكوّناته الحضارية والثقافية، هناك ثورة تقنية ومعلوماتية تسعى الآن لتشكيل العالم على أسس مغايرة))([59])، هذه هي الرؤية التي تدعو إلى الاستماع إلى (الآخر)؛ لأنّه تؤكد الثقة بالنفس، وإنكار أسلوب التصادم والتناحر، هي ترفض (الانغلاق)، وتدعو إلى (الانفتاح) على الآخر؛ لأن الخلاص في الجلوس والتحاور، من أجل تلاقح الأفكار والآراء، الرواية ترفض (النفي الوجودي) للآخر، هي ترفض الهدم والقتل، ترفض إلغاء الآخر؛ لأنّ المواطنة هي الأساس في التفاعل المشترك، والتخاطب الحقيقي، ((نعم، هناك ثوابت أخلاقية أنا أدعو للتمسك بها، وهناك قيم اجتماعيّة أدعو إلى عدم مغادرتها))([60]).
وهنا بدا الاتجاه الأسلوبيّ في طرح رؤية الرواية التي تميل كفتها نحو الرواية الديالوجيّة، على حساب الرواية المنولوجيّة، ولاسيّما إذا عُرِفت شخصية المؤلف المتزنة التي تميل إلى التحرّر من الأفكار الظلاميّة المنعزلة، وهذا الأمر يظهر بارزا في احتدام الصراع بين الجيل الجديد الواعي الذي يمثله الشاب (وضاح) الذي يتّسم بعمق الرؤية والانضباط والعقل الديناميكي وخاله بطل الرواية أستاذ فلسفة التاريخ المتقاعد، التي كانت رصاصات الشحن الطائفي سببا في تهشيم ساقيه، وجلوسه على الكرسي المتحرك، وعندما بدأ طلاب الكليات الذين يمثلون الجيل المثقف الواعي يزحفون باتجاه ساحة الاعتصام بحشودهم الكبيرة ليلتقوا مع جموع المتظاهرين من تجمعات الاتحادات والنقابات وشرائح المجتمع المختلفة الذي كان يمثل الجيل المثقّف القديم، الذي كان كثيرا ما يستشهد بآرائه وكتاباته وأفكاره وتعلقه بالقراءة ويفخر بذلك، ثمّ ليكون الانتصار للجيل الجديد الذي أثبت أحقيته في الحياة عبر ثورته التشرينيّة الظافرة التي أبعدت كلّ علامات الشك والتشكيك عن هذا الجيل، ليكون ثمرة هذا الانتصار عندما يعترف ((ترى؛ هل جاءت اللحظة التي اعترف فيها المثقّف أنّه عجز عن إحداث التغيير؟، وأنّه الآن ينفض يديه من كلّ شيء؟ أعتقد أنّ هذه اللحظة قد جاءت عندما قال لـ (وضّاح) وزملائه الذين جاؤوا لزيارته في (عرينه)([61]).
ـ أتدرون أنّنا قد عجزنا عن جعل التغيير حالة ممكنة في المجتمع؟ صحيح كنا نكتب ونجهد أنفسنا، نقرأ ونقارن، ونصحح ونضيف ثم ننشر أفكارنا على الناس لكن؛ ما هي النتيجة؟ لا شيء كان أملنا سابقا في الجيل الذي كان يقرأ، أما الآن؛ فمن يقرأ، ومن يفكر؟ عاش المثقف على مر العصور يحرق روحه، ويجهد نفسه، وفي ظنه أنه يستطيع أن يدلّ الناس إلى مكان شروق الشمس، …. أول مرة يطالع وضاح حالة الخيبة، وآثار الهزيمة على وجه خاله، لم يعهده كذلك…))([62]).
والحقيقة أن الرواية عندما تصوّر هذا الصراع تصوّره بحياديّة، فهي تقدم زادها أمام القارئ، وعلى القارئ أن يختار الرؤية الحقيقيّة المناسبة له، وعلى هذا يمكن الحكم على الرواية بأنّها لم تنزلق أمام ((التدخل المباشر للكاتب، أن يجعل أسلوبه مُقْتَحِما أساليب الشخصيات التي يتم تشخيصها في العالم الروائي، وإن كان الكاتب قادرا على إخفاء نفسه وراء شخصية رئيسية تعبر عن رؤيته للعالم أي تتحدث بأسلوبه الخاص، وهنا نكون دائما أمام رواية مونولوجية مباشرة))([63])، فبقيت الرواية محايدة تقدّم الرؤى المختلفة والمتضاربة في بعض الأحيان، ولكنّها لم تقدّم الأحكام النهاية، فالقارئ وحده من يصدر الحكم النهائي.
الخاتمة
ـ جمعت رواية (لقلق النبي يونس ومخطوطة التاريخ الآخر) بين الحضور الموضوعي الذي يسلّط الضوء على الكلمة المشحونة بالمبادئ والأصالة والعاطفة للمدينة التي عاش فيها القاصّ؛ إلى جانب المسار المكثّف للإيقاع الأسلوبي الذي أتاح للسرد أن يرسخ الصراع الحادّ الذي جرى بين الشخوص، وكان للغة البسيطة المنسابة التي تميّزت بها الرواية أثر في إظهار الترابط العاطفي بين الأحداث والزمان والمكان، وكانت أسلوبيّة الرواية في مواجهة مع الخطاب المباشر القريب من (الخطاب الإبلاغي) التوصيلي ذات الوظيفة الوعظية غير المناسب للسرديّة القصصيّة الحديثة، والميزة التي كانت للرواية هي التزاوج بين الخيال والواقع، وبين الزمان الحاضر والماضي، والمكان الحديث والقديم؛ فالتباعد عن الرؤية المباشرة التي وضعتها في مصاف الأسلوبيّة الممسرحة للأحداث.
ـ كان العنوان في الرواية بنية لغويّة ذات تقنية ملازمة للفضاء المكاني المنحاز لمدينة الكوفة، الشامخة بماضيها وحاضرها، عبر فضاء ممتد متجانس ومتناقض في بعض الأحيان، هكذا أراد القاصّ أن يصوّر مكانه الأثير بواقعيّة غير زائفة، كما أنّ الحياة مليئة بشوائب المتناقضات والعقبات، وكان العنوان متشعباً على ثلاثة محاور، أخذت مقاصدها من العنوان الرئيس (لقلق النبي يونس)، وعتبة العنوان الداخليّة (مخطوطة التاريخ الآخر)، والعنوان التعريفي (رواية عن الكوفة وعكد اللوي)، وكان لكلٍّ من هذه المحاور مشروعه وطموحاته الخاصّة التي اشتغل عليها القاصّ في استشعار آليات الأسلوبيّة في المتن السردي.
ـ ضمّ المكان في الرواية إملاءات من الجوانب النفسيّة التي ضخّها القاصّ من نفسه حباً وإكبارا، وصوّر انطباعه العامّ من الأحداث التي جرت، ولاسيّما ثورة تشرين الشبابيّة، فأظهرت ما يختزنه من فكر وموقف وما يجتذبه من حبّ يسكنه للمكان (الكوفة) وأظهرت الانطباع بالفضاء اللفظي في محاولة إلى أن يأخذ المتلقّي الانطباع نفسه الذي سينطبع لا محالة عند قراءة الرواية بصورتها المتكاملة.
ـ كانت الإشارات الشخصيّة المصوَّرة للثقافة الشخصيّة للسارد، وما يعتقد به من توجّهات سياسيّة وفكريّة ونفسيّة، وما يكنّه من اهتمامات ومبادئ؛ باديةً في السرد، ولكنّه مع ذلك كان في محايدة وموضوعية، فعلى القارئ أن يحدّد اتّجاه الخطاب السردي؛ لأنّه الرواية كانت تحمل مزيدا من التلميحات الفنيّة، وليست المباشرة للتصوّر السردي في الرواية، هذا التكثيف في إظهار الشخصيّة، جعلها أقرب ما تكون من عمل السيرة الذاتيّة، فالراوي العليم لم يكن متوارياً خلف جدران البنية السرديّة؛ بل كان واضحا بصيغة ظاهريّة غير ضبابيّة، ولم يكن فاراً من أمام القارئ؛ لأنّه أراد أن يبدو انتمائه لهذه المدينة بصورة مترفعة وواضحة، ويقول ما تحتفظه الذاكرة من ذكريات جميلة حاضرة لم تقبل الأفول والانزواء، فالذاتيّة واضحة على الرواية بصورة جلية متميّزة، وهي تنطلق من معيار سردي تواصلي، وهذا ما لاحظناه في المناقشات المحتدمة بين أستاذ الفلسفة المتقاعد وابن أخته الشاب المثقف الثائر (وضّاح)، وهو الحوار بين الجيل القديم والجيل الحديث، أو ما يمكن الاصطلاح عليه بـ (حوار الأجيال).
المراجع العربية
الإبراهيم، ميساء سليمان، البنية السرديّة في كتاب الإمتاع والمؤانسة، منشورات الهيأة العامّة السوريّة للكتاب، دمشق، ط1، 2012.
بحراوي، حسن، بنية الشكل الروائي ـ الفضاء الزمن الشخصيّة، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت، ط2، 2009.
جاسم، عباس جاسم، ما وراء السرد ما وراء الرواية، عباس عبد جاسم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد/ ط1ـ 2005.
حبيلة، الشريف، بنية الخطاب الروائي ـ دراسة في روايات نجيب الكيلاني، عالم الكتب الحديث، أربد، الأردن، ط1، 2001.
حمودة، حنان محمد مرسي، الزمكانية وبنية الشعر المعاصر، عالم الكتاب الحديث، لبنان، ط1، 2006.
خطابي، محمد، لسانيّات النصّ، المركز الثقافيّ العربيّ ـ بيروت، ط1، 1991م
الخطيب، إبراهيم، نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1، 1982:
الخطيب، محمد، الرواية والواقع، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1981م.
الزعبي، أحمد، في الإيقاع الروائي ـ نحو منهج جديد في دراسة البنية الروائية، دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع، 1995م.
عيلان، عمر، في مناهج تحليل الخطاب السردي، دار الكتاب الحديث، 2012م.
لحمداني، حميد، أسلوبية الرواية ـ مدخل نظري، منشورات دراسات سميائية أدبية لسانية، الدار البيضاء، ط1، 1989:
المرزوقي، سمير، وشاكر، جميل، مدخل إلى نظرية القصة تحليلاً وتطبيقاً، دار الشؤون الثقافية العامة – العراق، 1986م.
النصير، ياسين: الاستهلال فن البدايات في النص الأدبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية (رقم 75)، القاهرة، 1998.
النعيمي، محمود جاسم عثمان، لقلق النبي يونس ـ ومخطوطة التاريخ الآخر ـ رواية عن الكوفة، وعكد اللّوي، منشورات أحمد المالكي، بغداد، ط1، 2021م.
الوقيان، شايع، الوجود والوعي استئناف الفينومينولوجيا، سلسلة (دراسات فكرية ـ جامعة الكوفة)، دار الرافدين ـ بيروت ط1، 2020.
المراجع المترجمة
ر.م.ألبيريس، تأريخ الرواية الحديثة، تر: جورج سالم، بيروت، باريس: منشورات بحر المتوسّط: منشورات عويدات.
ميخائيل باختين، الكلمة في الرواية، تر: يوسف حلاق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، سوريا، 1988م.
ميكائيل ريفاتر، معايير تحليل الأسلوب، تر: حميد لحميداني، ط:1، دار النجاح الجديدة، البيضاء، 1993م.
المعاجم
زيتوني، لطيف، معجم المصطلحات (نقد الرواية) مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط1، 2002م.
([1]) ر.م.ألبيريس، تأريخ الرواية الحديثة، 469.
([2]) ميخائيل باختين، الكلمة في الرواية، 9.
([3]) الخطيب، محمد، الرواية والواقع، 107.
([4]) عيلان، عمر، في مناهج تحليل الخطاب السردي: 272.
([5]) ظ: الزعبي، أحمد، في الإيقاع الروائي: 8.
([6]) ظ: ميكائيل ريفاتر، معايير تحليل الأسلوب، 6.
([7]) الإبراهيم، ميساء سليمان، البنية السرديّة في كتاب الإمتاع والمؤانسة، 13.
([8]) زيتوني، لطيف، معجم المصطلحات (نقد الرواية)، 105.
([9]) بحراوي، حسن، بنية الشكل الروائي، 36.
([10]) حبيلة، الشريف، بنية الخطاب الروائي، 190.
([11]) (حلال المشاكل) من الموروث العشبي، إذ يقوم صاحب مشكلة ما بالنذر ببعض الحلوى والمكسّرات الخالية من القشور، وعادة ما تكون سبعة أنواع، منها الزبيب الذي ينزع منه العود، والحمص، والجوز واللوز والفستق، وتقرأ عليها بعض الآيات القرآنية والأدعية، ولاسيّما دعاء عبد الله الحطّاب، الذي قضيت مشكلة فقره بسبب هذا العمل، ويناجى الله والنبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار عليهم السلام، من أجل حل تلك المشكلة، ويكون ذلك في كلّ ليلة جمعة، حتّى تقضى بإذن الله تعالى، لتوزّع تلك الأشياء من المكسرات والحلوى، على الجيران والأقارب، بشرط أن لا يأكلها الرجال، فالمسموح بأكلها هي النساء فقط، وإن أكلها الرجل فإنه سوف يواجه السجن، بحسب العادة المتبعة.
([12]) كلمة شعبيّة تعني الأشخاص الذين تستهويهم الطيور، فيربونها ويلعون بطيرانها على سطوح بيوتهم.
([14]) ظ: لقلق النبي يونس: 189.
([15]) ظ: المرزوقي، سمير، وشاكر، جميل، مدخل إلى نظرية القصة تحليلاً وتطبيقاً، 103ـ 104.
([19]) رواية لقلق النبي يونس: 205.
([20]) رواية لقلق النبي يونس: 9.
([21]) ظ: خطابي، محمد، لسانيّات النصّ،16ـ 19.
([22]) جاسم، عباس جاسم، ما وراء السرد ما وراء الرواية، 29.
([23]) ينظر: ما وراء السرد ما وراء الرواية: 28.
([24]) النصير، ياسين: الاستهلال فن البدايات في النص الأدبي، 23.
([25]) رواية لقلق نبي يونس، 40.
([26]) الوقيان، شايع، الوجود والوعي استئناف الفينومينولوجيا، 157
([27]) رواية لقلق النبي يونس: 162.
([29]) ظ: الخطيب، إبراهيم، نظرية المنهج الشكلي، 185.
([30]) رواية لقلق النبي يونس: 67.
([34]) رواية لقلق النبي يونس: 28.
([41]) حمودة، حنان محمد مرسي، الزمكانية وبنية الشعر المعاصر، 23.
([42]) رواية لقلق النبي يونس: 12.
([44]) رواية لقلق النبي يونس: 21.
([49]) لحمداني، حميد، أسلوبية الرواية، 21.
([50]) رواية لقلق النبي يونس: 102.
([54]) رواية لقلق نبي يونس: 17.
([56]) رواية لقلق نبي يونس: 19.
([60]) رواية لقلق نبي يونس: 192.