دلالة النص بين كريماص وراستيي
د.خاليد القاسمي ـ كلية الأدب والعلوم الانسانية سايس/فاس ـ المغرب
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 39 الصفحة 106.
– ملخَّص للدراسة:
يحاول البحث أن يتعرض لإشكالية الاشتباك النظري بين تصور كل من فرانسوا راستيي وأستاذه كريماص في مجال علم دلالة النص السردي، ومن خلال ذلك إبراز المجاوزة التي طرحها راستيي -بالنظر إلى كريماص- في علمه لدلالة النصوص sémantique des textes . وقد تأتى له ذلك من خلال جهاز نظري محكم يقارب النصوص انطلاقا من البنية اللغوية وينفتح بها على منظوماتها الاجتماعية والثقافية، غايته رسم حدود جديدة لسؤال المعنى على ما يقتضيه من تعدّدية تكوينية وقرائية، والتحرّر فضلا عن ذلك من القيود الصارمة للشكل التي سادت النماذج البنيوية المبكرة. فالمدلول النصي حسب راستيي يمكنه هو الآخر أن ينتظم في إطار مقولات تحليلية ثابتة، لكنها في نفس الوقت تحظى بهامش واسع للانفتاح على الواقع و المجتمع و الثقافة. ولئن كان كريماص في إطار سيميائيته السردية ينظر إلى سيرورة الدلالة من خلال آلية المسار التوليدي التي تردّ الظواهر النصية إلى نماذجها التوكينية العميقة، فإن راستيي يرفض هذه الآلية ويراها ضحية للإرث الهرمينوطيقي المؤمن بفكرة المعنى المحايث، والمرتبط بقصدية الذات المتلفظة. لذلك سيتجه لبناء نسقه في علم دلالة النصوص من منطلق تصور عام لبنيات النصوص، يرى أن مدلول أي نص مهما كان خطابه ونوعه وجنسه، يتمفصل إلى أربع بنيات متعالقة وهي الموضوعاتية والسردية والحوارية والتكتيكية، متجاوزا بذلك تصور “كريماص Greimas” في نقطتين بارزتين: أولا مفهوم التشاكل الذي يستثمر خطابيا عند كريماص وموضوعاتيا عند راستيي، بحيث سيطرح هذا الأخير تصنيفا جديدا للتشاكل isotopie يحقق للمعنى تعدّديته وليبراليته التأويلية. أما المجاوزة الثانية فتخص مفهوم المسار التوليدي عند كريماص، الذي يعارضه راستيي بطرح آلية مضادة وهي المسار التأويلي، بوصفه عملية تجعل النص متوجها إلى المؤلف والقارئ والمجتمع والثقافة، بدل المسار التوليدي الذي يتوجه بالنص إلى منطقه الداخلي وبنيته العميقة المرتهنة لأونطولوجية القصدية والمحايثة .
– الكلمات المفتاحية :
نص- دلالة – مسار توليدي- بنية خطابية –بنية عميقة– تلفظ- قصدية –محايثة- تشاكل – معنم – تصريح – إيحاء- المؤلف- تناص- تأويل داخلي- تأويل خارجي
مدخل
يتميز حقل الدراسات السيميائية بالدينامية والتنوع في الطرح والخلفيات الابستمولوجية، وهو لا يكتم جهدا لفهم ووصف الأنساق الثقافية الدالة، والسيرورة التي تنتج بها وتستقبل دلالاتها الثاوية. ولئن كانت النصوص الأدبية من الأنساق اللغوية التي تدخل ضمن الوقائع الفنية للإبداع البشري، والتي استدعت منذ القدم الوعي بممارسات تحليلها وتأويلها، فإن السيميائيات العامة خصوصا في شقها الأوروبي قد طرحت ضمن تخصصها الأدبي تصورات لسيرورة الدلالة النصية وشروط انتاجها وتلقيها. و في هذا الصدد انبرت مدرسة باريس للنصوص اللغوية تسائل قوانينها وشروط سيرورتها الدلالية عبر مستويي التعبير والمضمون صادرة في ذلك عن تصور نظري يرى أن أشياء العالم ما هي إلا نقط إرساء للدلالة وتمظهر لها تظل محكومة ببنى عميقة سابقة عنها، تنظم طبيعة وجودها وتضبط حدود تدلالها. وبهذا يمكن النظر إلى سيرورة الدلالة من خلال مستويين أساسيين: البنى الأساسية ( النموذج التكويني والمربع السيميائي)، والبنى السردية ( المتواليات الثابتة والفواعل والجهات)، لكن إلى جانب هذه النماذج المتداولة في اتجاهات عدة أبرزها السيميائيات الكريماصية، فإن البحث انتقل نحو سيميائيات للخطاب، ونحو سيميائيات صورية وسيميائيات للعوالم الممكنة [1].
ولئن كان المهاد الابستمولوجي الناظم لمجمل التيارات السيميائية يتمثل في قطبي سوسير وبورس، فإن هناك روادا دلائليين معاصرين حاولوا طرح نماذج وأجهزة نظرية محكمة تنكب على معالجة النصوص، وبناء دلالاتها انطلاقا من البنية اللغوية وانفتاحا على منظوماتها الاجتماعية والثقافية، متحرّرة بذلك من القيود الصارمة للشكل، التي سادت النماذج البنيوية المبكرة، بإثارة سؤال المعنى على ما يقتضيه من تعدّدية تكوينية وقرائية. ولا شك أن هذه القناعة تصدر عن تصور يرى أن المدلول يمكنه هو الآخر أن ينتظم في إطار مقولات تحليلية ثابتة، لكنها في نفس الوقت تحظى بهامش واسع للانفتاح على الواقع و المجتمع و الثقافة[2].
وإذا كانت الرواية تدخل ضمن مجال النصوص الأدبية الحديثة النشأة، التي تعرف دينامية تجريبية حثيثة ما فتئت تسترعي اهتمام النقاد بمختلف تخصصاتهم، فإن ثمة اشتباكا نظريا بارزا قد طغى على البدايات الأولى لدراسة هذا الجنس الأدبي بين التوجهين الشكلاني والسيميائي، على اعتبار أن السؤال السيميائي- على خلاف التوجه الشكلاني الذي يبحث عن الثوابت الشكلة الموحدة للجنس الروائي- ظل منشغلا بمكونات المحكي في الأنماط السردية من خلال ربط دلالاتها بالثقافة والمتلقي غيرها من شروط التكوين والتلقي. وقد آثرنا تجاوز الحديث عن التصور الشكلي البنيوي لعلوم السرد الذي عرف أوجه مع الناقد الفرنسي “جيرار جونيت”، لنستشرف نموذجا لسانيا سيميائيا انشغل بإقحام عنصر الدلالة ضمن معطيات البنية السردية. يتعلق الأمر بنموذج “فرانسوا راستيي” الذي بنى نسقه الدلائلي sémantique على مجاوزة نموذج آخر سابق عنه يخص أستاذه السيميائي الفرنسي “كريماص Greimas” الذي كان له الفضل في طرح سؤال المضمون الحكائي بعيدا عن نمطية الشكل وقوالبه المنمذجة الثابتة.
يعدّ “راستيي” إذن من أهم من حاولوا فتح السرد على شروط الدلالة من خلال منهج محكم يقرّ مبدئيا بلا جدوى حصر السرد في بنيته الشكلية دون سؤال المعنى، لأن أي بنية حكائية مهما كانت بسيطة يمكن النظر إليها بوصفها تتابعا بين مضمون مطروح سابق و مضمون محوّل لاحق [3]. ولا شك أن هذا الانفتاح يعني تخليص السرد من صنميته التي عُرف بها في الطروحات الشكلانية والبنيوية المنغلقة، حيث تجذرت النزعة إلى توحيد الشكل السردي واصباغه بطابع الكونية، فكانت المفارقة كما يصورها “ليفي شتراوس” في أن السعي إلى علمنة وتوحيد الشكل السردي سيتحول إلى سجن يُخضع كل السرود و لا يعترف بخصوصياتها: “قبل مجيء الشكلانيين لم نكن نعرف الشكل الذي يوحّد الحكايات، أما بعدهم فلم نعد نعرف أين يكمن الاختلاف بينها” [4].
و يرى راستيي أن مختلف هذه الطروحات ظلت ملازمة لوهم شكلاني راسخ “يرى أن السرد متمفصل بواسطة بنية شكلية معزولة عن المضامين المستثمرة ” [5]. وهو الإرث الذي يرجع إلى مفهوم البنية الشكلية كما ترسخ مع الطرح السوسيري بخصوص اللغة، والذي على أساسه صارت المحكيات بنى مغلقة تقطع صلاتها بالدلالة الخارجية، طالما أن المحكي récit يمكن أن ينظر إليه كلعب بالاختلافات [6]، لذلك سيتجه لطرح نموذج دلالي سردي ضمن تصور عام لبنيات النصوص، كما اتجه لإعادة صياغة المكون الدلالي الموضوعاتي اعتمادا على صنافة جديدة لمفهوم التشاكل isotopie، وهو التوجه الذي بناه على محاورات عميقة مع النموذج السيميائي لأستاذه كريماص في مجال السرد. فما الجديد الذي طرحه راستيي في مجال دلالة النص الروائي؟ وما هي بؤر التوتر والاشتباك بين نموذجه التحليلي ونموذج كريماص في السيميائيات السردية ؟
كريماص والنموذج السردي الدلالي
لسنا هنا في مقام جرد البناء العام لمشروع السيميائيات السردية عند كريماص، بل سنكتفي بطرح الأفكار المتماسة مع المستوى الجدلي السردي كما يطرحه راستيي ضمن عناصر دلائليته النصوصية، ومن أبرزها التصور التوليدي للنص الذي يعتبر المهاد النظري الناظم للسيميائيات السردية عند كريماص، وكذا علاقته بسؤال الدلالة النصية، مع ما يطرحه ذلك من آلية التشاكل الذي يعتبر امتدادا إجرائيا لهذا التصور المركزي ومعطياته اللسانية والدلالية. فمن المعلوم أن سيرورة الدلالة في النصوص عند كريماص تظل رهينة المنظور التوليدي المستوحى من الإطار النحوي لتشومسكي وتنخرط كليا ضمن نظريات التلفظ التي تهتم باللغة بوصفها فعلا موجها بقصدية الذات المتلفظة [7]. فما بين المادة الدلالية التكوينية للنص الموقورة في صميم ذات التلفظ وبين تجسدها في متوالية خطابية نصية يوجد المسار التوليدي بوصفه اقتصادا عاما لهذه النظرية السيميائية، حيث أن كل موضوع سيميائي يمكن تحديده حسب نمط انتاجه، مما يعني أن المكونات المتدخلة في هذه الانتاجية يتمفصل بعضها مع البعض الآخر حسب مسار يتجه من البساطة إلى التعقيد، ومن المجرد إلى الملموس[8] .
ولئن كان المحكي من المواضيع السيميائية المركزية في المشروع الكريماصي، فإن المسار التوليدي للموضوع الحكائي يمكن استعادته من خلال عملية تأويلية تقوم على مسويات اختزالية ناظمة. فمستوى التمظهر الخطابي يحايثه مستوى التركيب السردي ويتحكم فيه، وهذا الأخير بدوره يحايثه مضمون ثابت في شكل مربع سيميائي تحكمه علاقات دلالية متلازمة. ولا شك أن مستويات الاختزال هاته التي ترد الظاهر النصي إلى عمقه الدلالي المؤسس، والتي تتحكم في جميع النصوص الحكائية، جعلت النموذج الكريماصي ينحو نحو سيميائيات سردية كونية تزعم وصف السرود الخاصة بكل المجتمعات، وأيضا كل النصوص الخاضعة لنفس الترسيمة، مما سيقوض طموحها النظري بضعف عمليتها الوصفية المهمشة لخصوصية النصوص [9].
وقد كان اعتبار كريماص السرد بنية سيميائية كونية هو المدخل الذي جعل راستيي يرصد نزعتها المتملصة من خصوصية النصوص واللغات الطبيعية مما يبعدها عن اللسانيات [10]. فإذا كان التمظهر العلامي اللساني هو ظاهر النص أي المستوى الذي نتعرف من خلاله على اللغات الطبيعية وعلى الأنواع السردية باعتبار واسماتها الشكلية الدالة، فإن سيميائيات كريماص لا تراعي هذه الفروقات السطحية لفرز مسألة الأنواع، بل تعتبرها مجرد تنويعات لمعنى عميق[11] أو مضمون حكائي ثابت، منطلقها التأسيسي في ذلك ما استقرأه كريماص من عينات للمحكي الأسطوري mythique، تم تعميم بنيتها ونمط صيرورتها على كل المحكيات.
ولا شك أن هذا التصور، بالإضافة إلى تهميشه لخصوصية الأنواع والخطابات والمتون التي نتعرف عليها في المستوى اللساني السطحي، يفتقد للنجاعة والكفاءة أمام بعض النماذج الروائية التي تخالف منطقه وتتقصد تجريب المجهول، وخرق كل المواضعات التي تربط التمظهر بما يفترض أنه عمقه الدلالي المتعالي، فالرواية التحديثية مثلا ” لا تقوم على تأكيد نقط الانطلاق في السرد، بقدر ما تقوم على التعارض بينها وبين نقط الوصول، أي التعارض بين التصور والتحقق” [12].
إن تهميش خصوصية النصوص والخطابات ليس، في حقيقة الأمر، سوى نتيجة للتمركز حول نموذج توليدي يتفادى طرح نظرية لتأويل النص الحكائي، فصار الفعل التأويلي متقلصا يمتحن باحتشام في إطار علاقة بين-ذاتية بين المتلفظ والمتلفظ له ليست مرتبطة بالتواصل ولكنها مرتبطة بالتلفظ حيث ” الدلالة ليست سوى تحويلا لمستوى من المعنى إلى مستوى آخر، من لغة إلى لغة أخرى مغايرة، والمعنى ليس سوى هذه الإمكانية من التحويل أو التسنين العابر بين المستويات” [13].
يتجسد التسنين الاختزالي ضمن هذه الخطاطة السيميائية بدءا من المستوى الخطابي الحافل بالصور اللكسيمية المنتخِبة للممثلين و أدوارهم الموضوعاتية، وهي البنية التي يتم تسنينها في مستوى آخر، محايثا وذا طبيعة سردية، يخضع تركيبه لنموذج أدوار عاملية تبرز سيرورة العوامل وعلاقاتها المتحركة في الحكاية، على أن يتم تحويلها بدورها إلى مستوى دلالي عميق يعتبر الشرط المتعالي لوجودها. و من هنا يمكن القول بأن السرديات الكريماصية تطرح نموذجها النظري وفق نحو تحويلي توليدي محايث للموضوع الموصوف[14]، مما يجعله رهنا لأصنمة داخلية تنمط المتلقي وتخضعه لخطاطات جامدة لا تعترف بتجربته في القراءة والتأويل.
وإذا كانت السيميائيات السردية قد حاولت رد الاعتبار إلى المستوى الاستبدالي عندما أخضعت الخطاب لآلية التشاكل الذي نحته كريماص اعتمادا على الحقل الفيزيو-كيميائي[15]، فإن الإشكال الذي يطرح هنا مرتبط بمفهوم هذا التشاكل الذي يحرك استبدالاته وفق خطاطة دلالية منطقية تقارب المعنى النصي من داخله، خصوصا وأن كريماص يصدر عن موقف مناهض للهرمينوطيقا بحجة ارتباطها بالمرجع الخارجي في بناء المعنى، واهتمامها بشكل خاص بالمعطيات غير اللسانية للخطابات ولظروف إنتاجها وقراءتها [16]. وقد كان تهميش كريماص للسياق بمثابة الأساس الذي بنى عليه راستيي نقده للسيميائيات البنيوية، حيث استند إلى قناعة مفادها أن هناك معايير اجتماعية تشتغل إلى جانب النسق الوظيفي للسان في تكوين المعنى النصي، فالممارسة الاجتماعية الملموسة تسنن الخطابات في اختلاف أجناسها[17] .
التشاكل بين كريماص وراستيي
حاول السيميائيون وعلماء الدلالة مجاوزة المأزق الذي عرفته علوم الدلالة المعجمية في معالجة النصوص، بالاستعانة بمصطلح مركزي يشكل عصب الجهاز النظري في علوم الدلالة الحديثة ألا وهو التشاكل isotopie، وذلك بالنظر لما يحوزه من كفاءة تأويلية قادرة على ضبط الدلالة المتنامية بدءا من أصغر وحدة لسانية ومرورا بطول الرقعة التجريبية للنص محققا بذلك وحدة الرسالة. وقد عبر كريماص عن هذا التوجه بقوله: “كيف يمكننا، منذ الآن، تفسير واقعة أن مجموعا متراتبا من الدلالات ينتج رسالة متناظرة ؟ لأن هناك شيئا مؤكدا: بمجرد بدء تحليل الخطاب من الأعلى، أي بالانطلاق من عجمة lexie معرفة بوصفها وحدة للمعنى، أو بمجرد أن نباشر تنظيم الوحدات التركيبية جد الممتدة انطلاقا من وحدات مؤسسة دنيا، يُطرح مشكل وحدة الرسالة، الذي يُفهم دون نقاش، بأنه كلّ دلالي” [18]. و على الرغم من التصنيفات الدلالية التي منحها كريماص للمعنم، والتي تروم فتحه على استبدالات دلالية تتجاوز المعجم السطحي، فإن نظريته في التشاكل ظلت-على غرار مستويات الاختزال التي ذكرناها سابقا- خاضعة لمقولتي السطح والعمق التي تحكم نظام المسار التوليدي. نتلمس ذلك من خلال تمييزه الحاسم بين تشاكل صريح isotopie dénotée و تشاكل إيحائي isotopie connotée، حيث يعتبر صريحا إذا تم التصريح به من خلال تكرار المعانم المعلومة في التشاكل الصوري الظاهر، ويعتبر إيحائيا إذا كانت قراءة مستواه الضمني غير ممكنة إلا بالافتراض الأولي لمدلول جديد[19]. و نتيجة لهذا التصور أصبح بإمكان كل نص أن يطرح تشاكلين في نفس الوقت، وبالتالي إتاحته لقراءتين مختلفتين، تتجسد إحداهما على المستوى الخطابي والأخرى على المستوى البنيوي العميق، حيث أن التشاكل الخطابي السطحي لا يقوم إلا بإظهار التشاكل البنيوي الأكثر عمقا[20].
إن التمييز بين تشاكلين أحدهما صريح والآخر إيحائي هو تمييز، في حقيقة الأمر، بين مستويين متراتبين للمضمون: المستوى الدلالي المتكون من طبقة الكلاسيمات، ثم المستوى السيميولوجي المتكون من طبقة المعانم الذرية أو الصور المعنمية [21]. وبالنظر إلى أن الكلاسيمات هي الدلالات المرتبطة بالجهاز الوظيفي للغة القريبة من ظواهر المعجم وأن السيمات الذرية محض دلالات إيحائية عميقة، فإن المقاربة السميائية الكريماصية، كما أسلفنا، رفضت التوجه نحو المرجع الخارجي، وجعلت مرجعها في تأويل النص هو النص نفسه، معتبرة أنه يمكن إعادة بناء التلفظ وفق صورة منطقية-دلالية يتم تطويرها انطلاقا من النص[22].
إن المعنى المحايث وفق هذا التصور هو بحث، في الواقع، عن الأصل الدلالي بما هو قصدية ثاوية في ذات التلفظ، و لا ينبغي أن يحيد عنها إلى قصديات خارجية، على الرغم مما تحظى به الذات المؤولة من سمة الحضور والاشتباك المباشر مع النص، والأكثر من ذلك منحه هويته الدلالية كما يخبرنا بذلك أصحاب التلقي ومرجعيتهم الظاهراتية التي تؤمن بأن الموجود هو ما يدرك من خلال الفهم، والنص يظل كامنا ما لم يتجادل مع ذات قارئة تمنحه كينونته. فالتوجه السيميائي المحايث الموروث عن التفسير الهرمينوطيقي الديني في أوروبا وهو يدعو إلى التشبث بهذا الأصل الخلاق للمعنى سيواجه بإشكال أن هذا المعنى لا يمكن استرجاعه بشكل علمي موضوعي، فتحويل الجملة أو النص إلى دلالة بنيوية أولية تطابق قصدية الذات المتلفظة كمن يبحث عن معنى مستحيل يظل، كما يرى راستيي، حدسا لا يمكن التحقق منه [23]. أضف إلى ذلك أن الارتباط بسؤال قصدية الذات المتلفظة سيكون على حساب اشتراطات أخرى حافة بحركية اللغة وخلفيتها الثقافية والاجتماعية المحدّدة لسياق التواصل النصي، مما يجعل هذا النموذج محض سيميائيات توليدية لا تأويلية، أي خارج مقصديات القراء بما هي تأملات وانفعالات وتعاليق ومشاعر وغيرها مما يشكل في الواقع عمق مدار نص أي رواية[24] .
وقد شكلت مختلف الخلاصات السالفة الذكر دافعا ل “راستيي” لتسليط الضوء على أعطاب المقاربة الدلالية للسرد كما وردت عند كريماص الذي دشن البدايات الأولى لمحاولة تأصيل علم دلالة نصي من خلال كتابه “علم الدلالة البنيوي sémantique structurale”. ومعلوم أن علم الدلالة لم يظهر إلا في أواخر القرن العشرين بوصفه آخر فرع من فروع اللسانيات، وذلك عقب علم الأصوات وعلم النحو في إطار تطور اللسانيات التاريخية، و لغاية التأصيل حاول علم الدلالة استعارة مناهجه أحيانا من البلاغة الكلاسيكية، وأحيانا أخرى من علم النفس التأملي [25]. غير أن اهتمام اللسانيين، على اختلاف توجهاتهم، ببناء الأنساق الشكلية المتحكمة في الظواهر اللغوية و السعي إلى تقعيد مختلف أنماط العلاقات التي تطبع الأجناس الأدبية، أعاق، كما يرى كريماص، انطلاقة طرح علم لساني للدلالة بكيفية مقصودة تدعو إلى التساؤل حول ما إذا كان علم الدلالة يمتلك اليوم موضوعه المتجانس، وإذا ما كان هذا الموضوع ملائما للتحليل البنيوي، و هل يجوز لنا اعتبار علم الدلالة تخصصا لسانيا [26]، ليخلص إلى أن هناك ثلاثة أسباب حاسمة تفسر تهرب اللسانيين من أبحاث خاصة بالدلالة هي التأخر التاريخي للدراسات الدلائلية، والصعوبات المرتبطة بتعريف موضوعها، مع ما رافق ذلك من مدّ شكلاني واسع [27].
ولئن كان راستيي يقاسم كريماص فكرة الحيف الذي تعرض له علم الدلالة في إطار اللسانيات، فإنه اختلف معه في الإجراءات العملية التي يترجمها كريماص فى دلالة داخلية محايثة للتلفظ، مما يقلل من فرص دلالة تأويلية منفتحة على خصوصيات النصوص والخطابات والثقافات وأنماط القراء. هكذا انبرى راستيي لرد الاعتبار إلى التنوع الخطابي والأجناسي للنصوص، بحيث سيجعل له سلطة واضحة على عملية التأويل، وذلك وفق أبعاد لها القدرة على بناء نصية منسجمة ومتماسكة. و كان التصور المحرك لراستيي في ذلك هو أن السرد يتجاوز الأدب مما يفرض دراسته من منظور علم شامل للنص، بخلاف السيميائيات السردية التي اختصت منذ الوهلة الأولى بالنصوص الأدبية وجعلت من مجموعة من الأشكال السردية نوعا عالميا [28]. أضف إلى ذلك أن علما لدلالة النص، من منظور راستيي التأويلي، يقتضي تجاوز المقاربة السيميائية المحايثة والانخراط في مقاربة لسانية تعتبر السرد مجرد بنية نصية ضمن بنيات أخرى.
لقد جاءت مجاوزة راستيي للطرح الكريماسي إذن مرتكزة حول مفهوم التشاكل المحكوم بفكرة المحايثة، مع طرح تصور شامل للنص يجعل من السرد مجرد بنية متعالقة مع بنيات نصية أخرى هي الموضوعاتية thématique والحوارية dialogique والتكتيكية tactique. ولا شك أن هذه المكونات الأربعة تشكل معمار علم الدلالة النصوصي sémantiques des textes لراستيي نظرا لكونها العناصر المبنينة للمدلول النصي، حيث تحكمها علاقات تفاعلية غير تراتبية تخدم توجهه القاضي بتفكيك أونطولوجيا المعنى المحايث التي تقوم عليها السيميائيات الكريماصية، مشكلة بذلك المدخل الرئيسي على درب التوليف المنهجي بين علمي الدلالة والسرد.
يرفض راستيي تمييز كريماص بين تشاكل عميق وآخر سطحي تابع له [29]، ويراه ضحية مزالق منهجية، أو بالأحرى ضحية نزعة أونطولوجية قديمة و متجدرة تؤمن بالمحايثة والوحدة المتخفية وراء الظواهر، وفق مثالية تعطي للفكر وللغائب أسبقية عن اللغة والحاضر، أي أنها تجعل من المتحقق معلولا لممكن خفي سابق. وفي هذا الصدد، يُبدي “راستيي” عدم اتفاقه مع الدعوة التي أطلقها ” ميشيل أريفي M.Arrivé” المتأثر بالتحديد الكريماصي (تصريح/إيحاء) للبحث ضمن جهاز المناهج اللسانية الواصف للغات الطبيعية، عن آلية مقبولة لتحديد الوحدات الملائمة للتشاكلات الإيحائية، وهو الأمر الذي يعتبر ابتعادا عن الوصف اللغوي للنصوص، طالما أن التشاكل كما يعرفه “أريفي” نفسه، ينشأ عن تكرار وحدة لغوية [30].
وفي مقابل ذلك، يرى “راستيي” بعد جرد التطور التاريخي لهذه الثنائية (سطح/عمق)- بدءا من منطق جون ستيوارت ميل ومرورا بلسانيات بلومفيلد ويالمسليف وفلسفة اللغة مع فريجه إلى الزمن المعاصر- استحالة إنتاج معيار شكلي للتمييز بين هاذين المستويين، لأن العلاقة السيميائية التي تؤسس التصريح هي نفسها ما يؤسس الإيحاء، وبالتالي فهي علاقة تعاضد واقتضاء متبادل[31]. وللبرهنة على التأثير العملي المربك الناجم عن التمييز بين هاذين التشاكلين، يجري “راستيي” تحليلا على مقطع من إحدى روايات “إيميل زولا”، ويخلص إلى نتيجة مفادها أن مثل هذا التمييز يقود إلى الفصل بين تشاكل ملازم inhérent (سطحي بمفهوم كريماص) وتشاكل تابع afférent (إيحائي بمفهوم كريماص) يكونان نطاقا تشاكليا faisceau isotopique. ومعلوم أن المعانم المؤسسة لتشاكلات النطاق تجمعها علاقة تضمين أو ارتباط، ولا يمكن أن تكون في علاقة انفصال. لذلك يختم “راستيي” تحليله بالتساؤل : إذا كان التشاكلان الصريح والضمني ينتميان إلى مستويين مختلفين، فكيف يجتمعان في نطاق تشاكلي ؟[32].
إن التشاكل، في تقدير راستيي، لا يقيم فصلا تأويليا بين المعاني الوظيفية التصريحية والمعاني السياقية الإيحائية للوحدات اللغوية طالما أنها ترتبط فيما بينها لتشكل وحدة الرسالة، لذلك سيعمد إلى توسيع مفهوم التشاكل ليس على مستوى المضمون بتكرار الكلاسيمات فحسب، ولكن بتكرار الوحدات التعبيرية أيضا، ومن هنا صار التشاكل يخص التعبير والمضمون معا، أي ما يسميه المعانم الخصوصية spécifiques المرتبطة بالتعبير الخطابي و المعانم الذرية التوليدية génériques المرتبطة بالحقل الدلالي[33].
وإذا كان راستيي يطرح تصنيفه الأول للتشاكل (خصوصي/توليدي) ارتباطا بمقولة الحقل الدلالي، فإن البديل الذي يطرحه في مقابل مستويي كريماص هو تصنيف آخر في قلب الثنائية خصوصي/توليدي يميز بين معانم ملازمة و معانم تابعة ينجم عن تكرارها تشاكلان ملازم وتابع. يعتبر المعنم الأول مقابلا للتصريح عند كريماص وخاصا بالجهاز الوظيفي للغة أي أنه سمة وريثة للنوع بشكل أصلي، ومعرّفة له ك /أسود/ بالنسبة ل ‘غراب’[34]. وإذا أخذنا مثالا آخر يتعلق بالصفرة، نجد أنها مسلمة دلالية منشطة activée بشكل أصيل في الكلمة ‘ذهب’ ما لم تكبحها موانع دلالية طارئة كعبارة “الذهب الأسود” مثلا التي تحيل تداوليا ومن خلال سياق سوسيو-ثقافي على مفهوم “النفط”، مما يعني أن المعنم الملازم للجهاز الوظيفي للغة يفرض قواعده على كل استعمال لهذه اللغة، أما المعنم التابع المقابل للمعنى الإيحائي عند كريماص فينفتح على خصوصية التلقي لكونه يرتبط بالخصائص السوسيوثقافية للمتكلمين.
غير أن السياق اللغوي قد يتدخل ليعطل وظيفية اللغة، وفي هذه الحالة يصير المعنم المكبوح كامنا virtualisé، أي موجودا بالقوة، مقابل تحيين معنم تابع بديل خاضع لسياق لغوي أو لتسنين اجتماعي (لهجات اجتماعية أو فردية). فكلمة ‘أبيض’ في عبارة مجازية من قبيل ” الدم الأبيض” تحوز المعنم التابع بالسياق اللغوي /بياض/ وتوزعه في كلمة ‘دم’ عاملة بذلك على كبح المعنم الملازم /حمرة/. وإذا كان السياق اللغوي ضمن هذا المثال محليا أي أنه مفعل على مستوى الجملة، فهذا لا يعني عدم وجود سياقات لغوية شاملة، أي مرتبطة بمناطق بعيدة من النص، وتحوز نفس التأثير في توجيه العلاقة الدلالية على مستوى وحدات لغوية محلية. فالسياق اللغوي الشامل global له تأثير على السياق اللغوي الجزئي local [35].
إن مجاوزة السياق اللغوي إلى تسنين سياقات اجتماعية في اللغة يمنح التأويل صبغة آلية توسطية بين النص ونظامه الحاضن الذي أنتج فيه. ويدخل ضمن مكونات هذا النظام كل من المؤلِّف والمجتمع، حيث يحضر تأثير الأول على المعنى من خلال ما يعرف باللهجة الفردية idiolecte، وهي كل المعايير الفردية التي تميز استعمال اللغة عند متكلم معين، أما تأثير المعنى الاجتماعي فيتجلى من خلال لهجة اجتماعية sociolecte تعني مختلف أنماط الخطاب المؤسسة بواسطة معايير اجتماعية، ذلك أن كل لهجة فردية ترتبط بنمط ممارسة اجتماعية (قانونية أو سياسية أو دينية ..) لها معجمها الخاص المبنين في البعد الدلالي [36] .
إن كلمة واحدة رغم مدلولها المعجمي الثابت قد يختلف استعمالها من قارئ إلى آخر، كما يمكنها أن تثير أفهاما وإيحاءات مختلفة من ثقافة لأخرى، وذلك بحكم السياقات السوسيوثقافية التي تدخل في صميم التجربة المعيشة لكل جماعة على حدة، والتي تشحنها بتاريخ استعمالي خاص. ووفق هذا التصور تصير الدلالات رهنا لسلطة السياق السوسيوثقافي لأن “وراء اللغة أنساق لفظية تؤطرها” [37]. وإذا كانت هذه السياقات السوسيوثقافية مغيبة في الطرح الكريماص المنشغل بالمعنى المحايث، فإنها تشكل عند راستيي المجال الحيوي للمعانم التابعة، فهي لا تحضر ولا تكتسب معنى إلا بداخلها، بينما تعمل المعانم الملازمة وفق وظيفية اللغة و خارج أي سياق. وهو ما يعني أن التعارض بين تشاكل ملازم وآخر تابع ليس بدوره خصيصة أصيلة أو محايثة للمعنم الدلالي، ولكنه عملية منذورة لاختيار القارئ واستراتيجيته التأويلية المتبناة .
يؤدي التأويل بآليتي الملازمة والإتباع كفاءة تدلالية مهمة، خصوصا إذا تعلق الأمر، كما أسلفنا، بالاستعمال الاستعاري للغة الذي يجمع بين متناقضين، لأن تحيين بعض المعانم المرتبطة بوحدة لغوية استعارية، يكون بمقابل كبح معانم أخرى من صميم اللغة، أي تعريفية للنوع أو وريثة له بشكل أصلي كما يصفها “راستيي”. و لا يقتصر المسعى الانفتاحي للتشاكل على السياقين اللساني والاجتماعي فحسب. فهذه المرحلة لا تستوفي سوى تأويلا داخليا instrisèque لا بد أن يُتوج بتأويل خارجي extrinsèque ينفتح بالنص على واقعه الخارجي، دون أن يكون مسننا في اللغة وإنما يكفي الربط الرمزي بين النص و بين ما يسميه “إيكو U.Eco” بالمعطيات الموسوعية، وذلك عبر عمليات النقل و الاستبدال و الحذف و الإضافة [38].
يمكن القول إذن بأن القراءة الأولى تلتزم بتناظرات البنية الداخلية للنص مهما انفتحت على معايير فردية أو اجتماعية مسننة في النص، بينما تختص القراءة الثانية بتناظرات خارجية، يعمل القارئ على إدماجها من خلال روابط رمزية. وبهذا تختص القراءة الواصفة بالنوع الأول، فيما تختص القراءة المنتجة بالنوع الثاني، على أن توافق المعايير الداخلية تحيينات الموسوعة الثقافية.
وإذا كان مصطلح التأويل الخارجي شديد الوثاقة بمفهوم الموسوعة كما بلوره “إيكو” و لاءمه لمقتضيات سيميائيات نصية، فإنه ينفتح أيضا على مصطلح آخر له أهميته التاريخية والتأويلية وهو مصطلح التناص[39] الذي أتاح ” الانتقال من الشيفرة اللسانية إلى السيميوطيقية أو الإيديولوجية بوجه عام، وذلك عن طريق رفض الانغلاق، باعتبار النص يشتغل ((منفتحا)) على نصوص سابقة” [40]. ولئن كان التناص عملية حتمية تعبر عن نسق تآلفي للتفكر الإنساني، ولتداخل النصوص، فإن “راستيي” لم يهمل هذه العملية من نموذجه التأويلي، فهو يجعل من آلية التأويل الخارجي نافذة مهمة لانفتاح النص على متنه المرجعي، أي مختلف النصوص التي تدخل معه ضمن نفس النوع، بما يجعل من المسارات التوليدية والتأويلية في قلب نص غير منفصلة عن مسارات تأويلية في التناصات المبنينة المكونة للمتن [41].
وفي هذا الصدد، يظل السؤال البارز الذي يثيره “راستيي” هو المتعلق بالمعايير التي بواسطتها نقبل نصوصا خارجية لتدخل في علاقة تناصية يتم على إثرها تأويل النص. وهو سؤال، في حقيقة الأمر، يدور حول مدى تأثير التناصية intertextualité بوصفها تأويلا خارجيا على النصية textualité بوصفها تأويلا داخليا. فكل مقطع نصي، أو كل علامة – كما يرى “راستيي”- تشتغل وفق وظيفتين : داخلية و تناصية، بحيث تعمل الوظيفة النصية الداخلية على تحديد الوظيفة الخارجية. وتقوم الوظيفة الداخلية على نظام للمعنى من خلال مجموع العلاقات بين مضامين النص، في حين تقوم الوظيفة الخارجية على نظام من التعيين désignation، وما يقوم بتحديد هذا التعيين هو المعنى الداخلي [42].
وعموما فإن مفهوم التشاكل عند راستيي، كما رأينا، يتأسس على منظور غير محايث، لا يهتم بملاحقة ارتجاعية للمسار التوليدي للوصول إلى الدلالة الأولية المولِّدة، ولكنه يهتم بالخطاب ذاته بوصفه بنية لسانية متعدّدة الأبعاد، تمتلك القدرة على صهر النص ومرجعه ومتلقيه ومحيطه التداولي والاجتماعي ضمن منظومة منسجمة، مما يشكل بديلا ابستيمولوجيا جادّا للثانائية المتمركزة سطح/عمق المهيمنة على سيميائيات كريماص السردية. أضف إلى ذلك أن المستويين الموضوعاتي والسردي في تصور علم دلالة النصوص ليست بينهما علاقة تراتبية، ذلك أن الثيمات السطحية والتشاكلات العميقة تشتغل ضمن فضاء موضوعاتي واحد، يستثمر المدلول النصي وفق أبعاد مختلفة. وبهذا فهو ليس معنيا بالمستوى السردي –كما حدده غريماس- ولكن يخصص له حيزا مهما ضمن مكون آخر، ليست له بالمكون التيماتي علاقة تراتبية و هو المكون الجدلي.
السرد بوصفه بنية نصية جدلية
إذا كان من سيئات المنظور التوليدي أن تركيزه على المعنى العميق في مقابل تهميشه للتمظهر الخطابي قد أدى به إلى الخلط بين النصوص والخطابات، فإن ذلك، كما يقدّر راستيي، يؤدي في مرحلة ثانية إلى نقطة منهجية ومعرفية ملتبسة وقعت فيها بعض النظريات الدارسة للحدث السردي، وتتعلق بعدم التمييز بين أنماط المحكيات، خصوصا بين المحكي الحدثي البسيط récit événementiel والمحكي الأسطوري أو العجائبي récit mythique ، وهما يختلفان في نقطة جوهرية تتعلق بالانغلاق. فبالرغم من أن الشكل الحدثي البسيط يؤسس من خلال تمظهراته سلاسل تشاكلية، تحدّد الممثلين والأحداث والمجالات الزمكانية، فإنه يظل منفلتا من أي تسييج أو انغلاق[43]. أما الشكل الأسطوري الصراعي، فعلى الأقل، من خلال الخطاطة العلمية المحكمة التي نسندها له يظل متميزا بانغلاقه، و رغم تفضيله من قبل الدارسين، فهو ليس سوى أداة ضرورية لنهج العقلنة والكمال [44].
ومن هنا حاول راستيي ردّ الاعتبار للمحكيات البسيطة التي يصعب تحليلها بموجب الخطاطات المغلقة (النموذج العاملي، الترسيمة السردية، مستويات الاختزال ..)، ذلك أنها تفتقد غالبا للصراع أو تعمل على تلبيسه وترميزه، و تستند عناصرها (الممثلون والأدوار والوظائف) على خلفية موضوعاتية منفتحة على السياق والمحيط الثقافي والاجتماعي، وبالتالي انفتاحها على بناءات تأويلية حرة، ليست خاضعة لصرامة المحكي الأسطوري. وانطلاقا من هذا المبدأ التعدّدي سيعمد راستيي إلى التمييز ضمن المكون الجدلي بين مستويين متباينين أحدهما حدثي événementiel والآخر صراعي agonistique، (يتواجد أكثر في النصوص الأسطورية)، مع تجاوز القيود الكريماصية الضاغطة المفروض العثور عليها في كل النصوص [45]. ولا شك ان هذا التوجه يجد ضالته في مفهوم الحكي نفسه الذي نراه متعدّدا بتعدّد الكائن الإنساني الغامض والمختلف في ذاته وثقافته ومرجعياته القيمية التي تؤطر رؤيته للوجود، لذلك فإن “أي تفكير في السرد هو تفكير في الأدب والثقافة والتاريخ والمجتمع” [46]. وعموما يطرح “راستيي” – كما أسلفنا- تقسيما للمكون الجدلي وفق مستويين:
- مستوى حدثي événementiel يظهر ضمن جميع النصوص ذات الطابع السردي، و تتكون وحداته الأساسية من الممثلين، والأدوار، والوظائف بالمفهوم الذي طرحه “فلاديمير بروب” في دراسته للحكاية الروسية العجيبة.
- مستوى صراعي agonistique يعتبر تراتبيا أعلى من سابقه، وتتكون وحداته الأساسية من المصارعين agonistes و المتتاليات séquences [47].
إن الصياغة النظرية لمستويين حدثي وصراعي تهدف من جهة إلى الاعتراف بتعدّد أنماط المحكي وتوفير الكفاءة التحليلية الخاصة بكل نمط، وتهدف من جهة أخرى إلى تحرير السرد من شكليته، أي – كما يرى “ريكور”- من أونطولوجية البنية السمفونية المتحكمة فيه[48]، ويتجسد ذلك عمليا في مدى استناد مجمل العناصر السردية لهاذين المستويين إلى خلفية مضمونية، حيث نجد عند “راستيي” أن بناء الكون الحكائي بما يضمه من ممثلين ووظائف ومصارعين يخضع للمعالجة الموضوعاتية، أي بالتعامل معها بوصفها وحدات دلالية.
خاتمة
لا شك أن الأسس النظرية التي شيّد عليها راستيي معمار علم دلالة النصوص تظل ثرية ومتعدّدة، لكن هذا التصور، كما رأينا، يستمد الكثير من طموحه واجتهاده من المهاد السيميائي لكريماص. ولئن كان المشروع السيميائي الكريماصي الضخم، بما يتضمنه فضلا عن ذلك من معطيات علم دلالة بنيوي، يعبّر عن نسق متكامل وتصور محكم لسيرورة دلالة النصوص الحكائية، فإننا ركزنا دراستنا حول آليتين محوريتين هما المسار التوليدي والتشاكل، وحاولنا إبراز وتحليل موقف راستيي منهما، والبديل النظري الذي يطرحه في مقابل ذلك محدثا مسافة واعية بينه وبين نموذج كريماص، وذلك وفق رؤية تحديثية منسجمة ومتكاملة. ولا شك أن هذا الاشتباك المعرفي والمنهجي الذي يطال الجهاز النظري بمختلف آلياته الاجرائية عند كريماص وراستيي يعبر في حقيقة الأمر عن اختلاف حاسم في البناءات النظرية بينهما التي يمكن إجمالها في المعادلة : سيميائيات سردية تنزع إلى الكونية عند كريماص في مقابل علم دلالة لساني للنصوص عند راستيي. فإذا كان كريماص يوسع حقله السيميائي إلى حدود الكونية لكن مقصورا على النصوص السردية، فإن راستيي يقلص هذا الحقل إلى دلائلية لسانية منفتحة (يصر على طابعها اللساني) لكن تسع كل النصوص باختلاف خطاباتها وأنواعها وأجناسها عبر علم شامل لدلالة النص. ومهما يكن فإن مقاربة راستيي في هذا الباب كان لها الفضل الواسع، كما رأينا، في فتح النص على مختلف شروط تكوينه واستقباله، وهو ما يعزّ في الطرح الكريماصي الموثوق إلى تصوري القصدية والمحايثة .
[1]– Vocabulaire des études sémiotiques et sémiologiques, Sous la direction de Driss Ablali et de Dominique Ducard, Ed. Honoré Champion, Paris, 2009, p.43.
[2] – يمكن في هذا الصدد الاطلاع على كتاب سعيد يقطين ” السرديات والتحليل السردي”( ص130-131) وعلى المقال القيم للباحث cavazza المعنون ب: «Narratologie et Sémantique : pour une refondation interprétative»
[3] – Rastier François. Situation du récit dans une typologie des discours. In: L’Homme, 1971, tome 11 n°1. pp. 68-82. P.68.
URL : www.persee.fr/doc/hom_0439-4216_1971_num_11_1_367154
[4] – C.Levis-Strauss, Anthropologie structurale deux, Ed. Plon, 1973, p.159
[5]– François Rastier, sens et textualité, Ed. Hachette, Paris, 1989, P.198
[6]– Groupe d’Entrevernes, Analyse sémiotique des textes, Ed Presses universitaires de Lyon, 1979, p.13.
[7] – Rastier (François), Sémantique Inteprétative, Presses Universitaires de France, Paris, 2009,p.219.
[8] – Greimas (AJ), Courtes (J), Sémiotique dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Ed Hachette, Paris, T1 1979, p.157.
[9] – François Rastier, Sens et textualité, op.cit, p.69.
[10] – Ibid, p.70.
– راستيي (فرانسوا)، فنون النص وعلومه، ترجمة ادريس خطاب، دار توبقال للنشر،ط1، الدار البيضاء، 2010، ص233.[11]
[12]– عبد الرحيم جيران، سراب النظرية، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، بيروت، 2013، ص89.
[13] – François rastier, Sémantique interpretative, op.cit, p.216-217.
[14] – Ibid, p.219.
[15] -Ibid, p.87.
[16]– François rastier, Sémantique interpretative, op.cit, p.218.
– عبد الرحيم جيران، سراب النظرية، ص93. [17]
[18] – Greimas (A.J), Sémantique structurale, Ed. Pressses Universitaires de France, Paris, 1986, p.69.
[19]-Greimas, De la figurativité, Actes sémiotiques,VI ,26, pp. 48-52, 1983, p.50.
[20] – François Rastier, Sémantique Inteprétative, op.cit, p.90.
[21] – Ibid, p.90
[22] – Ibid, p.218.
[23] – François rastier, Sémantique interpretative, op.cit, p.220.
– عبد اللطيف محفوظ، المعنى وفرضيات الإنتاج-مقاربة سيميائية في روايات نجيب محفوظ، منشورات الاختلاف، ط1، الجزائر،2008، ص104.[24]
[25] – Greimas, Sémantique structurale, op.cit, p.7.
[26] – Ibid, p.6.
[27] – Ibid, p.7.
[28] – François Rastier, Sens et textualité, op.cit, p.70.
[29] – François Rastier, Sémantique Inteprétative, op.cit, p.219.
[30] – François rastier, Sémantique interpretative, op.cit, p.121.
[31]– Ibid, p.125.
[32] – Ibid, p.126.
[33] – Ibid, p.92.
[34] – François Rastier, Sémantique et recherches cognitives, Presses Universitaires de France, 1ED, Paris, 1991, p.248.
[35] – RASTIER, François. De la signification au sens. Pour une sémiotique sans ontologie. Texto ! juin-sept. 2003,p.5. [en ligne]. Disponible sur : <http://www.revue-texto.net/Inedits/Rastier/Rastier_Semiotique-ontologie.html>. (Consultée le 20/07/2017)
[36] – François Rastier, Sémantique Inteprétative, op.cit, p.44.
– مبارك حنون، دروس في السيميائيات، دار توبقال للنشر،ط1، الدار البيضاء، 1987، ص35.[37]
[38] – El Mostafa Chadli, Sémiotique, vers une nouvelle semantique du texte -problématique, enjeux et perspectives théoriques, op.cit, p.105.
– نتفادى هنا التوسع في دراسة مفهوم التناص وأي رصد لحدوده وتطوره التاريخي ومجالات أجرأته في مختلف الاتجاهات النقدية الحديثة.[39]
– سعيد يقطين، انفتاح النص الروائي: النص والسياق، المركز الثقافي العربي، ط2، الدار البيضاء-بيروت، 2001، ص93. [40]
[41] – François Rastier, La sémantique interprétative, op.cit, p.3.
[42]– Fançois Rastier, sens et textualité, op.cit, p.30.
[43] – Rastier (François) (2014) «Action et récit», [En ligne], Volume XIX – n°3 (2014), Coordonné par François Laurent, p.11. URL : http://www.revuetexto.net/index.php?id=3579.
[44] – Ibid, p.12.
[45]– François Rastier , op.cit, p.69.
[46]– سعيد يقطين، السرديات والتحليل السردي-الشكل والدلالة، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء-بيروت، 2012، ص132.
[47]– François Rastier, Action et récit, op.cit, p.12-13.
[48]– بول ريكور، نظرية التأويل-الخطاب وفائض المعنى، ت. سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي،ط2، الدار البيضاء،2006، ص136.