التضامن الرّقمي – مُقاربة سيكودينامية لفهم التأثير عبر مواقع التواصل:
قراءة في الاستمالات العاطفية لمنشورات جمعية خيرية على فيسبوك
Digital Solidarity: A Psychodynamic Approach to Understanding Impact Through Social Media-
Read sentimental solicitations for charity posts on Facebook
د. محمد حمادي/جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر
Dr.. Mohamed Hammadi / Abdelhamid Ben Badis University, Mostaganem, Algeria
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 72 الصفحة 105.
ملخص:تُحاول هذه الورقة البحثية دراسة استخدامات مواقع التواصل الاجتماعي في الأنشطة الخيرية، وطبيعة الرسائل التضامنية المنشورة عبر هذه المواقع، طرائق صياغتها، وحجم التفاعل الافتراضي والواقعي معها؛ من خلال مُقاربة سيكودينامية لفهم أشكال التأثير على المتلقي، انطلاقا من منشورات على صفحة فايسبوك لجمعية خيرية تنشط في حي شعبي بوهران غرب الجزائر، تدعى “الزهور بركي بيتنا”.
هذه الدراسة تسعى إلى تبيان مدى تأثير صياغة رسالة اتصالية إقناعية على المتلقي “الافتراضي” الذي يتصفح كمّا هائلا من المنشورات على موقع فيسبوك، التي تحمل نصوصا وصورا ومقاطع فيديو؛ الغاية منها إنجاح أعمال خيرية، بالاستعانة بالاستمالات العاطفية.
الكلمات المفتاحية: التضامن الرقمي، التأثير، الرسالة الإقناعية، مواقع التواصل الاجتماعي، الفيسبوك، المتلقي الافتراضي، الأنشطة الخيرية.
Abstract :
This research paper is trying to study the uses of social media for charity, and the nature of the solidarity messages posted on social media, ways of writing these messages, the size of the virtual and realistic interaction with them through a secodynamic approach to understanding forms of influence on the recipient, based on posts on the facebook page of a charity operating in a popular neighborhood in Oran, western Algeria, called “Barki El Zohour beytona”.
This study seeks to show the effect of the formulation of a persuasive communication message on the virtual recipient, who is browsing a large number of posts on facebook, which contain text, pictures and videos aimed at making charitable works succeful by using the emotional grooming.
Keywords: Digital solidarity, influence, persuasive message, social media, facebook, virtual recipient, charitable activities.
مقدّمةغيّرت وسائط التواصل علاقة الإنسان بالإنسان، بعدما قرّبت المسافات ووجهات النظر حيال عديد القضايا، لتنتج هوية بشرية مشتركة، ساهمت في رفع منسوب مشاعر التضامن والتآخي والشعور بالغير، المختلف عرقيا ولسانيا ودينيا وجغرافيا، ومن ثم العمل على حل مشاكله ومساعدته على تجاوزها، بالنظر إلى حجم التفاعل مع مختلف القضايا الإنسانية سواء أكانت محلية أو عالمية.
يُمكن فهم التضامن والتآزر بين بني الإنسان، من خلال ما ذهب إليه المفكر الفرنسي إدغار موران، عندما اعتبر الكائن البشري ذو طاقة حيوية متغيّرة، ينشئ من خلال قدراته التنظيمية والإدراكية، أشكالا جديدة للحياة، نفسية، روحية واجتماعية، والسبيل حسبه للقضاء على الدهشة والتساؤل في فهم الهوية الإنسانية هو تفكيك الكائن البشري، الذي تشتمل ذاته على انفعالات عاطفية، يتجاذبها الحب، والوفاء، والصداقة، والحسد، والغيرة، والطموح، والكراهية. وتكون منغلقة على نفسها أو منفتحة نحو الآخرين، بحسب قوة الاستبعاد أو قوة الاندماج[1].
إن هدف العلوم الإنسانية ليس الكشف عن الإنسان بل تفكيكه بيولوجيا، اجتماعيا وسيكولوجيا، لمعرفة مواطن قوته ومكامن ضعفه، طريقة تفكيره وإدراكه للأشياء من حوله، كي يتسنى فهمه. يرى إدغار موران في هذا الصدد، أنّ أهمية التقنية للبشرية، تتساوى مع أهمية خلق عالم خيالي وتدفق الأساطير المذهل، والمعتقدات والأديان التي عجزت الثورات التقنية والعقلانية عن إقصائها على مدى التاريخ وإلى يومنا هذا؛ فبالموت نشارك –حسبه- في التراجيديا الكونية، وبالولادة نشارك في المغامرة البيولوجية، وبوجودنا نشارك في المصير المشترك للبشرية، “نحن حالات إنسانية في قلب الوجود، لم يطوّر ذهننا الذكاء فحسب، بل أنشأ فيه الوعي والفكر”.[2] انطلاقا من هذا الطرح، فإن أشكال التضامن والتآزر والتكافل بين البشر مردها ارتفاع منسوب الوعي وازدياد معدلات الثقافة، فضلا عن الوازع الديني والأخلاقي الذي يدفع الناس إلى الانخراط في أعمال خيرية لمساعدة المحتاجين والمعوزين، وكل من يعاني ظروف عيش صعبة أو تعذّر عليه تأمين مصاريف العلاج أو الدراسة.
وقد نجم عن الاستخدام الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي في شتى مناحي الحياة، بروز نمط جديد من التضامن بين الناس عبر شبكة الإنترنيت، الذي يجسد مشاعر إنسانية “رقمية”، عبر تلك الصفحات التي تحمل وسما أو ما يعرف بـ”هاشتاغ” تتبنى قضية أو مشكلة اجتماعية تحظى باهتمام أفراد المجتمع؛ فكم من قضية أو حادثة عرّفت مواقع التواصل بصناعها أو ضحاياها فخرجت من السّر إلى العلن، لتصنع الحدث وتتسيّد المشهد الإعلامي؟!.
لم تعدّ مواقع التواصل الاجتماعي فضاءً افتراضيا يستخدمه أفراد المجتمع للتواصل وتبادل الأخبار والصور والتهاني والتعازي وتقاسم الخبرات والتجارب في الحياة فحسب، بل تعدّى ذلك إلى القيام بأنشطة تضامنية تأخذ بُعدا إنسانيا، تنطلق من بيئة افتراضية رقمية إلى الواقع، حيث توجد قصص حياتية حقيقية يعاني أصحابها الأمرين على كافة الأصعدة، كمظاهر الفقر والعوز ووضعية السكن الهشّة وغير اللائقة، فضلا عن الأمراض النادرة وحالات الإعاقة، التي وقف أصحابها عاجزين عن تأمين مصاريف العلاج الباهظة.
وقد أدارت كثير من الجمعيات الخيرية في الجزائر البوصلة نحو مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها فايسبوك، حيث استحدثت صفحات لها عبر هذا الفضاء الافتراضي، للتواصل مع أعضائها، والتعريف بأنشطتها ودعوة أفراد المجتمع إلى الانخراط فيها عبر تقديم منشورات، قد تكون في شكل طلبات مساعدة لفائدة أشخاص أو مؤسسات استشفائية أو عائلات تعاني من الفقر أو المرض أو دعوة إلى المشاركة في أعمال تطوعية خدمة للبيئة والمجتمع.
تُحاول هذه الدراسة الإجابة عن التساؤلات التالية: إلى أيّ مدى تؤثر حملات التضامن التي تطلقها الجمعيات الخيرية عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الجمهور؟ كيف يمكن تحويل مرتادي فايسبوك من مجرّد جمهور افتراضي يتفاعل الكترونيا مع منشورات التضامن مع الحالات الإنسانية، إلى مُنخرطين على أرض الواقع في الأنشطة الخيرية؟ وما دور البعد السيكولوجي في ذلك؟ ما هي الآليات والتكتيكات المستخدمة في التأثير على الجمهور الافتراضي لإقناعه بضرورة الانخراط في الأنشطة الخيرية؟ ما هي الطرائق الناجعة لصياغة رسالة إقناعية عبر فايسبوك؟
1.القيم الإنسانية في بيئة الإعلام الجديد
يعرّف أندرياس كابلان وميشيل هايتلن الإعلام الاجتماعي؛ على أنّه مجموعة في الانترنيت تجمعها أفكار معيّنة، تستخدم تطبيقات الويب 2.0 التي تسمح بخلق حوارات وتبادل المحتوى فيما بينها.[3] نحن إذن؛ أمام إعلام جديد، تشاركي وتفاعلي، أو ما يطلق عليه بالإعلام الجديد أو البديل، الذي يضم المدونات والمنتديات، وغرف الدردشة، ومواقع التواصل الاجتماعي…، إذ أدّت التغيّرات في بيئات التواصل الأوسع إلى تغيّر هيكل الوعي البشري[4]؛ فلم يعد الفيسبوك فضاءً الكترونيا لتبادل المعلومات والأفكار والمشاعر والخبرات وإنشاء الصدقات، بل تعداها إلى تشكيل الوعي السياسي، وتقوية التعاضد الاجتماعي، والتعريف بعادات وتقاليد وثقافات الشعوب، فضلا عن الخدمات التجارية والتسويق للأماكن السياحية…
إنّه عصر المواطن الصُحفي، الذي تحوّل فيه المواطن إلى مصدر للأخبار والصور ومقاطع الفيديو التي توثق أحداثا كان شاهدا عليها، فعمد إلى تصويرها بهاتفه الذكي أو كاميرته الرقمية، لينشرها عبر مواقع التواصل وكذا المدونات. وأحيانا تكون لديه الأسبقية في بثّها؛ متفوقا بذلك على الصحفي التقليدي الذي يضطر إلى الاتصال بمصادره لتأكيد هذا الخبر أو ذاك.
إنّ مواقع التواصل أحدثت تغييرات في حياة الأفراد والجماعات وخلقت لديهم مصالح افتراضية مشتركة وقيما إنسانية مشتركة، يدافعون عنها، على غرار العدالة الاجتماعية ، الحق في العيش بكرامة، احترام خصوصيات الأفراد، وتمكينهم من حقوقهم المادية والمعنوية، حيث أصبح “الفضاء الأزرق” وسيلة لتحقيق إشباعات فكرية وسياسية وثقافية ونفسية واجتماعية؛ فالتغير الاجتماعي ليس وليد الصّدفة وإنّما هو عملية بُنيوية؛ أي فعل بنائي خاضع لتيارات متشابكة، مُتداخلة تسعى إلى إعادة التوازن في مُحيطها المُجتمعي، وتؤسس للتكامل والتراكم.[5]
بعيدا عن التواجد المرضي والسلبي لكثير من مرتادي مواقع التواصل وبخاصة الفيسبوك، يتفاعل آخرون إيجابا مع المواد المنشورة، خاصة تلك التي تأخذ بعدا اجتماعيا وإنسانيا، وتحمل شُحنة عاطفية، وأحيانا يتخطى هذا التفاعل الحدود الوطنية، عندما يتشكل رأي عام دولي إزاء قضية إنسانية، فتحظى باهتمام افتراضي عالمي؛ تتلقفها وسائل الإعلام التقليدية ويتعاطى معها كبار المسؤولين وصناع القرار في العالم، فيتدخلون بكل ما أوتوا من نفوذ وصلاحيات لمساعدة المعنيين بهذه القضية.
تحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي إلى منبر للمقهورين والمظلومين والمحطمين اجتماعيا في الجزائر، يعرضون فيها مشاكلهم ويُدافعون عن قضاياهم مستغلين ما تتيحه هذه الوسائط من تسهيلات في النشر بعيدا عن الإجراءات البيروقراطية التي تفرضها وسائل الإعلام التقليدية من صحف ومحطات راديو وقنوات تلفزيونية، فضلا عن السرعة في نقل وبث انشغالات المواطنين عبر مواد مكتوبة أو سمعية بصرية، أو عبر خاصية المشاركة التي تضاعف نسبة المقروئية والمشاهدة لكل المحتويات المنشورة على المنصات الالكترونية.
2.”التضامن الرقمي” كشكل من أشكال التواجد الإيجابي على الفيسبوك
هو مصطلح تبلوّر لدى الباحث من خلال متابعة الاستخدامات المتعدّدة لمواقع التواصل الاجتماعي من قبل الأفراد، الذين تختلف أشكال تواجدهم عبر هذا الفضاء الافتراضي، وتتفاوت درجة تفاعلهم مع مختلف الأحداث والأفكار والقضايا التي تشكل الصالح العام؛ فمن تكوين صداقات افتراضية والتواصل مع الأهل والأصدقاء وزملاء العمل، ومشاركة منشورات ذات اهتمام مشترك، وغيرها من أشكال التواجد الافتراضي، أصبح الفيسبوك فضاءً لإطلاق حملات تضامنية “رقمية” تجذب إليها عددا من المتضامنين والمتفاعلين الكترونيا، قد يتحولون في ما بعد إلى منخرطين في الأعمال الخيرية على أرض الواقع.
التضامن عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو يمكن تسميته بـ”التضامن الرقمي”؛ هو كافة أشكال التآزر والتعاطف مع الحالات الاجتماعية التي تحتاج إلى مساعدة، وكافة الأنشطة الخيرية والتطوعية؛ من حملات التنظيف وتزيين المحيط، وجمع التبرعات لمساعدة الفقراء والمعوزين، وتأمين مصاريف العلاج، التي تنطلق من الفضاء الرّقمي. وقد يكون التفاعل الكترونيا عبر موقع فيسبوك؛ مثلا كالإعجاب والتعليق ومشاركة المنشور، ثم ينتقل إلى الواقع ليترجم في سلوكيات تضامنية كالتطوع والتبرع بالمال والمقتنيات والأدوية وسائر أشكال المساعدات على حسب طبيعة النشاط الخيري.
يكفي أن يصوّر صاحب المشكلة فيديو قصير من دقائق بكلام مؤثر يحمل شحنات عاطفية، وينشره عبر منصات التواصل الاجتماعي، حتى تتفجر حوله جملة من النقاشات بين العامة والمثقفين ونخبة المجتمع، ليصل صداه إلى وسائل الإعلام التقليدية، التي تفرد له مساحات مهمة في مضامينها الإخبارية، وتنبري له بالتحليل والغوص في حيثياته ودوافعه بإشراك المختصين، واستدعاء المسؤولين والمعنيين بهذه القضية أو تلك. مثل هذه المواد المنشورة عبر مواقع التواصل ما كان لها أن تحظى بكل هذه الاهتمام لولا المشاركة والتداول لمرتادي هذه المواقع على نطاق أوسع، الذين يحرّكهم الدافع الإنساني ويوخِزهم الضمير للتعاطي إيجابا مع هذه الحالات المنشورة، التي تحصد أرقاما هائلة من نسب التفاعل عبر مشاركة المنشورات و وإبداء الإعجاب بها والتعليق عليها.
لقد شغلت كثير من القضايا والمشكلات الاجتماعية الرأي عام، وجلبت إلى أصحابها تضامنا واستعطافا كبيرين، ما أدى إلى تحرّك السلطات المعنية في محطات عدّة، ومعها المنظمات والجمعيات الخيرية، التي أطلقت مبادرات تضامنية مع هؤلاء. سواء في العالم الافتراضي بتبني هذه الحالات الاجتماعية على صفحاتها الرسمية على مواقع التواصل كفيسبوك وتويتر ويوتوب، أو النزول إلى الميدان والاحتكاك بأصحابها والتعرّف عن قرب عن وضعيتها والعمل على مساعدتها.
من بين أشكال هذه الأنشطة؛ حملات التضامن مع المعوزين والمشرّدين وأولئك الذين يكابدون ظروف عيش قاسية داخل مساكن تفتقر لدنى شروط العيش الكريم، والمرضى ممن هم في حاجة إلى مساعدة مادية لإجراء عمليات جراحية مستعجلة، وبالفعل تمكن أصحاب هذه الحملات التضامنية في حل عديد المشاكل والتقليل من وطأتها؛ فكثير من المرضى ممن ينتمون إلى عائلات محدودة الدخل تبنى ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي حالاتهم، حيث أطلقوا حملات عبر هذه المواقع لمساعدتهم على جمع مبالغ مالية بالعملتين الوطنية والأجنبية. وبالفعل تفاعل معها رواد مواقع التواصل ليترجموا هذا التفاعل الإيجابي في سلوكيات على أرض الواقع، عن طريق جمع تبرعات المحسنين، كما تبنت وسائل الإعلام مثل هذه الحملات التضامنية، التي انطلقت من بيئة رقمية، وأفردت لها حيّزا مهمّا في مضامينها على غرار نشرات الأخبار والبرامج الاجتماعية ، وكذا تغطية الصّحف لكواليس هذه الحملات، وتخصيص مساحات لها على مواقعها الالكترونية.
مثل هذه الحملات الالكترونية، أضحى لها تأثير على جمهور الفضاء الافتراضي، ومفعولها أصبح “سحريا” تبعا لطبيعة القضية المعالجة والأشخاص الفاعلين فيها، فالمضامين التي تبثها مثل هذه الوسائط لها مفعول سحري على المتلقين، خاصة عندما تستهدف الدفاعات الشعورية لديهم؛ فتثير لديهم مشاعر الخوف والحزن أو الفرح، وعلى ضوء هذه الأحاسيس يتبنون قرارات معينة ويُمارسون سولوكيات معينة، كردة فعل منهم على الرسائل الإعلامية التي تعرّضوا لها.
3.الحقنة تحت الجلد:”الفيسبوك” هو التأثير؟!
نالت نظريات التأثير اهتماما كبيرا من طرف الباحثين في حقل الإعلام والاتصال، وانكبت الدراسات على ما تفعله المضامين الإعلامية وطرائق عرضها بجمهور المتلقين، مركزة على المفعول السّحري والأثر الذي تتركه فيهم، عندما تغير قناعاتهم وتُسهم في بناء قراراتهم، ما يؤدي بهم إلى اعتناق أفكار معينة كانوا ربّما من أشدّ المعارضين لها، وممارسة سلوكيات على أرض الواقع، كانت بالأساس نتاج ذلك التأثير السحري الذي مارسته المنابر الإعلامية عليهم.
بحوث الإعلام التي درست التأثير السحري الذي تقوم به وسائل الإعلام على الجمهور، تمخضت عنها نظريات التأثير المباشر، وفي مقدمتها نظرية القذيفة السحرية أو الحقنة تحت الجلد، التي انطلقت من حادثة تاريخية وقعت في 1939 بالولايات المتحدة الأمريكية، إذ تسبب حينها برنامج إذاعي تحت اسم “حرب الكواكب”، في خروج آلاف من سكان مدينة نيويورك إلى الشارع، بعدما تملكهم الذعر، إذ اعتقدوا آنذاك أن كائنات فضائية قادمة من كوكب المريخ ستهاجمهم[6].
تهتم النظرية بالمتلقي وطريقة تعاطيه مع المضامين الإعلامية، عندما يتلقاها بطريقة مباشرة ويتفاعل معها بمجرد تعرّضه لها؛ فهذه المضامين تصل جماهير عريضة من المشاهدين والمستمعين والقرّاء، الذين يتجاوبون معها. وهو الطرح الذي ذهب إليه، ولبر شرام صاحب كتاب “المتلاعبون بالعقول”، حين قال:”إن الإعلام رصاص سحري ينقل الأفكار والمشاعر من عقل لآخر”[7]. حسب هذه النظرية، فإن الجماهير العريضة من قراء ومستمعين ومشاهدين، التي تستهلك المضامين الإعلامية، هي ذرات منفصلة لا تربطها أية رابطة، تتفاوت في نسبة وطريقة التأثر بهذه المضامين.
إذا كانت وسائل الإعلام التقليدية تُمارس تأثيرا على المتلقي، فإنّ الأمر ذاته ينطبق على مواقع التواصل الاجتماعي، التي أنتجت أشكالا جديدة من التواجد الافتراضي وأنماطا أخرى من التلقي في بيئة افتراضية تزدحم بكثير من المواقع الالكترونية التي تعنى بالأخبار، التجارة، السياحة، الثقافة، الاقتصاد… وسائر النشاطات. ولأن “فايسبوك”، أصبح أكثر حضورا في العالم الافتراضي بالنظر إلى الأعداد الهائلة من الأشخاص عبر العالم، الذين لديهم حسابات على هذا الموقع، فإنّ استخداماته أصبحت متعدّدة، حتى وسائل الإعلام التقليدية، استحدثت صفحات لها على الفايسبوك وأوكلت مهمة إدارتها إلى صحفيين محترفين أو تقنيين يحسنون التعامل مع تكنولوجيا الميديا الجديدة.
4.المثلث الحججي وصياغة رسائل التضامن الإقناعية عبر الفيسبوك
يقوم المشرفون على صفحات فيسبوك التي تعنى بالنشاطات الاجتماعية التضامنية على جلب عدد أكبر من المحسنين والمتعاطفين المستعدين إلى تقديم يد العون للحالات المعلن عنها عبر تلك الصفحات. وهم بذلك يسعون إلى إقناعهم للمشاركة في مثل هذه الأنشطة، إمّا بتقديم المساعدات المالية أو معدات أو الاستفادة من إتقانهم لحرف معينة كالبناء والطلاء والترصيص وسائر المهن.
ليس من السهل إقناع مشتركي صفحة على فايسبوك تُعنى بالنشاطات الخيرية، بالانخراط في مثل هذه الأنشطة والمشاركة في إنجاحها، ويصبح التحدي لدى القائمين على الصفحة هو كسب المصداقية ونيل الثقة لدى المتابعين الافتراضيين، وكيف يمكن تحويل أعداد الإعجابات والتعليقات على الفضاء الأزرق إلى سلوكيات تضامنية على أرض الواقع؟؛ فهؤلاء الذين ضغطوا على زر الإعجاب وكتبوا تعليقات على منشور ما هل اقتنعوا فعلا بمحتوى هذا المنشور؟ هل هم مشروع متبرعين؟ أم منخرطين في عملية تضامنية؟ أم مجرّد متابعين افتراضيين خاملين؟
إنّ ممارسة الإقناع عبر مواقع التواصل الاجتماعي لإنجاح أعمال خيرية أو تطوعية ترتكز عل العناصر التالية: المرسل، الرسالة، المتلقي، الوسيلة الإقناعية؛ والمرسل قد يكون فردا أو جماعة أو مؤسسة تهدف إلى التأثير في الآخرين. يندرج الاتصال الذي يهدف إلى الإقناع والتأثير في الجماهير ضمن الاتصال الإقناعي، عندما يوجه القائم بالاتصال –عن قصد- رسائله الإعلامية لإحداث تأثير مركّز، محسوب على اتجاهات وسلوك مجموعات معينة مستهدفة من الجمهور[8].
يعتبر المرسل قطعة مفصلية في العملية الإقناعية، كون أن وزنه ونفوذه ومقدار الثقة التي يحظى بها ومكانته الاجتماعية والجاذبية والمهارة الاتصالية التي يتمتع بها، كلّها خصائص تُؤهله لإحداث أثر في سلوكيات وأفكار الآخرين إيجابا. يزداد التأثير عندما يحسن المرسل صياغة رسالته الإقناعية؛ فيختار قضية مشتركة بينه وبين مرتادي صفحته على فيسبوك، وينتقي عبارات واضحة ويدعمها بحجج وبراهين قوية، ويرفقها بصور معبرة تذهب رأسا إلى الموضوع؛ فمثلا الترويج لعمل خيري يتمثل في بناء مسكن لعائلة فقيرة في قرية معزولة، يتطلب قدرا من الذكاء الاجتماعي في صياغة الرسالة التضامنية ونشرها عبر فيسبوك.
بالنسبة لصياغة الرسالة فهي تعتبر جوهر العملية الإقناعية، إذ أنها تعبر عن قضية مشتركة بين المرسل والمستقبل ومدى التعارض أو الاتفاق حولها، فالرسالة يجب أن تمتاز بالوضوح لأن عملية الإقناع تصبح أكثر فعالية إذا كان محتوى الرسالة واضحا ويقدم الحجج والبراهين القوية، كما يعتمد القائم بالاتصال على ما يسمى بالتثبيت بالتكرار؛ أي إعادة نشر الرسالة مرّات عدّة حتى تستقر في ذهن المتلقي. وهناك ثلاثة عناصر مكونة للرسالة: Ethos تعني الحجج المرتبطة بسلطة نص قانوني أو ديني أو شخصية بارزة، فهي حجج قائمة على كثرة العدد وقوة التقاليد، Pathos أي المحاججة التي تعتمد على تأجيج العواطف وإثارة الهيجان، وأخيرا Logos وتعني المحاججة القائمة على قوة العقل والمنطق[9] ، وينبغي أن تكون الحجج مرتبة ومنتقاة بطريقة مدروسة، ما يجعل المتلقي يتقبلها.
يأخذ المرسل بعين الاعتبار أثناء صياغة الرسالة طبيعة المتلقي، الذي هو مجرّد متصفح عبر شبكة الانترنيت؛ أي أنه متابع افتراضي قد يوقّع حضوره على فيسبوك بالإعجاب أو كتابة تعاليق أو مشاركة المنشورات مع آخرين، لذلك على المرسل أن يكون على دراية بخصائص المستقبل الاجتماعية والنفسية والتعليمية والثقافية، كي يتمكن من إقناعه بحملة تطوعية أو مشروع خيري. كما عليه أن يضع في الحسبان أنّه يخاطب المتلقي عبر صفحة على فيسبوك وليس صحيفة أو إذاعة أو قناة تلفزيونية، لذلك وجب عليه صياغة رسالة إقناعية تتواءم وهذه البيئة الافتراضية.
تتدرج العملية الاقناعية عبر ثلاث خطوات مترابطة لتحقيق الهدف الذي يصبو إليه المرسل، تتمثل حسب ميشال لونات في التوعية، التشريع، التتبع أو المراقبة”[10]. وهذا ما يطلق علية بنظرية التاءات الثلاث. وتعني التوعية مخاطبة العقل بالحجج والبراهين عن طريق تبسيط الأفكار للمتلقين، كي لا يبذلوا مجهودات كبيرة في فهمها، أمّا التشريع؛ فهو سن القوانين والتحذير من مغبة احترامها وما يترتب عن ذلك من عقاب، كي لا يسلك الفرد طرقا غير سليمة في إشباع حاجاته. التتبع: يعني مراقبة العملية الإقناعية، من البداية إلى النهاية والعمل على تقويمها، بغية إنجاح هذا المشروع الخيري أو ذاك.
5.حملات التضامن “الرقمية” وميكانيزمات التأثير الانتقائي
تتمايز خصائص الأفراد من الناحية الاجتماعية وتختلف تركيبتهم النفسية، وتتباين مستوياتهم التعليمية والثقافية، ما يجعلهم يستهلكون مضامين إعلامية معينة ويطرحون أخرى، ويتفاعلون مع منشورات بعينها عبر مواقع التواصل الاجتماعي ولا يأبهون لأخرى. وهو ما عبرت عنه بوضوح نظريات الاختيار الانتقائي، التي جاء بها كلا من ملفين ديفلير وساندرابول روكيتش.
ترتكز نظريات التأثير الانتقائي على أربعة مبادئ هامة وهي: الاهتمام الانتقائي، الإدراك الانتقائي، التذكر الانتقائي، التصرف الانتقائي؛ فالفرد يهتم انتقائيا بمضامين إعلامية، تبعا لمستوياته الثقافية والعلمية، فهو يتلقف كما هائل من المعلومات من وسائل الإعلام والتقليدية ومواقع التواصل الاجتماعية ، لكنه يهتم بمضامين معينة ويُعرض عن أخرى؛ فالمولعون بالسياسة يتابعون باهتمام البرامج الحوارية عبر القنوات التلفويونية، ويشتركون في صفحات الفيسبوك الخاصة بكبار الشخصيات السياسية ورؤساء الأحزاب ويتفاعلون مع ما ينشرونه، فيعلقون وينتقدون وينخرطون في نقاشات افتراضية مع من يقاسمنهم “الفضاء الأزرق”.
تلعب العوامل السيكولوجية دورها مهما في الإدراك الإنتقائي للرسالة الإعلامية؛ فمن لديهم صفات نفسية متميزة وتوجهات سلوكية خاصة بفئات محددة وانتماءات إلى شبكة اجتماعية، سيفسرون نفس المضمون الإعلامي بأساليب مختلفة[11]، يعني من عاش ضغوطا نفسية رهيبة وتعرّض إلى صدمات قاسية جراء تجارب حياتية مؤلمة، يكون تعاطيه مع مواضيع اجتماعية معينة بطريقة مختلفة عن الآخرين، ممن يتمتعون بنفسية مستقرة؛ وهو ما نشهده في حجم التفاعل الكبير عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع المواضيع التي تأخذ بعدا إنسانيا، خاصة إذا تم تصوير الحالات في مقاطع فيديو.
ترى نظريات التأثير الانتقائي، أنّ الفرد يتذكر كذلك بطريقة انتقائية، عندما يُخزن كما هائلا من المعلومات ولا يسترجعها كاملة، حيث ترتبط هذه العملية بالتخيل والتذكر بمعنى قدرة العقل على استرجاع الصور التي حدثت في الماضي وتخيل صور لواقع لم يحدث[12]، يعني ذلك أن بعض البرامج والمواضيع التي شاهدها الفرد عبر منابر إعلامية أو في شبكة الانترنيت، يتذكر بعضها بطريقة انتقائية تبعا لاهتماماته الشخصية.
يعدّ مبدأ التصرف الانتقائي المرحلة النهائية في عملية الإقناع والتأثير، ومن خلاله يظهر مدى نجاح أو فشل العملية برمّتها. قد يتأثر مثلا الفرد بحملة تضامنية على الفيسبوك لمساعدة عائلة معوزة؛ فيقوم بالتكفل بحالتها من خلال تأمين مسكن محترم لها أو منحها مرتبا شهريا، كما أنّ كثيرا من حملات التبرع التي أطلقها نشطاء في العمل الخيري عبر الفيسبوك في السنوات الأخيرة، نجحت في جمع مبالغ مالية معتبرة تبرّع بها محسنون من كافة القطر الجزائري، لفائدة عدد من المرضى لإجراء عمليات جراحية معقدة خارج الوطن. يُرجع بركر وويزمان نجاح العملية الإقناعية إلى المنبهات الداخلية والخارجية التي يستقبلها الفرد في شكل نبضات عصبية تنتقل إلى العقل، الذي يقوم بتفكيكها ثم تجميعها وترتيبها، لتترجم في سلوكيات على أرض الواقع.
6.”تكتيكات” الاستراتيجية السيكودينامية في إنجاح الرسالة الإقناعية
خلصت أبحاث مالفين دفلير وساندرا بوب روكيش في مجال التأثير في سلوكيات الأفراد الذين يتعرضون للمضامين الإعلامية والاتصالية، إلى ابتكار استراتيجية سيكودينامية، تحوي تكتيكات مهمة، لدراسة وتحليل وتتبع هذه السلوكيات الناجمة عن عملية التأثير والإقناع التي يمارسها القائم بالاتصال عبر رسائله الإعلامية.
تستهدف الاستراتيجية السيكودينامية العوامل الإدراكية للفرد، المتشكلة في الأساس من نشاط مؤسسات التنشئة الاجتماعية ، كالأسرة والمدرسة، والمسجد ووسائل الإعلام وشبكة الانترنيت بما تحويه من مواقع الكترونية للتواصل وتثقيف وتسلية…تفترض هذه الاستراتيجية أن هدف مصمم الرسالة الإقناعية سواء أكان رجل إعلام أو صاحب جمعية خيرية ينشط على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى تغيير البُنى الإدراكية للأفراد، المرتبطة بتغيير السلوك، وهنا تظهر أهمية المعنى الذي يعطيه المتلقي للرسالة، فإذا أردنا التنبؤ بتأثير رسالة ما على اتجاه فرد معين، فلا بد أن نعرف كيف يدرك هذا الفرد هذه الرسالة[13].
تعمل الاستراتيجية السيكودينامية بمبدأ “تعلم، اشعر، اعمل”، وتنطلق من مُعطى مفاده أن أداة الإقناع تكمن في تعديل البناء السيكولوجي الداخلي للفرد، بحيث تؤدي العِلاقة الدينامية السيكولوجية بين العمليات الداخلية الكامنة، والسلوك العلني الظاهر إلى أفعال يريدها القائم بالاتصال الإقناعي[14]، يعني ذلك أن العملية الإقناعية لا تنجح في تغيير أفكار الأفراد وسلوكياتهم إلا باستهداف الدوافع النفسية لديهم، باختيار رموز لا يمكن تجاهلها من طرف المتلقي كونها تذهب رأسا إلى الدفاعات الشعورية لديه، فالتركيبة البيولوجية للإنسان ترتبط بمجموعة من الحاجات النفسية التي يسعى الفرد إلى تحقيقها، على غرار الأمن والأمان، الهدوء، السعادة والحب…وهو ما يجعل القائم بالاتصال يأخذ بعين الاعتبار هذه الحاجات ويصيغ رسالته الاتصالية على ضوئها.
إنّ معرفة الخصائص النفسية للمتلقي ومحاولة تكييف القائم بالاتصال رسالته وفقها تساهم في نجاح العملية الإقناعية، وبالتالي تغيير السلوكيات وتوجيهها الوجهة التي يريدها المرسل. لذلك، فإنّ نجاح الأنشطة الخيرية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لديه ارتباط وثيق بالجوانب النفسية والعاطفية للمتلقي، الذي يستجيب إلى حملات التبرع بالدم أو بالمال أو المشاركة في أعمال تطوعية لتنظيف المحيط، تبعا إلى تأثّره بقصص معينة وطريقه عرضها عبر هذه المواقع.
تؤكد الاستراتيجية السيكودينامية في الإقناع، على القوى الداخلية للفرد في تكوين السلوك، وذلك باعتبار البناء الداخلي للنفس البشرية هو نتاج للتعليم، وهذا التأكيد هو الذي يجعل من الممكن استخدام وسائل الاتصال الجماهيرية لتعديل هذا البناء، بحيث يغير هذا السلوك[15]. ويرى علماء النفس تقريبا أن سلوك إنسان ما ينجم عن إدراكه العالم الذي يعيش فيه، وتخرج الأفعال إلى حيز الوجود على قاعدة المفاهيم الناشئة عن الوقائع وعن الأوضاع[16].
7.استمالات الترهيب والترغيب في عملية الإقناع عبر الفيسبوك
تنطلق الحملات التي تروّج لأنشطة خيرية أحيانا من منشورات على موقع الفيسبوك، وتحقق نتائج مرضية على أرض الواقع، نتيجة للتفاعل من قبل مرتادي هذا الموقع، الذين ينقلون تجاوبهم من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي، وتلعب الاستمالات العاطفية دورا في ذلك؛ إذ تتمثل في تلك العبارات التي يعمد القائم بالاتصال إلى إدراجها في رسالته الإقناعية، للتأثير في المتلقي عبر دغدغة مشاعره، إمّا بالترغيب من خلال الاستعانة بكلمات وشعارات براقة ومنتقاة بعناية مدعمة بأمثلة وشواهد وحجج منطقية، أو الترهيب باللّعب على وتر التخويف والتحذير من مغبّة تبني رأي أو فكرة أو ممارسة سلوك معيّن.
تحمل الرسالة الاتصالية أيضا أساليب لغوية كالتشبيه والكناية والاستفهام لتقريب المعنى للمتلقي وشدّ انتباهه نحو فحوى الرسالة، كوصف المنخرطين في الأعمال الخيرية بناس الجود والكرم والشهامة والبطولة…لا يمكن فقط التركيز على عواطف ومشاعر المتلقي عند صياغة الرسالة الإقناعية قبل نشرها عبر مواقع التواصل، لأنها وحدها غير كافية، بل ينبغي إلى استهداف العقل عن طريق تقديم حجج وبراهين منطقية، كإحصاء منافع عمل خيري ما بالأرقام وتبرير جدواه منطقيا، كمشروع بناء مستشفى كبير في منطقة معزولة، وأسباب تشييده وما سيقدمه للمرضى …
أحيانا تسلك الرسالة الاتصالية طريق التخويف للفت انتباه المتلقي ليأخذ التهديدات والمخاطر الصحية التي تتربص به مثلا محمل الجد؛ فالرسائل التي تعمد إلى إثارة الخوف يقل تأثيرها كلما زاد مقدار الخوف فيها، ذلك لأن الجمهور الذي ترتفع درجة توتره بالتخويف الشديد، ولا يتم تقليل ذلك الخوف، يميل إلى التقليل من شأن التهديد أو أهميته، أو قد يلجأ إلى تجنب الرسالة بدلا من أن يتعلم منها أو يبدأ في التفكير في مضمونها[17].
لا يمكن لنداءات المساعدة أو الاستغاثة أو تلك الحملات التي تدعو إلى التضامن مع حالة إنسانية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي هي في الأصل رسائل إقناعية، أن تحرّر بلغة مبهمة أو ركيكة أو معقدة، بل ينبغي لها على أن تكون على قدر من الوضوح والبساطة والجاذبية، فضلا عن الشحنة العاطفية التي تحملها، كي تؤدي الغاية المرجوة منها؛ وهي وصولها إلى أكبر قدر من الجمهور الافتراضي أولا، وضمان تفاعل إيجابي منهم ثانيا.
8.استمالات التشجيع والتحفيز: جمعية “بركي الزهور بيتنا” أنموذجا
“بركي الزهور بيتنا” جمعية تطوعية في حي “البركي” الشعبي بوهران غرب الجزائر العاصمة، تقوم بتنظيف وتزيين المحيط من تشجير ودهن وانتشال القمامة، وسائر الأعمال الخيرية، كجمع التبرعات للعائلات المعوزة سواء أكانت أموالا أو مواد غذائية، وتأمين الدواء للمرضى، كما لعبت دورا مُهمّا خلال وباء كورونا عبر تعقيم الشوارع وخياطة الكمامات بإشراك جميع شرائح المجتمع، من شبان وشيوخ ونساء، وتركز على الأطفال بهدف ترسيخ قيم المواطنة لديهم، متخذة المشاركة في الأنشطة التطوعية، كثقافة وسلوك حضاري.
يرى المشرفون على جمعية “بركي الزهور بيتنا”؛ أنّها مشروع مُجتمعي يُديره فريق متطوّع اسمه “بركايزن” وهدفه زرع ثقافة ملكية الحي عند الأطفال، حيث تقوم ذات الجمعية بالترويج لنشاطاتها التطوعية عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك، بنشر صور ومقاطع فيديو مُرفقة بنصوص مكتوبة لشرح فحوى هذه الأعمال، أو الدعوة إلى المشاركة فيها، حيث تعمد إلى صياغة رسائلها بلغة واضحة، سهلة وبسيطة ومختصرة لضمان وصولها إلى عدد أكبر من المواطنين، الذين يتواصلون معها عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك.
استحدثت جمعية “بركي الزهور بيتنا” صفحة رسمية على فايسبوك في 2016، تتبنى شعار:”أن تقوم ببناء أطفال أقوياء أسهل من ترميم رجال محطمين”، وفي مربع البيانات الشخصية، تضع صورة لمجموعة أطفال يشاركون في أعمال التزيين كواجهة لغلاف الصفحة، في رسالة بصرية تحمل دلالات اجتماعية، كون التركيز في الأعمال التطوعية على هذه الشريحة، يهدف إلى غرس سلوكيات إيجابية فيها، وجعلها أكثر ارتباطا بالمحيط الذي تعيش فيه.
حملت صفحة الجمعية على فيسوك، عديد المنشورات، في شكل نصوص مكتوبة مرفقة بصور وأحيانا بمقاطع فيديو، حيث جاءت في شكل رسائل تحفيزية ومفعمة بالترغيب في الأنشطة الخيرية والتطوعية، من خلال تلك الاستمالات العاطفية التي تمظهرت في عبارات الثناء والمدح للمشاركين في أنشطة الجمعية، تشجيعا لهم من جهة ودعوة لبقية سكان الحي الذي تنشط في رقعته الجغرافية الجمعية إلى التأسي بالمنخرطين في الأنشطة التطوعية.
في هذه الورقة البحثية، اخترنا مجموعة من منشورات الجمعية على فيسبوك التي تحمل شُحنة عاطفية تخاطب الوجدان، وأخرى تستهدف العقل بغرض إقناع سكان الحي بجدوى الأعمال الخيرية والأنشطة التطوعية، وضرورة انخراطهم فيها خدمة للصالح العام.
وضعت صفحة الجمعية على فيسبوك منشورا في 20 ماي 2020، جاء فيه: “مبادرة في القمة قام بها أشبال مشروع حيي مدرستي، حيث قام كل واحد منهم بالتبرع بمادة من المواد الغذائية وتقديمها إلى عائلة كفيفة. وبهذا تعلموا أنّه في الاتحاد قوة، وذوق حلاوة إدخال السرور على الفقير والأجر الذي يترتب عن ذلك، ولا ننسى الدعاء بالخير لكل من اقترح علينا هذه الأفكار”. هذا المنشور الذي كتب بلغة بسيطة وسهلة كان بمثابة رسالة شكر وتحفيز للأطفال، الذين جمعوا مواد غذائية لفائدة عائلة كفيفة وقاموا بأنفسهم بتوزيعها عليها، مع دعوة أقرانهم إلى المشاركة في مثل هذه الأعمال.
هذه الرسالة التشجيعية للأطفال المشاركين في هذا النشاط الخيري أرفقت بصور لهم وهم يحملون المواد الغذائية المُتبرّع بها، دون أن تظهر معهم العائلة الكفيفة، صونا لكرامتها.
في السياق ذاته، منشور آخر في يوم 23 ماي 2020 جاء فيه:”من رسائلكم…أطفال بعقول كبار…اللهم احفظهم واحفظ والديهم…”، حيث أرفقت هذه الرسالة التحفيزية أيضا بصورتين تظهران أطفالا يقومون بعملية تنظيف الشوارع.
أما في ما يخص التشجيع على المشاركة في الأنشطة التطوعية في ظل انتشار وباء كورونا، وضعت صفحة الجمعية منشورا بتاريخ: 31 ماي 2020، هذا نصّه: “دائما مع تنظيف شارع بركي الزهور بيتنا وبمنظف الأرضيات لإعطاء رائحة زكية. نرجو من كل شبان الحي أن ينظفوا شارعهم وتصبح ثقافة وعادة حميدة عندنا…معا نستطيع”. أرفق المنشور بصور تظهر شبان منهمكون بتنظيف الشارع.
في إطار الجهود المبذولة لتعزيز إجراءات الوقاية من كورونا، وضعت الجمعية منشورا على صفحتها في 29 ماي 2020 جاء فيه: “نحن بحاجة إلى خيط مطاطي (لاستيك) لصناعة الواقيات جزاكم الله عنّا كلّ خير”. المنشور مرفق بصور خيط مطاطي وقماش أسود لخياطة الكمامات الواقية من فيروس كورونا، وفي اليوم ذاته منشور آخر يهدف إلى ترسيخ تزيين المحيط جاء فيه: “أعضاء بركي الزهور بيتنا يطلقون مبادرة تزيين مدخل منازلهم بالورود ويدعون سكان الحي بفعل نفس الشيء وهذا لتزيين حيّنا ونكون قدوة للأحياء…معا نستطيع. كما رافقت المنشور صور تُظهر مداخل منازل أعضاء الجمعية، وهي مزينة بدلاء ملونة تحمل ورودا.
في 10 جوان 2020 منشور على صفحة الجمعية، مصحوب بصورة جاء فيه: “دائما مع تألق شارع بركي الزهور بيتنا والجديد هذه المرة أن الرقعة بدأت في التوسع حيث قام بعض الشباب المجاور بتنظيف شوارعهم…فاللهم بارك وزد”. وآخر مشابه له في 12 جوان 2020 جاء فيه:”عندما تحضر ثقافة المواطنة بأبسط الأشياء تصنع هذه العائلة الفارق بحي البركي. معا نستطيع”. المنشور مرفق بصورة لمدخل مسكن عائلة مزين ودلاء بها شجيرات معلقة أمام المدخل.
في 14 جوان 2020، كتبت جمعية الزهور بركي بيتنا على صفحتها: “دائما مع مبادرات شباب حي البركي؛ وهذه المرة مع صنع الحواجز، فاللهم بارك فيهم وفي أهلهم”، هذا المنشور مرفقا أيضا بصورة لشبان منهمكون بصنع حواجز خشبية”، وفي 25 جوان 2020، كتب الجمعية نصّا يشجع ويحفز السكان على تنظيف وتزيين المحيط: “لا تهم نوعية السكن ولكن ثقافة من يسكنون المكان (ثقافة تزيين الشوارع بدأت في الانتشار): مبادرة في القمة قام بها مجموعة من أهل السكن الفوضوي جهة حي بركي، وهذا بطلاء الجدران بألوان موحدة مع وضع أرقام العناوين…الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات”. المنشور مرفق بصورة تظهر طلاء المساكن وأطفال يلعبون أمام عتباتها.
إنّ القراءة المتفحصّة لرسائل الجمعية المنشورة على صفحتها على فيسبوك، تُظهر توظيفها لاستمالات عاطفية ارتكزت على الترغيب والتحفيز، من خلال عبارات الشكر والثناء والتقدير، التي تهدف إلى توسيع رقعة الأنشطة التطوعية في الحي، عن طريق جلب عدد أكبر من المشاركين، في أعمال التزيين، التهيئة، الطلاء وتنظيف الشوارع وتعقيمها في إطار الإجراءات الوقائية المتخذة لمواجهة وباء كورونا، فضلا عن مساعدة العائلات المحتاجة.
“المتلقي الافتراضي” يكتفي أحيانا إمّا بالضغط على زر الإعجاب أو يدرج تعليقا أو يشارك منشورا دون أن ينخرط في هذه الأعمال والجهود على أرض الواقع، وقد يستجيب بطريقة إيجابية فيكون ضمن المشاركين في المشاريع الخيرية والتطوعية، في حين أنّ الجمعية محلّ الدراسة ركّزت على ردّة الفعل الإيجابية على أرض الواقع، ولم تهتم بأعداد الإعجابات والتعليقات والمشاركات للمنشورات التي تضعها على صفحتها بموقع فيسبوك؛ بل أولت عناية للأعمال التطوعية والخيرية التي تجسّدت على أرض الواقع، بانخراط عدد من المواطنين من أطفال وشبان وشيوخ ونساء…الذين استجابوا للدعوات والنداءات التي أطلقتها الجمعية عبر صفحتها على فيسبوك.
خاتمة :
ليست كل الحملات التضامنية التي تطلقها الجمعيات الخيرية عبر مواقع والتواصل وفي مقدمتها الفيسبوك، تحدث الأثر المطلوب في مكونات المجتمع، حيث تتباين نسبة الاستجابة على أرض الواقع تبعا لطبيعة الرسائل الاتصالية على المنصات الافتراضية، ومدى صياغتها وفق آليات الإقناع، ويصبح التحدّي كيف يمكن للمسؤولين على الجمعيات الخيرية أن يحوّلوا مرتادي الفيسبوك من مجرّد جمهور افتراضي يتفاعل الكترونيا مع منشورات التضامن مع الحالات الإنسانية، إلى مُنخرطين على أرض الواقع في الأنشطة الخيرية؟
إنّ الجمهور الافتراضي الذي يُبحر يوميا عبر شبكة الانترنيت، لا ينبغي النظر إليه دائما أنّه مجرّد ذرات منفصلة عن بعضها البعض، بل يلتف في كل مرّة حول قضية إنسانية، مشكلا رأيا عاما حولها؛ فيتضامن مع أصحابها وينخرط في الجهود الداعمة لها؛ وهذا التفاعل الإيجابي لا يتأتّى إلا عندما يتقن القائم بالاتصال صياغة رسالته الاتصالية مستعينا بآليات الإقناع، سواء بتوظيفه الدليل والحجة والمنطق أو باستهداف الدفاعات اللاشعورية للمتلقي، عبر الاستمالات العاطفية التي تتجه رأسا إلى دواخل الفرد، لتخاطب وجدانه وأحاسيه. هنا يلجأ صاحب الرسالة إلى الترغيب أو الترهيب حسب ما طبيعة الهدف المسطر، إذا كان تغيير أفكار المتلقي وسلوكياته أو دعوته إلى الانخراط في أعمال تأتي بالنفع على المجتمع.
في أي رسالة اتصالية تبث عبر مواقع التواصل، لا بد لها أن تحتوي على العبارات المنمّقة التي تحمل بين طياتها التشجيع والتحفيز؛ فهي حجر زاوية في الاستمالات العاطفية، وهي وسيلة لتحقيق الاقتناع لدى المتلقي بجدوى فكرة أو مشروع ما يروّج له عبر مواقع التواصل. لا يمكن أن تنجح أنشطة خيرية على أرض الواقع دون الترويج لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها إعلاما اجتماعيا بديلا، لا يقل أهمية وتأثيرا عن باقي المنابر الإعلامية التقليدية، على غرار الصحافة المكتوبة، الإذاعة والتلفزيون؛ شريطة عدم إهمال البعدين الاجتماعي والسيكولوجي، في مخاطبة الجمهور الافتراضي.
قائمة المراجع :
1.إدغار موران (تر) هناء صبحي: النهج إنسانية البشرية الهوية البشرية، ط1، أبو ظبي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2009.
2.أندريا إل برس، بروس إيه ويليامز (تر) أحمد شكل: مقدمة إلى بيئة الإعلام الجديدة، وندسور، مؤسسة هنداوي سي أي سي، 2017.
3.حمدي حسن: مقدمة في دراسة وسائل وأساليب الاتصال، القاهرة: دار الفكر العربي، 1978.
4.حسن عماد مكاوي، ليلى حسين السيد: الاتصال ونظرياته المعاصرة، ط3، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 2004.
5.سهير جاد: وسائل الإعلام والاتصال الإقناعي، ط1، القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب، 2003.
6.سمير محمد حسين: الإعلام والاتصال بالجماهير والرأي العام، ط3، القاهرة، عالم الكتب، 1996.
14.شيماء ذو الفقار زغيب: نظريات في تشكيل اتجاهات الرأي العام، ط1، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 2004.
7.مؤيد نصيف جاسم السعدي، الوظيفة الاتصالية لموقع التواصل الاجتماعي دراسة في موقع الفيسبوك، ط1، قسنطينة، ألف للوثائق، 2016.
8.محمد عبد الرحمن الحضيف: كيف تؤثر وسائل الإعلام- دراسة في النظريات والأساليب، ط 2، الرياض: مكتبة العبيكان، 1998.
12.ملفين ديفلير، ساندرا بول روكيتش(تر)كمال عبد الرؤوف: نظريات وسائل الإعلام، ط2، القاهرة، الدار الدولية للنشر والتوزيع،1998.
10.نبيلة بوخبزة :الاتصال الاجتماعي الصحي في الجزائر دراسة نظرية ميدانية، رسالة لنيل درجة ماجستير في الإعلام، جامعة الجزائر، معهد علوم الإعلام والاتصال، إشراف عزي عبد الرحمن، 1995.
9.فريال مهنا: تقنيات الإقناع في الإعلام الجماهيري، ط1، دمشق، دار طلاس، 1986.
11.عامر مصباح: الإقناع الاجتماعي خلفيته النظرية وآلياته العملية، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 2005.
13.علي عجوة: العلاقات العامة والصورة الذهنية، ط2، القاهرة، عالم الكتب، 2003.
[1] إدغار موران (تر) هناء صبحي: النهج إنسانية البشرية الهوية البشرية، ط1، أبو ظبي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2009، ص:92.
[2] المرجع نفسه، ص:62.
[3] مؤيد نصيف جاسم السعدي، الوظيفة الاتصالية لموقع التواصل الاجتماعي دراسة في موقع الفيسبوك، ط1، قسنطينة، ألف للوثائق، 2016، ص:158.
[4] أندريا إل برس، بروس إيه ويليامز (تر) أحمد شكل: مقدمة إلى بيئة الإعلام الجديدة، وندسور، مؤسسة هنداوي سي أي سي، 2017، ص:21.
[5] مؤيد نصيف جاسم السعدي، مرجع سابق، ص:167.
[6] محمد عبد الرحمن الحضيف: كيف تؤثر وسائل الإعلام- دراسة في النظريات والأساليب، ط 2، الرياض، مكتبة العبيكان، 1998، ص: 17.
[7] حمدي حسن: مقدمة في دراسة وسائل وأساليب الاتصال، القاهرة: دار الفكر العربي، 1978، ص: 115.
[8] سمير محمد حسين: الإعلام والاتصال بالجماهير والرأي العام، ط3، القاهرة، عالم الكتب، 1996، ص: 166.
[9] نبيلة بوخبزة :الاتصال الاجتماعي الصحي في الجزائر دراسة نظرية ميدانية، رسالة لنيل درجة ماجستير في الإعلام، جامعة الجزائر، معهد علوم الإعلام والاتصال، إشراف عزي عبد الرحمن، 1995، ص: 78.
[10] عامر مصباح:الإقناع الاجتماعي خلفيته النظرية وآلياته العملية، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 2005، ص: 59.
[11] ملفين ديفلير، ساندرا بول روكيتش(تر)كمال عبد الرؤوف: نظريات وسائل الإعلام، ط2، القاهرة، الدار الدولية للنشر والتوزيع،1998، ص: 279.
[12] علي عجوة: العلاقات العامة والصورة الذهنية، ط2، القاهرة، عالم الكتب،2003، ص: 43.
[13] شيماء ذو الفقار زغيب: نظريات في تشكيل اتجاهات الرأي العام، ط1، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 2004، ص:26.
[14] سهير جاد: وسائل الإعلام والاتصال الإقناعي، ط1، القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب،2003، ص: 35.
[15] حسن عماد مكاوي، ليلى حسين السيد: الاتصال ونظرياته المعاصرة، ط3، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية،2004، ص: 202.
[16] فريال مهنا:تقنيات الإقناع في الإعلام الجماهيري، ط1، دمشق، دار طلاس، 1986، ص: 158.
[17] حسن عماد مكاوي، ليلى حسين السيد:مرجع سابق ص 191.