هشاشة الحلم التخييلي/الكتابة باستعارة نسقي التاريخ والترجمة
Frailty of Fictional Writing according to History and Translation System
أ.د. عبد الله شطاح. جامعة البليدة 2/ الجزائر
Prof : Abdallah CHETTAH, Blida2 university/Algeria.
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 70 الصفحة 113.
Abstract
this is a long analyse of the technical and stylistic tools any writer should use correctly in order to make the reading experience of his novel a pure pleasure by the surrender of the reader to its imaginative delusion, its dreamy world, and its coordinated and artistically furnished space in a way that transforms the reading experience into a joyful adventure by making use of the principles laid down by the American critics ; John Gardner and Ben Yagoda in their books in which they analyzed these issues at length, from which we borrowed the most critic principles used in in this article especially the Reading from the perspective of imaginative dream, textual pleasure, intense or nude style, and natural performance that takes into account the values of rhythm, harmony, and sweetness, in opposite of the amateur performance that is stuck in its shortness of affectation and emotion, or emotional coldness, superficiality, and the inability to access the intimacy of characters, building plot and the like and apply them te study two fictional works that were consecrated by the official literary institution in the Arab countries with two prestigious awards, namely (Katara)/(ana wa hayiim/habib sayeh) and (poker)/(diwan el isbarti/abdelwahab issaoui).
Key words : fiction, dream, style, empathy..
ملخص
نحونا في هذه الدراسة إلى التعمق في بحث الأدوات الفنية والأسلوبية التي تجعل من النص الروائي مادة استهلاكية يستريح إليها القارئ بالاستسلام إلى إيهامها التخييلي وعالمها الحالم وأفضيتها المنسقة والمؤثثة فنيا بالاعتماد على التحديدات التي أرساها الناقدان الأمريكيان جون جاردنر وبن ياغودا في كتابين سخراهما لبحث هذه القضايا بإسهاب تحليلي واستقصائي أفدنا منه في التقاط الأدوات الإجرائية التي كرسناها لاحقا في قراءة عملين روائيين توجتهما المؤسسة الأدبية الرسمية في البلاد العربية بجائزتين معتبرتين هما (كتارا)/(أنا وحاييم للحبيب السائح) و(البوكر)/(الديوان الاسبرطي لعبد الوهاب عيساوي)، انطلاقا من تكريس أولي يعطي الانطباع بتحقيق ابتدائي أساسي للقيم الأدبية والفنية كما تخيلتها لجنة التحكيم وحكمت من خلالها على فرز النصوص وتتويج أجودها بالجائزة، الأمر الذي يجعل من هذه الدراسة بمثابة قراءة في الاختيارات الفنية الواعية لذلك التتويج، على أسس نقدية ومنهجية بعيدة عن أي افتراض مسبق، باستثناء الاشتغال من داخل النصين، وعرضهما على ضوابط نقدية مكرسة في عملي الناقدين المشار إليهما أعلاه.
كلمات مفتاحية: الأسلوب. التخييل. الحلم. التعاطف..
- على سبيل التمهيد
نريد أن نتساءل ابتداء، من منطلق بسيط للغاية، من خلال أسئلة تشبه تلك الوافدة على الأدب من تخصصات بعيدة عنه تجهل تماما طبيعة الممارسة الأدبية وميكانيزماتها التخييلية وأبعادها الفلسفية والجمالية التي يمكن على ضوئها تفسير الحفاية الاستثنائية التي احتازتها الروية في الزمن الحاضر، إن على المستوى العربي، أو على المستوى الغربي صاحب الفضل في اجتراح هذا اللون من الممارسة السردية والتأسيس لها إبداعا وتنظيرا، بما يحيلنا إلى التساؤل، حول ما أسماه جيروم ديفيد الدرجة الصفر للأدب[1]، والتي تستوجب صياغة جديدة لمعنى الأدب من خلال الانفعالات التي تحدثها والوسائط والطرائق(الإغوائية) التي تتمكن بواسطتها من لفت انتباه القارئ و(الإيقاع) به في شبكتها التخييلية ثم (اعتقاله) والزج به زجا نهائيا في لعبتها السردية التي قد تطول وقد تقصر، مع ما تقتضيه من صبر وإثارة وتأويل وإسهام تداولي يظل النص، بدونه، ناقصا وغير مكتمل وواقعا دون مستوى العمل الأدبي(L’œuvre littéraire) بمعناه البارثي[2]، الأمر الذي يستدعي البحث عن إجابات مقنعة عن الدواعي التي تحرض على قراءة الأدب، وعن طبيعة (التعويض) الفني الذي يبحث عنه القارئ لقاء جهده وماله ووقته، وعن الشروط التي تنتفي بانتفائها الصفة الأدبية عن النصوص المكتوبة، وعما إذا كان يمكن تحديد تلك الشروط تحديدا يكشف عن تفاصيلها وحدودها وطبيعتها، أم أنها ستظل، بحكم انتمائها إلى الذائقة الإنسانية المتملصة عن التحديد ماهية وتعريفا، منتمية انتماء نهائيا إلى حيز الأسطوري و الانطباعي؟. مهما يكن فإن هناك حزمة من (الوقائع) التأملية التي تقرب (الفعل) الأدبي تقريبا كليا ونهائيا من معايير اللذة والمتعة التي تقدمها إلى المتلقي، وبغيابها يفقد النص الدواعي الأصلية لوجوده وتلقيه[3]، وإذا كان الأمر كذلك، تناسلت في هذا السياق أسئلة أخرى عن مظان اللذة في النص، أي في موضوعه، أم في أسلوبه؟ أم فيهما معا؟ وما طبيعة الوشائج الفنية المتداخلة بين الموضوع والأسلوب؟ أهي محايثة أم مفارقة أم متجاورة؟ وهل يبرر الموضوع سقطات الأسلوب؟ وهل يعوض هذا الأخير عن إخفاقات الأول؟ وهكذا لا تنفك الأسئلة تترى حتى تلج حيز النظرية الأدبية نفسها، عودا على بدء، من المحاكاة إلى الفن للفن، ومن أرسطو إلى رولان بارث، بما يستدعي حصر الأسئلة في نطاق التخييل الروائي مادام غرضنا هنا هو التأمل في (العبقرية) الفنية الخاصة بالرواية، رائدة الأداء الأدبي الحديث، وموئل النبوغ الذي (يجرب) فيه الكتاب المُكَرسون نظرياتهم الفلسفية والأسلوبية الخاصة، و(يقترفه) المبتدئون بحثا عن الصوت الخاص، وعن الممكنات المذهلة التي يحفل بها السرد.
لقد كان مفهوم الحلم التخييلي ( Fictional Dream) مفهوما مركزيا في التحليل الذي اتكأ عليه جون غاردنر في تفسير انتشار الفن الروائي وارتكازه المبكر في قلب الممارسة الأدبية منذ أواخر القرون الوسطى واشتباكه مع الواقع وقضاياه، حتى أو شك أن (يحتكر) اسم الأدب احتكارا كليا على حساب الفنون الأدبية الأخرى ذات الجذور الأكثر قدما ورسوخا في تقاليد المجتمع الغربي و ثقافته، قال:” إذا تأملنا أنفسنا ونحن نقرأ سنكتشف بأن أهمية التفاصيل تكمن في أنها تخلق لنا نوعا من الحلم، مثل مسرحية غنية وفاقعة الألوان. نقرأ مفردات قليلة في بداية الكتاب أو بداية القصة، وفجأة نجد أنفسنا لا نرى مفردات فوق صفحات ولكن نرى قطارا يتحرك عبر روسيا، شيخا إيطاليا يبكي، أو بيتا ريفيا يتلقى وابلا من المطر. نواصل القراءة ونواصل الحلم، ليس بطريقة سلبية ولكن بطريقة إيجابية، حيث نقلق بشأن الخيارات التي تقوم بها الشخوص، نستمع مذعورين لبعض الأصوات وراء باب المتخيل، مستمتعين بنجاحها، متأففين من فشلها. في الروايات الكبيرة يستولي علينا الحلم روحا وقلبا، حيث لا نستجيب لأشياء خيالية: صور، أصوات، روائح، كما لو كانت حقيقية، ولكننا نتعامل مع مشكلات الرواية كما لو كانت واقعية، ونعيش في خيالنا محاكمة الشخوص ونتعلم من نجاحهم وإخفاقهم من خلال تصرفات سلوكية معينة، وضعيات معينة، أراء مختلفة، ومعتقدات، وتصريحات كما نتعلم من الحياة الواقعية.”[4]، ومن هنا تأتي تلك الأهمية الكبيرة التي احتازتها الأعمال الأدبية المكرسة في كلاسيكيات الأدب العالمي، حيث ” تجلعنا ندرك بأن تلك الأهمية لا تكمن في كونها تقوم بتسليتنا وإلهائنا عن همومنا فحسب، أو بتعميق معرفتنا بالناس والأماكن فقط، ولكنها، إلى جانب ذلك، هي تساعدنا على معرفة ما نؤمن به، وتقوي تلك الفضائل النبيلة فينا، وفي النهاية تؤدي بنا إلى الشعور بالانزعاج من نقائصنا وعيوبنا.”[5]، ومن ثم تسهم بطريقة أخرى في بلورة المؤهلات التي على أساسها يتم التعاطف (الأمباثيا)[6] والانخراط الفعال في الحلم التخييلي و الاستفادة الكاملة منه، سواء من حيث المضامين أو من حيث الأثار الفنية الجمالية.
هل يمكن أن يكون الحلم التخييلي (Fictional Dream) جوابا كافيا عن الأسئلة التي أسلفنا طرحها حول الجدوى الفلسفية من قراءة الرواية و(استهلاك) الاعمال التخييلية بصفة عامة؟ الواقع أننا يمكن أن نعتد ذلك جوابا في حدود معينة إذا أضفنا إليه تفسيرا آخر يتصل بالأسلوب في حد ذاته في ما يخص الأعمال الأدبية على وجه الخصوص، حيث يلزمنا الافتراض الأولي بربط مستهلك الأدب بدرجة معينة من الحساسية الأدبية الكفيلة بتعريفه بالأساليب الرفيعة عندما يصادفها، وبالأساليب الغثة عندما يلقاها، الأمر الذي يدفعه إلى مطالبة النصوص بالاستجابة لحساسيته الأسلوبية بالدرجة نفسها التي تستجيب بها لتطلعاته العاطفية والفلسفية المحمولة على وسائط التخييل، والمركوزة في قلب العملية الإبداعية بداهة، ومن هنا يمكن القول، بأن القارئ النموذجي وفق تحديدات أمبرتو إيكو[7]، هو الأقدر، من بين مختلف أنماط القراء[8]، على فعل القراءة المنتج للمعنى، من حيث معرفته بقوانين السنن الأدبي وبآلياته التخييلية التي يتصدرها الأسلوب ويوجهها ويتحكم فيها. وحتى القارئ الآخر (المستهلك)، الذي يقع في درجة أدنى من القارئ النموذجي، فإنه يظل بدوره منتجا للمعنى في سياقه الخاص به، على الأقل في لملمة أشلاء النص واستخلاص دلالة قصصية ما.
نريد أن نخلص مما سبق إلى القول بأن الأسلوب غالبا ما يكون مبررا كافيا لمغامرة القراءة وتعويضا مجزيا عن (تخاذل) النص عن القول المعجب والمضامين الأصيلة، لأننا نقرأ أصلا كي نستمتع، وليست المتعة بالأسلوب بأقل من متعة المعنى، مادامت الأعمال الكبيرة هي الأعمال التي بلغ فيها الأسلوب مستويات عليا من الأداء، لأن الأمر كله، حسب ليي سميث Lee Smith” متعلق بالأسلوب. فمن خلال اللغة وحدها يمكن الكاتب أن يكون مبدعا Original لأن كل الموضوعات قديمة.”[9].
وعليه فإن الموضوعات (الطيبة) مثلها مثل النوايا الطيبة لا تصنع أدبا البتة، لأن الكتاب، في واقع الأمر، لا يثيرون حماسنا وانفعالنا، ولا يمتعوننا بما يقولون، ولكن بالطريقة التي يقولون بها ما يقولون، لأن ما يقولونه ليس سوى أفكار ومعلومات تتخذ لبوس الشخوص والحكاية في الرواية، بينما ” الطريقة التي يقولون بها ذلك هي الأسلوب.”[10].
ذلك أن تاريخ الأدب، حسب توصيف أيرينا ديميترسكي( Irina Dumitrescu)[11]، ليس إلا منصة عرض لا تنفك تتحرك فوقه الهياكل العظمية القديمة نفسها، لا تختلف عروضها إلا بما ترتديه من ملابس وحلي ومساحيق وإكسسوارات شكلية لا تغير من جوهرها وحقيقتها شيئا، بما يجعل مدار الأمر على المعروضات وطريقة عرضها وليس على الهياكل التي لا تتغير إلا بقدر تغير مستجدات الأزياء وإبداعات الموضة فحسب.
بيد أنه يتوجب علينا أولا تحديد المعاني والظلال والإيحاءات التي يحيل عليها لفظ الأسلوب، لاسيما في المنظومة الأدبية العربية ذات البعد التراثي الراسخ في الوجدان الأدبي الذي اقتات (مدرسيا) على خطب قس بن ساعدة الأيادي ونثريات ابن المقفع وكتب الجاحظ وأعمال الجرجاني ومقامات الحريري والهمذاني، وسواهم من معلمي البيان العربي وبلاغته. ذلك أن الأسلوب المقصود هنا، في المجال الروائي على وجه التحديد، لا يخضع بالكلية إلى قيم البلاغة القديمة وصورها البيانية والبديعية، بقدر ما يخضع لقوانين أجناسية جديدة متعلقة بفن الرواية التي تحتفي حفاية خاصة بقيم أسلوبية لم يعرها البيان القديم عناية خاصة، من قبيل التفاصيل والحيوية والحركة وبناء الشخصية والحبكة والإيقاع وسواها، دون أن يعني ذلك إمكانية التخلي عن جمالية الأداء اللغوي الصرف، ما دام الفن الروائي فنا لغويا، من حيث الماهية والتعريف، فهو يخضع لقوانين المادة المكونة له وجمالياتها الخاصة، بعيدا عن السقوط في شرك التعويض اللفظي عن العمق والمعنى والفكرة والانفعال النبيل وسواها.
من أجل ذلك ربما لم تعرف الرواية إلى حد الآن قواعد صارمة، جامعة مانعة بتعبير المناطقة، وظلت مفتوحة على التجريب والإبداع، مستوعبة للمستجدات الفنية في مختلف الميادين، ومتكيفة مع التقنيات والأدوات التي تحدها وتؤطرها وتنظم خطاها دون أن تحد من حركتها وحيويتها وقدرتها الأصيلة على التجاوز، شأنها في واقع الأمر شأن الفنون جميعا، الأمر الذي أهلها لتكون موئل التفاوت الإبداعي والفني ومجلى العبقرية الخاصة بمنأى عن التساوي الأدائي نظرية وتطبيقا، لأنه ” على الرغم من أن هناك مجموعة من القواعد التي تضعها دور النشر، فإنه لا وجود لأية قواعد للرواية الحقة، شأنها شأن الفنون البصرية وصناعة الألحان، ولكن هناك آليات وتقنيات techniques، بل المئات منها، مثلها مثل تقنيات النجارة، التي يمكن تدريبها وتعليمها (…) هناك اعتبارات جمالية وأخلاقية تحتم على كل كاتب جاد أن يتأملها طويلا، عاجلا أم آجلا (…) هناك أخطاء شائعة، وبعض الهنات التي تظهر باستمرار في الروايات غير الناجحة، والتي يمكن تحليل أثارها السيئة على النص.”[12].
بما يعني انتفاء أية قاعدة جاهزة، بدليل أنك مهما تكن أصالة وعبقرية القاعدة التي تضعها فإنك لن تعدم كاتبا ما قادرا على الإتيان بالدليل العملي على تهافتها بإنجاز نموذج روائي يكسرها ويتجاوزها ويحقق النجاح على الرغم من ذلك أو بسبب ذلك، مقدما الدليل العملي على محورية شخصية الكاتب، وصوته الأسلوبي وبصمته التي تكيفها حساسيته الفنية وثراء حدوسه المعرفية و (عبقريته) التي هي مناط الإعجاب والفضول والحيرة أحيانا، كتلك الحيرة التي اعترت بن ياغودا(Ben Yagoda) وهو يتأمل أساليب هيمنغواي و ما تثيره في النفس من إعجاب غامض يصعب وصفه و تحليله:” ماهي موضوعات هيمنغواي؟ بعض القصص الجميلة هو الحرب وصيد السمك، قصص قصيرة نسبيا، وبعض الأفكار، حول التصرفات المشرفة وغير المشرفة، المربكة للقارئ المعاصر. أما شخوصه، وخاصة في قصصه الأخيرة، تميل إلى تكون مرهقة. لكن انظر إلى أسلوبه”[13].
وعلى ضوء الأسلوب الممثل له بفقرات مختارة، وتعابير منتقاة، وجمل معدودة، يقدم الدليل العملي على فرادة أسلوب الكاتب وروعة إيقاعه اللفظي والتركيبي، جاعلا منها دليلا محكما، وحجة راسخة، وتفسيرا كافيا، يؤكد عبقرية الرجل الأدبية التي توجته بجائزة نوبل مبكرا وكرسته مع كتاب الصدارة في تاريخ الأدب الأمريكي.
يقودنا هذا إلى وضع الأسلوب جنبا إلى جنب مع الحلم التخييلي الذي يمكن، على ضوئهما، بيان المقومات الأساس التي يقوم عليها الفن الروائي، حيث يقوم الثاني على الأول قياما تتابعيا، يصعب تصوره بدونه، ويتعذر قيامه بنفسه مهما حاول الكاتب أن يميل إلى الفكرة والمعنى، على حساب العبارة والصياغة والإيقاع. وقد روي أن الكاتب الفرنسي الكبير جوستاف فلوبير كان يخضع عباراته وجمله لما كان يسميه (la gueulade)، وهي أن يقف بين الأشجار في حديقة منزله ثم يرفع عقيرته بالصراخ، بأقوى ما يستطيع، بجمله وعباراته وفقراته لينظر مدى تناسب إيقاعها مع النموذج المثالي الراسخ في ذهنه[14]، لأن الإيقاع المسترسل بهدوء وعذوبة وانسياب، هو أحد أهم الوسائل المشجعة على الانخراط في الاندماج الكلي مع الحلم التخييلي الذي توفره الرواية، على مستوى المتلقي أولا، أما على مستوى الكاتب نفسه فإنه يرسم له، بعد ذلك، خط الكتابة والتسريد وفق خطوات الإيقاع الحالمة بدورها، حيث تتوالى الجمل والفقرات منسجمة متماسكة حيية نشيطة مترفعة عن ثقل التكلف ونشاز اللحن ومعاضلة التصنع التي يقع فيها ناشئة الكتاب، الأمر الذي جعل الكاتبة الإنجليزية الشهيرة فرجيينيا وولف تقول بأن ” الأسلوب أمر في غاية السهولة، لأنه يتعلق بالإيقاع تعلقا كليا، وعندما تحصل على هذا الأخير فإنك لن تستعمل أبدا المفردات الخاطئة.”[15].
أما الكاتبة الأمريكية والمسرحية الشهيرة جامايكا كينكيد(Jamaica Kincaid) فقد قالت:” أنا عاجزة عن الاهتمام والتركيز على العقدة، لأنني عندما أصنع جملي فإنني استمع إلى إيقاعها في ذهني، حيث يشغلني العمل على جعلها تبدو جميلة عن أي شيء آخر.”[16]. الأمر نفسه تقريبا الذي نجده يتكرر بمعاني مختلفة عند مجموعة من الكتاب الأمريكيين الذين حاورهم صاحب الكتاب المذكور[17] بشأن الأسلوب وطرائقهم في الكتابة وفلسفتهم الروائية بصفة عامة، حيث يجيئ الاهتمام بنصاعة العبارة وإيقاعها وانسجامها في مقدمة اهتماماتهم، في الوقت الذي يحيلون فيه فشل الكثير من الأعمال على عدم مراعاة ذلك أو على العجز عن الكتابة بمقتضاه، بما يجعلهم يرتكبون الخطأ الفني الوحيد الذي كان يتوجب عليهم أن يتجنبوه بأية وسيلة، وأن يبذلوا قصارى جهودهم في تفاديه، وفي تعلم الحيثيات التي تحيط به وتؤدي إليه، ألا وهو، بحسب جون غاردنر، السماح لذهن القارئ بالشرود[18] عن الحلم التخييلي، والانزلاق خارج التدفق الإيقاعي و التخييلي الذي تظافرت الجهود والأدوات الفنية من أجل خلقه منذ عتبة العنوان.
وعلى هذا الأساس يصبح النظر غير المحيط بممكنات السرد والنثر مضرا أشد الضرر، لا سيما عندما يربط الكتابة بالترسل الخالي من أي اعتبار نغمي أو إيقاعي، بخلاف ماهية النثر المشتملة، بالتكوين، على ممكنات إيقاعية لا تختلف عن ممكنات الشعر إلا في الطريقة وفي الدرجة، الأمر الذي يدفعها إلى السقوط السريع في النشاز الإيقاعي المؤذي لسمع القارئ وأذنه، ولاسيما تلك الأذن المدربة ذوقيا وجماليا على إيقاعات الشعر و ترسلات الكتاب الكبار، بما يجعل من استساغة الكتابة الروائية المعاصرة – ولاسيما منذ بداية الألفية الثالثة، واستقرار الفن الروائي في الفضاء الأدبي العربي، وإقبال كل من آنس من نفسه القدرة على التعبير على المغامرة في كتابة الرواية – عملا شاقا ومرهقا، لا يتعاطاه من ليس عنده داع قوي كالدراسة والتحليل والنقد وسواها[19]، لأنها كتابة لم تشتغل بما يكفي على تنمية المهارات الأسلوبية التي تعتمد في جانب كبير منها على استثمار الجوانب الشعرية في لغة النثر، التي لا تقل أهمية عنها في لغة الشعر، الأمر الذي يشوش ذهن القارئ ويفسد عليه متعة الحلم ولذة القراءة معا.
ولا ينبغي الخلط هنا بين الأسلوب الروائي المفحم بالشاعرية والنغم وبين الفهم القديم للأسلوب الذي يربطه بالفخامة والجزالة والمتانة و إحكام النسج، على النحو القار في المخيال العربي العام حول أسلوب العقاد والجاحظ وأبي حيان التوحيدي وسواهم من كبار كتاب النثر المشهورين، لأن الأسلوب الروائي يقتضي لونا آخر يناقض تماما أساليب هؤلاء، ويقع على مسافة شديدة البعد منه، وينصرف إلى إنشاء بلاغة خاصة به قوامها العذوبة والبساطة والسهولة، وهي قيم تستدعي، خلاف ما يبدو عليه الأمر، مجهودا مضاعفا وحساسية فنية أعلى وقدرات خاصة على النزول باللغة إلى مستوياتها التداولية الدنيا وهي محتفظة كلية بإيقاعها الداخلي ونظمها وشعريتها و انسيابيتها المفعمة بالرقة والعذوبة.
يمكن تبين الفرق في الترسل الفني الأخير بين الكتابة الصحفية والروائية الناجحة، حيث يمكننا أن نعيد قراءتها مرات ومرات، بالمتعة نفسها، وبالحماس نفسه، دون أن تفقد شيئا من جاذبيتها وجمالها، بل قد تكشف القراءات المتتالية جوانب خفية من بيانها السهل الممتنع، ومن الإيقاع الغامض المشتمل على تفاصيله السردية في مختلف المواطن التعبيرية، نزولا وهبوطا، حوارا ووصفا وسردا، بخلاف المقالة الصحفية التي تكفي قراءة واحدة لها لتكشف عن مضامينها الإعلامية الملقاة عارية بلا قدرة استثنائية على إثارة الخيال وتحريض الحاسة الأدبية. هذا ما يفسر على نحو ما تأكيد الكاتب الإنجليزي الشهير سومرست موم” بأن الكتابة بأسلوب بسيط هي عملية شاقة مثلها مثل الكتابة بأسلوب جيد.”[20].
وهكذا تفارق الكتابة الصحفية الكتابة الأدبية، و تتعالى ببساطتها عن الانخراط في لعبة الجزالة والبلاغة القديمة، والدعاوى التي أطلق عليها جون غاردنر توصيف الكتابة المصطنعة (Mannered writing )، التي ” تسحبنا باستمرار من الحلم التخييلي بواسطة لازماتها (tics)الأسلوبية التي تدفعنا إلى ربطها بتطفل الكاتب ورغبته في أن يثبت لنا بأنه يختلف عن جميع الكتاب الآخرين.”[21]، بينما تمثل تظل (اللازمات) الأسلوبية المذكورة قريبة الشبه بـ(أعراض) القلق التعبيري الأدبي، مثلها مثل القلق العصبي المرتبط بالأشخاص في الحياة الواقعية، تتكرر لا إراديا، تكرارا عصابيا وهوسيا يصعب التحكم فيه، بالطريقة نفسها التي تؤذي بها الأساليب المصطنعة أذن القارئ فتحيل تجربة القراءة عذابا متصلا، و قد تكون في أغلب الأحيان تجربة وحيدة لا تتكرر في حيوات القراء الطارئين على الرواية، لأنهم وقعوا، لسوء حظهم، في تجاربهم الأولى تلك، على نصوص كتاب لم يحترموا العقود المقطوعة معهم ضمنيا، بأن لا يشعروا بالملل لقاء ما دفعوا من مال لشراء العمل، وأن لا تقع تلك الأعمال خارج أفاق انتظارهم الجمالية على أقل تقدير[22]. ذلك ما جعل ه. ل. فولر(H. L. Fowler)، في كتابه الشهير ، حول أساليب اللغة الإنجليزية، يؤكد بأن ” كل جملة في أسلوب الكاتب الجيد تكون جملة إيقاعية، بينما يزعج الكتاب السيئون الأذن في معظم الأحيان. أما عند بعض الكتاب فإن التماهي مع الموسيقى يبلغ مدى وراء ذلك، حيث ينشئون تعابيرهم إنشاء نغميا يقوم على الحيوية والانسجام إلى حد التزامن (الأركسة) orchestration.”[23].
وإذا كان الحلم التخييلي هو المعيار الذي نصبناه لننظر من خلاله في مستويات النجاح والفشل في الأعمال الروائية، وكان الأداء الأسلوبي مستندا بدرجة أساسية على قيم البساطة والشعرية وسهولة المأخذ، فإن ثمة قضايا حافة، شديدة الحدة، ترهن تلك العملية برمتها ما لم توف حقها من العناية، ولا سيما تلك التقنيات التي تؤطر العمل السردي من حيث الحبكة وبناء الشخوص وصياغة العواطف والانفعالات صياغة فنية مقنعة لا زيف فيها ولا ادعاء ولا برود، حيث يقع البرود العاطفي على الطرف الآخر من الحماسة العاطفية المبالغ فيها، ومن البكائيات المستدرة للتعاطف بدون تأسيس فني حقيقي مقنع، وقادر على استدراج النص إلى فضاء النضج الفكري والعاطفي وتخليصه من النزوع الطفولي نحو التهويل والتضخيم والتزييف والتسطيح.
إن الفرق بين العاطفتين في واقع الأمر فرق في الدرجة وفي البناء الدرامي أساسا، طالما كان يتعذر بناء الرواية بناء يجردها تجريدا كليا من العواطف والانفعالات والأحاسيس، وطالما كانت هذه الأخيرة مكونا جوهريا من مكونات البشر الذين هم في الأخير مادة الرواية وأداتها وموضوعها، الأمر الذي يحتم التفريق بين العاطفة(sentiment) والعاطفية (sentimentalité، حيث تحيل هذه الأخيرة على الزيف والافتعال والتضليل، بينما تحيل الأولى على العواطف المبنية على حيثيات ووقائع مبررة ومفهومة ومنطقية. وغني عن البيان أن الأولى ضرورية وجوهرية للرواية لأنها لحمتها وسداها وماؤها كما يقول القدماء، لا يتصور العمل بدونها، ولا قيمة له إن وجد بأية طريقة من الطرق الفنية والممكنات السردية التي لا تخلو منها جعبة الرواية على كل حال. أما البناء الدرامي للعاطفة من خلال حركة الشخوص وفعلها، وبعد أن يتمكن السارد من استيفاء الشروط الدرامية والسردية التي تجعلنا نتعرف على الشخصية وعوالمها معرفة حميمة تمكننا من التعاطف والتماهي معها وتبني موقفها وقضايا ورؤيتها للكون والحياة، فحينها فقط يحق للناص أن ” يحشد ما يشاء من أساليب البلاغة والخطابة للتعبير عن أسانا عن المصائب التي حلت بها، “[24]، لأن النتيجة حينها ستكون عاطفة قوية وليست عاطفية ساذجة، أما إذا انحرف الناص عن ذلك أو عجز عنه، ثم أراد منا أن نذرف الدموع من أجل ما حل بشخصية لا نعرفها ولا نحبها، واكتفى في سبيل ذلك باستدعاء عواطفنا الإنسانية الكامنة، وحبنا لله والدين والوطن، فإنه يكون قد أخفق تماما في إحداث العاطفة والتعاطف وأحدث النتيجة العكسية تماما لما كان ينتظره، ودفعنا دفعا إلى (الاشمئزاز) من العاطفية الفجة التي لا تخفى غثاثتها وزيفها وبرودها، وأن نطرح الميلودراما الساذجة التي تقبلناها أطفالا و صار من الصعب جدا أن نتحملها كبارا[25].
مهما يكن فإن كثيرا من النصوص الأدبية تفشل في التوظيف السليم للعواطف سواء بسبب البرود العاطفي الذي يتربص بالكاتب المنصرف إلى كتابة عواطف لم يشعرها، وتجارب لم يعشها، ووضعيات عجز عن تقمصها، سواء بسبب ضعف الخيال أو الأسلوب أو القدرة على الخوص في أعماق الشخوص أو بسبب ذلك كله، الأمر الذي يلزمه غالبا بالعمل على التجديد في الشكل تجديدا لا يعوض تماما ما لحق الفكرة والمضامين والأسلوب من خسارات، ولا يتفادى انكسار خط الحلم التخييلي وانسيابيته الحلم التخييلي في نهاية المطاف.
- الكتابة باستعارة نسق الترجمة
سنعكف هنا على عرض الأداء الأسلوبي والتخييلي لروايتي (الديوان الاسبرطي)[26] لعبد الوهاب عيسوي، و (أنا وحاييم)[27] للحبيب السائح، المتوجتين بجائزتي (البوكر) و(كتارا) المعتبرتين عربيا، سنة 2019، لنعرضهما على المعايير التي صففنا خصائصها في ما أسلفنا من تحليل، ولا سميا ما تعلق منها بالأسلوب ودوره في بناء الحلم التخييلي الذي أقامه جون جاردنر في قلب العملية التداولية وأناط به نجاح الرواية وفشلها.
لقد ساقنا النظر في الأسلوب المهيمن على نص (أنا وحاييم) إلى التقاط الإيقاعات البنائية للجمل والعبارات والأوصاف والتشبيهات واللوازم اللغوية إلى إطلاق توصيف الكتابة باستعارة نسق الترجمة، لأن القارئ سيفجؤه النص منذ بداياته بـ(غرابة) لغته المتقاطعة مع أساليب النصوص الأدبية المترجمة بطريقة تؤثر المعاني الحرفية على المعاني الكلية، مرسخا الانطباع الأولي بأنه كتب أولا باللغة الفرنسية ثم نقل لاحقا إلى اللغة العربية، لأن القارئ المتمكن من اللغة الفرنسية سيلاحظ جريان النص وفق نظامها التعبيري الخاص على الرغم من كونه نصا عربيا، حتى ليمكن القول: كما قال ذلك الأعرابي الذي سمع نحاة البصرة يخوضون في مسائل النحو، ويستعملون لذلك اصطلاحات لم يعرفها قط، ولم يفهمها رغم أنها عربية: (أرى أنكم تتكلمون بلساننا في ما ليس من لساننا).
خذ مثلا قوله” توقعت، لما كان يرسمه لي خيالي عن نظام داخلي في ثانوية، أن أحظى بشيء من سراح جدتي لي ومن أمي نفسها، إلا والدي، فهو، لقسوته الظاهرية، كان لا يختلف عن بعض الأرباب من الكولون.”[28]، أو ” لعله هو ذاك الشعور الذي أدخلني، كما حاييم، في تنافس، كل شيء فيه كان شديدا، مع ثلاثة وعشرين زميلا لنا من الأوروبيين والأقدام السوداء…الذين كانوا ينظرون إلينا، انا وحاييم، نظرة أهل المدينة إلى الريفيين، وكانوا، لاسمينا، قد رتبونا بقوة أحكامهم المسبقة، ضمن خانة الأنديجان.”[29]، أو ” فتخيلت فرحتها يبعثها فيها أن خطيبها سيعود إليها من الجبهة سالما. “[30]، وعلى نحو أوضح في ” (يبدو أننا سنزداد شراهة ونهما). كذلك تلطف لي حاييم في السنة الثانية.”[31]، وفي ” ولشعور بطاقة داخلية استثنائية، وجدتني، أنا المراهق، حزمت أمري على أن لا يصدر مني تعبير يظهر علي يوحي إلى مسيو ويل أني على حال خوف حد أن أدك (كذا في النص) رأسي بين كتفي أو أنكس ذقني أو أشيح بعيني، وكنت، في مقابل ذلك، لا أبغي أن أظهر أي صلف.”[32]، وفي ” أما أن أكون التحقت، انا لاراب، بالثانوية، باعتباري مجرد أنديجان، فامر لابد أن مسيو ويل استبعده، فهو نفسه، في تعلميه الابتدائي، كما كان وصلنا عنه (كذا في النص)، نحن بعض التلاميذ، عرف أطفالا من الأهالي متفوقين عليه، من السنة الأولى حتى السادسة، لم يستطيعوا، لفقرهم وبقائهم أنديجان، الالتحاق بالتعليك الاكمالي والثانوي.”[33]، وفي ” وبعد أسبوع آخر، من حلول العطلة الصيفية، كنا قد عدنا إلى مدينتنا عودة ألهمتنا بتصور (كذا في النص) أنواع التراخي و الكسل والانفكاك كلها (كذا في النص).”[34]، وفي ” بعد أيام، إذ التقينا كما العادة في الزنقة صباحا، أخبرنا بعضنا بوجهة سفر كل منا، على رعشة.”[35].
لن يلبث القارئ المتمرس بالأساليب العربية الفصيحة إلا قليلا حتى تصك أذنه حشرجات النشاز المتنافرة في الاستعمال المفرط لعلامة الفاصلة، بين الجمل القصيرة المتراكمة كحبات الرمل المتفاوتة حجما ولونا، وبين الكلمات المفردة الضائعة في متاهة السرد بلا أدنى مراعاة للإيقاع والانسجام وسلاسة التعبير وتدفقه، بل لسلامة اللغة نفسها، ومرد ذلك التنافر، كما هو واضح، إلى استعمال الفاصلة استعمالا غربيا صرفا، وبناء الجمل بناء غربيا واضحا لا يعتمد الموازنة بين الفصل والوصل كما كان يقول البلاغيون القدماء، ولكن باعتماد الفاصلة في الفصل بين التعابير فصلا مقحما و غير مدروس أساسا. واللغة العربية، كما هو معروف، لم تعرف في تاريخها الطويل إلا لاحقا، مع مطلع القرن العشرين، ذلك النظام التعبيري القائم على الفاصلة والنقطة وعلامات الاستفهام والتعجب والاعتراض والاقتباس وسواها، وإنما كانت تكتفي بأدواتها الخاصة، وبنظامها الداخلي، وبأحرف العطف، على بيان تلك الوجوه التعبيرية المختلفة بسلاسة وعذوبة وإيقاع، وإليها كانت ترجع في المفاضلة البيانية، وبحسب حسن استعمالها كانت تحدد درجات الفصاحة وحسن الترسل، حتى أكد الجاحظ، في معرض حشده للتعاريف المختلفة للبلاغة، بأنها معرفة الفصل والوصل. وليس الفصل والوصل، في تعريفهما البعيد، سوى حسن استعمال الأدوات التعبيرية لفصل الكلام أحيانا، ولوقفه، أو قطعه، أو التوقف، أو بداية الاسترسال مرة أخرى، في الصفحة الواحدة نفسها، بل في الفقرة الواحدة، بحسب ما تلتقط أذن القارئ، وبمراعاة النغم الداخلي لتناسب الجمل، وبدون حاجة إلى استعمال فضاء الورقة في بيان حدود الفقرات، وترسيم الوقف بالنقطة، ثم الانطلاق من بداية السطر لبناء فقرة أخرى وهكذا دواليك.
وبالعودة إلى المقبوسات السالفة، نلاحظ مدى سهولة إعادة صياغتها وفق الفهم البلاغي للفصل والوصل، بحذف الفاصلة والنقطة، أو بتخفيف استعمالها إلا في ما ليس منه بد، كيف تنساب العبارات كأنها أطلقت من عقال، وكيف تتخلى عن ثقلها ومعاضلتها وترددها قبل أن تقع في خطيئة أخرى لا يحق لنا تغييرها هذه المرة، فتسحبنا من الانسيابية النسبية التي صنعناها لأنفسنا، وتدعونا إلى التأمل بدل الاستمتاع، عندما نجد أنفسنا نتساءل عن المقصود بـ(أرباب الكولون) في المقبوس الأول. لقد عرف الناس الكولون(المعمرون) وعرفوا منهم أثرياء ومن هم أقل ثراء، وعرفوا كبار البورجوازيين وصغار المستثمرين، وعرفوا من هم إلى مستوى الأهالي أقرب منهم إلى أثريائهم، لكنهم لم يعرفوا بينهم أربابا البتة. وهنا يجبرنا النص على التأويل والتماس المخارج والبحث عن المقاصد البعيدة، مع ما يعنيه ذلك من انزلاق خارج أفق الحلم وانصراف عن الحلم إلى (الشغل) وعن الاستمتاع إلى (العمل) وعن الراحة إلى بذل الجهد، لنعرف بعد ما خسرنا لذة الحلم أن الكاتب كان يقصد بحسب سابق العبارة ولاحقها، كبار الكولون فـ(خانه التعبير)،ن أو أعجبته مفردة الأرباب، أو لم يجد مرادفا لها يرضيه. وأيا كانت الأسباب فإن الحاصل هو أنه ورطنا في مهمة لم نكن ننتظرها لما قررنا اقتناء الرواية وعكفنا على قراءتها، بما يعطينا الحق في الاحتجاج على عدم التزامه بالعقد الذي عقده معنا، وقطعه على نفسه، عندما صنف نصه روائيا ثم طرحه في السوق للتلقي والاستهلاك.
انظر في المقبوس الثاني إلى موقع عبارة (كما حاييم) في الجملة، التي كان يكفي أن يقول (دفعني كما دفع حاييم) ليجنب النص ثقل العبارة الخارجة مخرج التشبيه دون أن تكونه، وهي قبل ذلك ترجمة حرفة للعبارة الفرنسية التي تستعمل في مثل هذه التعابير comme Haim))، ولكنها تؤدي خلاف المقصود بنقلها حرفيا إلى الأسلوب العربي. وانظر لعبارة (لاسمينا) التي أراد أن يقول من خلالها (بسبب اسمينا) لتدرك غور النسق الترجمي الذي أشرنا إليه، بما يجعلك تقرأ كلاما عربي الكلمات ولكن ليس عربي التراكيب. أما عبارة (فتخيلت أن فرحتها يبعثها فيها أن خطيبها) لتدرك هول المسافة الفاصلة بين الحس الأدبي المطلوب في أدنى مستوياته وبين الجرأة التي تدفع بالبعض إلى المغامرة في الكتابة دون إحكام البدايات، وإتقان اللغة، والتحكم في ناصيتها، على الرغم من كونها المادة الخام للأدب، والعجينة التي سيضطر إلى معالجتها بيديه وأصابعه وحياله ليصنع أشكالا تتوفر على حد أدنى من الجمال. وإذا كان ذلك يشق على الأصابع غير المدربة فكذلك تصعب معالجة اللغة دون دربة طويلة، ومران، ومعالجة، وقراءة، وتأمل طويل في مكونات الأساليب الإنشائية. انظر مثلا عبارة (كذلك تلطف لي حاييم) وقل لي في أي نص من نصوص الإنشاء العربي ورد استعمال فعل (تلطف) بهذا المعنى، معنى المداعبة والنكتة والضحك. دعك من الإنشاء القديم، وانظر في الرواية المعاصرة شرقا غربا، فإنها، على علاتها، لم تغادر فضاء البيان العربي إلى النسق الترجمي الذي يستدعي معرفتك المسبقة بالأساليب الغربية لتفهم مثيلاتها في العربية على النحو الذي تبديه رواية (أنا وحاييم) من أولها إلى آخرها، بما يجعلنا نقدر بأن (الهيمنة) الفرنكوفونية على مخيال كاتبها قد تغلغلت داخل البنية اللغوية العميقة لنظامه التعبيري، بخلاف الكتاب الآخرين الذين يظلون، رغم امتلاكهم لنواصي لغات أجنبية أخرى، بعيدين عن هيمنتها التركيبية، ومن ثم أوفياء لنظام لغتهم الأولى، سواء بالاعتدال في القراءة في اللغتين، أو بالاستعمال، أو بأي سبب آخر لم يتوفر لكاتبنا على كل حال، بالنظر إلى طبيعة المناخ الثقافي والتعليمي في الجزائر الذي كان خاضعا خضوعا كليا للمدرسة الفرنسية، سواء إبان الاحتلال أو في سنوات الاستقلال الأولى، قبل بداية حملة التعريب المكثفة مع أواسط السبعينيات من القرن الماضي.
انظر إلى قوله (كي أدك عنقي بين كتفي) وقل لي كيف يمكن للقارئ أن يتصور فعل الدك العربي الفصيح الذي ما دل قط على الدلالة التي استهدفها الناص، وكيف لا ينتبه (مذعورا) من حلمه التخييلي النسبي على صوت (احتكاك) دلالي، إن صح القول، لا يستقيم مهما التمس له من ظلال وخلفيات بيانية بعيدة المنال على كل حال. وانظر إلى قوله (أنكس ذقني) وكيف نسب فعل التنكيس إلى الذقن وهو خاص بالرأس، فيتعذر عليك التماس مخرج بياني تعذرا نهائيا ويصبح الاستعمال الخاطئ هو التفسير الوحيد، بخلاف الاستعمال لمفردة (أنا لاراب) التي هي نقل حرفي للعبارة الفرنسية (Moi L’arabe) بترجمة الضمير (أنا) فقط، ولسنا ندري كيف يفسر الكاتب هذا على الرغم من كون نصه عربيا موجها لقارئ بالعربية على كل حال، ومع انتفاء الضرورة لذلك، فليست العبارة حوارا تقتضي الأمانة نقله كما هو مثلا، وليست مقبوسا أو نقلا. أما قوله:( كنا قد عدنا إلى مدينتنا عودة ألهمتنا بتصور أنواع التراخي والكسل والانفكاك كلها) فلا يمكن البتة أن نجد لها وجها من وجوه التخريج المقبولة في اللغة العربية، رغم اتساعها المعروف لذلك، سوى بالجزم بترجمتها عن أصل أجنبي في ذهن الكاتب، بمعنى أنه فكر بالفرنسية، وتخيل وأحسس وصور بها، ثم نقلها لاحقا إلى العربية.
انظر كذلك إلى قوله: ” وعلى تقلص الأحاديث بين المسافرين الذين نزل بعضهم في نقطة التوقف هذه أو تلك، وشخير محرك الحافلة متنازلا متصاعدا، يشبه غطاؤه عن يمين السائق ناووسا تنبعث منه رائحة الشحوم واحتراق المازوت، أثار لي حاييم ما كان ينتظرنا في السنوات الثلاث من الطور الثانوي.”[36]، وإلى:” على أن الذي كان قد زاد عندي عنادا، كما حاييم، هو التنافس خلال الدروس، حتى ود بعض التلاميذ من قسمنا لو أن أستاذا أو آخر وجد السبيل إلى قهقرتي بالتشديد علي في العلامات.”[37]، أو إلى ” فمثل حفيدها الصغير الذي كنته، وهي (جدته) مثلما ظللت أشعر به لم تكن تراني إلا كذلك حتى آخر يوم من حياتها، أسبلت علي كل ما في قلبها وجوارحها من عطف، وما في هيأتها من دلال.”[38]، و ” فأحسست كأن جسمي تقلص من وزنه فطاف في هيئة نورانية، وفتحت لي الحضن…وأنا أراها أمسكت بيدي خلفها راكضة في عباءتها البيضاء متحررة الشعر في حقل من شقائق النعمان بأرضنا.”[39]، و ” أجدك كما ربي أرثودوكسيا زاهدا لا نار في قلبه… (احترق أنت لوحدك في هذه الدنيا وفي الآخرة) رد حاييم مفتعلا لي تبرؤا… ومررنا في حديثنا من الديك إلى الحمار كما يقال.”[40]، و ” بعد مسافة تخللتها انعطافات، لم يرسخ في ذهني شيء كثير منها، توقف السيد بن كيكي أمام مغازة (هكذا في النص) كبيرة.”[41]، و ” ثم زم شفتيه، محاولا أن يضغط إلى داخله ضحكته التي أفلتت وانفجرت فترافقنا فيها إلى أن سالت دموعنا.”[42]، و” عزوت سبب إحساسي بالتيبس(كذا في النص) إلى انهمامي(كذا في النص) بما كنت أراه حولي من صور البؤس الأسود ومشاهده…”[43]، و” أحدث حاييم عما طرحه هذا العرض أو ذاك. أو ما خلفه نقاش.”[44]، و” أفلت مني لجدتي عجب، فقلت إني أجدها كأنما هي تترجم لي ما سجلته عن تلك الدار من مذكرات ذلك القائد، فنظرت إلى بافتتان. ففتحت على صفحة من الكراسة ورفعت إليها عيني منتظرا… وأضمرت لها:(انت ساحرة يا جدتي) فسألتني، وكنت احدس أنها تختبرني، إن أنا أعرف لماذا…”[45]، و” لا تنزع عن رأسها الفولارة (كذا في النص) السوداء أبدا…لذلك كنت تعجبت لحاييم منها…يلقون تحية أو يردون حين يقاطعونني في قفص الأدراج.”[46]، و ” دهشت لأستاذ المنطق والفلسفة الإغريقية الذي كان، في إحدى محاضراته، فتح قوسين تحدث بينهما عن خطر محدق ولازب، إن لم يتم الاستباق إليه، سيهدد الآثار الحضارية والثقافية الأوروبية وإنسانها نفسه في أرض، مثل الجزائر، أخرجها من العدم إلى الوجود البشري … ردت بأنها هي الأخرى مندهشة مما اعتبرته لي انحرافا غريبا من الأستاذ.”[47]، و” (فقط هذا ما عندك تخبرني به؟) قلت رائزا له بمكر.”[48]، و” بين المدخل والطبق اللذين طلبناهما بسلطة متنوعة وأضلاع خروف…”[49]، و” فاستوقفني وسألني عن أحوالي. فرددت (لا بأس شكرا) كما يلقى سلام. فرمى لي أنه يعرف أن الجامعة أعدتني لأقاومها..”[50]، و”رحت أتلذذ قطعة البطيخ المثقلة ماء وسكرا”[51]، و ” جاءني الفقيه ومعلم القرآن سي النظري مفتعلا لي الاطمئنان على جدتي…”[52]، و” في يومي السابع، وجدتها فوق الصدقة، بل وفوق كل احتمال لو قدرته مسبقا ما كان ليحدث، أنه غذ دخلت مكتبة لورون فوك، كانت سيلين شوفالييه ستخرج حاملة ثلاثة كتب..”[53]، و”ابتسمت وقلصت ما بين حاجبيها الأشقرين”[54] و “تنهدت. وجرعت جرعة خفيفة من كأس الليمونادة، فيما رشفت من طاس قهوتي. ثم اخبرتني انها جاءت إلى وهران لزيارة أخيها سيرج الخاضع للعلاج في المستشفى. (آمل أن يكون الأمر بسيطا) قلت أعبر عن انشغالي عنه(كذا في النص).”[55] ، و” رفعت إلي عينيها ببريق دمع. (سأفتقدك يا صديقي). وحررت زفرة.”[56]، و” لا تغادر(الحافلة) تلمسان من مخرجها الشرقي إلا وتوقفت بركابها أمام شلالات لوريط الساحرة بالتدفق و الاخضلال والندى وكل الأصوات التي لا تسمع في أي مكان مثله.”[57]، و” إذ طرقت على حاييم، ففتح لي، وجدته لا يزال في مبذله. دخلت. وفي الرواق، تعجبت له أن انظر إلى الساعة. فأفسح لي إلى غرفة الجلوس – يفزع في ذهني الآن حال تلك الدار التي أخرسها الدهر إلى الأبد.”[58]، و” لما مسح شعاع الكتب الأول، محركا لسانه بهذا العنوان وذاك قائلا إن الكتب هي نفائس ما يخلفه العقل والخيال، التفت إلي. (غالبا ما فتحت كتابا فسمعت كأن صوتا منه همس لي أهناك ما يستحق كل هذا البذل في خضم عبثية إنسان هذا القرن الغاشم)”[59].
وسواها كثير، يتعدى خمسا وأربعينا موضعا غير ما سجلته إلى حد الآن، جعلت من القراءة عناء متصلا، ومشقة لا تنسى، ليس ما أسلفته من نماذج منها سوى مختارات تستهدف التدليل على النسق الترجمي أكثر من غيرها، لأن التعابير التي تسلك مسالك لا ترجمية ولا بيانية ولا فصيحة كثيرة ويصعب حصرها لأنها تتضمن النص كله من أوله إلى آخره، يندر أن تصادفك جملة ناصعة صافية التركيب مريحة للأذن والذوق، بسبب ما تحدثه تلك التراكيب المتداخلة، والمفردات الغريبة، من تشويش وما توجبه من توقف، الحين بعد الحين، للتأمل والتفكير والتقديم والتأخير، بغية إيجاد مخرج سليم للعبارة ومن ثم تركيب معنى منسجم وسليم لها، يسمح بمواصلة القراءة. لكن الحاصل عموما، بعد ذلك الجهد وذلك العناء، أننا نفقد الرغبة في مواصلة القراءة التي تهيأ لنا فرصة الاسترخاء اللذيذ في كنف الحلم التخييلي المطلوب في كل نص روائي.
يحرص القارئ عادة على معرفة مستوى الأداء لأدبي لكاتب ما(Compétence)، بتفعيل تساؤلات معروفة من قبيل:” هل يعرف كيف يضم المفردات إلى بعضها؟ هل هو قادر على التعبير عما يعنيه؟ أن يوضح مقصوده من خلال علامات الترقيم؟ إذا كان الجواب بنعم فسنشعر بفعاليتهم، وسنتهيأ للاستماع إلى ما عندهم ليقولوه، وإلى الانتباه إلى خصالهم الأخرى. أما إذا كان الجواب بلا، فإننا نصبح منتبهين وحذرين، إذا لم يسارع الكاتب إلى تقديم شيء له أهمية مثل روح الدعابة، أو معلومات مفيدة، أو قصة جيدة، أو رؤية أصيلة للعالم، فإن القارئ سيغادر.”[60]. والنص لا يقدم شيئا من البدائل الأخيرة التي أشار إليها المقبوس، ليس فيه دعابة قط، ولا موقف مرح عابر يحرك شفتيك بالابتسام وروحك بالمرح، وليس فيه رؤية أصيلة ومبتدعة للعالم باستثناء العمل على تمثيل الزمن الكولونيالي تمثيلا ثقافيا يهمن فيه الموضوع على الشكل، والمضمون على الأسلوب، بالاستدعاء المفرط لوقائع التاريخ وتوظيف صوره الجاهزة من المزيج البشري من الأوروبيين والأقدام السوداء واليهود الذين كونوا المجتمع الجزائري الكوسموبوليتي لذلك العهد، الأمر الذي يسر له التمثيل لصداقة تخييلية بين عنصرين متنافرين في المخيال العربي الإسلامي لوقتنا الحاضر، بين (أرسلان) الجزائري المسلم و(حاييم) اليهودي، إلى جانب استثمار ممكنات الفضاء الكولونيالي لبناء سياق أنثروبولوجي حافل بالقيم الثقافية والحضارية الموروثة التي استعصت على القيم الغربية الوافدة، وازدادت رسوخا في وجه الموجات الاستعمارية الثقافية العاتية، فظل الوشم في وجه والدته وجدته، و ظل الكسكسي، والبرنس الرجالي، وطقوس الأعراس والمآتم والأفراح والأتراح، والفانتازيا، وقيم الشهامة والشجاعة والسخاء والأنوثة والعائلة والوفاء للأرض، قيما راسخة في التربة المحلية، ضاربة الجذور في التاريخ الممتد إلى آلاف السنين، حيث تشكل لوحدها هامشا ثقافيا حضاريا جديرا بالعناية والاهتمام، بالمعنى الثقافي في الدرجة الأولى، وليس في السياق الروائي، بما يجعلها بديلا صالحا عن جميع المخالفات الفنية التي حدد أشكالها الناقد بن ياغودا، وعلى رأسها المخالفات الأسلوبية التي جعلت النص يتأرجح بين الإمتاع والإيلام، وبين الأصالة الفنية والتصنع، وبين الوفاء لجماليات الأسلوب العربي والوفاء للمحلية المتسربة عبر التعابير الخاصة بالمكان الجزائري من جهة، والاستسلام لغوايات الخلفية الأدبية واللغوية والثقافية الفرنسية الخاصة بالكاتب.
وعلى هذا الأساس لن تجد أي تفسير خارج اللغة الفرنسية لقوله ( ومررنا في حديثنا من الديك إلى الحمار كما يقال)، لأنها مسكوكة لغوية فرنسية[61] تورد كالمثل عمن يخرج في حديثه من موضوع إلى موضوع آخر بعيد عنه كل البعد، أو قوله (توقف السيد بن كيكي أمام مغازة)، و المغازة (Magazin) لفظة فرنسية تطلق على المحلات التجارية، أوردها كما هي، وعلى غير العارف بالفرنسية أن يغمض عينيه أو يحك جبينه أو يفهم المعنى العام السياق، لأنه شأنه وحده وليس شأن الكاتب في ما يبدو، والأمر نفسه في قوله (ولا تنزع عن رأسها الفولارة السوداء)، والفولارة إيراد حرفي للمفردة الفرنسية(Le Foulard) التي هي الوشاح الذي تغطي به النساء رؤوسهن. أما قوله (بين المدخل والطبق) فترجمة حرفية لمفردات المطبخ الفرنسي التي تسمي المقبلات(entrée). الأمر نفسه مع قوله (مسح شعاع الكتب الأول)، والشعاع هنا ترجمة حرفية لكلمة (Rayon) التي تطلق على رفوف المكتبة، بما كان يقتضي الكاتب ان يقول (مسح رف الكتب الأول) أو (الأعلى)، لكن الخلفية الأدبية الفرنسية الظاهرة التي صدر عنها الكاتب جعلت أداءه الأسلوبي أداء ترجميا صرفا.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن إعادة قراءة المقبوسات السالفة على ضوء مفاهيم الفصاحة والبيان العربيين الذين ينتمي إليها النص بالفعل والقوة، كونه كتب بالعربية، ولقارئ بالعربية في المقام الأول، حيث تبدو التعابير شديدة القلق واضحة الغرابة:( زاد عندي عنادا) بدل (زادني عنادا)، (شخير محرك الحافلة متنازلا متصاعدا) بدل ( وهو صاعد نازل، أو في صعوده ونزوله، أو مرتفعا منخفضا…الخ)، (أسبلت علي كل ما في قلبها وجوارحها من عطف) بدل أفرغت، لأن أسبل تحيل إلى إرسال شيء مادي من أعلى إلى أسفل، مثل إسبال الإزار أو اللحاف أو سواه، (كأن جسمي تقلص من وزنه) بدل نحف أو هزل أو فقد الوزن، لأن التقلص يعني الانكماش ويحيل على الأشكال وليس على الأوزان، (عزوت سبب إحساسي بالتيبس إلى انهمامي بما كنت أراه حولي من صور البؤس) بدل عزوت سبب إحساسي بالجمود إلى اهتمامي، إلى الهم الذي ركبني، بسبب صور البؤس، لأن التصريف الصحيح للفعل هو (اهتم) وليس (انهم)… الخ. وهكذا فإن كثيرا من النصوص المطروحة في الأسواق لتحتاج إلى إعادة صياغة، وإلى تصحيح جذري لتراكيبها ولغتها، حتى لتبدو الحاجة إلى مدقق لغوي أو مصحح ضرورية قبل طباعة أي عمل وإخراجه للناس.
هذا بشأن النصوص المطروحة في الأسواق شرقا وغربا، تحت تصنيفات شتى، أتاح لها الطبع والنشر السهل فرصة الخروج إلى الناس بدون معايير مسبقة إلا التوفر على تكاليف النشر، أما الكتابة وفق نسق الترجمة فإننا لا نكاد نصادفها إلا الحين بعد الحين، عند كتاب مشبعين بأساليب الأداء الفرنسي أو الإنجليزي، يتفاوتون في الاستسلام اللاواعي لتراكيب تلك اللغات، فتظهر هنا وهناك في عبارات ومفردات محدودة، يسهل التماس الخلفيات المعنوية والتعبيرية لها، وإليها يعزى فضل تجديد البعد الترسلي في الممارسات السرديات الحديثة، وهو موضوع جدير بالبحث في سياقات أخرى على كل حال، بخلاف ما أطلقنا عليه توصيف الكتابة باستعارة نسق الترجمة الذي يبدو خصيصا بشكل مثير للانتباه بهيمنته على كتابات كثير من كتاب جيل الثورة من الجزائريين الذين تخرجوا في المدارس الفرنسية وكتبوا بعد الاستقلال باللغة العربية، أمثال (الحبيب السائح) صاحب الرواية (أنا وحاييم) التي فصلنا القول فيها، و مرزاق بقطاش، والطاهر وطار، وسواهما كثير من مخضرمي عهدي لاستعمار و الاستقلال.
- الكتابة باستعارة لغة المؤرخ
سنتعرف في (الديوان الاسبرطي)، النص الثاني الذي رصدناه للقراءة، على شكل آخر من (إخفاقات) الأداء الروائي في شقه المتصل بالآليات الروائية التي ترفد الأسلوب، أو تتعاضد وإياه في البناء السردي والفضاء التخييلي الذي يلجه القارئ باحثا عن المتعة وعن (الحلم) الفني الذي تحسن الروايات العظيمة تأثيثه إنسانيا وعاطفيا وثقافيا، بما يجعل المغامرة في دهاليزه، والاشتباك مع رموزه ورؤاه رحلة مفعمة بالنشوة والمرح والاكتشاف. على رأس تلك (الإخفاقات) التي تصك ذائقتك بعد صفحات معدودة من الرواية تلك النبرة الحيادية المهيمنة التي تعطي الانطباع بأن النص يخلو خلوا كليا من أية نبرة عاطفية أو انفعالية، كأن الأسلوب زجاج كاتم للصوت، ترى ما وراءه ولكنك لا تسمع أية حركة أو ضجيج أو صوت، أو كأنها شريط سينمائي صامت يكتفي بعرض المشاهد ببرود تام كأن لا مشاهد هناك، وإن كان ثمة مشاهد فهو لا يعنيه بالمرة، الأمر الذي يعطي الانطباع بأن الناص يحاول أن يستعير أسلوب المؤرخ الذي يقف على مسافة واحدة من الأحداث، يرويها باصطناع الموضوعية والحياد، تاركا للقارئ مهمة التقاط الإشارات العاطفية التي تناسب هواه وثقافته وخلفيته، دون الاهتمام بتوجيه النبرة توجيها إنسانيا متعاليا عن العرق والإيدلوجيا والخلفية الدينية.
وهكذا تحيلنا النبرة التأريخية المهيمنة، دون وعي منا، على ربط شخصية (ابن ميار) بالمؤرخ الجزائري (حمدان بن عثمان خوجة) الذي عاصر الأحداث التاريخية التي تشكل موضوع النص، وعايشها من الداخل، بصفته (كرغليا)[62] و إداريا قريبا من حاكم الجزائر (الداي حسين)، عاش تفاصيل الاحتلال من داخل الإدارة التركية ومن داخل مدينة الجزائر، فعرض جميع مراحل الإنزال بـ(سيدي فرج) ثم الاستحواذ على المدينة واستسلام الداي ومعاهدة التسليم وغيرها من التفاصيل التي يوردها في كتابه الشهير (المرآة) المنشور في باريس سنة 1833، وهو الوثيقة الوحيدة التي تنقل لنا الأحداث من الداخل، وتمكن الناص من استعارة لغتها التاريخية وتوظيف التفاصيل التي أوردها حول مراحل الغزو والاستسلام وحادثة المروحة الشهيرة[63] التي كان حاضرا فيها بصفته الشخصية، ثم نقض الفرنسيين لجميع بنود المعاهدة التي أبرموها مع (الداي حسين) مقابل تسليم مدينة الجزائر، الأمر الذي جعله يسافر إلى فرنسا لتقديم الشكاوى إلى الحكومة الفرنسية، والتي ستشكل لاحقا نواة كتابه (المرآة) ومعادلا موضوعيا لشخصية روائية تعيد تمثيل الوقائع التاريخية تمثيلا سرديا تورط في المحاكاة التاريخية شكلا ومضمونا، سواء من حيث ترتيب الوقائع أو من حيث اللغة السردية الحيادية المتعالية رغم إخضاعها للبناء الدرامي ولقوانين التسريد الروائي، فبقيت شخصية (باردة) لم تخترق الأحداث الدرامية إهابها السميك، ولم تفجر أشواقها ووجدانها وهي تدفع دفعا إلى المنفى ومغادرة المحروسة(الجزائر) صوب إسطنبول سنة 1836، ثم الموت بها لاحقا في طيات الصمت والنسيان.
بالإضافة إلى لغة الحياد المهيمنة فإننا سنضطر إلى الانتظار حتى ص 34 من النص لنعرف معنى (الديوان الاسبرطي) والمقصود به، من خلال الكتاب الذي كان يقرأ فيه (كافيار) وهو في السفينة المبحرة مع أرمادة الأسطول الفرنسي لاحتلال الجزائر، فنعرف بأنه يطلق ذلك التوصيف على مدينة الجزائر التي تعيش تحت سيطرة الأتراك وضعا شبيها بأسبرطة التاريخية، حيث البطش والعنف والقتل والحروب هي النشاط اليومي لأهلها، وحتى الصفحة ص63 سنظل نتعرف على الشخصيات الرئيسة للعمل ووجهات نظرها في الفصول المنعقدة تحت اسمها، دون أي فعل درامي مشوق باستثناء سرد أحادي الرؤية لمعلومات عامة وسطحية جدا ومتداولة عن الجزائر والعاصمة وأهلها وعن الأتراك و الكراغلة واليولداش والحياة العامة، سواء باستعادة الرؤية الاستشراقية التبخيسية الاحتقارية للشرق وأهله، والمبررة للاستعمار ومزاعمه الحضارية الإنسانية المعروفة ، أو بالاشتغال على رسم الفضاء رسما تفصيليا يحتفي حفاية خاصة بدلالاته الثقافية والحضارية دون الالتفات إلى بنائه بناء فتيا مقنعا بالألوان والخصوصيات والروائح والأصوات والحركة والعمارة وسواها من تقنيات بناء الفضاء، فجاءت متشابهة مستنسخة وبلا شخصية مميزة لها، فبدت أقرب إلى الذهنية والتجريد منها الى التمثيل والتخييل، حيث أن ” التفاصيل غير الكافية والتجريد في الموطن الذي يستدعي الواقعي المادي هما صفتان من صفات الكتابة الهاوية.”[64] على حد تعبير جاردنر الذي يؤكد من جهة أخرى بأن ” أي سرد يتجاوز صفحات معدودات دون يؤسس لعقدة ترضي توقعاتنا هو سرد مصيره الفشل، لأن العقدة، على الرغم من مظهرا الطفولي بالمقارنة مع أعمال الفلاسفة والجراحين وعلماء الذرة، يجب ان تكون مركز اهتمام الكاتب أولا وأخيرا.”[65].
وعلى هذا الأساس راح النص يستدرك تهاتف عقدته وقلة ظهورها بالاعتماد على لحن نوستالجي استدعائي للماضي، حالم واسترجاعي طويل وقع في رتابة مغناطيسية منومة، هي في الواقع كل ما اشتغل السرد على إتقانه وتقديمه للقارئ باعتباره هويته الفنية الاستثنائية المميزة، من خلال تكرار الجمل نفسها المرة تلو الأخرى، واستدعاء الصور النمطية المعروفة والكليشيهات الراسخة في التداول الشعبي العام حول الأتراك والجزائريين والممارسات الاستعمارية القديمة.
وقد أدى ذلك، كما هو متوقع، إلى تضخم الفصول الواحد تلو الآخر، كل لاحق يفوق السابق بمسافات سردية طويلة غير مبررة غالبا، تروي الوقائع نفسها كل مرة من خلال وجهات النظر المختلفة التي اتخذها الناص أداة فنية لتحقيق الفعل الحواري وكشف الوقائع من زوايا وبؤر متعددة ومتنوعة، لكنه لم ينتبه إلى أن ذلك سوف يؤدي إلى الملل والضجر والرتابة المترتبة عن عدم تجديد الرؤى، بحيث تبدوا كل رؤية جديدة ومفاجئة، وفي أسوأ الأحوال، مختلفة عن غيرها، لكن الحاصل أن الرواية المختلفة للوقائع نفسها جاءت بلغة واحدة، وبمستوى واحد من البيان والأفق العقلي على الرغم من الخلفيات الدينية والثقافية المتباينة للناظرين، فبين كل من (دوجة) و(كافيار) و(ديبون) و(ابن ميار) من الاختلاف ما كان يكفي لتراتبية مفهومة في سرد الوقائع وترتيب الأحداث وتفسيرها والتعليق عليها، وفي السلوك العام الذي ليس، في النهاية، سوى مرآة لدواخل الشخوص وآفاقها العقلية والثقافية والروحية[66].
كما أدى الطول المفرط لمساحة السرد، على حساب الوقائع، إلى ترهل النص ووقعه في الإنشائية والتكرار، والاستسلام لإغراءات اللغة وهي تكتفي بإيقاعها الرتيب على حساب المادة الحكائية ولواحقها من الحبكة والعقدة والتشويق، والألوان التي تؤثث التخييل بإيقاع ناعم يسهل عملية التلقي والاستسلام لغويات الحلم الذي يصنعه ويبنيه بمهارة وحذق منذ عتبة العنوان. يعود ذلك، في تقديرنا، إلى عجز الناص عن النفاذ إلى أعماق شخوصه والالتباس بحميمتها وتقمص أدوارها التي أسندها إليها، والنطق بما يناسب ذلك وفق مستويات الحوارية التي هي مناط الأداء الفني المعتمد على تكريس وجهات النظر المختلفة، ورواية الاحداث الواحدة من زوايا متعددة، الأمر الذي جعل النص يبدو مصطنعا ومتكلفا وغير حقيقي، على شاكلة هذا الحوار الذي أجراه الناص بين (ديبون) وأحد رواد المقهى من الفرنسيين السيمونيين[67]:” – لم تفصح لي عن هويتك بعد يا سيدي؟
- أتحب أن تعرفني بإسماعيل أم بتوماس؟
- وهل هناك فرق؟
- نعم، كانت هناك فروق ولكنها الآن غير موجودة
- كيف؟
- كنت توماس المسيحي ثم أصبحت إسماعيل المسلم دون المروق عن مسيحيتي
- ولكن لماذا هذا الجهد كله؟
- أملي في هذه الحياة كلها إيصال الجسر بين ضفتي الشرق والغرب
- أرى كلامك غامضا يا سيد توماس أو إسماعيل
- لا يهم يا سيد ديبون أن أكون توماس أو إسماعيل، أو حتى مسيحيا أو مسلما، المهم أن أكون معك إنسانا. هل يروقك هذا؟
- نعم يا سيد توماس. يروقني الأمر.
- والآن ما الذي أعادك إلى هذه المدينة بعد سفرك إلى مرسيليا؟
- وكيف تعرف هذا؟
- إننا نعرف كل شيئ عن هذه المدينة ومنذ سنوات.
- ولكن من أنتم؟
- نحن الذين سنعيد للإنسان قدسيته.”[68].
بالنظر إلى الحوار أعلاه يتبين مستوى الحياد الذي شبهناه بالكتابة التاريخية التراثية على وجه الخصوص، حيث تنعدم الانفعالات، وتختفي الفوارق، و تترى العبارات متشابهة ومتسارعة لاحقة للفكرة المسبقة، وغطاء لغويا يغلب عليه الفكر المجرد وليس حماسة الحياة وعواطفها وانفعالاتها وإحباطاتها، كأن ثمة عجزا عاطفيا أو تخييليا مزمنا عن تصور العواطف الإنسانية القوية، والانفعالات الوجودية المزلزلة للنفوس والكيانات والأرواح، لا سيما في منعطفات التاريخ التراجيدية الكبرى، على النحو الذي صور به الناص غزو الجزائر، وقبله تصرفات الأتراك الوحشية، وشراستهم وبلادة عواطفهم وهم يسومون الجزائريين سوء المهانات والعذاب. من أجل ذلك أطلق غادرنر على هذا اللون من الأداء توصيف (mannerism)، بمعنى التكلف والتصنع، الذي يظهر عادة عند الكتاب المبتدئين عندما يعملون على التجديد في الشكل دون القدرة على الوفاء بمقتضياته الجمالية الفعلية، حيث يتوجب عليهم الانتباه إلى علامات الانزلاق نحو التكلف بالتفكير بجد في ” أي تجديد يدخلونه في أعمالهم بالتأكد بأن العمل لن يكون نفسه أبدا باستبعاد ذلك التجديد واتباع الطرق التقليدية المعروفة.”[69].
وهكذا فإن تقنية التبئير من خلال وجهات النظر التي أسلفنا الإشارة إلى دورها في تضخيم السرد، على حساب الوقائع، بتكرار وجهات النظر نفسها كان يمكن تفاديها بخلق شخوص موازين للحياة وبالاشتغال على مشاكل محدودة ضمن بنية سردية محدودة هي الأخرى، بدل تسخير خمسة شخوص تتداول التعبير عن نفس القضية بنفس الأسلوب وبنفس الرؤية تقريبا ودون أية إضافة مهمة تذكر.
جاءت الرواية مقسمة إلى ثلاثة أقسام، يتبادل الحكي فيه على الترتيب كل من (ديبون)، (كافيار)، (ابن ميار)، (حمة السلاوي) وأخيرا (دوجة)، حيث يحيل الأولان الفرنسيان على وجهتي نظر استعماريتين مختلفتين، الأولى إنسانية همها بناء مجد الحضارة الفرنسية، والثانية عسكرية حقودة تريد الهيمنة والاغتناء والثأر من التاريخ، أما (ابن ميار) فنصف جزائري، كرغلي، جزائري الأم، تركي الأب، هو معادل موضوعي لشخصية (حمدان بن عثمان خوجة) الإداري المثقف الذي زار فرنسا قبل الاحتلال وأجاد لغتها وعرف ثقافتها، ثم اتجه إليها بعد الاحتلال ليشكو لإدارتها عسف هذا الأخير وإخلاله بالوعود، وعدم التزامه بقيم حقوق الإنسان التي نادت بها الثورة الفرنسية، ومن ثم محاورتها من داخل منظومتها القيمية، على النحو الذي بدت عليه تلك المحاورات في كتاب (المرآة) الذي أسلفنا إليه الإشارة.
أما (السلاوي) فقد جاء موازيا تمثيليا تاريخيا للجزائري الأصيل، ابن الأرض، ذي الجذور الراسخة، الذي عارض الأتراك وسياستهم ونظامهم عن طريق المحادثات الناقدة التي يجريها على ألسنة (الأراجوز) في المقاهي والمنتزهات، فتعرض بسببها إلى القهر والظلم والسجن، ولم يتردد لحظة في الدفاع عن شرف الجزائر المؤنثة رمزيا في شخص (دوجة) اليتيمة، الضائعة، الممتهنة، بقتل (المزوار)، القواد التركي الذي اغتصبها واستغلها، وبمواجهة الاحتلال الفرنسي منذ وطأت أقدام جنوده ساحل (سيدي فرج) سنة 1830، والاحتجاج على استسلام حاكم الجزائر الداي التركي حسين للفرنسيين، ثم بالالتحاق أخيرا بثورة الأمير عبد القادر الذي انطلقت شرارتها في غرب الجزائر، وباتت تمثل الدولة الوطنية الوليدة المدافعة عن شرف البلاد الذي اعتسفه الأتراك منذ ما يزيد عن ثلاثة قرون، ثم استسلامهم المخزي أخيرا لجحافل الفرنسيس.
على طول الفصول الخمسة المبنية بتتابع الشخوص الخمسة، ينكسر خط السرد مرارا وينحرف فجأة تجاه موضوع آخر لا علاقة له بالموضع المسرود، على نحو ما نلقاه في ص 37 حيث ينحرف السرد عن السياق الاسترجاعي الذي راح من خلال (كونياك) يروي تفاصيل الهزيمة التي لحقت بجيش (نابليون) في معركة (واترلو)، وكيف جرح فيها جرحا بليغا، وكيف فقدت حياته طعمها ومعناها بعد هزيمة معبوده ومثله الأعلى (نابليون) العظيم إلى الحديث عن سمعة الاتراك والخوف الذي يثيرونه في المتوسط بأعمال القرصنة، وكيف يروي صيادو ميناء (سات) الفرنسي حكايات تشبه الخرافات عن بأسهم وعنفهم وبطشهم. كما يقع الناص هنا بدوره، وإن كان بدرجة أقل مما في (أنا وحاييم)، في التعبير باستعارة الترجمة أو الأسلوب العامي المحلي في التعبير، مثل قوله ” ولكن أتراني ما زلت أذكر تلك التفاصيل؟ ومن أين سأبدأ له؟”[70]، حيث كان يتوجب الاكتفاء بـ(من أين سأبدأ) لتجنب (له) التي خرجت الكلام مخرجا دارجا لا استعمال له في الفصاحة العربية، كما في قوله:” حياني فرنسية أثرت فيها الإيطالية “[71]، حيث كان يمكن القول (بفرنسية ذات لكنة إيطالية) مثلا، أو أي تعبير لا يشوش التلقي، كما في قوله ” كنت أقف يجاورني المسافر”[72]، بدل و(جواري المسافر).
أما المقبوس التالي فنموذج تمثيلي لسقوط التعبير أحيانا في الصبغة الترجمية وإقحام التعابير غير العربية، والاستعمال غير الدقيق للمفردات:” في أول يوم وصل الدوق إلى الجزائر، كان أكثر نشاطا وحركية قبل هذا اليوم، أمعقول أن سنة واحدة تجعل الإنسان بهذه (هكذا في النص) الضعف؟ بدا غائبا عما حوله، جلس يقابلني وظل صامتا دقائق بينما كان الخادم يرتب الطاولة ويضع الكؤوس، مد يده المختلجة إلى الكأس وحملها، ثم …”[73]، حيث الفعل (اختلج) لا يعبر عن معنى الرجفة المراد، ولا يؤنث الضعف، وكان ينغي القول:( أول يوم وصول الدوق) بدل (وصل)، تماما كاستعمال لفظ (التناظر) العلمي الفيزيائي للتعبير عن التقابل والمواجهة في قوله:” يحتلون مداخل المقاهي على مقاعدهم، تجاوزتهم بعجلة وقطعت مسافة قصيرة حتى قابلني الجامع الجديد، يناظر البحر فزعا من العمال الذين كانوا يقتربون كل يوم…”[74]، أو قوله ” وخضت سقائف مجهولة لهم”[75] بدل (خضت سقائفهم المجهولة)، أو مفردة (محتقنين) المتواترة في الصحافة المعاصرة بدون أية ظلال جمالية تؤهلها لتكون عبارة أدبية في قوله:” في السنوات الأخيرة سيطر اليولداش على المحروسة، وصار الرياس محتقنين من حياة البر”[76] حيث كان يمكن استعمال لفظة ضجرين أو ناقمين بدلها، أما قوله ” تعثر أحدهم، وانهمر الملح من قفته على ظهري، واشتعلت النار به..”[77] فقد جعل ظهره الآدمية حطبا أو قشا اشتعلت به النار حقيقة ووقاعا وليس استعارة أو مجازا، بالإضافة إلى جمل كثيرة مهزوزة نحويا وتركيبيا، كقوله:” ألم يفر الموسرون ما إن رأوا طلائع الجيش تعبر الأبواب؟ “[78]، وقوله ” ثم عاد في هيئة أخرى يقف إلى جانبي، يراقب السفينة التي تدنو، حتى كانت إلى جانب لابروفنس. ومن ثم انتقال بعض الرجال منها إلى سفينة الأميرال…”[79]، حيث (عاد يقف)، بعطف الفعل على الفعل بهذه الطريقة، تركيب فرنسي او إنجليزي وليس عربيا على الإطلاق، وكذا قوله (ومن ثم انتقال) حيث كان يجب القول (ثم انتقل)، بالإضافة إلى الخطأ النحوي في قوله ” جلس ثلاثة رجال آخرون”[80] بدل (آخرين)، بما يجعل تنبيهنا إلى أن عرض الأعمال الإبداعية على مدققين لغويين أصبح أمرا لازما، مادام الأدباء والمتأدبون الجدد قد صرفوا عنايتهم عن إمتاعنا أدبيا وأسلوبيا إلى أشياء أخرى مضمونية مترددة بين الحضور والغياب، وقد تمتعنا أو تشقينا بعدما أصبح النفاذ إليها يستدعي مشقة وجهدا وعملا مستمرا على تفكيك الألغام الأسلوبية.
قائمة المصادر والمراجع
المصادر والمراجع العربية
- الحبيب السائح، أنا وحاييم، دار ميم للنشر، الجزائر، ط/1، سنة/2018.
- عبد الوهاب عيساوي، الديوان الإسبرطي، دار ميم، الجزائر، ط/1، سنة/2018.
- أمبرتو إيكو، 06 نزهات في غابة السرد لأمبرتو إيكو، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، ط/1، سنة/2005.
- أمبرتو إيكو، العلامة، تحليل المفهوم وتاريخه، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثّقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، ط1، 2007.
المراجع الأجنبية
-
John Gardner Fiction ;Notes on Craft for young writers ; Alfred A Cnompf, New York, 1984
« De l’œuvre au texte », Revue d’esthétique, 3e trimestre 1971, repris dans Œuvres complètes, édition établie et présentée par Éric Marty, t.II, Paris, le Seuil, 1993
- Roland Parthe ; Le plaisir du texte, in Œuvres complètes, op. cit., t. II
- Ben Yagoda ; The Sound on The Page ; Great Writers Talk about Style and voice in Writing.Harper Collins Ebook
- How to write well Rules, style and the ‘well-made sentence https://www.the-tls.co.uk/articles/good-writing-irina-dumitrescu-book-review/
- Saumersat Maugham, The Summing up, ed ; penguan, 1938
- W. Fowler, Moden Englisg usage, Oxford University Press, ed/2, 1965
[1] . التناص هنا واضح جدا مع كتاب رولان بارث (le degré zéro de l’écriture) الدرجة الصفر للكتابة الذي ظهر سنة 1953 والذي دعا فيه إلى إعادة التفكير في فن الكتابة على ضوء معايير وميكانيزمات جديدة بعد تأكيده على موت الأدب بالمفهوم الكلاسيكي للأدب.
[2] . نشير هنا إلى الفصل الذي قام به رولان بارث بين النص والعمل الأدبي، حيث جعل العمل الأدبي هو النص في تفاعله مع القارئ وفعل القراءة، بينما يظل النص نصا إذا ظل حبيس فضائه الورقي ولم يغادره إلى الالتباس بذهن المتلقي مع ما يثيره ذلك من إشكاليات على مستوى التلقي والتأويل، انظر كتابه: « De l’œuvre au texte », Revue d’esthétique, 3e trimestre 1971, repris dans Œuvres complètes, édition établie et présentée par Éric Marty, t.II, Paris, le Seuil, 1993
[3] . هو المفهوم الذي بنى عليه رولان بارث كتابه (متعة النص) Le plaisir du texte, in Œuvres complètes, op. cit., t. II,p. 1514-1515
[4] . John Gardner Fiction ; Notes on Craft for young writers, Alfred A Cnompf, New York, 1984 ، ص/31.
[5] . المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[6] . انظر مقالنا المنشور بمجلة المدونة تحت عنوان ” وعود مؤجلة/عودة إلى سؤال الأدب وغوايات التخييل والتسريد ” المجلد/07، العدد/02، ديسمبر/2020.
[7] . اعتمد في تصوّره للقارئ النموذجي على النظرية التواصليّة ووظّف كثيرا من مصطلحاتها من نحو المرسل والمرسل إليه والرسالة وانتقدها معتبرا العملية التواصليّة نشاطا تتكامل فيه مجموعة من العلامات والعوامل اللسانية وغير اللسانيّة. وقد اهتم “أيكو” بالنص السردي المكتوب وحلّل الروايات والقصص القصيرة خاصة في كتابه.”Lector in fabula” وقد افترض لنصّه السردي المكتوب قارئا نموذجيا. ذلك أنّ النّص عند إيكو عبارة عن آلة كسـولة (Une machine paresseuse) تحتـاج إلـى قـارئ نمـوذجي ” قادر أن يتحرّك تأويليّا كما تحرّك المؤلّف توليديّا ” بواسطة قدراته الخاصّة وامتلاكه لسنن (codes) النّص. انظر لمزيد من التوسع: أمبرتو إيكو، العلامة، تحليل المفهوم وتاريخه، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثّقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2007، ص22.
[8] . القارئ الضمني، المحتمل، القارئ المفترض…الخ انظر: نزهات في غابة السرد لأمبرتو إيكو، ترجمة سعيد بنكراد.
[9] . Ben Yagoda ; The Sound on The Page ; Great Writers Talk about Style and voice in Writing.Harper Collins Ebook,p ;54.
[10] . المرجع نفسه، ص:07.
[11] . انظر How to write well Rules, style and the ‘well-made sentence’ على موقع التايمز الأدبي https://www.the-tls.co.uk/articles/good-writing-irina-dumitrescu-book-review/
[12] . John Gardner Fiction ; Notes on Craft for young writers ، مرجع سابق، ص/07/08.
[13] . Ben Yagoda ; The Sound on The Page ، مرجع سابق، ص/08.
[14] . انظر المرجع نفسه، ص/09.
[15] . المرجع نفسه، ص/55.
[16] . Ben Yagoda ; The Sound on The Page ، مرجع سابق، ص/85.
[17] . انظر المرجع نفسه في الصفحات ص/73/74/75/76/77.
[18] . John Gardner Fiction ; Notes on Craft for young writers ، مرجع سابق، ص/32.
[19] . أشير هنا إلى تجربة شخصية لي ممثالة للتجربة التي عاشها الكاتب الصحفي سليم عزوز، وكنت أظنها تجربة خاصة حتى وجدته يعبر عنها تعبيرا قريب الشبه مع تجربتي الشخصية مع بعض النصوص. قال:”كنت أعتبر أن الجوائز التي تحصل عليها الروايات هي بمثابة ترشيح من ثقات هم السادة أعضاء لجنة التحكيم، لكنني توقفت عن هذا بعد ما أصاب جائزة «البوكر العربية» ما أصابها، والتي لم تعد أحكامها مقياساً للجودة، وإذ أثق في قيمة “بهاء طاهر” الأدبية، وقد قرأت له كل أعماله، فاعترف أنه خدعني ذات مرة، وأنا أراه في مقابلة تلفزيونية، يقول فيها إنه خاف من منافسة “تغريدة البجعة”، على جائزة «البوكر» العربية، حيث كانت هذه الرواية ضمن القائمة القصيرة، في السنة التي فازت فيها روايته! ولثقتي في قيمة بهاء طاهر الأدبية، فقد اعتبرت هذا ترشيحاً لـ “تغريدة البجعة” يضاف لترشيح لجنة التحكيم بـ “البوكر العربية”، وقد بذلت جهداً فوق الطاقة، أضناني وأسقمني وأصابني بالصداع، وقد أخذت الأمر على محمل التحدي للذات…” مقال: “كتارا” وردّ الاعتبار لفنّ الكاريكاتير، جريدة الراية القطرية، الثلاثاء، 23 يونيو، 2020، https://www.raya.com/2020/06/23/
[20] . Saumersat Maugham, The Summing up, ed ; penguan, 1938, p :42
[21] . John Gardner Fiction ; Notes on Craft for young writers ، مرجع سابق، ص/119.
[23] . H.W.Fowler, Moden Englisg usage, Oxford University Press, ed/2, 1965, p :70
[24] . John Gardner Fiction ; Notes on Craft for young writers ، مرجع سابق، ص/115.
[25] . يمكن أن ندرج هنا مختلف الأعمال التي واكبت المرحلة الرومنتيكية في الأدب العربي وسواهم من الكتاب المتقدمين الذين جربوا القصة والرواية بمحاكاة النماذج الغربي، المنفلوطي، جبران خليل جبران، وسواهم من المتقدمين أما من المتأخرين فيمكن أن ندرج نصوصا قامت أساسا على استدعاء العاطفية المبلودرامية بشكل صارخ، مثل النصوص الأولى لواسيني الأعرج، وامين الزاوي، والتجريب الروائي الذي انكفأت على صياغته مؤخرا الكاتبة ربيعة جلطي. ويمكن التمثيل لهذا اللون من الأداء في كثير من التجارب الروائية في الأدب العربي سواء في البلاد المغاربية أو المشرق العربي.
[26] . دار ميم، الجزائر، ط/1، سنة/2018
[27] . دار ميم، الجزائر، ط/1، سنة/2018.
[28] . المرجع نفسه، ص/21.
[29] . نفسه، ص/24.
[30] . نفسه، 25.
[31] . نفسه، ص/26.
[32] . نفسه، ص/27.
[33] . نفسه، ص/29.
[34] . نفسه، ص/36.
[35] . نفسه، ص/37.
[36] . نفسه، ص/42/43.
[37] . نفسه، ص/45.
[38] . نفسه، ص/49.
[39] . نفسه، ص/53.
[40] . نفسه، ص/62/63.
[41] . نفسه، ص/65.
[42] . نفسه، ص/71.
[43] . نفسه، ص/73.
[44] . نفسه، ص/89.
[45] . نفسه، ص/106.
[46] . نفسه، ص/114.
[47] . نفسه، ص/115.
[48] . نفسه، ص/122.
[49] . نفسه، ص/129.
[50] . نفسه، ص/130.
[51] . نفسه، ص/131.
[52] . نفسه، ص/134.
[53] . نفسه، ص/137.
[54] . نفسه، ص/138.
[55] . نفسه، ص/139.
[56] . نفسه، ص/140.
[57] . نفسه، ص/142.
[58] . نفسه، ص/143.
[59] . نفسه، ص/151.
[60] . Ben Yagoda ; The Sound on The Page ، مرجع سابق، ص/120.
[61] . (Passer du Coq à l’an) .
[62] . أطلق اسم الكراغلة على أبناء الأتراك من أمهات جزائريات، وكانت مكانتهم الاجتماعية أدنى من آبائهم، وأعلى من أخوالهم، وكانوا على الرغم من ذلك مشاركين في الإدارة التركية خلال عهد الدايات.
[63] . كانت واقعة المروحة بمثابة الذريعة التي اتكأت عليها فرنسا الاستعمارية لاحتلال الجزائر، ومفادها أن السفير الفرنسي (دوفال) لما ذهب يهنئ الداي حسين بمناسبة العيد، استفسر منه هذا الأخير عن عدم رد الحكومة الفرنسية على مراسلته بخصوص الديون المترتبة عليها مقابل القمح الجزائري وعن سبب تماطلها، فرد عليه بالقول (إن الحكومة الفرنسية لن تتنازل لمراسلة أمثالك)، الأمر الذي أغضب الداي فضرب السفير بالمروحة التي كانت في يده.
[64] . John Gardner Fiction ; Notes on Craft for young writers ، مرجع سابق، ص/98.
[65] . المصدر نفسه، ص/56.
[66] . انظر على سبيل المثال لا الحصر استيهامات السلاوي وتحركاته في المكان واستعداده لقتل المزوار، ص//294/295/296/297…وإلى رواية كافيار لمغامراته الباريسية ولصراعه مع ديبون وبورمون وابن ميار/340/342..
[67] . السانسيمونية حركة إيديولوجية تعتمد على النظريات السوسيو اقتصادية والسياسية لكلود هنري دوروفري دو سان سيمون H.de Saint-Simon (1760-1825)، وتعتمد على المكافأة الكونية عن طريق الصناعة، حيث قام أتباعه من بعده بالعمل على تطبيق مفاهيمها الفلسفية عمليا في كل من مصر والسودان والشام وتركيا والحجاز والجزائر، بهدف تحقيق حلمهم في إقامة نظام اجتماعي جديد، تسود فيه الصناعة، ويستنير بتطبيقات العلوم الحديثة، من اجل الصالح العام بالإنتاج المفيد، والعمل على تلافي الحروب.
[68] . الديوان الاسبرطي، ص/323.
[69] . . John Gardner Fiction ; Notes on Craft for young writers ، مرجع سابق، ص/124.
[70] . الديوان الاسبرطي، ص/36.
[71] . نفسه، ص/39.
[72] . نفسه، ص/40.
[73] . نفسه، ص/44.
[74] . نفسه، ص/52.
[75] . نفسه، ص/63.
[76] . نفسه، ص/64.
[77] . نفسه، ص/117.
[78] . نفسه، ص/65.
[79] . نفسه، ص/175.
[80] . نفسه، ص/175.