علم النفس المرضي: فهم الانزعاج أو انعدام الراحة النفسية
Psychopatologie Comprendre le mal-être/VIVIANE KOVESS MASFETY*
د.محمد شرقي/ المركز الجهوي لمهن التربية و التكوين /مراكش، المغرب
Dr. Mohammed Cherké, Regional Center for Education/ Marrakech-Morocco
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 76 الصفحة 93.
ملخص:يهتم علم النفس المرضي بتحديد وتسمية وتصنيف الاضطرابات النفسية. ويثير في هذا الإطار نقاشات متكررة حول ما هو “عادي ” وما هو غير ذلك. هذا ما يحاول صاحب المقال تفصيل القول فيه من خلال التعريف بمجموعة من الاضطرابات النفسية و العقلية مثل الدهانات و العصابات و المخاوف المرضية و بعض الاضطرابات الأخرى التي قد تمس الشخصية . وما فتئ الكاتب، و على امتداد هذا المقال، يبين انه من الصعب وضع حدود فاصلة بين ما هو “عادي” و ما هو “مرضي”بالرغم من وجود دلائل و تصنيفات في هذا الإطار، و من ثم ضرورة تفادي تقديم أي تشخيص متسرع لهذا الاضطراب السلوكي أو ذاك.
الكلمات المفتاحية: علم النفس المرضي-اضطرابات عقلية-ذهانات- عصابات- مخاوف مرضية -اكتئاب- قلق- طيف التوحد.
Abstract:
Psychopathology is concerned with identifying, naming and classifying mental disorders. In this context, it raises frequent debates about what is “normal” and what is not. This is what the author of the article tries to detail the saying in it by introducing a group of psychological and mental disorders such as psychoses, nevroses, phobias, and some other strikes that may affect personality. Throughout this article, the author has consistently demonstrated that it is difficult to set demarcating lines between what is “normal” and what is “satisfactory” despite the presence of evidence and classifications in this context, and therefore the necessity to avoid presenting any hasty diagnosis of this disease or that.
Key words: Psychopathology- Psychoses- Nevroses- phobias- Depression- Anxiety- Autism spedtrum.
*Les grands dossiers des sciences humaines n°59,juin-juillet-aout 2020,p.6-12
تقديم :
إنه لمن الأهمية بمكان تمييز الاضطرابات العقلية عن أشكال أخرى من المعاناة النفسية، و التي هي حالة من الانزعاج أو عدم الراحة النفسية لا تكشف بالضرورة عن وجود مرض أو اضطراب عقلي.
تتحدد هذه المعاناة، والتي نصادفها بشكل متكرر ( 15 إلى 20 بالمائة من الناس يصابون بها في لحظة ما من حياتهم)، عبر حضور أعراض القلق و الاكتئاب، و هي أعراض تكون خفيفة أو عابرة و لا تتوافق مع معايير تشخيصية.قد تكون هذه المعاناة رد فعل على المواقف المرعبة أو الصعوبات الوجودية وبالتالي فهي لا تمثل اضطرابا عقليا بالمعنى الحقيقي للكلمة، وان كان من الممكن أن تتطور، إن استمرت و استفحلت، إلى اضطراب، و لكن اعتبارها على هذا النحو من شأنه أن يخدر أو يخضع التجربة البشرية للتحليل النفسي وهي التجربة التي تمثل فيها صعوبات الحياة و ردود الأفعال الناجمة عنها جزءا متأصلا.
“الذهانات”:
إنها الاضطرابات التي تنطوي على مظاهر لا تحدث أبدا عند الناس الأسوياء مثل الهذيان أي رؤية أشياء أو سماع أصوات لا يراها و لا يسمعها الآخرون. وهي تمظهرات يمكن أن تحدث عند أناس “عادين” تناولوا مواد مهلوسة مثلا، ولكنها تختفي مباشرة عندما يزول تأثير المخدر. و إذا كان معظم الأشخاص الذين يتعاطون المخدرات يعودون إلى حالتهم الطبيعية، فان البعض منهم خاصة الذين لديهم هشاشة، مثلا لأن بعض أفراد عائلاتهم سبق له أن عانى من اضطرابات ذهانية، يمكن أن يصابوا بنوبة ذهانية عند تناول هذه المواد.
و تعتبر هذه الأمراض المسماة بـ”الذهانات” نادرة نسبيا، و يقدر انتشار مرض انفصام الشخصية بحوالي 1 بالمائة من الساكنة. ومن بين هذه الأمراض نجد نوعا من الهذيان يشبه المشاعر التي يمكن أن تحدث عند الأشخاص “العاديين”: هذيان الاضطهاد حيث يعتقد الناس أننا نتجسس عليهم و أننا نتبعهم وأننا غاضبون منهم. ومع ذلك يمكن أن تحدث هذه الأشياء لكل واحد منا خلال أي نزاع مهني أو زوجي، ومن ثم يصعب تقييم الحدود بين العادي و المرضي (و إقامة الحدود الفاصلة بينهما) لأن هذا النوع من الصراع الحاد يضعف الناس و يجعلهم، بشكل خاص، معرضين للخطر فقط لكونهم ليسوا في حالتهم الطبيعية .
مع ذلك، إذا كان كل شخص، وتحت ظروف معينة، يمكن أن يعاني من “ردود فعل جنون العظمة”، فان هذا النوع من الهذيان غالبا ما يكون موجودا في نوبات ذهانية. وفي هذه الحالة يكون مصحوبا بقلق شديد و بكلمات و أفعال غير مناسبة تعرض الشخص للخطر اتجاه محيطه العائلي و/أو المهني، ومن ثم يجب التكفل به عن طريق العلاج الدوائي بما في ذلك مضادات الذهان. يكون الوضع في هذه الحالة أكثر صعوبة لأن الشخص الذي يعاني من مشاعر الاضطهاد نجده يرتاب من الجميع و لا يثق في أي كان بما في ذلك طاقم الطب النفسي الذي يقترح عليه الدخول للمستشفى و تناول الدواء . وغالبا ما يتم إدخال الشخص إلى المستشفى ضد إرادته. و يعتبر نظام الرعاية الصحية الفرنسي ضعيفا في مواجهة هذه المواقف التي تجعل المحيط مجبرا على استدعاء الشرطة لإدخال الشخص المعني للمستشفى بطريقة قسرية، وهو أمر مؤلم بالضرورة و يبعد الشخص عن الطب النفسي و ينفره منه.
من حيث المبدأ، يجب أن تدار هذه المشاكل من قبل فرق متنقلة، تسمى فرق الأزمات، ولكن في الواقع نجد إما أن هذه الفرق غير موجودة في هذه المنطقة، لأن موارد الطب النفسي البشرية موزعة بشكل غير متساو بين الجهات، أو أنها نظريا موجودة ولكن لا يمكنها التدخل إلا في بعض الأوقات، و التي في معظم الأحيان، لا تتوافق مع الأوقات التي تطرح فيها مشاكل حادة، مما يجعلها غير فعالة.
في الوقت الذي كان فيه مقبولا القول أن “الأوهام” كانت أعراض مرضية، كشفت الدراسات الاستقصائية السكانية أن جزءا مهما نسبيا من الأشخاص صرحوا بإصابتهم بهلوسة بصرية أو سمعية: في فرنسا وبعد أن تم إبعاد الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات ذهانية محددة، أفاد 5.7 بالمائة من الأشخاص أنهم عاشوا، على الأقل، تجربة واحدة من هذا النوع في حياتهم منها 1.3بالمائة خلال الاثنا عشر شهرا الأخيرة،4.9 بالمائة كانت لديهم هلوسات و 1.6 بالمائة بعض الأفكار الوهمية من نوع البارانويا أو الانطباع بدخول فكرة في رؤوسهم . هذه النسبة المئوية تقابل متوسط المسح الذي اجري في بلدان متعددة من قبل المنظمة العالمية للصحة. ومع ذلك يمكن أن يكون أعلى بكثير في بعض البلدان مثل البرازيل[1].
بما أن تناول بعض المواد مثل الكحول و المخدرات يمكن أن يولد مثل هذه الانطباعات (لدى المستهلك)، إلا أن الأسئلة المطروحة تستبعد مثل هذه الظروف. و تعتبر هذه التجارب الذهانية نادرة نسبيا ولا تحدث إلا مرات قليلة في العمر على الرغم من أن هؤلاء الأشخاص كانوا يعيشون بشكل مسبق حياة طبيعية ولا يعانون من أية اضطرابات عقلية، على الأقل تلك المسماة ذهانية . و مع ذلك نلاحظ أنهم أكثر وهنا و ضعفا من غيرهم، خاصة فيما يتعلق بمشاكل القلق و الاكتتاب أو قلق ما بعد الصدمة.
كما أن الاضطرابات ثنائية القطب، التي كانت تسمى سابقا بذهانات الهوس الاكتئابي، هي أيضا جزء من الذهانات. غير أن ما يسميه الأطباء النفسانيون ب”الهوس” لا علاقة له بما نطلق عليه عادة الهوس( بمعناه العلمي) .فالهوس من منظور الطب النفسي هو، في الواقع، عكس الاكتئاب الذي يتناوب معه في الاضطراب المسمى “ثنائي القطب”حيث نجد الناس في حالة هوس متحمسين للغاية، ولديهم أفكار وهمية عن العظمة، ولا ينامون، و يتحدثون بسرعة بحيث يصعب متابعتهم ويغيرون أفكارهم بشكل كبير، و يمكن أيضا أن تكون لديهم سلوكات غريبة: مشتريات تفوق إمكانياتهم، نشاط جنسي جامح بالإضافة للسلوكات العنيفة التي تؤدي في الغالب إلى إدخالهم للمستشفى رغما عنهم . قد تكون هذه الحالة اقل وضوحا، ومن ثم نتحدث عن هوس خفيف حيث نجد الشخص يحتفظ بفرط النشاط ونفس الأعراض الموضحة أعلاه ولكن بدرجة اقل.
هنا أيضا، بينما بدا راسخا أن “الفصامات” هي اضطرابات مختلفة تماما عن الاضطرابات ثنائية القطب، سيتم الحديث عن أشكال مختلطة مسماة بالذهانات “الفصام-عاطفية” والتي تظهر علامات أو أعراض لكلا المرضين. إضافة إلى ذلك، يبدو أن الدراسات الجينية، بحكم أن لهذه الاضطرابات مكون وراثي، أظهرت أن الاختلافات بين هذه الاضطرابات أقل وضوحا بكثير مما كنا نتصوره.
“العصابات”:
أمراض أخرى كانت في السابق تسمى ذهانات هي بالأحرى مبالغات “مرضية” للمشاعر “العادية”، فالاكتئاب، على سبيل المثال، هو صورة كاريكاتورية للحزن، و اضطرابات القلق صورة كاريكاتورية للخوف. لذلك يصبح التمييز أكثر صعوبة بين ما يسمى الحداد المرضي، أي أعراض الحزن الشديد المصحوب بالأرق و فقدان الشهية و صعوبة التركيز، أو حتى الرغبة في الموت و التي تستمر إلى أكثر من شهرين، و الحداد العادي والذي لا تتجاوز المرحلة الحادة فيه هذه المدة . علاوة على ذلك، و كما سنرى لاحقا، فقد تم سحب حضور الحداد كمعيار من معايير الاكتئاب عند مراجعة تصنيف DSM-5 [2].
نفس الاستنتاج ينطبق على اضطرابات القلق لما بعد الصدمة. فالشخص عندما يكون قد مر بصدمة كبيرة، فانه يكون لديه الميل لرؤية كوابيس و لتذكر الحدث وتجنب أي شيء قد يكون له علاقة به. هذه آليات أو ميكانيزمات طبيعية إلى حدود معينة، نتحدث بعدها عن رد فعل “غير طبيعي” في المدة التي يستغرقها و / أو في شدته ( هذا يا يتم تشخيصه بقلق ما بعد الصدمة). يبدو أن أحدث الأبحاث حول الهجمات أو الحروب، و المنشورة في مجلات دولية محترمة، تظهر أن معظم أعراض القلق لما بعد الصدمة تهدأ في غضون ستة أشهر لتختفي بعد عام، و بشكل خاص لدى الأشخاص الذين كانوا يعانون من هشاشة من قبل.
لقد أصبحت النقاشات حول قلق ما بعد الصدمة معقدة لان هذا التشخيص مرتبط في الحقيقة بتداعيات عاطفية و سياسية قوية، و أن الاعتراف به تترتب عنه فوائد على شكل تعويضات مالية أو غيرها.
الغريب، في فرنسا، هو أن ممارسة “استخلاص المعلومات” débriefing، أي تحمل المسؤولية على الفور”، لا تزال تمارس و تشجع دون سؤال، في حين أن المنشورات الدولية حول هذا الموضوع تظهر أن فعل تعبئة مشاعر الأشخاص في أعقاب الصدمة مباشرة، و على العكس من ذلك، يمكن أن يعزز حدوث ما بعد الصدمة .
الرهاب أو المخاوف المرضية :
ينتمي الرهاب أيضا إلى فئة اضطرابات القلق: الخوف من التواجد في مكان مغلق أو على العكس من ذلك في حشد من الناس، أو الخوف من الأفاعي أو رؤية الدم-الخوف الذي يتقاسمه مجموعة من الناس- أو حتى الخوف الرهيب من مقابلة أشخاص لا نعرفهم و الخوف من التحدث أو تناول الطعام في الأماكن العامة. اضطراب الوسواس القهري هو الرغبة التي يصعب السيطرة عليها للتأكد و لمرات عديدة من أن باب المنزل و الغاز تم إغلاقه، و غسل اليدين مرارا و تكرارا خوفا من الجراثيم أو حتى الخوف المفاجئ من إيذاء شخص من المحيط . و في الأخير نجد بعض الأشخاص يشعرون بالقلق باستمرار أو قد يصابون بنوبات هلع مفاجئة من أشياء لا تشكل مصدر قلق كبير بالنسبة لأشخاص آخرين يوجدون في نفس الموقف. كل هذه المخاوف هي مبتذلة للغاية: ومرة أخرى فشدتها و ارتباطها بمعايير أخرى هو الذي يجعلها “شاذة أو غير عادية، ويتم تشخيصها كذلك منظورا إلى تأثيرها و دورها في الحياة اليومية.
الاضطرابات المتعلقة بتناول الكحول أو المخدرات:
قد يبدو من السهل التعرف على هذه الاضطرابات بحيث إن الدرجة أو المرحلة الأولى غير العادية لهذا التناول تكمن في التعاطي، أي الاستخدام المفرط والمكثف و/أو لفترة طويلة لهذه المواد مع بعض العواقب الاجتماعية الناجمة عنها، مثل سحب رخصة السياقة و المشاكل الزوجية أو المهنية . هنا مرة أخرى، يمكننا أن نرى بوضوح أن التسامح مع ما نسميه بالاستهلاك المفرط لهذه المواد و تقييم العواقب الاجتماعية الناجمة عن ذلك، يمكن أن يكون مختلفا تماما و ذلك حسب الوضعية الاجتماعية للأفراد و المجتمع الذين يعيشون فيه . و هكذا فلأن الإسلام يحرم استهلاك الكحول، فإننا نجد أن الاضطرابات التي لها علاقة بهذا الاستهلاك هي اقل شيوعا في البلدان و المجتمعات الإسلامية منها في الأديان الأخرى. و بشكل عام، هناك علاقة بين ممارسة أي دين مهما كان، و الانتشار المنخفض جدا للصعوبات أو المشاكل المرتبطة بتناول الكحول.
أما المرحلة الموالية، مرحلة التبعية (حيث الارتباط الوثيق بين المتعاطي و المخدر) فهي لا تطرح مشاكل كبيرة على مستوى التشخيص لأن علامات المرض تصبح فيزيقية : لا يعود بإمكان الجسد الاستغناء عن المنتوج، وتظهر لدى الفرد بشكل واضح الأعراض المرضية الناتجة عن حرمانه من المخدر (سواء كان كحولا أو مخدرا من نوع آخر).تضاف إلى هذه الاضطرابات اضطرابات أخرى تابعة لها مثل اضطرابات الأكل: الشره المرضي، و الذي يتمثل في الأكل دون القدرة على التوقف حتى لو لم يكن الفرد جائعا( أحيانا عبر أزمات) وحتى لو أدى به ذلك إلى التقيؤ فيما بعد، و كذلك فقدان الشهية العصبي، و الذي بالرغم من انه يمثل نقيضا له، فإنهما يتعايشان عند نفس الشخص حيث يتناوب على فترات من الإفراط في تناول الطعام مع فترات من عدم الأكل وممارسة التمارين الرياضية بشكل مفرط، إلى درجة الوصول إلى وزن منخفض جدا بحيث إذا لم يتم فعل أي شيء، فان حياته تكون في خطر .
اضطرابات الشخصية:
هناك فئة أخرى من الاضطرابات يصعب تحديدها إنها الشخصيات المرضية. تكمن الخصائص الأساسية لاضطرابات الشخصية هذه في ضعف الأداء الوظيفي للشخصية و حضور سمات شخصية مرضية. هذه التغييرات في أداء الشخصية والتعبير عن سماتها تكون مستقرة نسبيًا بمرور الوقت، ومتسقة من حالة إلى أخرى، ولكنها لا تخضع لنفس المعيار و ذلك حسب المرحلة النمائية أو المحيط السوسيو-ثقافي للفرد. أخيرا لا ترجع أوجه القصور هذه فقط إلى التأثيرات الفسيولوجية المباشرة لمادة ما (مخدر، دواء) أو إلى حالة طبية عامة (صدمة في الرأس على سبيل المثال).
ربما تكون الشخصية المعادية للمجتمع هي الأكثر شيوعا حيث سيادة العنف و العدوانية أي أن الشخص يبدو خاليا من الحس الأخلاقي. لكن علماء الاجتماع يعتقدون أن حدود هذا الاضطراب هي أيضا حدود التسامح الاجتماعي، أي أنه كلما ازداد عدد المحظورات والمعاقبة عليها، ازداد خطر خرق القانون، و بالتالي و كنتيجة لذلك، يصبح تجاوز الحدود المرسومة أسهل. كما تؤخذ بعين الاعتبار ظروف الحياة التي تضع الأشخاص في مواقف محفوفة بالمخاطر. و من الواضح أن اضطرابات الشخصية تشمل أبعادا أخرى مثل الأنانية المبالغ فيها، و الحاجة إلى الاهتمام المستمر من قبل الآخرين، أو الميل إلى “التمثيل الدرامي”. هذا حتى لا نذكر سوى الاضطرابات المعروفة بشكل أكبر .تمثل الشخصية “الحدودية” هي الأخرى جزءا من اضطرابات الشخصية نظرا لتعقيدها و الذي سنتحدث عنه بشكل مفصل. فمثلها مثل جميع اضطرابات الشخصية نجدها تنطوي على قصور في الأداء الوظيفي للشخصية، و يتجلى ذلك من خلال الهوية الضعيفة أو الصورة غير المستقرة حول الذات، و غالبا ما يرتبط ذلك بنقد ذاتي مفرط، أو شعور مزمن بالفراغ أو حالات تمزق داخلي تحت الضغط. يضاف إلى ما سبق ذكره، عدم الاستقرار في الأهداف و التطلعات و القيم أو الخطط المهنية، بالإضافة إلى ضعف في الأداء أو العلاقة مع الأشخاص الآخرين : غياب التعاطف، أي القدرة على الاعتراف بمشاعر الآخرين و احتياجاتهم . ترتبط هذه السمات بفرط الحساسية اتجاه الآخرين(ميل قوي للشعور بالظلم و الإهانة). كذلك نجد العلاقات الحميمية غير مستقرة و تصادمية تتميز بعدم الثقة و الحاجة إلى الاهتمام والقلق من تخلي واقعي أو متخيل. كما ترتبط سمات الشخصية المرضية بالعاطفة السلبية، و التجارب العاطفية غير المستقرة، و التغيرات المزاجية المتكررة، و العواطف التي تثار بسهولة و الشدة و/أو غير المتناسبة مع الأحداث و الظروف. هناك أيضا مشاعر شديدة من العصبية و التوتر أو الذعر، و هي غالبا ما تكون استجابة للتوترات الشخصية و انعدام الأمن و الخوف من الانفصال: مخاوف من الرفض و / أو الفراق مع الخوف من تبعية مفرطة و فقدان كلي للاستقلالية الذاتية. و غالبا ما توصف هذه الحالة بالاكتئاب : الشعور بالاكتئاب و اليأس و التشاؤم بشأن المستقبل، و الخجل من النفس و تدني تقدير الذات و شيوع الأفكار و السلوكيات الانتحارية. من ناحية أخرى، يمكن أن نعثر على إزالة التثبيط التي تتميز بالاندفاع: الحاجة إلى التصرف بناء على اندفاع اللحظة واستجابة للمنبهات الفورية و التصرف على أساس مؤقت دون تخطيط أو أخذ بالحسبان للعواقب و صعوبة وضع خطط و تتبعها و الشعور بالإلحاح و السلوك المدمر للذات في حالة الضيق العاطفي. كما أن المخاطرة تحضر باستمرار: التورط في أنشطة خطيرة و محفوفة بالمخاطر و التي قد تكون ضارة، و عدم الاهتمام بالحدود و إنكار حقيقة الخطر الشخصي. غالبا ما تحضر الكراهية و تتسم بالعداء و مشاعر الغضب المستمرة أو المتكررة و التهيج كرد فعل لشتائم و إهانات بسيطة.لذلك نرى انه بالنسبة لمعظم هذه المشاكل، فان مسالة وضع الحدود بين ما هو عادي و ما هو غير ذلك ليست مرتبطة بطبيعة تجلي الاضطراب أو تمظهره و لكن بشدته و معدل تكراره و المدة التي يستغرقها و ما نسميه خطورة ليس من السهل تحديده .تطور التصنيفات :يستخدم مهنيو الصحة تصنيفات لتحديد تشخيصاتهم و التواصل مع بعضهم البعض حول المرضى من اجل تطوير العلاج. هذه التصنيفات هي بمثابة قواميس تشمل كل العلامات التي يعرفونها و ينظمونها كأمراض عقلية . وهي تصنيفات تتم مراجعتها بانتظام وفقا للتطورات العلمية و كذا ملاحظات الأطباء النفسيين.بعض التشخيصات اختفت من هذه التصنيفات مثل الجنسية المثلية، التي لم تعد تعتبر مرضا منذ 1973 بالولايات المتحدة و منذ 1993 بفرنسا. كما تم تغيير تعريف الاكتئاب و بعض اضطرابات القلق. فعلى سبيل المثال، نوبة الاكتئاب الكبرى التي كان يطلق عليها حالة ملحوظة و دائمة من الحزن، و عدم الاهتمام، مصاحبة بعدة أعراض مثل اضطرابات النوم، و الشهية، و التركيز، و التباطؤ و أفكار الموت، سيضيفون لها معيارا جديدا يتمثل في ضرورة وجود تأثير ملحوظ على المستوى الوظيفي. و في الواقع، ومع ملاحظة أن العديد من الأشخاص سبق لهم أن تعرضوا لمثل هذه النوبات، فقد تقرر اعتبار النوبات “كبرى” فقط، تلك التي ينتج عنها عدم ارتياح ملحوظ في مختلف مجالات الحياة بالنسبة للأشخاص الذين يعانون منها. و معايير عدم الراحة هذه الملاحظة في الحياة، سبق تطبيقها على الرهاب أو المخاوف المرضية. و من ثم يميزون الخوف المبالغ فيه و الشعور العادي عن المرض الرهابي الذي يشكل إعاقة و يجب أن يقود إلى العلاج.أثارت نتائج المسوح السكانية أيضا تكرار الارتباط بين هذه الاضطرابات، فعلى سبيل المثال، غالبا ما تظهر على الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب علامات القلق. ولهذه الاضطرابات أيضا أعراض شائعة مثل صعوبة التركيز أو اضطرابات النوم. على العكس من ذلك، يمكن أن تكون اضطرابات القلق مصحوبة أيضا باضطرابات اكتئابية أو اضطرابات إدمان على الكحول أو المخدرات الأخرى. في هذه الحالة قد يكون العلاج ذاتيا: قد يشرب الأفراد الذين يعانون من مشاكل القلق أو يدخنون الحشيش مثلا للتغلب على الخوف من الظهور أمام أشخاص لا يعرفونهم.لكن العلاج يكون أسوأ من المرض، لأنهم يصبحون مدمنين على الكحول أو الحشيش حتى يتسنى لهم العيش ما يسمى بالحياة العادية. يعد التواجد المشترك لأعراض الاكتئاب و أعراض القلق أمرا شائعا لدرجة انه تم اقتراح الحديث عن اضطرابات قلق – اكتئابية و التساؤل عما إذا كان الأمر يتعلق حقا بأمراض مختلفة أو بتعبير شائع عن نفس الأمراض.هل كلنا مرضى؟تسبب صدور النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي و الإحصائي للاضطرابات النفسية في مايو 2013 في الكثير من الضوضاء في فرنسا كما حدث في الولايات المتحدة و أماكن أخرى. فقد بدا أن عامة الناس قد اكتشفوا أو أعادوا اكتشاف، أن هناك تصنيفات للاضطرابات العقلية. و نتيجة لذلك، تم انتقاد هذه المراجعة و معها كل التصنيفات، مهما كانت، و التي غالبا ما يتم استنكار عتباتها باعتبارها تعسفية.من بين الانتقادات المتكررة نجد “التقليل من أهمية الأعراض العادية”، و بالتالي دفع و تحويل السكان إلى علم الأمراض، والأخطر من ذلك، إخضاعهم للعلاجات غير الملائمة، بما في ذلك العلاجات الدوائية. وتتهم شركات الأدوية بالضغط لخفض العتبات لزيادة عملائها المحتملين و ذلك بدعم من الأطباء النفسيين الذين سيستفيدون من سخائهم .نحن أنفسنا مهتمون بالعواقب الوبائية للتغيير في تشخيص الاكتئاب لدى المرضى الذين يوجدون في حداد، و الذي يظهر في الدليل التشخيصي و الإحصائي للاضطرابات النفسية و الذي تم انتقاده بشدة. نحن محظوظون لان لدينا قاعدة بيانات فرنسية كبيرة جدا : فمن بين 22138 شخصا 692 عانوا الحداد سنة قبل هذا البحث و الذي تم من خلاله جمع معلومات عن معايير مختلفة لاضطراب الاكتئاب .[3] وهكذا تمكنا من حساب الزيادة في الانتشار بسبب إزالة المعيار E (لا يمكن تفسير الأعراض بشكل أفضل عن طريق الحداد، أي أنه بعد وفاة أحد الأقرباء، تستمر الأعراض لأكثر من شهرين أو تكون مصحوبًة بتدهور ملحوظ في الأداء الوظيفي مع انشغالات مرضية، و فقدان تقدير الذات، و الأفكار الانتحارية، و الأعراض الذهانية أو التباطؤ النفس-حركي): من بين 22138 شخصًا تم استجوابهم باستخدام أداة تشخيصية ، فإن معدل انتشار L’EDM (نوبة الاكتئاب الكبرى) انتقل من 9.5 (9.13-9.90) إلى 9.83 (9.44-10.22) أو زيادة بنسبة 0.33 في المائة ، وهذا هو الحد الأقصى لهذا التصور ما دمنا قادرين على الاعتقاد أن الأطباء الإكلنيكيين قادرون على أخذ هذا السياق بعين الاعتبار بدقة ، وبالتالي فجميع المرضى المحتملين لا يتغيرون بهذه الطريقة. لذلك يبدو أن التغيير في معايير النوبة الاكتئابية الرئيسية في حالة الفجيعة في النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي و الإحصائي للاضطرابات العقلية DSM-5))، لا يمكن اعتباره عاملاً مهمًا في زيادة استهلاك مضادات الاكتئاب.وهناك مثال آخر يتعلق بالاضطراب العصبي للشره المرضي وخلق تشخيص جديد لنوبات الشره المرضي، والفرق هو حذف معيار “حركة للتعويض عن نوبات المرض”، مثل جعل المرء يتقيأ على سبيل المثال.و هنا مرة أخرى سنسمع أن أي شخص جشع قليلًا سيتم تصنيفه ضمن مرضى نوبة الشره المرضي . و قد أتاحت دراسة دولية، استفادت منها فرنسا، كيف أن حذف معيار ما يمكن أن يغير من انتشار المشاكل، ففي عينة من البلدان المتنوعة للغاية، كان معدل الانتشار مدى الحياة لاضطراب الشره العصبي بين السكان هو 1 في المائة و 1.9 في المائة لاضطرابات الوصول إلى الشره الذي تم قبولها للتو في النسخة الخامسة للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية: خلال السنة الماضية وصلت معدلات الانتشار هذه 0.2 بالمائة و 0.3 بالمائة.. بالنسبة لفرنسا ، كانت هذه الأرقام 0.7 في المائة مقابل 1.7 في المائة بالنسبة للانتشار مدى الحياة و 0.2 في المائة و 0.3 في المائة بالنسبة للعام الماضي . و في جميع الحالات نحن بعيدون عن وباء الاضطرابات النفسية لناتجة عن تضخم التشخيصات وانخفاض معاييرها[4].على العكس من ذلك ، فإن إضافة فئة “اضطرابات طيف التوحد “التي تتراوح بين الاعتدال و الشدة، قد قلب تواتر هذا التشخيص رأسا على عقب، و هو التشخيص الذي كان يعتقد أن انتشاره لن يتغير مع مرور الوقت. و تفسر هذه الزيادة المفترضة بكون المتخصصين والآباء أصبحوا يتعرفون بشكل أفضل على علامات اضطراب طيف التوحد. بالإضافة إلى ظهور النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي و الإحصائي للاضطرابات العقلية DSM-5 و اضطراب طيف التوحد الذي يشمل التوحد (أو اضطراب التوحد) ، ومتلازمة أسبرجر، واضطراب النمو المنتشر غير المحدد، و اضطراب التفكك الطفو لي الذي سيتضمن التشخيص الجديد ل”اضطراب التواصل الاجتماعي” و الذي ينطبق على الأشخاص الذين تكون لديهم مشاكل في التواصل الاجتماعي سواء اللفظي أو غير اللفظي و التي تحد، بشكل كبير، من المشاركة الاجتماعية والنجاح الأكاديمي أو المهارة في العمل. إلا أن تلك الأعراض لا تظهر على شكل سلوكات نمطية أو متكررة مع اهتمامات ضيقة و التي تمثل مميزات اضطراب طيف التوحد ((TSA. خاتمة و تعقيب :نستنتج اعتمادا على ما سبق، كيف أن كل باحث في مجال الاضطرابات النفسية أو العقلية يلزمه التمتع بقدر كبير من اليقظة الابستيمولوجية، و انه يتوجب عليه كذلك التأني و التريث قبل الإقدام على تشخيص اضطراب أو معاناة نفسية ووضعها تحت ها الصنف من الأمراض أو ذاك. ذلك لأن كل واحد منا أمام اكراهات الحياة و تعقيداتها قد يصاب باضطراب ما كنتيجة طبيعية لعدم قدرته على استيعاب هذا الموقف الجديد ومن ثم التكيف معه إما لأن طبيعة الموقف لا تتوافق مع مركباته العقلية وموارده المعرفية السابقة وما راكمه من تجارب و خبرات أو نظرا لتعرضه لحادث غير منتظر كفقدان قريب مثلا أو الطرد من العمل إلى غير ذلك من الحوادث و الوقائع التي لا يمكن التنبؤ بحدوثها.أضف إلى ذلك طبيعة البنية أو التركيبة النفسية لكل واحد منا و التي تختلف من شخص لآخر كنتيجة حتمية لمجموعة من العوامل من أهمها ظروف تنشئتنا الاجتماعية، مستوانا التعليمي، مستوانا السوسيو اقتصادي، انحداراتنا الثقافية، تمثلاتنا حول ذواتنا و حول العالم …إلى غير ذلك من هذه المتغيرات التي تتفاعل فيما بينها و تعطينا شخصيات بمواصفات معينة تكون إما قادرة على التحمل ومن ثم التكيف بسهولة مع كل المواقف و الوضعيات أو على العكس من ذلك شخصية تنهار بسهولة . أمام هكذا وضع يلزم عدم التسرع في التشخيص ومن ثم التمييز بين ما نعتبره عاديا و ما نعتبره غير ذلك، بين ما نعتبره سويا وما نعتبره مرضيا . فقد تكون هناك اضطرابات يعاني منها الشخص لكنها تزول مع مرور الوقت و دون تلقي أي علاج، وعلى العكس من ذلك قد تكون هناك اضطرابات تستدعي بالفعل تدخلا علاجيا من طرف أهل الاختصاص . ولذلك نجد المهتمين يميزون بين العصابات و الذهانات: ففي الحالة الأولى يكفي التعرف على نوع العصاب و أعراضه وبعد تدخل المعالج المتخصص قد يعود الشخص، و بشكل تدريجي، إلى حالته الطبيعية لان علاقته مع الواقع مازالت قائمة، عكس الذهاني الذي يفتقد هذه العلاقة و لا يعطي أي اعتبار للواقع و المجتمع و القيم المتداولة فيه.و يمكن أن نضيف أيضا انه عند تناول هذه الاضطرابات بالبحث و الدراسة يلزم كلك الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الثقافية أو ما يسميه بعض الباحثين بال”رهان الثقافي” فقد نتسرع في الحكم على شخص بالخجل أو التردد أو الانطوائية في الوقت الذي يعتبر مثل هكذا سلوك في بعض المجتمعات سلوكا طبيعيا بل ونجاحا في التكيف مع الوضع القائم والقيم السائدة في المجتمع المعني.قائمة المراجع :
1- John McGrath et al.,” Psychotic eperiences in the general population. A cross-national analysis based on 31261 respondents from 18 countries”, JAMA Psychiatry, vol. LXXII, n°7, 2015.
2- Florence Clesse et al., “Corrigendium to” Bereavement-related depression. Did the changes induced by DSM-V make a difference ? Results from a large population-based survey of French residents” “; Journal of affective disorders, 2017.
3- Ronald Kessler et al.,” The prevalence and correlates of binge eating disorder in the World Health Organisation World Mental Health Surveys”, Biological Psychiatry, vol.LXXIII, n° 9, 2013.
[1] -John McGrath et al.,” Psychotic eperiences in the general population .A cross-national analysis based on 31261 respondents from 18 countries”, JAMA Psychiatry, vol. LXXII, n°7, 2015.
[2] – la cinquième version de Diagnostic and Statistical Manuel
[3] -Florence Clesse et al., “Corrigendium to” Bereavement-related depression. Did the changes induced by DSM-V make a difference ? Results from a large population-based survey of French residents” “; Journal of affective disorders, 2017.
[4] -Ronald Kessler et al.,” The prevalence and correlates of binge eating disorder in the World Health Organisation World Mental Health Surveys”, Biological Psychiatry, vol.LXXIII, n° 9, 2013.