ألعاب الأطفال الغنائية الشعبية: قراءة في الوظائف والمضامين والدلالات
Popular children’s lyrical games: A Reading of Functions, Contents, and Semantics
د. الهادي مسيليني/جامعة قرطاج، تونس |
Dr. Msilini Hedi/University Carthage,Tunis |
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 76 الصفحة 79.
ملخص:
يسعى هذا المقال إلى تبيان أهم وظائف ألعاب الأطفال الغنائية الشعبية والمضامين والدلالات المستمدة منها. فهي علاوة على كونها أغاني تصاحب اللعب و تتولى تنبيه مشاعر الطفل وأحاسيسه، كي يدرك عالمه ويبدأ في اكتشافه وفهمه والتكيف معه، فإن لها بعدا تربويا يتمثل في الكلمات والحركات والمضامين التي تصاحب اللعبة. كما تحقق اللعبة الغنائية الشعبية العديد من الغايات الأخلاقية والسلوكية والتعليمية وتؤدى وظيفة تدريبية لاستيعاب العادة أو التقليد أو لاكتساب قدرة ذهنية أو جسمية وهي تحقيق متعة فنية لمن يؤديها أو يمارسها وتقوم كذلك بتحقيق قدر من الضبط الاجتماعي. ومن ثم تتضمن هذه الألعاب دلالات كثيرة ومتنوعة حيث تحمل مضامينها مفاهيم المجتمع وتصوراته للنواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهى كذلك ممارسة تمثل جزء من نسق اجتماعي يقوم بدور وظيفي في إعداد وتنشئة وتهيئة الفرد عقليا وأخلاقيا ليكون عضوا فاعلا في مجتمعه يحيا حياة سوية في بيئته الاجتماعية فهي عملية مستمرة لإعداد الفرد للتكيف الاجتماعي وإمداده بعناصر ثقافية.
الكلمات المفتاحية: ألعاب الأطفال الغنائية، أغاني الألعاب الشعبية، أغاني الأطفال، ألعاب شعبية.
Abstract:
The focus of this article is to highlight and clarify the most important functions, contents, and connotations of popular children’s lyrical games and the semantics derived from them. In addition to being play songs that stimulate the feelings of the child and his/her feelings, in order to realize his/her world and begin to discover it, they help him/her understand and adapt to it. Such kind of games have as well an educational dimension which is represented in the meaning of the words and movements that accompany these games which also achieve ethical, behavioral, and educational goals. Moreover, this kind of games performs a training function, and, thus, accommodates habit and/or imitation, and acquires ability mental and/or physical ability. Such a kind of games achieves not only artistic pleasure for those who perform or practice it, but also a high degree of discipline. Hence, these games have many and varied connotations as their contents are about social concepts as well as their perceptions of the economic, social and cultural aspects of life. These games consist also in many a social system that play a functional role in nurturing and preparing the individual mentally and morally and supply him/ her with cultural elements that allow him/her to be an active member in society.
Keywords: children’s lyrical games, popular game songs, children’s songs, the popular games.
مقدمة:
تعد ألعاب الأطفال الشعبية إحدى الموروثات التي تمارس بشكل جماعي بدافع المتعة والتسلية ولقضاء أوقات الفراغ. فتعكس ممارستها الجانب الإيجابي للحياة الاجتماعية السائدة في ذلك الوقت والتي تتميز بالبساطة والتعاون والتنافس بين الأطفال. وقد بقيت هذه الممارسات تنتقل من جيل إلى جيل قابلة للزيادة والنقصان لما لها من قدرة متميزة على الترفيه ولأنها تجعل الطفل يعبر دون قيود تكبل حريته. كما أن الجزء الكبير من الموروث اللعبي الغنائي قائم على أغاني وأهازيج الأطفال يؤدونها في مساحاتهم المشبعة بالخيال والحركة يبدعون فيما بينهم جملا مسجوعة ومقفاة تبدأ بسيطة ثم تتراكم عليها الألحان والكلمات حتى تكتسب صبغة غنائية. وهنا لا نقصد بالموروث اللعبي ما تحمله ثقافتنا اللعبية بوسائطها المتعددة فقط، ولكننا نعني دراسة ألعاب الأطفال الغنائية الشعبية بشقيها الغنائي والحركي ومناسبات أداءها بالإضافة إلى أهم الدلالات التي تتضمنها والخصائص التي تتميز بها.
إذا كانت الألعاب من حيث أسسها واحدة فى كل مكان، كونها تعتمد على حركات وقواعد وعادات معينة، وأنها من حيث أصولها مرتبطة بمعتقدات الإنسان وطباعه وخصوصياته الثقافية. وهى كذلك لغة الترويح عن النفس فلكل لعبة خصائص تكمن فى المادة اللعبية ذاتها من حيث الأبعاد الرمزية والدلالية وتكويناتها ووظائفها الاجتماعية. ولاشك في أن البحث فى الألعاب الغنائية الشعبية له علاقة أكيدة بعامل الزمن، ذلك أن ضرورة التعجيل في جمع مثل هذه الألعاب وتدوينها وتوثيقها، يعتبر من الشروط الحاسمة للحصول على أكبر قدر من هذا الموروث اللعبي قبل فوات الأوان. بالإضافة إلى التغيرات التي تطرأ عليها وعلى المجتمع وبالتالي على ثقافته الشعبية برمتها. لذا، نرمي من وراء هذا المقال إلى التعرف على أهم الدلالات الرمزية والواقعية المستمدة من ألعاب الأطفال الغنائية الشعبية، وما تحمله مضامينها من تصورات للنواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية. وكذلك التركيز على أهم الوظائف التي تؤديها اللعبة الغنائية الشعبية في مختلف المناسبات التي تؤدى فيها. فما أهم أنواع ألعاب الأطفال الغنائية الشعبية في بلادنا؟ وما هي أهم الوظائف التي تؤديها والمضامين والدلالات المستمدة منها؟. لذا، ارتأينا من أجل الإجابة عن الأسئلة المطروحة تقسيم المقال إلى العناصر الآتية:
– مقدمة
1- تعريف الألعاب الأطفال الغنائية الشعبية.
2- خصائص الألعاب الغنائية الشعبية.
3- ألعاب التربيج والترقيص وظائفها ودلالاتها.
4- ألعاب الأطفال الغنائية وظائفها ودلالاتها.
– خاتمة.
1- تعريف الألعاب الغنائية الشعبية:
تباينت وتعددت تعريفات الألعاب الغنائية الشعبية، كل عرفها حسب منظوره فنجد “عرنيطة”، يرى إنها تنبثق عند الأمم من أصل واحد ذي موضوع مشترك يعكس البيئة والحالة والعادات الملازمة لتلك الشعوب في حالات تلك الألعاب والأغاني الفطرية التي لا أثر فيها لصناعة متعمدة. فهي ارتجال من قبل فرد مجهول من أفراد الشعب أسّس لتلك المحدودات بطريقة بدائية لا كلفة فيها ولا تكنيك وتناقلها الأبناء عن آبائهم. وهي تعكس صورة واضحة للعادات والتقاليد وأيضا للخرافات والمعتقدات التي تتصف بها الشعوب(1). إذا فاللعبة الغنائية الشعبية “ممارسة وارتباط مادي ووجداني بين أبناء المجتمع الواحد لأنها إبداع مشترك بين كل أفراده تحمل في طياتها عادات وتقاليد هذه المجموعة، وتستعمل في العديد من المناسبات (2). وهي عبارة عن ألعاب تنفذ مع أغاني خاصة مرتبطة بهذه الألعاب من مختلف الأشكال الحركية الفردية والجماعية وتكون هذه الألعاب مصاحبة للإيقاع مع الأطفال إما بالتصفيق أو بالضرب على الأرض بالقدمين وغيرها. وتؤدى في تشكيلات معينة من الصفوف أو الدوائر أو السلاسل والقاطرات. ويعتبر الباحث أنها ممارسات ارتبطت بحياة الإنسان منذ زمن وكانت وسيطا لتلبية احتياجاته المختلفة ولم تظهر بهدف الاستماع أو الترفيه فقط بل هي فضاء لتبادل المعلومات واكتساب المهارات وتمرير ثقافة المجتمع.
2- خصائص الألعاب الغنائية الشعبية:
لم يكن هدف الألعاب الغنائية الشعبية ملء فراغ الناس فحسب، بل كان لها أغراض أخرى وأهمية بالغة كونها مرتبطة بحياة الإنسان تصف نشاطه وطموحاته وتحركاته لترقى به إلى حياة أفضل. فهذه الممارسات الشعبية هي تصوير لحالة الإنسان في زمن معين من خلال الألفاظ والعبارات والحركات المصاحبة للعبة والدالة على مناسبة معينة أو ظاهرة ما أو حدث ما. لذلك نجد أن الألعاب الغنائية الشعبية تتمتع بخصائص وسمات تميزها عن غيرها من أشكال التعبير الأخرى. وقد أجملها الباحث “ألكسندر كراب” فيما يلي: أنها جماعية بمعنى أنها وإن كان بعضها يعود إلى فرد معين إلا أنها محل التبديل والتعديل والإضافة من قِبل الجماعة. وهي ألعاب غنائية وممارسات ذاتية في المقام الأول تتناول موضوعاتها بطريقة جديدة وألوانها كثيرة شبه ألوان الصناعة-الشعبية الريفية (3).
ومن ثم تقوم هذه الألعاب بدور كبير في تنمية التعاون والمشاركة بين الأطفال فيما بينهم حين يتبادلون الأدوار بين الغناء والترديد والتنسيق بين الحركة والإيقاع وفي تنمية إدراكهم ووعيهم بالعمل الجماعي والشعور بالحياة الاجتماعية. كما تمتاز هذه الألعاب بخاصية هامة وهي سرعة الذيوع والانتشار وهذا راجع إلى تعبيرها عن عواطف وأحاسيس موروثة تعبيرا أصيلا عن وجدان شعب وتجاربه عبر العصور والآجيال المتعاقبة. وتبقى خاصية الجماعية من جملة الخصائص المذكورة سابقا وهي الميزة الأساسية لهذه الألعاب فهي تعكس فكرة الجماعة الشعبية ومشاعرها وحياتها عامة فهي إذن تجسيد لعقل المجتمع وميولاته الفكرية والأخلاقية(1). وبالتالي تزخر أغاني الألعاب الشعبية إذا بجملة من المعاني والأفكار ومشاغل الحياة التي عرفها الناس منذ زمن. كما تحمل في طياتها بعدا تربويا موجها لفئة الأطفال وتعمل على ترسيخ بعض ملامح ثقافة المجتمع في نفوسهم.
3- ألعاب التربيج والترقيص وظائفها ودلالاتها:
تتجسد أهمية هذه الألعاب في تنبيه مشاعر الطفل وأحاسيسه كي يدرك عالمه ويبدأ في التعرف عليه وفهمه في مرحلة أولى ثم التعامل معه حسب السياق الذي تتنزل فيه اللعبة فيما بعد. وما ترقيص الأم لوليدها وقول الأغاني لإيقاضه وتنويمه وملاعبته وغيرها إلا لتحفيز الطفل وإثارته للتعرف على العالم المحيط به وسرعة فهمه والتكيف معه. ثم تتلاحق على الطفل سيل من أغاني التربيج وهو وسط الأسرة كي تشعره بوجوده، وتلح عليه أن يستنهض قواه للنمو الاجتماعي. ويعد الغناء أول صور الفن التي يواجهها الطفل وهو بين ذراعي أمه وهو الترنّم بالكلمات الموزونة التي تصحب عادة مداعبة الطفل وملاعبته وتحريكه. وتبدأ هذه الأغاني عندما تساعد الأم طفلها على النوم بكلمات بسيطة على إيقاع صوتي خاص يمهّد للنوم، ويساعد الأم في أدائها حروف المدّ الليّنة في كلمات الأغنية. وهي تمثل وسيلة للإمتاع والترفيه وجلب السرور إلى الطفل بما فيها من كلمات مقترنة بالنغم والإيقاع تسهم في الترويح عنه فينساق مع حركاتها ويصل تأثره بها إلى حد ينسى معه نفسه وما حوله.
توجد في معاجمنا ألفاظ كثيرة تدل على الحركات التي كانت تأتي بها الأم أثناء تنويم طفلها وملاعبته ومضاحكته منها: الترنيم، والهدهدة، والمناغاة، والتهاليل وغيرها. وتتضـمن تـرانيم الأطفـال التـي تهدهـد بهـا الأم طفلهـا اسـتجلابا للنـوم أو للطمأنينة ليكف عن البكاء ويعود إلى الهدوء. ومن خلال أغاني المهد التي ترنمها الأم لطفلها، تصبح أصواتها المختلفة وإيقاعاتها المتنوعة ومفرداتها اللغوية أول إنتاج إنساني يخترق عالم الطفل. تبدأ هذه الأغاني خاصة عندما تساعد الأم طفلها على النوم، بكلمات بسيطة على إيقاع صوتـي خاص يمهّد للنوم، كقولهـا:“نني نني جـاك النوم أمك قمره وبـوك نجوم نني نني جاك نعاس أمك فضه وبـوك نحاس نني نني يجعل نومك متهنّي”. ننّي نني جــاك نعـاس حنـة وزغـاريد عليك كل صبية تنـادي عليــك تخلي عـازبها وتجيـك وتقـــول: الله وأنـا بيك ننّي ننّي جــاك نعــاس يا جوهرة في مقيـاس إنت فضّة وبــــوك نحــاس (2). فليس مهما أن تلفظ الأم الكلمـات لفظا سليمـا وليس مهما حفظ الأغنية، فهناك أمهات يردّدن اللحن بتمتمات تحافظ على الإيقاع الصوتي. فالغاية من التهليل أو التبنين هو جعل الطفل يتأثر بنبرات صوّت أمه الخافت الحنون لينتقل من عالم الوعي إلى عالم اللاوعي. وبـالرغم مـن بسـاطة الأغنية فإنهـا تبـين لنـا فـي إيجـاز مـدى تـأثر الوالـدة بالبيئـة المحيطـة بهـا، ومـدى تفاعلهـا مـع مـا يسـود فيهـا من مفاهيم أفرزتها المتغيرات الاقتصادية على الواقع الاجتماعي .وفي هذه الأغنية التي تهدهد بهـا الأم طفلهـا نلاحـظ كيـف يتفاعـل شـعور الأم وهـي تعبـر عـن أحاسيسـها الداخليـة بصـورة أدق وأسـرع مـن أي فـرد آخـر وبأسـلوب مباشــر تخاطــب طفلهــا الرضــيع الــذي ترعــاه وتســهر عليــه الليــالي لتحفظــه مــن بــرد الشتاء. كمـا تتجلـى الصـيغة الارتجاليـة فـي هـذه الأغنيـة حيـث تـأتي بكلمـات هــي فقــط مــن أجـــل خلــق نغمــة موســيقية حتـــى لا تتعرض للرتابة والملل. وعندما يحاول الطفل أن يقف بمفرده ويسير نحو أمه وهي تقف على بعد خطوات منه تشجعه على المشي، فتنشد الأم: “داديش داديش إنشاء الله تكبر وتعيش“، تكررها مرارا وهي تتراجع إلى الخلف لتهيئه لمشي مسافة أطول ثم تفرد ذراعيها لاستقباله. وقد اختلفت أغاني الأطفال بمقتضى الأحوال التي يعيشها الطفل والظروف التي تعيشها النسوة والأسر من مكان إلى آخر.
تختلف أغاني التربيج باختلاف جنس الوليد، فللذكور أغان خاصة بهم تشيد بالبطولة والشجاعة والفتوة والفروسية. وفي هذه الأبيات تتمنى الأم أن ترى طفلها وقد صار شابا ممتلئا حيوية ونشاطا ليكون سندا لها يخدمها ويرعاها. ولا يسعها الفرح بصغيرها الذي سوف يكبر بمشيئة الله تعالى، وسوف يبني بيته أمام بيتها كي تزوجه بفتاة صالحة تختارها له لتعمر بيته وتنجب له الأبناء ثم تدعو الله بألا يحرمها من رؤيته أبدا فتقول: “سعدي بيه وسعدي بيه أن شاء الله يكبر نفرح بيه وبيته قدامي بانيه وربي ما يشوقني فيه”. وفي نفس السياق تتمنى الأم ذاتها أن يكون ابنها ذو أخلاق عالية وتتوق لأن تكون صفاته مثل أعمامه وخلانه وأن يتمتع بشيم أبوه وجده في دماثة أخلاقه وحسن معاملته لجيرانه فتقول: “ان شاء الله وليدي كيف أعمامه الدنيا مفتوحة قدامه ان شاء الله وليدي كيف أخوالـه مرتـاح ومتهني بــاله ان شــاء الله يطلعلي كيف جده ما عمره عــالجـار اتعـده ان شاء الله يطلعلي كيف بـوه ما يلقوا بـاش يذمـوه”. وهناك أم أخرى ترى ابنها بعين الخيال وقد أصبح قادرا على جلب الرزق وعلى حمايتها من غدر الزمان وهي مستعدة لتحمل كل شيء من أجله لأنه ذو حكمة وشجاعة ومروءة فتغني له قائلة: “جبررا جبررا سكر ما فيه مراره ما أحلى تمر الجباره جابا ولدي لصغارى بالمنيي بالمنيي يركب جدع وبيــــه يرع البشمق والحولي مصبّع وعضمك مقفول مرادع عمار البيت عمار البيت وبعد إن طردوني ومشيت وفي قحف رغيوة ذليت ولولا وليدي ما وليت”(1). وتتضمن الأغنية دعوة الأم لطفلها كي يكون فارسا مغوارا بارا بها، يعمر بيتها ويأتيها بالزوجة الصالحة الطيبة ويرزق بالأبناء والأحفاد. لعل ذلك يخفف عنها ما عانته من أجل الحفاظ عليه والبقاء بقربه طيلة هذه السنين. فتغني الأم لطفلها وهي تتخيل مستقبله مع كل إيماءة أو ابتسامة تصدر منه، وبما تحمله من أمنيات رائعة يمتلئ بها قلب أم ترى المستقبل المشرق مرسوما في عيني وليدها. أما أغاني البنات فلها طابع آخر، إذ تحمل معانيها أمنيات لها علاقة وثيقة بمستقبلها وقرب زوج محب يرعاها ويعرف قدرها، ويتفنن في التغزل بمفاتنها وجمالها وعطفها مثل قول الأم: “زينها يا زينـها مثل الحرباء عينها مثل البرق جبينها عمري ما ريت مثيلها الكحّل مالي عينـها”(1). وهناك أغنية أخرى وصورة طريفة لخطبة الطفلة مستقبلا، وما تتمناه لها أمها من مهر فترقصها وهي تنشد: “ماية تسير وماية تغير وماية هزو كسوتها خمسة وثلاثين فقير إلي جوني في خطبتها وبوها حاير كيف ايدير باش يسلك غنّتها”(2). وتعبر هذه الأغنية عن المغالاة في مهر الفتاة تعزيزا لشأنها ومكانتها. وهي إحدى القيم التي لا زالت سائدة لدى بعض الأسر في مجتمعنا. إذ لن يقبل أهلها بأقل من مائة بعير ومائة رأس من الغنم ورغم كل ذلك فإن والدها تنتابه الحيرة لقبول مهرها من عدمه و لم يحتمل موقف العريس الذي لا يقدر قيمة هذه العروس.
كما تمارس الأم أثناء مداعبة طفلها الصغير لعبة “طباخ” محاولة منها لتحفيظ الطفل أسماء الأصابع وهي لعبة طريفة ومسلية تعتمد على التكرار الذي يفضله الطفل في سنواته الأولى. تؤديها الأم مع طفلها من أجل أن تعلمه بعض العلاقات بين الأشياء المحيطة به، والتفريق بين أصابع يده ووظيفة كل إصبع منها. وتتمثل صورتها في قيام أحد أفراد الأسرة بمشاركة طفل أو مجموعة من الأطفال في هذه اللعبة كما يمكن أن يمارسها الأطفال فيما بينهم. وهي لعبة من الألعاب الممتعة للطفل غالبا ما تدفعه إلى الترقب والضحك. علاوة على أنها من الألعاب التي تزيد من ارتباط الطفل بأمه لأنها تتميز بالتلقائية والبساطة وبالإمكان لعبها في أي وقت وفي أي مكان. فما أن يقترب الطفل من أمه حتى تجلسه بقربها وتحتضن يده وتمسح على كفه برفق وهي تردد “طباخ طباخ(3) أيدين وليدي سماح “، وتبدأ في طي الأصابع بالتوالي مع ذكر كل اسم منهم كالتالي: عند ثني الخنصر (اللعبة تبدأ دائما بهذا الإصبع): “هذا صغير صغيرون” عند ثني البنصر تقول: “وهذا حب التبرون” عند ثني الوسطى تقول: “وهذا طويل بلا غلا” عند ثني السبابة تقول: “هذا لحاس القصعة” عند ثني الإبهام تقول: “وهذا فقاس القملة”. وعندما تنتهي من طي الأصابع الخمسة، تطوي الأم أصابع كفها وتفتح السبابة والوسطى لتقوم بتمثيل هيئة المشي بالإصبعين مبتدئة من كف الطفل ثم تحركها نحو إبطه رويدا رويدا بتمثيل خطوات الفأر على ذراعه الممدودة، باستخدام أصابعها وهي تقول: “دب الفار يا حفار وينو حانوت العطار”، وبعد مسافة قصيرة تتوقف وتمسك بمقدمة شعر الطفل وهي تسأله: يا سارح الغنم مرقوش عليك شويهات؟ يرد الطفل: مرقو (أي مروا) كان انقص الجرة نلقاهمش؟ (تتبع الجرة)، تلقاهم، وتواصل تمثيل هيئة المشي المذكورة وهي تردد:“هذي الجرة وهذي البعرة وهذي الجرة وهذي البعرة”، فينكر الطفل ذلك مرددا: لا والله فتستمر في السير و تتوقف كل مرة وتسأله حتى تصل الى إبط الطفل فتدغدغه قائلة: “هاهم هاهم الشويهات، هاهم هاهم الشويهات“، فيضحك الطفل ويطلب إعادة اللعبة مرة أخرى وهكذا دواليك. وبالتالي فهي تعطيه أولى دروس الحياة في البيئة المحيطة به وأهميتها بالنسبة إليه بأسلوب مميز يدخل البهجة والسرور إلى قلبه.
لا شك وأن تلـك الأغـاني التي تلقـى علـى مسـامع الطفـل أثنـاء تنويمـه أو مداعبتـه وترقيصـه، تعـد مـن أصـدق الأسـاليب المتداولة فـي ترجمـة العلاقـات الاجتماعيـة وتوضـيح مكانة الطفل داخل الأسرة. خاصة وأن وظيفتها هي تغذية حسـه وتنشـيط خيالـه، وغـرس الفرح والبهجـة فـي قلبـه، فضـلا عن أهمية الحركة المرافقة للغناء في تنشيط الجسم. ويظهر أيضا دور اللعبة الغنائية في أنها تفيد الأسرة في تعليم أطفالها العديد من المهارات والقدرات البسيطة التي تتناسب مع مرحلة المهد كالمشي، والتصفيق وتعليمه أيضا في مرحلة موالية كثير من القيم التربوية التي توجه سلوك الفرد وأفكاره ومعتقداته في إطار العلاقات التي يحددها المجتمع وترتضيها الجماعة.
وغالبا ما يسهم هذا النوع من اللعب في إيجاد فرص التفاعل بين الأفراد والجماعات وتوطيد العلاقات والروابط بينهم في جو يتميز بالزهو والمرح والترويح عن النفس. فمن خلال الأهازيج والأغاني الراقصة، وأحاجي التسلية، سوف نجد صورة دقيقة وشاملة للمنظومة القيمية التي كانت تحكم حياة التونسيين في فترات التاريخ المتتابعة. ونجد صورة عن القيم التي كانت تسير حياة الأفراد: منها الصفات والشمائل التي ينبغي أن تتحلى بها المرأة، صبية وشابة وزوجة وربة بيت كالعفة والشرف والطهارة والصفات التي يحسن أن يتحلى بها الرجل، صبيا وشابا ورجلا عاملا منتجا وفارسا محاربا مدافعا عن المال والعرض والأرض. ثم نجد منظومة أخرى كاملة للعادات والتقاليد التي تحكم الحياة الجماعية داخل المجتمع الواحد ثم بين المجتمعات المختلفة. وسوف نجد دلالات أخرى رمزية كانت أو واقعية في مضامين هذه الألعاب إلى جانب تفصيلات مذهلة في دقتها وعمق تصويرها لطبيعة العقلية أو الذهنية التي كانت سائدة في المجتمعات التقليدية. ثم تصويرا مثيرا للتطورات المتتابعة التي عرفتها بعض العادات والتقاليد وبروز أنماط مختلفة من العيش وتعرض المجتمع التونسي لمؤثرات التغيير الاجتماعي الناتجة عن انتشار التعليم ووسائل الاعلام وغيرها. وعليه، فإن اللعبة الغنائية الشعبية كظاهرة تربوية هي جزء من نسق اجتماعي يقوم بدور وظيفي فى إعداد وتنشئة وتهيئة الفرد عقليا وأخلاقيا ليكون عضوا فى مجتمعه يحيا حياة سوية في بيئته الاجتماعية وهي عملية مستمرة لإعداد الفرد للتكيف الاجتماعي وإمداده بعناصر ثقافية.
4- ألعاب الأطفال الغنائية وظائفها ودلالاتها:
لقد حظيت هذه الألعاب بأهمية كبيرة في حياة الصبيان والفتيات، لأنها كانت خيارهم الوحيد للترفيه حيث لا توجد بدائل سواها في ذاك الوقت. وأن اللعب هو الوسيلة الطبيعية للطفل نحو تفهمـه لمشـكلات الحيـاة واكتشاف البيئة المحيطة به لتوسيع مدى ثقافته ومعلوماته ومهارته. ولم تقتصر ممارستها على الجانب الترفيهي فقط بل ذهبت إلى أبعد من ذلك فهي تنمي جميع جوانب الشخصية وتجعل الأطفال يقومون بآداء أدوار قيادية أو ألعاب جماعية أو ترديد أغان خاصة باللعبة ترافقها حركات متنوعة يتفاعل معها اللاعبين ويؤدونها عن طيب خاطر بتناغم عجيب(1). وتتعـدد ألعـاب الأطفـال والأغـاني المصـاحبة لهـا، وتتنـوع أشكالها وهي ذات أهمية كبرى حيث ترتبط بمرحلـة هامـة مـن مراحـل حيـاتهم. اذ يشـترك فـي اللعـب والغنــاء مجموعــة مــن الأطفــال يخضــعون لقواعــد معينــة تــنظم ألعــابهم. وتكون تلك الترديدات في مجملها من الأغاني المحببة للأولاد والبنات وهي تتوجه للجنسين معا، وتتوجه أحيانا للأولاد فقط، وأحيانا أخرى للبنات فقط. فأغنية اللعب(2) بطبيعتها بسيطة وقصيرة وسهلة اللغة واللحن والإلقاء يؤديها الأطفال أثناء اللعب وتتواءم مع إمكانياتهم الحركية والفكرية وحاجاتهم للعب والنشاط. كما هو الحال في لعبــة “دجاجة عمياء”حيث يتم إختيار أحد الأطفال ليقوم بدور الدجاجة ويقع تعصيب عينيه ويشكل الآخرون حوله حلقة وينحني اللاعب وهو يفتش وينبش في التراب. فيبادر أحد الأطفال بسؤالها:”علاش تلوجي“؟ (عما تفتشين)؟ فتجيبهم: على خرص بنتي. فيسألونها عن لونه؟ فتجيبهم: “أحمر هندي” ويستفسرون أكثر: “فاش مصرور“؟ فتجيبهم: “في محرمة عكري“، فيأخذ كل طفل في ضربها على رأسها ضربا خفيفا مرددا: “ها هو عندي خرص بنتك“، “ها هو عندي يا صاحبتي“. وهي تحاول أن تقبض على أحدهم ليحل محلها، فيفر الأطفال من حولها حتى لا يقع القبض عليهم. وفي ضوء ما تقدم تستمد هذه الألعاب أهميتها من الأغاني والحركات التي تصاحبها. فقد تكون هذه الأغاني تمهيدا لبداية اللعب أو لانطلاق المسابقة بين المجموعات. وفي الغالب تكون بعض الأغاني هي أساس اللعبة خاصة حينما يستخدم الأطفال الإيقاعات الكلامية من خلال ترديدهم لمجموعة من العبارات بآداءات خاصة أو تكوين صيحة لمقاطع كلامية يؤديها الأطفال فرديا أو جماعيا. وتعد هذه الأغاني عبارة عن حوار بين المجموعة واللاعب الذي يقابلها كما هو الحال في لعبة الصيد واللبة حين يحاول الأسد اختطاف أحد الأطفال قائلا: “أنا الصيد ناكلهم” فتمنعه اللبوة قائلة:” وأنا اللبوة نحميهم”، فيقول الأسد: “أح،أح دقتني شوكة”، فتجيبه اللبوة وأولادها:” تكذب تكذب يا كذاب” الأسد: “أنا ماشي لداري” الأم:”باش تاكلي صغاري، الأسد: “أنـا ماشي لحانوتي” الأم:”بـــاش تاكلي قوتي”. وأثناء هذا الحوار يحاول الأسد في كل مرة اختطاف أحد الأطفال الذين يحتمون بأمهم.
تنقسم الأغنية في هذا المجال إلى وظيفتين: أحدهما أغنية يراد منها تسيير حركات اللعبة وتنظيمها والثانية أغنية ترافق اللعبة ويكثر هذا النوع عند الفتيات. والكثير من هذه الترديدات يطلق عليها البعض أغاني هي ليست كذلك تماما، وإنما هي أقوال مترادفة ليس لها لحن مميز أو محدد(1). وهذا اللون يكثر عند الأولاد دون البنات، مثل لعبة “المنديل” حين يجلس الأطفال على الأرض في شكل دائرة، ويقوم من وقع عليه الاختيار بالدوران حول الجالسين وهو يحمل بيده منديل (قورنية) ويدور دورة كاملة وهو يردد “اندورالدورة بالقورنية”، فيردد خلفه الأطفال “فتح يا نوار عشية” وطيلة دورانه لا يجوز للأطفال الجالسين الالتفات أو النظر إلى الخلف. وأثناء دورانه يختار من الجالسين في الدائرة أحد الفتيان، وبخفة يد ودون أن يشعر بها أحد يقوم بوضع المنديل وراء الفتى الذي اختاره ويسرع بالدوران حتى يبتعد عنه تحسبا من أن يشعر بوضعه ويلحقه فيضربه به. ولا يخفى على كل لاعب فرحته وهو يغني أو يستمع إلى تجاوب الأطفال مع كلمات الأغنية وحركات هذه اللعبة أو تلك لما في ذلك من ارتباط بين صدق الكلمات ونبر الإيقاع، وطبيعة الحركات التي يؤدونها. وهكذا تكون اللعبة وسيلة للتماسك تساعد على تلبية الرغبة والاحتياجات وكأنها بذلك تشكل وحدة عضوية بين رغبة الطفل وإشباع حاسة الذوق لديه وحاجته إلى ما يحقق طموحه في اللعب وإمكان ما يكتسبه من لغة. وهي عوامل تسهم في خلق عضوية أساسها شد انتباه الطفل لسير اللعبة بوصفها مادة تجلبه إلى الترفيه والتثقيف والتربية.
لا تؤدي لعبة مرافقة لأغنية دون أن تهدف إلى غاية ما، فمنها يراد به قهر الخصم وإخضاعه وإذلاله ومنها ما يقصد به الدعوة إلى الربح والانتصار على الخصم ماديا أو معنويا ومنها يراد به التسلية بشكلها العام. وتنقسم هذه الأغاني إلى قسمين: أحدهما يؤديه الأولاد والثاني تؤديه البنات، مثل لعبة وصلنا ولا لا التي تتلخص خطواتها في أن تقف الفتيات في صف متراص، وتضع كل واحدة منهن يديها على كتفي صاحبتها مكونات كتلة واحدة من الأرجل والرؤوس. ومن ثم يسرن ضاربات على الأرض بأرجلهن منشدات: “وصلنا ولا لا وصلنا ولا مازالنا“، تكررها المجموعة مرارا إلى أن يصلن إلى المكان المقصود. وتلعب اللعبة بنفس الشكل من حيث طريقة المشي في بعض قرى الجنوب الشرقي، ولكن تصاحبها أغنية تحكي قصة غرامية بين قاضي، وبين فتاة تسمى عائشة. حيث تسير الفتيات وهن يرددن: “يا عيشة بنت خليفه يا جماره في ليفه يا شعرك دني دني زي سبيب الغزلاني(1) كان تعطيني سبيبه انرقع باها صباطي صباطي عند القاضي والقاضي ما هو راضي صبحت مرته غضبانه بالفوله والعصبانة يا خادم يا مصنانه عيشك فيه الذبـانه نحلف والله ما نذوقه كان كسيره محروقه من عند امي مرزوقه تحزمني بحزامها وتلزمني بلزامها“(2).
ويلاحظ هنا أن ألعاب الذكور الغنائية أشد تعقيدا وأكثر طولا من ألعاب البنات. وتتميز أغاني الألعاب ببساطة الألفاظ في تركيبها ولغتها ومعناها القريب إلى فهم الأطفال لأن قابليتهم اللغوية المحدودة ونظرتهم إلى ما يحيط بهم تختلف عن نظرة الكبار. وهي في الغالب تحكي قصة أو حدثا أو حكمة بشكل عفوي. وتتلاءم مع الحركات التي يقوم بها الأطفال سواء منها المتصلة بالجري والقفز أو التخفي وغيرها(3). كما أن للكبار أغنياتهم الشعبية المتعارف عليها وأيضا للصغار أغنياتهم لكنها لا تحمل نفس الهموم كما هي عند الكبار بل تحمل عفوية وبساطة وبراءة الصغار بتلقائية متناسبة مع الكلمة ومتفاعلة معها. لذلك نجد الأغنية الشعبية لدى الأطفال أكثر صدقا وأسهل حفظا من الأغاني الدارجة؛ هذه الأغاني التي غناها الأطفال في الأحياء الشعبية ورددوها في مناسباتهم المختلفة وحفظوها لغيرهم من الأطفال هي نفسها الأغاني العفوية الرائعة التي تعود بنا إلى ذكريات طفولة الماضي وتجعلنا نشعر بشوق وحنين لتلك الأيام. وغالبا ما يحبذ الأطفال هذا النوع من الأغاني لأنها ترتبط بالحركة أثناء الغناء فهي لون من ألوان نشاطهم قبل أن تكون مجرد ألعاب وأغان. إذ ترتبط بوجود مجموعة من الأطفال يخضعون لقواعد معينة تنظم سير نشاطهم. وتبدو هنا أهمية الأغاني في كونها تقوم بدور أساسي في تنظيم حركة اللاعبين. والأغنية أثناء اللعب لا تصاحبها الآلات الموسيقية بل تردد تلقائيا من قبل الأطفال فتضفي عليهم أجواء الألفة والمحبة والفرح أثناء تواجدهم مع بعضهم البعض. وهي بذلك ذات وظيفة اجتماعية هامة تتمثل في تحقيق الترابط بين الأطفال من الجيل الواحد، والحي الواحد، وحتى داخل الأسرة ذاتها. ثم تعود الأطفال على احترام النظام والالتزام بما تحدده وما تتطلبه قواعد اللعبة وأصول اللعبة الجماعية التي لا يمكن أن تكون فردية بالمرة. كما تساهم هذه الألعاب في التدريب العملي للأعضاء والحواس لدى الأطفال لتكون بمثابة تمارين تلقائية لتكوين مهاراتهم الحركية والحسية والعقلية، وتنمية إمكانيات ومواهب الأطفال الصوتية واللفظية وقدرتهم على الارتجال والإبداع وخلق كلمات وألفاظ من وحي خيالهم تتناسب مع إيقاع اللعبة ونمط سيرها.
وهناك بعض الألعاب ترافقها أغان بها بعض الألفاظ أو الكلمــات غير واضحة معــــــــــــانيها وليس لها تفسير متعارف عليه أو ترمز إلى شيء معين، ولكن يمكن تأويل دلالاتها مثل (لعبة adododo)، وهي من الألعاب الحركية التي يحبذها الأطفال ويؤدونها في فضاء رحب وتتمثل صورتها في دوران طفلان وهم يرددان هذه الكلمات:
” Adododo Anaxinaxido Aci sinimatta Aman Aman Aho” (1) ثم يغيران الاتجاه بتغيير تشابك اليدين اليسرى لكل منهما يردد نفس الكلمات. وفي مرحلة موالية يجلس أحد اللاعبين على الركب، ويضع الآخر يده فوق رأس صديقه ويبدأ في الدوران حولـــــــــــــــــــــــــــــــه مرددا نفس الكلمات، وإثر الانتهاء منها يدور اللاعب في الاتجاه المعاكس وبعد ذلك يقع تغيير الأدوار بين اللاعبين. ومن بين الألعاب الغنائية التي المتعارف عليها عند الأطفال نذكر: لعبة الدوار رحل، لعبة جميلة يا جميلة، ولعبة عيش للا، وتتمثل صورتها في تجمع الفتيات في ساحة البيت وتعين إحداهن لتمثل دور الأخت الكبرى وتلقب “بللا” (لقب تكنى بها الأخت الكبرى أو الخالة أو العمة). تقوم هذه الأخيرة بتسوية كدس من التراب و تحفره من الوسط فيأخذ شكل “العصيدة”. ثم تضع فيه نواة أو حجارة وتخفيها تحت التراب حتى لا تتفطن لها اللاعبات. بعد ذلك تنادي هذه اللاعبة بقية الفتيات فيتحلقن حول ذلك الكدس ويحركنه بأصابعهن موهمات تلك اللاعبة بالأكل. فإذا عثرت إحداهن على تلك النواة تصيح قائلة: “دودة، دودة” ثم تقف بقية الفتيات ويصحن بأصوات عالية: “عيش للا فيه الدودة“(1)، تكررنها مرارا عندها تمسك الأخت الكبرى عصا وتجري وراءهن محاولة إمساكهن ومعاقبتهن على ذلك السلوك. في حين تواصل الفتيات الصياح لمزيد استفزازها.
وهكذا، فإن هذه الألعاب قد نشأت أساسا من أجل أن تلائم حركات الأطفال من جري وقفز وتخضع لإيقاع حركات الأطفال أثناء اللعب. ومع ذلك فإن الكثير من هذه الأغاني لا يعرف أحد معانيها. وتأتي لعبة “دار السلطان” كمثال للعب الجماعي حين يجلس الأطفال على شكل دائرة ويضم القائد قبضة يده ويترك الإبهام مرفوعا كي يمسك به اللاعب الآخر، وهكذا حتى يكونون بأيديهم هرما مرتفعا عن الأرض. يبدأ قائد اللعبة في عد أصابع الأطفال المضمومة واحدا بعد الآخر مبتدئا من الأسفل، وهو يسأل عند كل إصبع “هذي شنية”؟ فيردون عليه في كل مرة باختيار اسم طريف بهدف الإضحاك والتسلية وهكذا حتى يصل إلى أعلى إصبع. وهنا تبدأ المرحلة الثانية من اللعبة بأن يمسك قائد اللعبة الإصبع الأعلى في الهرم و يجري الحوار التالي بين قائد اللعبة وبين اللاعبين:“هذي شنية(2) ؟ دار السلطان آش فيها ؟ خوخ ورمان وين قسمي؟ في الزريبة والزريبة وين؟ كلتها النار والنار وين؟ طفاها الماء والماء وين؟ شربه الثور والثور وين؟ ذبحه الموس والموس وين؟ عند الجزار والجزار وين؟ انحصر حصرة طاح مات”(3) وعند هذه المرحلة تعاد الخطوة السابق ذكرها في لعبة(4) مديق وذلك من أجل تدفئة الأيدي. وتتنزل لعبة “الداش” في إطار إحدى المعتقدات الشعبية التي كانت سائدة حينذاك في بعض الجهات وصورتها تنطلق بوضع طفل صغير عاجز عن المشي في قفة، وتقوم الأم بوضع قطعة من القماش داخل القفة كفراش لصغيرها. ثم يحمل لاعبان هذه القفة وينطلقان في التجوال بها داخل أزقة الحي وشوارعه وتتبعهما مجموعة كبيرة من الصبية. وفي الأثناء يتوقف هؤلاء الأطفال أمام كل بيت يمرون به مرددين الأغنية الآتية: “داش داش بن عبـاس غز القليـة بـلاش اعطوني قلية للحبشي باش غدوة يصبح يمشي”. وعندما تسمع صاحبة البيت هذه الأغنية تخرج إليهم حاملة ما تيسر من القمح أو الشعير أو الزيت وتعطيه للصبية فيأخذونه ثم يواصلون تجوالهم إلى أن يبلغوا البيت السابع الذي تنتهي عنده اللعبة. فيعود الأطفال إلى بيت الطفل الذي يحملونه لتقوم والدته بطهي الطعام من المواد التي جمعها الأطفال وتوزيعه على كل المشاركين في اللعبة(1).
وهنالك ألعاب غنائية يرددها الأطفال في المواسم، ومنها لعبة شايب عاشورة التي تلعب في العشرة الأيام الأولى من شهر محرم ويشترك فيها العديد من أبناء وبنات الحي، يلبس أحد الأطفال زيا تنكريا ويضع على وجهه قناعا يمثل شيخا كبيرا له لحية طويلة بيضاء من الصوف أو القطن وله شارب طويل أبيض ويحمل عصا طويلة. وتنطلق اللعبة حينما يتقدم الشيخ الموكب راقصا على أنغام الطبل معتمدا على حركات مضحكة ويردد بمعية الأطفال: “شايب عاشورة حني كول الوزف وغني على مرا هجالة كلاها الذيب خسارة”. يجوب الموكب منازل الحي وكلما اقترب من أحدها يقف الأطفال مرددين الأغنية السابقة فتخرج ربة البيت لتعطيهم من الفول وتجود عليهم بما تيسر من خير البيت، فيمدحون كرمها قائلين:“هذا حوش البوبشير فيه القمح والشعير، هذا حوش عمنا يعطينا ويلمنا، هذا حوش سيدنا يعطينا ويزيدنا”. فإن لم تعطهم ربة البيت شيئا وهذا نادر ما يحدث إلا إذا نفذ ما عندها من حمص وفول من البيت، فإنهم يقفون أمام الباب ويذمونها مرددين:“هذا حوش البوزنان فيه القمل والصيبان”، ثم يغادرون المنزل مرددين: “هذا حوش بم بم كسارين سبع برم”. وهكذا يستمر الطواف بمنازل الحي الواحد تلو الآخر وفي النهاية تجمع الغنائم ويطهى بها طعام للجميع تسمى في ام العرايس (الخيلوطة).
كما يحتفل الأطفال في بنزرت بمناسبة عاشوراء بلعبة النبيلة حيث يردد الأطفال أثناء القفز على النار: “يا النبيلة باب الله حجوا بيت رسول الله مصراني مصران أحرف خلاني ما نتصرف خلاني في الزنقـــــة انحف وادميعــــــاتي شرتله هــاي جات وهـــــاي جات هز خلاخل هـاي دوات يا مولات الحـوش جديد حبلك يرجح بالقديد اعطيني عاشورتي لا نهز مخروقتي“.
لقد ذهبت “سكينة ابراهيم” إلى أن المتأمل في هذه الأغاني والتعبيرات يدرك تماما بأنها نتاج فكر إنسان بعيد النظر، ومن المستبعد أن تكون صادرة عن عقل طفل صغير لا يزال عاجزا عن التفريق بين الحقيقة والخيال. لذلك فإن معظم هذه الترديدات والتعبيرات التي ترافق اللعبة هي نوع من التنفيس عن القمع والكبت الذي يعيشه الطفل أو الشاب دون أن يكون قادرا على إشباع رغباته وتلبية احتياجاته(1). لذلك، يمكننا ملاحظة ما تتسم به الألعاب الغنائية من رموز يصعب أحيانا تفسيرها. ويصبح المهم في دراسة هذه الألعاب هي وظيفتها وما تؤديه بالنسبة للأطفال من تنظيم حركتهم وتسليتهم والترويح عن نفوسهم.
وكل ذلك ينبع من أصالتها والعلاقة الوثيقة بين النص والحركة والإيقاع حيث أن النص واللحن يتوافقان معا بطريقة سلسة جميلة فهما يرتبطان بأسلوب واحد ومن أمثلة ذلك: “دار الذيب عالنجات قالوا جاء قالوا مات“.
تصاحب الألعاب الغنائية مثل لعبة هلي هلي ولعبة الدوار رحل حركات جسمانية متنوعة تعبر عنها مثل التصفيق والدق بالأرجل على الأرض والقفز على رجل واحدة والدوران حول النفس وغيرها. وقد يصاحب هذا النوع من الألعاب مهارات كالرمي والمسك والمشي وتبادل الكرة وألعاب رياضية أخرى.
كما تؤدي الألعاب الغنائية إلى إكساب الطفل قدرات لفظية ولغوية؛ الأمر الذي ينعكس إيجابا على ضرورة إنعاش قدرات الطفل الذهنية، وتحقيق نموه المتكامل. أضف إلى ذلك أن هذه الألعاب وأغانيها تشكل لديهم نوعا من التنفيس والترفيه والمرح النفسي، كتعبيرا عما يختلج في نفوسهم من انفعالات، فتلتحم بذلك صورة الحركة مع اللعب بالحركة واللعب بالصوت مع الأداء، إلى جانب حركات إيقاعية لابد منها حتى تتطابق الحركة مع اللحن مما يكوّن لدى الطفل تربية جمالية تثري عالمه المادي والخيالي.
وبتنوع الألعاب ومناسبات أدائها وما يصاحب بعضها من كلمات وأغاني تتنوع المواقف التعليمية، حيث يمر الطفل بالعديد من الخبرات والمواقف الشعورية التي تعزز عملية التعلم. فبترديد الطفل للألفاظ والجمل والعبارات المحملة بأحاسيس ومشاعر جياشة في مواقف الحياة المباشرة تجعله يقوم بعدة عمليات داخلية معقدة. فيقوم بتحويل الصور الحسية إلى مدركات عقلية أو فكرية ويعمل على ربط الكلمات بالأداء، وربط الأصوات بالحركات ثم يسعى إلى فهم مشاعر أقرانه ومسايرتهم. ويجد في هذه المواقف منفذا لتصريف الانفعالات التي يعاني منها عندما يقوم بأدواره في اللعب والغناء(2).
وفي أغلب الأحيان نجده يقلد أقرانه بصورة تلقائية أو ميكانيكية، أي بدون فهم حتى يتغلب على مظاهر الضعف لديه أو لنقل التغلب على مشاعر التوتر من عدم فهم موقف من المواقف محاولا تكراره حتى يستوعب المعاني والدلالات الناتجة عنه. وما ألعاب الأطفال الغنائية إلا وسيلة لتعلم العادات والتقاليد، والقيم والاتجاهات، والقيام بالأدوار وكل ما من شأنه مساعدة النشء على تكوين شخصياتهم المستقلة، المندمجة في حياة المجتمع والمتكيفة معه. كما أن اللعب بوجه عام يعبر عن الحالة النفسية للطفل تعبيرا صادقا لما يمتاز به من صفات الحرية والتلقائية المصحوبة بالمتعة وهو يدفع الطفل إلى الاستمتاع والتنقيب والابتكار ويكسبه الخبرة تلو الأخرى، ولهذا يعتبر اللعب وسيلة للنمو، وهو رمز للصحة النفسية.
إلى جانب ذلك، فإن ما يتلقاه الطفل من خبرات في مراحل حياته الأولى يسهم في تكوين حسه الإبداعي وميله إلى الخلق بعد أن ننمي فيه روح المبادرة. وتمثل ألعاب الأطفال الغنائية الشعبية جزء من هذا التواصل، بل هي خير دافع نستقي منه انطلاقة الطفل الإبداعية بوصفها أقرب إليهم وأكثر ما يعكس واقع حياتهم. وعليه، تشير وظائف ألعاب الأطفال إلى حاضنتها التربوية ودلالتها الاجتماعية فهو لعب يتحول إلى وسيلة للطفل نحو تفهم مشكلات الحياة واكتشاف للبيئة المحيطة به وسبيله إلى توسيع معارفه ومهاراته. ثم تغدو بدورها عاملا من عوامل التكيف اللازمة للطفل في بيئته والتي يتوسل بها لتحقيق أغراضه ومآربه.
وعلى أية حال ينبغي أن تساعد هذه الألعاب الطفل على السلوك المقبول اجتماعيا كاحترام مشاعر الآخرين والتفاعل معهم وتكون وظيفة اللعبة في هذه الحالة أقرب إلى وظيفة المنظومة التربوية والثقافية. ويرى بعض الدارسين أن أغلب الأغاني الجماعية المصاحبة للألعاب في المنزل وخارجه وفي المدرسة وخارجها تكشف عن الصراع البيئوي في تركيب الأسرة ونمطية رب الأسرة والعلاقة الحميمية أو النافرة بالأم أو الزوج أو الأخوات. إذ تحمل هذه الأغاني الإسقاط النفسي للأم على الطفل وحين يشب الطفل على نغماتها فالمؤثر اللاشعوري والشعوري يفعل فعلته سلبا أو إيجابا وغالبا ما يعكس هذا الإسقاط صورة وضع المرأة في مجتمعها وفي بيئتها(1). واللعبة الغنائية تقوم بتخليص الأطفال من الضغوط والتوترات وتمكنهم من التعبير عما يختلج في نفوسهم بكل عفوية وتلقائية. وبالتالي، فإن لعالم الأطفال تقاليده الخاصة وعاداته التي يمارسها الأطفال أثناء لعبهم ومرحهم ولا تزال هذه التقاليد والعادات نشطة فعالة ومفعمة بالحياة بالرغم من التطور الحضاري الذي يسود المجتمع في جميع نواحيه وحتى عالم الطفل نفسه. ولعل بعض الألعاب تحوي دلالات واقعية كثيرة منها أن القوي هو الأبقى ونجد ذلك في لعبة دار السلطان، وهناك بعض الألعاب الأخرى التي تحوي مدلولات واقعية، منها لعبة حاكم جلاد أو لعبة الجلاد حتى تحوي الاثنتان هدفا وحكمة تقول أن الملك أو الوزير لا بد أن يسقط ويأخذ مكانه واحد من عامة الشعب ثم يسقط هذا الأخير وهكذا فالزمن دوار لا تبقى الأحوال لأحد كما هي عليه. وهناك ألعاب أخرى تحوي بعض الدلالات الواقعية، منها لعبة سرسوق نمال، لعبة بوهروس، لعبة التربيج والترقيص، لعبة امك طنقو ولعبة يا مطر يا خالتي وغيرها. كل هذه الألعاب لا شك أنها تحمل معان كثيرة ودلالات واقعية، صحيح أنها من التقليد لكن هذا التقليد متطور لاسيما أن الطفل يرى الواقع بأجزائه الواقعية ويقلده دون مبالغة أو دون تخيل أسطوري له.
وفي شأن آخر نعتقد أن الطفل منذ زمن بعيد كانت تتفتح عيناه لترى وتسمع أن استعمارا يجثم على أرضه ولذلك لم تخل أغانيه وألعابه من دلالات وطنية أو نضالية. ونلمس تطورا ملحوظا على المضمون الوطني لاسيما في فترة الاستعمار ومن ثم عند انطلاق النضال من أجل تحرير الأرض من براثن الاستعمار على مدى سنوات طويلة. فمن خلال لعبة زوز حدايد أو لعبة العسكر يظهر التلميح ليعبر عن نقمة اللاعب على الوضع السائد قبيل أو بعيد الاحتلال الأجنبي الفرنسي لتونس وكذلك لعبة الشفطة التي تتضمن إشارات من قبيل الحس الأولي للتعلق بالأرض والوطن والقبيلة وغيرها. وكما قلنا في البداية أن الطفل يتطور مع ألعابه والأغاني التي ترافقها تطورا ملحوظا، كتعبيرا عن أحواله وما يعتمل بنفسه إلى درجة أنه يصبح قادرا على أن يبدع الأغاني والحركات المعبرة عن فكره وأحواله وواقعه الذي يعيش فيه. وأخيرا يتضح لنا أن اللعبة الغنائية الشعبية تقوم بوظائف اجتماعية متعددة كالحفاظ على أنماط السلوك والمعتقدات الشعبية والأشكال التي استقرت فى المجتمع وارتضاها أفراده. وتعمل اللعبة على خلق حالة من القبول لدى أفراد اﻟﻤﺠتمع.
وهذه الوظيفة التعليمية لا تقوم بنشر أنماط السلوك فقط ولكنها تقدم مبررات وجود هذه الأنماط واستمرار الممارسات السلوكية والأفعال الاجتماعية. كما تحقق اللعبة الغنائية العديد من الغايات الأخلاقية والسلوكية والتعليمية وتؤدى وظيفة تدريبية لاستيعاب العادة أو التقليد أو لاكتساب قدرة ذهنية أو جسمية وهي تحقيق متعة فنية لمن يؤديها أو يمارسها وتقوم كذلك بتحقيق قدر من الضبط الاجتماعي.
خـاتمة:
إن دراستنا لألعاب الأطفال الغنائية في بلادنا تبين لنا أنها تمثل جزءا لا يتجزأ من ثقافة المجتمع. فلا عجب أن تكون الألعاب وسيطا يمكن الفرد من تشرب ثقافة مجتمعه واستيعابها والتأثر بها من خلال الممارسة. ومن ثم يتفاعل معها في أوقات فراغه ليكتسب السلوكات الاجتماعية التي تتماشى مع العادات والتقاليد والقيم التي يفرضها المجتمع. كما تعتبر هذه الألعاب جزءا هاما من الوسائل الترويحية التي تعمل على تطوير قدرات الفرد من النواحي العقلية والبدنية والوجدانية. وبالتالي، فهي سند للصحة العقلية والنفسية لما لها من مميزات هامة وخصائص هادفة يجد فيها الفرد هوايته التي تتماشى مع قدراته وإمكاناته وتشبع ميوله وتلبي احتياجاته. وكذلك من حيث الخصائص والسمات الموحدة في التركيب والبناء اللحني والتسلسل النغمي ومن حيث التشكيل الحركي الذي يعتمد على حركات الجسم وأصوات الأطفال. وعليه، فقد ساهمت ألعاب الأطفال الغنائية الشعبية في بناء الشخصية الاجتماعية وتربيتها من جميع مناحيها وبمختلف أبعادها. وأدت إلى عهد قريب أدوارا هامة في تأطير الموروث الثقافي المرتبط بهذه الممارسات النابعة من الحياة اليومية. إضافة إلى دورها في تنمية الشخصية الفردية والجماعية في مختلف أبعادها بالنظر إلى الوظائف التربوية والاجتماعية والثقافية التي تضطلع بها. فضلا عن دورها في نقل العادات والتقاليد والمهارات بصورة طبيعية وتلقائية من جيل إلى جيل مشكلة بذلك بعض ملامح ثقافة شعبية غنية بالمعاني والدلالات الإنسانية والاجتماعية، ومؤكدة بذلك أهمية الانتماء والارتباط بالأرض والوطن.
ولا ننسى أن هذه المادة الشعبية غالبا ما تكون متخمة بالقيم والمثل والعادات الأصلية والثقافة الحقيقية كونها الوسيلة الأساسية التي تحافظ لنا على سلوكيات وممارسات وحقائق الشريحة المجتمعية. كما ساهمت بدورها في رسم الصور والمشاهد اليومية بمختلف طقوسها ومناسباتها اذ رافقت تلك المفاصل الانفعالية والوجدانية في جوهر طبيعة الفرد والجماعة واستطاعت المحافظة على جذورها ونصوصها وحركاتها الجسدية.
وأخيرا، نخلص إلى أن الألعاب الغنائية تمثل الصورة الحقيقية للأدب الشعبي عند جيل من الأجيال. والنصوص كما نقلناها من الكتب أو من الرواة هي في حد ذاتها انعكاسات لثقافة أبناء وبنات هذا الوطن لما تتضمن من معاناتهم في عصور متباعدة، حيث نرى ما تعانيه الفتاة والمرأة في المجتمع وأماني الأم لأطفالها عندما تغني لهم وكذلك ما كان يعانيه الناس من صعوبة البحث عن لقمة العيش وغيرها. لذا، يتضح أن اللعب الغنائي الشعبي لا ينفصل عن الواقع في شكله ومضمونه، وأن العلاقة بينهما ليست علاقة مجردة، بل هي علاقة تفاعل جدلي بين طرفين تتولد منهما حركة الواقع. في حين لم تكن هذه الرؤيا للعب الغنائي الشعبي بهذا الوضوح لدى كثير من الباحثين، الذين اكتفوا فيها باستخدام الموروث استخداما لا يبتعد كثيرا عن القشرة الخارجية له؛ لذلك لم يقدّر لهم أن يستوعبوا مضامين هذا الموروث الذي يتيح لممارسيه مساحة من حرية التعبير عن الرأي سواء باللفظ أو بالحركة أو بالغناء للتخلص من الضغوط التي يفرضها الواقع.
قائمة المراجع
1- ألكسندر( كراب)، علم الفلكلور، ترجمة مرسي صالح، وزارة الثقافة المصرية، دار الكتاب، القاهرة،1891.
2- ابراهيم (سكينة بن عامر)، طيارة ورق: كنوز من ألعاب الأطفال الشعبية في الوطن العربي، دار طيبة للنشر القاهرة،2002.
3- الباش(حسن)، الأغنية الشعبية الفلسطينية، دار الجليل، دمشق، 1979.
4- قادربوه (عبد السلام)، أغنيات من بلادي، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ط 2، طرابلس،1977.
5- فاروق (أحمد مصطفى)، الآنثروبولوجيا ودراسة التراث الشعبي، دار المعارف الجامعية، الإسكندرية، القاهرة ،2002.
6- شلابي (سالم سالم)، ألعابنا وأحاجينا في ذاكرة الزمن، مكتبة البستان، طرابلس، 1996.
7- الراوية: فاطمة لبيض من مواليد 1949، بمارث.
8- حطيط (فادية)، أنواع اللعب، أنظر موقع : consulté le 17/04/2018 http://www.laes.org/_publications.php,
9- التليلي (أمل)، الأغنية الشعبية في تونس، سليانة نموذج، انظر موقع: http://elsada.net/41148, consulté le10/10/2020.
10- Arnita, Yasser Gohar, Folklore in Palestine, Palestine Liberation Organization, Research Center, Palestine ,1968.
11- Bourgon, L., Proulx, M., Hohmann, M. et Weikart, M. Partager le plaisir d’apprendre, Gaétan Morin, Éditeur. Québec, 2000.
12- Chamberland Gilles & Provost Guy, Jeu, simulation et jeu de rôles, Presses de l’Université du Québec, Sainte-Foy, 1996.
(1) – Arnita, Yasser Gohar, Folklore in Palestine, Palestine Liberation Organization, Research Center, Palestine ,1968.p.32.
(2) – ألكسندر كراب، علم الفلكلور، ترجمة مرسي صالح، وزارة الثقافة المصرية، دار الكتاب، القاهرة،1891، ص122.
(3) – ألكسندر كراب، المرجع السابق (بتصرف)، ص111.
(1) – فاروق( أحمد مصطفى)، الآنثروبولوجيا ودراسة التراث الشعبي، دار المعارف الجامعية، الإسكندرية، القاهرة ،2002، ص110.
(2) – التليلي (أمل)، الأغنية الشعبية في تونس، سليانة نموذج، انظر موقع، consulté le10/10/2020 http://elsada.net/41148
(1) – الراوية: فاطمة لبيض من مواليد 1949، بمارث.
(1) – التليلي (أمل)، الأغنية الشعبية في تونس، سليانة نموذج، المرجع السابق.
(2) – الراوية السابقة، فاطمة لبيض.
(3) – طباخ: كلمة لا معنى لها تستخدم لحفظ الإيقاع والوزن.
(1) – Chamberland Gilles & Provost Guy, Jeu, simulation et jeu de rôles, Presses de l’université du Québec, Sainte-Foy, 1996, p 170.
(2) – تعد الألعاب الغنائية ألعابا خاصة ومميزة لكونها تحتوي على نصوص غنائية تكون في الغالب تلقائية مصدرها الأطفال وعادة ما تكون موسمية وذات أبعاد واقعية مثل لعبة أمك طنقو الشهلولة البهلولة إن شاء الله تروح مبلولة. وهي تمثل دعوة لطلب الغيث النافع أو يا مطر يا خالتي صبيلي على قطايتي قطايتي مبلولة بزيت الزيتونة، كتعبير عن الفرح بقدوم المطر أو بعض الألعاب الأخرى التي تعتمد على الحركة والنشاط أو من الأغاني التي تقوم بدور التمهيد للعب مثل ألعاب القرعة. ويستخدم الأطفال هذه الأغاني في ألعابهم لتنظيم حركتهم ولإختيار من يقع عليه الدور في اللعب أو في البحث عن رفاق اللعب مثل لعبة (الغميضة) وغيرها. ونجد في بعض الألعاب أن الأغنية ليست لها علاقة بمضمون اللعبة وهذا ما يدلنا على أنها من الأغاني الممهدة للألعاب وعدم الارتباط الموضوعي بين مقاطعها هو السائد. ونحن نرى أن عدم الربط والترابط ناشئ عن كون الأطفال لا يلتفتون إلى المعنى بقدر ما يهمهم تسيير حركة اللعبة وأداء الأغنية بمناسبة اللعبة ولا نرى أي رابط أحيانا سوى الإضحاك والتسلية وإضفاء روح الدعابة على جو اللعبة.
(1) – يختبر الطفل في هذه الألعاب عدة طرق في التواصل مع جسمه إما بواسطة الحركات أو الإيماءات أو الكلمات. حين يتحرك الطفل مع الايقاع وتبعا للانفعالات ويمكن تدريب الطفل على مثل هذه الألعاب في عمر مبكر جدا مثل اللعب المسرحي و ألعاب الرقص والغناء وغيرها. ويساهم هذا النوع من الألعاب في إطلاق طاقات الطفل وفي تدعيم قدراته الشفهية والصوتية واللفظية. انظر: فايدة حطيط، أنواع اللعب، http://www.laes.org/_publications.php
(1) – شعرك دني زي سبيب الغزلاني: كناية عن الشعر الطويل الناعم مثل شعر الغزلان.
(2) – نلاحظ هنا أن الأغنية متعددة الأغراض فهي تصور مواقف البنات من الحياة وتبرز عواطفهن وانفعالاتهن بأسلوب أخاذ يصل تأثيره إلى أعماق النفوس. فكثير من الأغـاني الخاصة بالبنات تحمل في طياتها أمنيات بالزواج والاستقرار، وهذا ناتج عن التركيبة الاجتماعية للمجتمع التي تحبذ الزواج المبكر، و تمني الفتيات بعريس مناسب مثل القاضي الذي يحتل مكانة اجتماعية ودينية و اقتصادية مرموقة. انظر:
قادربوه (عبد السلام)، أغنيات من بلادي، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ط 2، طرابلس،1977، ص62.
(3) – كانت أغنية الطفل الشعبية ذات نكهة خاصة تميزت بها معانيها وموسيقاها التي أوجدتها عفوية الأطفال إضافة إلى ما تحفل به من دلالة اجتماعية غنية عن المجتمع وتطوره وحياة الأسرة وبيئتها على الرغم من قصر كلماتها وصغرها وبساطة معانيها. وقد عبّر الأطفال عن هذه الكلمات بحركات عفوية يؤدونها في سياق اللعبة. وهي كلمات تحرك الأحاسيس وتزيد من التفاعلات الاجتماعية والشعور بالانتماء واكتساب التجربة، علاوة على أنها تحمل الطفل إلى عالم خيالي تتجسم من خلاله الأحداث التاريخية والثقافية وبقية المناسبات الجماعية. انظر:
– Bourgon, L., Proulx, M., Hohmann, M. et Weikart, M. Partager le plaisir d’apprendre, Gaétan Morin, Éditeur. Québec, 2000.
(1) – نلاحظ أن هذه العبارات التي تردد أثناء اللعب لا معنى لها وربما كانت من اختراع الصبيان واكتسبت مفهوما خاصا بينهم للدلالة على لعبة معينة. وهي كلمات ليس لها معنى محدد تدل عليه ولا يوجد لها دلالة في المعاجم الفرنسية أو غيرها، وإنما اكتسبت مفهومها من الواقع وأصبحت ترمز إلى شيء معين. ولعل الكلمة الأولى تحمل مفهوم الدوران الجماعي لأن اللعبة تغلب على مراحل سيرها هذه الحركات. وأضيفت إليها الكلمة الثانية لكي تؤدي دورا موسيقيا لفظيا في نفس السياق يشعر بانتهاء العبارة، فلا تقال كلمة وحدها وهي بحاجة إلى كلمة أخرى على نفس الميزان ثم تتوالى بقية الكلمات على نفس الوتيرة.
(1) – تقدم لنا الكلمات المصاحبة للعبة بنتا تغني مع صديقاتها وتنتقدن (العيش) الذي طبخته الأخت الكبرى لهُن وكأنها تتحدث نيابة عنهن بأنهن لا يرغبن في هذه الأكلة لأنها أكلة طبخت معها دودة، فيسأمن منها لعدم صلاحيتها للأكل. وهي تعني ضجرهم منها فقد طفح الكيل من كثرة تكرار طبخها لطعام لا طعم له ولا رائحة، وما عليها إلا أن تقوم برمي هذه الأكلة في القمامة. لذا يمكن القول بأن هذه الأغنية تعد متنفسا حقيقيا لهؤلاء الأطفال وتعبيرا عما يحسون به، فهي تحمل في ظلالها معان كثيرة معبرة وهادفة.
(2) – دونتها “سكينة ابراهيم” وسمتها “هذي شنية“، ووصفت مراحل سيرها بنفس التفاصيل وأذكر أنها من بين الألعاب التي كنا نمارسها في مخيمات الكشافة منذ سنوات بنفس الطريقة التي ذكرت تقريبا. انظر: ابراهيم (سكينة بن عامر)، طيارة ورق: كنوز من ألعاب الأطفال الشعبية في الوطن العربي، دار طيبة للنشر، القاهرة، 2002.ص119.
(3) – مصدر الأغنية: شلابي (سالم سالم)، ألعابنا وأحاجينا في ذاكرة الزمن، مرجع سابق، ص ص194-196.
(4) – نشير أيضا إلى أنه على الرغم من أن اللعبة بسيطة من حيث آدائها وحركاتها ومع ذلك نلاحظ أن هذه الأغنية المصاحبة لها لا تخلو من فكاهة وحكمة وأنها تروي شبه حكاية في قالب غنائي خفيف. ويتبين من خلالها أن هناك دلالة رمزية واضحة تحمل معان كثيرة وهادفة مستوحاة من واقع الحياة الاجتماعية. وهي أنه لا يوجد قوي إلا ويوجد من أقوى منه إلى أن يصل الأمر إلى موت الجزار في إشارة إلى قدرة المولى عز وجل على أخذ روحه وحلول أجله.
(1) – لا شك أن اللعبة تعبر عن أحد المعتقدات الشعبية التي احتلت عقول الناس منذ زمن بعيد وأمسى التسليم بها والخضوع لحكمها بديهيا إلى درجة أنها أصبحت من المسلمات التي لا يمكن أن يرقى إليها الشك ولا يمكن تجاهلها كحقيقة ويقين. فقد أخذت هذه المعتقدات سبيلها إلى قلوب الناس واقتنع بها عامتهم وخاصتهم. فهي إذا مستوحاة من البيئة الاجتماعية ومن أثر تعليم الآباء لأبنائهم إلى أن رسخت في الوعي وأضحت جزءا هاما من الوجدان الشعبي. فكلها إذا مكتسبة لم يكن للطفل دورا في صنعها شأنها شأن المعتقد الذي ورد في اللعبة، وأصبحت هاجسا يشغل بال الناس فيشعرهم بالتفاؤل والفرح أحيانا والخوف والتشاؤم أحيانا أخرى.
(1) – ابراهيم (سكينة بن عامر)، مرجع سابق، ص80.
(2) – يتضح أن خلق النصوص الغنائية وإبداعها يساعدان على صنع الفكر حسب ما ذهب إليه “حسن الباش” لأن النصوص الغنائية والألعاب لا تخلو من محتوى فكري على الإطلاق فهي معبرة إما عن قصة أو حركة أو مثل أو حكاية. وهي الدالة على مستوى التفكير لدى الطفل، طموحاته وحاضره وأمانيه الآنية والمستقبلية. انظر: الباش(حسن)، الأغنية الشعبية الفلسطينية، دار الجليل، دمشق، 1979، ص117.
(1) – الباش(حسن)، المرجع السابق، ص118.