أقام مركز جيل البحث العلمي تحت اشراف رئيسته الأستاذة الدكتورة سرور طالبي، أمسية يوم الخميس 18 مارس، ندوة افتراضية لتكريم عضو اللجنة التحكيمية بمجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية الناقدة التونسية الأستاذة الدكتورة سلوى السعداوي من خلال مناقشة كتابها: “الكذب الحقيقي ،من قال إنني أنا ،في إشكالية التخييل الذاتي” وذلك بمشاركة الناقد الجزائري أ.د. الطاهر رواينية، تحت إدارة رئيس تحرير المجلة د. غزلان هاشمي وبمساعدة تنظيمية من قبل الباحث :عدنان لكناوي.
افتتحت الأستاذة سرور الندوة بكلمة ترحيبية بكل الحضور ومثمنة جهود أعضاء اللجنة العلمية التحكيمية، مذكرة بأن هذه الندوات الأسبوعية التي تواتر على تنظيمها المركز منذ أكثر من شهرين تهدف إلى الاحتفاء والتعريف بالنتاجات العلمية لأسرة تحرير المجلة قائلة: “الأستاذة سلوى ناقدة فذة وكاتبة متألقة نعتز بها كمغاربة وكأسرة علمية واحدة، ولقد نظمنا هذه الندوة التكريمية على شرفها كعربون شكر على جهودها وتعاونها الفعال ضمن طاقم المجلة”.
ثم أحالت الكلمة إلى مديرة الجلسة د. غزلان التي بدورها رحبت بالحضور قائلة: “سعيدة اليوم ونحن نجتمع من أجل تكريم عضو لجنتنا التحكيمية الباحثة والناقدة التونسية الأستاذة الدكتورة سلوى السعداوي ،وذلك من خلال مناقشة كتابها المعرفي الهام الموسوم بـ”الكذب الحقيقي ،من قال إنني أنا ،في إشكالية التخييل الذاتي”، والذي طرحت فيه رؤية مغايرة حول السيرة الذاتية المعاصرة وتحولاتها ومحمولاتها الجديدة، وذلك من خلال دراسة عدد من النماذج الروائية ،وسعيدة أكثر وأنا في حضرة أستاذنا الفاضل مرة أخرى الأستاذ الدكتور الطاهر رواينية والذي شرفني بقبول الدعوة من أجل محاورة الكتاب ومناقشته ،سعيدة بالحضور الكريم :أساتذة وطلبة ورجال إعلام، فأهلا وسهلا بالجميع ،ودون إطالة أحيل الكلمة مباشرة إلى الدكتورة سلوى من أجل تقديم ملخص تتطرق فيه إلى أهم محطات الكتاب ومحتوياته وإشكالياته.”
شكرت ذ. سلوى طاقم مركز جيل على هذه الندوة الاحتفائية ،خاصة في ظل هذه الظروف الصحية التي حسب رأيها يقدم في ظلها جهودا علمية محترمة ومحاولات من أجل تغيير الذائقة القرائية والنقدية، ثم قدمت الكتاب، حيث قالت :”يأتي الكتاب امتدادا لمشغلي في السرد بضمير المتكلم بصفة عامة، فقد أنجزت أطروحة في إطار بحثي في الدكتوراه بعنوان” الرواية العربية المعاصرة بضمير المتكلم”، وهذا فتح لي الباب واسعا لمواصلة البحث في إشكاليات هذا النوع من الكتابة المعقدة ،وشبهت كتابات الأنا بالشجرة الكبيرة بكل أصنافها التخييلية والوقائعية، فهي بانوراما متنوعة ،لأننا إذا ما غادرنا الجنس الوقائعي، وأضفنا كلمة التخييل حصلنا على جنس أدبي آخر متحول من السيرة الذاتية إلى الرواية السيرة الذاتية، ومن الرسائل إلى الرواية الترسلية، ومن اليوميات الخاصة إلى رواية اليوميات…إلخ من الصنافة الكبيرة ،ففي كل مرة يبرز نوع جديد داخل هذه الشجرة، وهذا الدرب لم يكن سهلا ،لأننا عشنا هذا القلق الابستيمي، فالمنظر الأول للسيرة الذاتية فيليب لوجون قدم نقودا ذاتية لنفسه، وعاد لكتبه الأولى وإلى مصطلح التخييل الذاتي الذي لايزال يثير جدلا كبيرا في صنافة السيرة الذاتية ،…سأقدم في هذه الكلمة مايثيره جنس التخييل الذاتي من إشكاليات في مستوى تعدد المصطلحات والنشأة، والخصائص الإنشائية والميثاق التخييلي، وفي تقاطعه مع سائر كتابات الأنا وأنواعه وفي أسلوبه وموضوعاته وتيماته، فالتخييل الذاتي مصطلح فضفاض ،مركب، يتكون من كلمتي” التخييل والذات”، وهو متعدد المعاني ذاع في وسائل الإعلام الغربية وفي قنوات التواصل الاجتماعي والفنون والرسوم المتحركة.. .وهو وليد أزمة السيرة الذاتية، فهذا المصطلح جديد “،
تساءلت الناقدة عمن وضع هذا المصطلح؟ في صيغة إعلام لا استنكار، لتوضح أنه “سيرج دوبروفسكي وهو منظر وروائي وأستاذ جامعي فرنسي من والدين يهوديين، لكنه درس اللغة الفرنسية في جامعة نيويورك، وضع كتابا عام 1977 وسمه بابن أو خيوط ،ووجد مبررا لابتكار جنس أدبي جديد اصطلح عليه مصطلح “التخييل الذاتي” …، الدراسات التي اعتنت بهذا الكتاب رأت فيه إشكالا يتمثل في التقاطع والتداخل بينه وبين أجناس أدبية أخرى في صنافة كتابات الأنا، السيرة الذاتية من جهة أولى، والرواية السيرة الذاتية من جهة ثانية، لكن الإشكال يكمن في المترادفات الكثيرة التي وجدناها عند المنظرين ،فمنهم من يجعل التخييل الذاتي مرادفا للسيرة الذاتية المتخيلة كما عند دوريد كون ومنهم من يرادف التخييل الذاتي بالرواية السيرة الذاتية مما يزيد المصطلح تعقيدا ،ويجعلنا داخل هذه الأسطوانة الأجناسية، لكن من ألهم سيرج دوبروفسكي لوضع هذا المصطلح؟ ” .
عادت ذ. سلوى لرائد السيرة الذاتية “فيليب لوجون” الذي ترك خانتين فارغتين أو ثغرتين حسب قولها، كانتا دافعين لدوبروفسكي ليؤسس هذا الجنس الأدبي الجديد “تمثلت الخانة الأولى: في أن يطابق اسم المؤلف اسم الشخصية الروائية الرئيسية، بالنسبة له لا شيء يمنع أن يتحقق هذا التطابق ،وهو ما أوقعه في حرج نقدي، فلم يستحضر مثالا واحدا في نظرنا ،أما الخانة الثانية فتتمثل في إمكانية أن تسمى الشخصية باسم مخالف للمؤلف الحقيقي ،وقد انطلق منهما وانخرط في نقاشات أجناسية مع فيليب لوجون، مما أسهم في تطور مشروعه …،تطور هذا الجدل ورغم ذلك مازال مفهوم التخييل الذاتي غامضا إلى اليوم ،ونحن في ظل السرعة في الكتابات الذاتية التي غادرت الحيز الورقي إلى الحيز الإلكتروني والرقمي” استشهدت الناقدة برأي دوبروفسكي الذي يقول: ،سيرة ذاتية لا، إنها امتياز يختص به المشهورون في هذا العالم في خريف الحياة وبأسلوب جميل، هل هي تخييل الأحداث والأعمال الحقيقية ..”،فسيرج حسب قولها يضع نفسه في وضع قلق ،لأننا إذا عدنا الى السيرة الذاتية الكلاسيكية ،”نجد أن من يكتب السيرة الذاتية يكون مشهورا وفي سن متقدمة من خلال تراكم تجربته الحياتية”، لو نظرنا الى هذا التعريف الذي يرى أن السيرة الذاتية تكون بلغة مغايرة تكتب بأسلوب إيقاعي وشعري، نجد ضبابية هذا الحد لأن التعريفات تنسحب على الرواية بضمير المتكلم ، وجدنا هذه المفارقة ،ووجدنا هذه الضبابية في تعريفات أخرى ، فهناك من يقول التخييل الذاتي مجرد مسخ أدبي يعمد إلى التنكر للدخول باحتيال، وبشكل مزعج إلى فضاء السيرة الذاتية ،وهناك من رادفه بالرواية السيرة الذاتية.. ،هناك من يزيد التعريف تعقيدا ،فالتخييل الذاتي ليس مجرد محاكاة شكلية انبجس من جنس السيرة الذاتية واستعار أدوات الرواية بصيغة المتكلم مثل ما ذهبت إليه ماري دايوسييت ،….،”وقد انتهت الناقدة إلى أن “التخييل الذاتي هو تلفظ إثباتي يدعي الاختلاق والجدة أو الصدق معا، أي :أنا ولست أنا ،وهذا نجده في عنوان كتاب للنشمي “أنا مرجعي وأنا متخيل”، حيث تقول: “لم نجد مخرجا لهذا الإشكال، فالتخييل الذاتي بهذا المعنى يعد جنسا ثالثا هجينا من السيرة الذاتية والرواية بضمير المتكلم؟ فهو في نظرنا كتابة ملتبسة مرنة ومتعددة ومنفلتة من أي تحديد أجناسي، ورغم ذلك أصررنا على تبين خصائص التخييل الذاتي ،كما جاء في تعريف سيرج دوبروفسكي وفيليب غاسبيريني …وكما جاء عند إيزابيل غريل تلميذة سيرج
،فأما الخاصية الأولى أجناسية تعاقدية :نحن نعلم في هذه الكتابات الأولى قبل أن نتحرر من مؤسسة الأجناس الأدبية الذاتية كانت السيرة الذاتية تكتب بميثاق الصدق والحقيقة، أي بميثاق القراءة، هذا الميثاق الذي ينتظم بين المؤلف الحقيقي من لحم ودم وهو الكائن التاريخي المعروف بيننا، والقارئ من جهة ثانية، ذلك أن دوبروفيسكي يلح على الميثاق الروائي ،وفعلا إذا ما بحثنا عن ميثاق التخييل الذاتي بالنسبة لكتاب ابن أو خيوط نجد كاتبه وضع ميثاقا روائيا تخييلا ،فنحن في منطقة المابين، مابين التخييل والمرجعية ،وفي نفس الوقت تكون السيرة الذاتية هي مادة أساسية للتخييل الذاتي ،وهنا المفارقة ،فالمادة التي يكتب بها المؤلف التخييل الذاتي هي مادة مرجعية حقيقية ،وهنا مكمن السؤال: ما الفرق بين السيرة الذاتية التي يتسرب إليها التخييل والتخييل الذاتي، والخاصية الثانية العالمية نسبة الى اسم العلم، ينبغي أن يحمل الراوي اسم المؤلف ذاته، وهذا ما يميز التخييل الذاتي عن الرواية السيرة الذاتية، ويمكن أن نجد حرفا يشير إليه، والخاصية الثالثة إيقاعية موسيقية شعرية ،تتعلق بأسلوب الكتابة الذي يعتمد التجانس الصوتي والإيقاع الموسيقي، وهذه الخاصية مشتركة نجدها في الرواية بضمير المتكلم … ” .
تبين سلوى السعداوي أنه بسبب هذه الفروق طرحت إشكالا يتعلق بالتخييل ،”إذا كانت السيرة الذاتية الكلاسيكية لا تنفي تسرب التخييل في فضائها السردي ،فالتخييل الذاتي يمكن أن يضاعف من درجة التخييل، وهنا بحثنا في مفهوم التخييل وأنواعه ،ووجدنا المنظرين في حيرة من هذا المفهوم، وقد انتبهت إلى هذا الجدل الابستيمي، وقد أفدنا في دراستها وعدنا إلى “كيت همبرغر” التي ميزت بين الكتابة بضمير المتكلم المرجعية والكتابة التخييلية في كتابها: منطق الأجناس الأدبية، ،وهذه الخصائص لم تحل الإشكال ،ووجدنا أنفسنا بين أجناس ثلاثة: السيرة الذاتية والتخييل الذاتي والرواية بضمير المتكلم” ،وجدت سلوى السعداوي ثلاثة أنواع للتخييل الذاتي: الأول هو السيري وقدمت مثالا له بالمغربي عبد القادر الشاوي من خلال كتابه “من قال إنني أنا” ،وأكدت وعيه بالتخييل الذاتي ،وبينت أنه كتب مقالات كثيرة في هذا المجال ثم جرب حسب قولها ،إذ تخيل المؤلف تجربة الاحتضار أو الموت ،في نص لم تتخلص فيه الأنا المرجعية من مشهد مرضها الحقيقي ،وهو المرض الخبيث والذي شفي منه ، الروائي استرجع وتخيل أنه في هذه المرحلة المابين في هذا النص السيري، وفي نصه تجد الناقدة أدب الاعتراف والشهادة في فضاء التخييل، والذي يستحيل إلى اعتراف تخييلي لتجربة جديدة ،فهو أدب سيري تأملي، النوع الثاني: التخييل الذاتي العجائبي ، في كتابها يصف الكاتب حسب قولها تجربة حياته بغض النظر عن تسرب الكذب والتخييل ، فهو نص عجائبي تخييلي ،حيث تتحقق عجائبية الذات ،ومن خلال التخييل الذاتي العجائبي قدمت نموذجا بالتونسي عبد الجبار العش ونصه” محاكمة كلب” ،حيث خلصت إلى “أنه تتكثف فيه الدلالات الرمزية ،فتخرق الذات الكلبية وتمثل الوجه الآخر لذات الإنسان المشتتة ،الذات في وضع مقرف ومهين، وهنا قادنا إلى توظيف محاكاة النصوص الساخرة خاصة نصوص كافكا في أبحاث كلب”، وقد ذهبت مذهب البعض في اعتبار أن التخييل الذاتي العجائبي من خصائص الموهوبين ، النوع الثالث: التخييل الذاتي المرآوي ، تقول عنه: “انطلقنا فيه من دراسة “أنثى السراب” لواسيني الأعرج ،حاولنا أن نتدبر خصائص التخييل الذاتي، فالتخييل المرآوي يدل على الانعكاسي الذاتي وينتمي إلى حركة الرواية الجديدة، فهو نوع من الانكفاء الذاتي أو التأمل في ميكانيزمات النوع التخييل الذاتي المرآوي …، بعد دراستنا لهذه الأنواع، خلصنا إلى إشكالات تؤكد حضور الآخر في التخييل الذاتي فالآخر غير مقصي ،بل قد يتسرب بشكل الأنا المنشطرة أو الأنا المتعددة أو الأنا في كل حالاتها، ورأينا في نصوص المدونة كيف كانت الذات في صراع دائم مع المجموعة ومع المقدسات ومختلف الأجهزة القمعية لحرية الفرد “، اعتبرت الناقدة النتائج ليست عامة ونهائية في هذا الكتاب ،لكن انخراطها في الجدل الأجناسي قد يصيب ولو قليلا في التعريف بهذا المصطلح وهذا الجنس الجديد، فقد أنزلت الدراسة ضمن الظاهرة الثقافية عامة ،إذ الأسرار الفردية تعكس أزمة الفرد في مجتمع يدين الكتابة ،هذا وأدركت درامية الذات في جنس التخييل الذاتي العجائبي.
أحالت بعدها مديرة الجلسة الكلمة إلى أ.د. الطاهر رواينية والذي قدم مداخلة موسومة بـ” التخييل الذاتي وبلاغة المواجهة ـ قراءة في كتاب الكذب الحقيقي ـ من قال لست أنا؟ في إشكالية التخييل الذاتي ـ لسلوى السعداوي”، حيث شكر في بداية حديثه المجلس العلمي لمجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية على دعوته للمشاركة في مناقشة هذا الكتاب، شكر ذ. سلوى على إرسال نسخة مصورة للكتاب، وسجل على إثرها قراءة حول مضمونه، بين في مداخلته أن الناقدة استفاضت في الجوانب المعرفية التنظيرية استفاضة تجمع بين الموسوعية والتخصصية، إذ كفته على حد قوله الدخول في مناقشة الكثير من المفاهيم والأطروحات النظرية والتي فضل تركها للنقاش، بدأ مداخلته بمناقشة عنوان الكتاب، حيث قال: “يطرح عنوان الكتاب على المتلقي مجموعة من الأسئلة تتعلق بالذات، وبالتخييل وكتابة الأنا وهي كتابة بقدر ماتوهم بالتماثل والمطابقة تطرح سؤال الغيرية والآخرية و الهوية والأنا والاختلاف …”، راح على إثرها يطرح جملة تساؤلات: هل المؤلف يكتب ذاته أم يكتب آخره أم يكتب قرينه؟ ما علاقة المؤلف الواقعي بالمؤلف المجرب وبالسارد الخيالي و بما يمثله في النص؟ هل يكتب الروائي بدافع شهوة الحضور والسلطة الرمزية أو بدافع الفتنة وعشق الذات؟ هل التخييل الذاتي كذب حقيقي أم بلاغة المفارقة التي تجمع بين الكذب والحقيقة؟ هل له علاقة بكتاب الكذب الحقيقي للويس أراغون أو بكتاب كذب رومانتيكي وحقيقة روائية لروني جيرار؟ ،”حيث تقوم على الامتصاص والتحويل على مستوى عنواني الكتابين وصولا إلى موضوع الرغبة الذي يشكل منطلقا في تلقي الأعمال الروائية المختارة في الكتابين ، وهو ما يمكننا من توسيع حدود التخييل الذاتي ليشمل أعمالا سردية قديمة بحسب جيرار جينات باعتبارها تخييلات حقيقية، مثل الكوميديا الإلهية ودونكيشوت، مقابل تخييلات تزييفية باعتبارها سيرا مخجلة، وهو اسم تحقيري أطلقه جيرار جينات على النصوص السردية المتمردة على ميثاق السيرة الذاتية متبنية وسم التخييل الذاتي الذي يحقق لها وجودا أجناسيا مستقلا، وهذا التخييل المتماثل حكائيا يتبنى عمدا ميثاقا متناقضا بالنسبة للتخييل الذاتي “أنا المؤلف أحكي لكم قصة أنا بطلها ولكنني لم أعش أحداثها أبدا ،وهو ما اعتقده دانتي نفسه في الكوميديا الإلهية ،ويمكن أن نضيف إليه في بداية القرن العشرين رواية البحث عن الزمن المفقود الذي يتطابق فيه اسم البطل والراوي مع اسم المؤلف، حيث يتجلى التناقض على مستوى المصطلح والقصد الذي يتوخاه الكاتب..”، أنا ولست انا””. ويكمل الدكتور رواينية تفكيك العنوان بقوله: “ماتشير إليه تكملة الكتاب “من قال إني لست أنا “عبارة صيغت بأسلوب استفهامي استنكاري، وإذا ما انطلقنا من علاقة المناصصة التي تقوم بين النص وعتباته، ومايحيط به من خطابات موازية وهجينة تنسب قانونا إلى المؤلف الحقيقي..، وكل ما يوجد داخل النص يصطبغ بصبغة التجريد و التخييل ،وينتمي إلى عالم النص حتى أنا المؤلف الغازية لحياض النص في الرواية الجديدة تعد كينونة ورقية مجردة، فإشكالية التخييل الذاتي سواء اعتبرناه جنسا أدبيا متباينا مع السيرة الذاتية الروائية أو متماثلا معها ،متعاليا أو شاذا سوقيا أو منحطا متماسكا أو متشظيا، تكمن فيما يقوم بين المؤلف الواقعي والمؤلف المجرد أو الضمني الذي لا يوجد خارج النص باعتباره ذاتا مبدعة وأنا ثانية أو عميقة ،أو باعتباره وعيا للمؤلف الذي يتماثل في موقفه الإيديولوجي مع موقف النص …”.
استمر الدكتور رواينية في عرض محتويات الكتاب ومناقشة أهم النقاط التي وردت فيه، حيث قال:”جاء الكتاب بمقاربته النظرية الموسوعية وبمساراته التطبيقية ليوسع معرفتنا النظرية بهذا الموضوع، من خلال الاستقصاء المعرفي والمنهجي الذي مارسته الناقدة في حوارها العميق مع مختلف الآراء ،وعلى الرغم من أن المقاربة النظرية تقدمت الدراسة التطبيقية، واستقرت عنها غير أنها استمرت حاضرة داخل المسارات التطبيقية في النصوص المختارة، وهو توجه في الدراسات النقدية ينسجم مع إجراءات الشعريات البنيوية ،ومع كل الإجراءات المنهجية التي تتكئ على مقولات هوسرل الظاهراتية التي لا تفصل بين النظرية وموضوعها الإجرائي ،نذكر منها نظرية التلقي والتأويل” .هذا وأشار الدكتور رواينية لما تضمنه تقديم سعيد يقطين للكتاب والذي يزكي فيه هذه الدراسة ،معتبرا كتابها إضافة نوعية لكتابة الأنا والتخييل الذاتي ، تتساءل الناقدة في مقدمة الكتاب حسب قوله عما يمكن إضافته للتراكم المنجز حول كتابات الأنا ،وما نصيب الدرس العربي في كتابة الأنا من هذا المنجز؟ فهذا السؤال تسويغا للدراسة التي لم تتجاوز حدود البحث الأكاديمي في المغرب العربي لتصبح ظاهرة ثقافية، وحيث قال: “أخيرا سمعنا باهتمام مخبر السرديات في السعودية بهذا التوجه”، هذا ويرى تعدد الآراء واختلافها حول هذا النوع من الكتابات ،…إذ يقول: “وفي مجالنا العربي ترى أن ماظهر في المغرب العربي يحتاج إلى قراءة جديدة لمتصوراتها النظرية، مستثنية دراسة محمد الداهي “الحقيقة الملتبسة”، فقد أحاط بهذا المفهوم بسبب اطلاعه الواسع، وطرحه له في مختلف حواراته مع المجلات المختصة …”، هذا ونظرا لعمق محتويات الكتاب وتخصص إشكالياته ومقولاته دعا الدكتور رواينية السامعين إلى الاطلاع على تفاصيل كتابي سلوى: الرواية العربية المعاصرة بضمير المتكلم، والكذب الحقيقي من قال إنني لست أنا، ثم انتقل للفصول التطبيقية ،ونصوصه الثلاث لـ:عبد الجبار العش والشاوي والأعرج …، حيث وجد” أن سلوى تنطلق في مواجهتها لهذه المدونات من مقولات أجناسية تؤسس لمتصور التخييل الذاتي في هذه النصوص، متبنية استراتيجية في القراءة والبحث عن مظاهر التخييل الذاتي التي تجعل نصا ما متميزا عن النصوص الأخرى انطلاقا من خصوصية تجربة التخييل والتيمة المهيمنة في هذه التجربة والرؤية الانطولوجية لذات تكتب ذاتها لا من منظور المطابقة وانما من منظور الاختلاف ….”،ناقش ما ورد فيها حول النصوص المختارة ،هذا وعارض وسم النص الثالث التخييلي بالعجائبي لأن التكلب حسب رأيه الذي يعيشه الراوي مجرد شعور مرضي نتيجة الزيف والنفاق الاجتماعي والسياسي الذي يعشعش في مجتمعاتنا العربية، ولابد من فضحه بالنباح والنهش والعض ..،هذا وأقام مقارنة بين دراسة محمد الداهي ودراسة سلوى السعداوي ، وبعد مناقشة النماذج المدروسة في هذا الكتاب رأى أنه “رغم طول المقاربة النظرية التي تبنتها سلوى في ما يخص موقع التخييل الذاتي في صنافة كتابات الأنا ،وعلاقة هذه الأجناس الذاتية بعضها ببعض غير أنها تجاوزت النعوت الهجينة ،ولم تقف عندها في هذا النوع الجديد التي أرى أنها تتموقع في فضاء جديد أي الرواية الفرنسية الجديدة ،مركزة على تدبر خصائص التخييل الذاتي في مدونة النصوص المختارة …، على العموم تتبنى تأويلا يمكن النصوص المدونة من تجاوز حدود التجارب الذاتية الفردية، والانفتاح على القيم الإنسانية المتدهورة في مجتمعاتنا العربية ،فمرض السرطان في مدونة الشاوي مثلا مقدمة للحديث عن السرطانات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تسهم في إعادة إنتاج النكسات في هذه المجتمعات …،فهذه النصوص هي محاكمة للحاضر والتاريخ …”،وهنا وجد أن الناقدة تحصر مقاصد النصوص المختارة في كونها وسيلة علاجية تنفسية من الأمراض النفسية الهذيانية والنرجسية والشعور بالقذارة ،وكأنها تبعث وظيفة التطهير الأرسطية من جديد.
استلمت مديرة الجلسة الكلمة حيث قالت: “أشكر أستاذي الفاضل على هذه المداخلة العميقة، والتي أحاطت بالكتاب معرفيا مساءلة واستشكالا وتفكيكا “، ثم فتحت باب المناقشة أمام الحاضرين . تدخلت د.آمنة بلعلى، فشكرت ذ. سلوى وثمنت عرض د.الطاهر، وسجلت مجموعة من الانطباعات ترتبط بالأسئلة الجزئية، فعن علاقة الجانب النظري الذي تحدثت فيه عن إشكالية التجنيس المرتبطة بالتخييل الذاتي والرواية بضمير المتكلم والسيرة الذاتية ..قالت: “اعتمدت الناقدة على طروحات المنظرين الغربيين ،هل الفرضية النظرية هي التي حاولت أن تعثري عليها فيما قمت بتحليله من نماذج أم أن النماذج هي التي وجهتك للجانب التنظيري ؟وأنت تصنفين الأنواع الثلاثة وتتدرجين من مستوى إلى آخر، المستوى الأول وكأنه تقليدي، والثاني إلى حد ما مابعد حداثي، وما وجدته وأنت تعطين بعض المواصفات وتصنفين طبيعة السرد مابعد الحداثي، ألا يتشابه التخييل العجائبي عند المتصوفة خاصة ماله علاقة بالكرامة الصوفية ؟ هذا ووجدت أنه يتشابه مع نص أبوليوس عندما يتحدث عن تحوله إلى حمار ووجود المحكمة ؟السرد الذاتي المرآوي مابعد حداثي ،في هذه الأنواع الثلاثة ألا تندرج ضمن ما يسمىى بالسرد مابعد الحداثي الذي يعتمد على السخرية والانعكاسية الذاتية ..؟ومصطلح العجائبي الذي تحدث عنه تودوروف ألا يقصد به التردد بين الواقعي وغير الواقعي، ماعلاقة مصطلح التردد بمصطلح العبث الذي تحدثت عنه؟ هل الأنا المتعددة هي التي فقط ما تشكل الآخر ؟ وعن الخاصية الأجناسية :كيف يمكن أن نتحدث عنها في نصوص تتجاوز التجنيس أو نصوص مابعد حداثية تؤمن بالتفكيك؟”. أجابت ذ. سلوى بالقول أنها بصفتها باحثة وأستاذة تبدأ بالمدونة و تقوم بقراءتها جيدا، لأنها تؤمن أن التطبيق يتجاوز النظري ،ورغم ذلك فهي بحاجة إلى العدة النظرية ،إذ وجدت ما يناسب التقسيم الثلاثي الذي وضعته ،والذي تعتبره ليس نهائيا ومثاليا ،فهذه الأدوات النظرية على حد قولها “والتي نوظفها لا يمكن أن نسقطها إسقاطا فوضويا أو من باب تجميد العمل بهذه الترسانة ،أما التخييل العجائبي فيتنزل فيمابعد الحداثة ،ورغم ذلك نجده في نصوص قديمة ككليلة ودمنة ورسالة الغفران…، بالنسبة لعبد الجبار العش وإن كان متأثرا بالحمار الذهبي ،رأيت أنه تأثر بكتابات كافكا وبرواية”المسخ” خاصة ، الكتابة العجائبية معقدة لا يمكن أن نفهمها إلا بالمكابدة في التأويل..، الذات المتشظية نجدها في التجريب الروائي وفي الكتابات الهجينة وفي التخييلات الذاتية واليوميات الخاصة ومسودات الذات ..،فالذات متشظية في نظر الآخر ،وهذه الذات المتعددة نجدها في كتابات مابعد الحداثة ،أما عن الخاصة الأجناسية فليست من وضعي ،ونحن لم نحافظ عليها فلم نعد نتحدث عن الأجناس الأدبية اليوم وإنما نتحدث عن الكتابة، إذ لا وجود لنقاء أجناسي وإنما هناك هجنة منبثقة من هذا الواقع المتناقض المعقد الذي تكثر فيه الأصوات والكتابات ، كماهو ماثل في الرواية مابعد الحداثية الفاقدة للهوية الأجناسية …،في هذه النصوص التي درستها وأخرى مثل ثلاثية أحلام مستغانمي لا شيء يمنعنا من إعادة التجنيس وفق الأدوات التي تمثلناها من جهة ووفق قراءتنا لتحولات الكتابات السردية الذاتية من جهة ثانية، فيمكن أن نقرأها بميثاقين أو بأكثر من ذلك أو بوضعيتين تلفظيتين : من خلال الوضعية الحقيقية لأن المؤلف يوجد بيننا ،ومن جهة أخرى نقرؤها بميثاق التخييل أو اللامرجعية، فالإنسان بطبعه متعدد الأبعاد ،إذ هو يتخيل ويحلم ويكذب ويقول الصدق، فالأنوات هنا كثيرة ..والمؤلف سيخفي الأسرار ولا يتطرق للحياة الحميمة ..، كلنا نبوح بنسب مختلفة ،هناك من يجمل حياته ونحن نعلم أن طه حسين مثلا جمل سيرة العماء، وهناك من يقلب الحقيقة ،ويجعل ذاته في منزلة القذارة مثل عبد الجبار العش في محاكمة كلب، إذ يعلي من شأن الشاعر والمبدع في نفسه ،ويقذر ذاته من جهة أخرى ويشبهها بالكلب الغادر” .
وجهت د.آمنة للمحاضر د. رواينية سؤالا، فقالت:” أنهى د. رواينية محاضرته بمايشبه التحفظ على ما وصلت إليه سلوى ، هل يمكن أن يذكر لنا مبررات هذا التحفظ ؟ “، وقد رد الدكتور رواينية على تساؤلها بقوله: “سلوى فسحت المجال للنصوص كي تتجاوز التجارب الذاتية، وتنفتح على وسع المجتمع في أبعاده السياسية والاجتماعية والفكرية…لكنها جعلت هذه التجارب الثلاث، وسيلة علاجية نفسية تنفسية …،وهذه النصوص الملتبسة مابعد حداثية تقتضي عارفا وقارئا نوعيا، لا يجب أن نبدي مثل هذه الملاحظات والاستنتاجات ..، فحتى محاكمة كلب ليست مجرد سرد تخييلي و متخيل ذاتي عجائبي، بل تندرج تحت الفلسفة الكلبية التي لها أصول منذ ديوجين لنيتشه إلى العصر الحديث ، فلسفة تعتمد على السخرية المبالغة ، حد التهجم مثلما تفعل الكلاب ، بالتالي لابد أن نقرأها في إطارها الفكري والفلسفي، وليس في إطار التطهير كما عند أرسطو، فهذه النصوص تقتضي قارئا نوعيا، والقراءة خطاب تذاوتي فيه من النص بقدر مافيه من القارئ ..وإذا حصرناها في التطهير سنوجه القارئ نحو تبني تأويلا معينا”. هذا واستمر النقاش بين ذ. سلوى ود. رواينية ،حيث استعرض كل طرف حججه العلمية المختلفة، لينخرط الباحث عدنان لكناوي في هذا النقاش حيث تساءل عن التخييل والذي يطرح إشكالات سيميائية وأنطولوجية وابستيمية حسب سلوى السعداوي …، وهنا ردت: “الكاتب بصفة عامة لا يبحث عن الاستحالة بصفة مطلقة وإنما يناقشها وينخرط في جدل الأسئلة حول إمكان الذات وإمكان تحققها ، ووعيها بشروط وجودها واستحالة هذا التحقق في عالم فوضوي محكوم بكل أنواع السلط ،حتى الكتابة الأدبية هي سلطة فكيف لهذه الذات أن تعيش بحرية مطلقة بعيدا عن كل الرقابات والسلطات وأنواعها التي تطوق المؤلف حتى في مجال التخييل الذي يعيش فيه هذا القلق …خوفا من التهمات الجاهزة والمحاكمات ..”. أما د. عبد المومن علي من الجزائر فتساءل قائلا: كل ماقاله المحاضرون كان كافيا وشافيا، لكن رجاء أين يكمن جانب السخرية في الأنا الذاتية ؟ أجابته الدكتورة سلوى بقولها: “الخطاب الساخر نجده في كل أنواع الأدب، لكن في التخييل الذاتي العجائبي كان ظاهرا ، وتصل إلى حد الفاجعة ، فالسخرية ليس القصد منها الإضحاك ولا التسلية ، لكنها تقترب من المفارقة التي هي أرقى الأنشطة العقلية، أي هي سلاح خطير يزحزحنا ، فهو خطاب أليم بصورة عجائبية ، فكيف لنا أن نتقبل شاعرا معروفا يحول ذاته إلى كلب في محاكمة وهمية تتوفر فيها كل شروط المحاكمة الواقعية، لكنه يضع نفسه موضع سخرية لأنه طفل لقيط ، ونجد السخرية على نوعين: سخرية لفظية أو سخرية الموقف والوضعية ، وهنا لابد من التأويل لنتفطن إلى مواطن السخرية التي لا يتفطن لها القارئ العادي ، فالسخرية أن نقول غير مانفكر به ، وهي مسألة معقدة وليست تقنية أدبية فقط …”، وقد وافقها في هذا الرأي د.رواينية
جددت ذ. سلوى في ختام حديثها شكرها لمركز جيل وللدكتور الطاهر الذي استفادت منه، شاكرة رئيسة المركز الأستاذةسرور ورئيس تحرير المجلة الدكتورة غزلان والطلبة والزملاء الأساتذة على رأسهم د.آمنة …، ووعدت أنها ستواصل البحث في كتابات الأنا في مواقع أخرى وفي محمولات جديدة.
هذا وشكر الدكتور الطاهر المركز على الدعوة لمناقشة الكتاب، وكذا ذ. سلوى لأنها أتاحت له فرصة الاطلاع عليه.
ثم ختمت د. غزلان الندوة قائلة: “اليوم اجتمعنا من أجل مناقشة كتاب الدكتورة سلوى السعداوي، كانت ندوة نخبوية رفيعة المستوى ، بعيدة عن الصبغة الاحتفائية التكريرية التي تكتفي بسرد محتوى الكتاب وتسيجه بهالة من التقديس والمدح المنبني على المجاملات والنقاش السطحي المبتذل، فقذ غاصت في الأعماق مستشكلة ومثيرة لجملة من التساؤلات المتناسلة، وهذا ما جعل النقاش في حد ذاته متميزا ، شكرا لأستاذي الفاضل الطاهر رواينية على حضوره النوعي وعلى حواره المعرفي العميق، شكرا للمتميزة الدكتورة سلوى السعداوي على هذا النقاش الماتع ، شكرا للناقدة الكبيرة دكتورة آمنة بلعلى على حضورها وإضاءاتها وإضافاتها المتميزة ، ود. عبد المومن على تدخله شكرا للحضور الكريم :أستاذتي وزميلاتي د. سليمة لوكام ، د. فطومة لحمادي ، د.سليمة بنية، د.سليمة محفوظي،د.مصطفى الغرافي …،وكذا الطلبة والمهتمين، وعلى أمل لقياكم في الندوات المقبلة بحول الله أترككم في رعاية الله” .