أقام مركز جيل البحث العلمي أمسية الجمعة 5 مارس 2021، تحت إشراف رئيسته الأستاذة الدكتورة سرور طالبي، ندوة علمية افتراضية احتفاءً بكتاب عضو اللجنة العلمية بمجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية الأستاذ الدكتور منتصر الغضنفري الموسوم بـ”على هامش النص: قراءات نقدية في نصوص عربية قديمة”، حيث هدفت هذه الندوة إلى إثارة الأسئلة المعرفية والإشكالات التي تأسس عليها هذا الكتاب، في محاولة لمعرفة الآليات الفكرية والنقدية التي استخدمها الناقد في هذه القراءة التي تتوخى الوقوف على دلالات المغايرة والاختلاف.
ولقد ساهمت في تنظيم الندوة رئيسة تحرير المجلة الدكتورة غزلان هاشمي وأدارها عضو أسرة تحريرها الأستاذ الدكتور أحمد رشراش من جامعة طرابلس في ليبيا بمشاركة أسماء علمية عربية وهي: أ.د. مي أحمد يوسف من جامعة اليرموك في الأردن، أ.د. سامي شهاب الجبوري من جامعة كركوك في العراق وأ.سوهة رومي من جامعة البويرة في الجزائر .
افتتحت ذ. سرور طالبي الندوة بالترحيب بجميع الحضور، مؤكدة على أهمية هذه الندوات الافتراضية التي ينظمها المركز بشكل أسبوعي منذ أكثر من شهرين، والتي يهدف من خلالها إلى تكريم أعضاء أسرة المجلة بالتعريف والاحتفاء بمؤلفاتهم وذلك نظير جهودهم وتعاونهم المستمر قائلة: ” يعتبر الأستاذ الدكتور منتصر الغضنفري أحد مؤسسي المجلة وقطب من أقطاب اللجنة العلمية التحكيمية يعول عليه أكاديميا كثيرا وينتفع بعلمه أكثر، فله منا أسمى عبارات الشكر والتقدير” ثم أحالت له الكلمة للتعريف بمحاور كتابه.
قدم بعدها ذ. الغضنفري ملخصا حول كتابه، حيث عد النص أساس كل عمل نقدي، وهو ما جعله يتخير هذا العنوان، الذي لايتقصد من ورائه الانتقاص من قيمة النقد، بل الاعتراف بأن كل ما يلي النص من كتابة عنه يبقى في حكم الهامشي بسبب التزامه الشرح والتفسير والتوضيح والتأويل وإعادة لبناء معانيه، هذا ووضح أنه قسم الكتاب إلى فصلين : أولهما: في الأدب، وثانيهما في اللغة .
ضم الفصل الأول دراسة حول الإضمار والإظهار قدم فيها قراءات تأويلية لبعض النماذج من الشعر العباسي، حاول معها الوقوف على الدلالات المغايرة، كما احتوى على دراسة توخت الوقوف على فن التوقيعات عن العرب من خلال التركيز على شعريتها، وذلك بغرض معرفة النظام السياسي السائد والتوجهات الفكرية والنزوع الثقافي … في ذلك الوقت، هذا وتضمن هذا الفصل قراءة حاولت تقصي صورة المرأة كما صاغتها الذاكرة الأدبية النسوية.
بينما ضم الفصل الثاني والذي اختص بالدراسات اللغوية بحثين، أولهما وسمه بـ”التصويب اللغوي وقراءة النص الإبداعي”، وثانيهما كان تحت عنوان “جهود ابن جني في شرح ديوان المتنبي قراءة في الفسر والفتح الوهبي على مشكلات المتنبي”، تلمس من خلاله منهج ابن جني وطريقته في شرح ديوان المتنبي، ليوضح في نهاية كلامه أن هذه البحوث امتدت نماذجها على طول العصور الأدبية القديمة: جاهلية وإسلامية، وعباسية وأندلسية، ليرفق بنموذجين من الشعر الحديث تناولهما في بحث مستقل للضرورة العلمية.
أحال بعدها ذ. رشراش الكلمة للمحاضرة الأولى أ.د. مي أحمد يوسف والتي قدمت مداخلة موسومة بـ “قراءة نص المتنبي: فهم متجدد أم تأويل متولد؟” إذ طرحت فيها العديد من القضايا المهمة حول شعر المتنبي، معرجة على توضيح العلاقة بين النص والقارئ التي وجب أن تكون حميمية وليست هامشية، حتى يتمكن القارئ من فهم النص والوصول إلى الدلالات المغيبة وفك شفراته المختلفة، حيث قالت: “لا بد أن تقوم بين النص والقارئ علاقة حميمية؛ ليتحقق له الكشف عن ما يريد قوله الشاعر، الذي يتحدث من خلال العرضي عن الجوهري، ومن خلال المديح والهجاء والفخر والرثاء عن مشكلات الإنسان، وأكبر مثال على ذلك المتنبي، فقد كان يحرص على أن يكون في مركز دائرة الحدث، سواء أكان مادحاً أم مفتخراً أم راثياً، كما يظهر لنا في بيت له في الفخر: أورده د. منتصر، في كتابه: على هامش النص:
لا بقومي شرُفت بل شرُفوا بي *** وبنفسي فخَرتُ لا بجُدودي
يكشف هذا البيت إسراف المتنبي في إعجابه بنفسه، وتعاليه وقوته، وهو يمارس هذا التعالي في معظم قصائده، لكن: لماذا هذا الشعور بالتعالي والسمو على غيره؟
ربما كان – المتنبي- يسعى إلى تجاوز حالة الأنا في الواقع، إلى تحقيق الذات ، وليس من سبيل إلى ذلك إلاّ في تعاليها على الآخرين، كما يقول سارتر : “فإذا كنتُ أريدُ تأكيدَ نفسي عليَّ أن أتعالى… “
فيقول – مثلاً- في مدح المغيث بن بشر العجلي:
وَإِن عَمِرتُ جَعَلتُ الحَربَ والِدَةً ***وَالسَمهَرِيَّ أَخًا وَالمَشرَفِيَّ أَبا
بِكُلِّ أَشعَثَ يَلقى المَوتَ مُبتَسِمًا*** حَتّى كَأَنَّ لَهُ في قَتلِهِ أَرَبا
كان المتنبي شديد الثقة بأن بين جنبيه نفسيةَ سيد وأمير.. ولربما كشفت أبياته في مدح كافور هذا إذ يقول:
إِذَا كَسَبَ الناسُ المَعَالِيَ بِالندَى*** فَإِنَّكَ تُعْطِي فِي نَدَاكَ المَعَالِيَ
وَغَيْرُ كَثِيرٍ أَنْ يَزُورَكَ رَاجِلٌ *** فَيَرْجِعَ ملكًا لِلْعِرَاقينِ وَالِيَا”
حيث تساءلت مع ذ. الغضنفري عن مبررات الإغراق في المدح، وكذا سبب الشعور بالفوقية والتعالي، هل هو إحساس طبيعي من قبل الشاعر بالتميز؟ أم أنه مريض بجنون العظمة وتضخم الذات؟
هذا وتستشهد ذ. مي بالطبيب النفسي محمد حسن القدال حيث قالت: ” في مقال له نشر في بريطانيا، بعد أن قام بدراسة ديوان المتنبي، أنه –أي المتنبي- ربما كان مصاباً بالهوس وبأنه، وبسبب الحالات النفسية التخيُّلية التي كانت تنتابه، كان صراعه مع الناس والسلطة والحياة! وهو في هذه الحال، لا يختلف كثيرا عن شخصية (دون كيشوت) الذي يتخيل نفسه فارسا، كما يقول داود سلوم، لكن في واقعٍ صنعَه هو لذاته في مخيلته.
ورغم ذلك نقول: إن اعتمادَ تحليلٍ محدد أو تأويلٍ متولّد على نحو قطعي ونهائي، لا يقبل الخلاف لشعر المتنبي، أمرٌ بالغ الصعوبة”. استندت ذ. مي إذن إلى التفسيرات السلوكية والفلسفية في تقصي أسباب تعالي المتنبي وشعوره بالفوقية، هذا وعرجت على بعض القراءات التي فسرت اكتئابه مثل دراسة طه حسين .
هذا وأحال بعدها ذ. رشراش الكلمة إلى أ.د. سامي شهاب الجبوري والذي قدم مداخلة تحت عنوان “على هامش النص، انفتاح الرؤى بين التراث والمعاصرة”، وضح فيها أن ذ. الغضنفري أصل في كتابه لفكرة قراءة التراث الأدبي العربي قراءة معاصرة، وذلك من أجل الوقوف على الدلالات المضمرة والمسكوت عنه خلف الأنساق المخاتلة، وإعلان وجودها الجديد بما ينسجم مع المنظومة النقدية الحديثة، انطلاقا من ذلك سجل ثلاثة محاور في قراءته، حيث حددها حسب قوله فيما يلي:
“المحور الأول : على مستوى المناهج
1 – استعان المؤلف بآلية مركب النقص عند أدلر وطبّق ذلك على ما قاله بشار بن برد في قصيدته.
2 – مال طابع التحليل لديه نحو آليات المنهج الفني ولاسيما في اتجاهه اللغوي ، ليتلاءم ذلك مع العنوان (على هامش النص) .
3 – العمق التأويلي بأدواته وآلياته كان حاضرا بقوة في كتابه، فهو لم يتعامل مع النصوص على أساس افرازاتها السطحية ؛ بل سعى الى الغوص في اتونها الفكرية وانزياحاتها اللغوية العميقة .
4 – وظّف آلية نقد النقد في تفاصيل خطابه النقدي ولاسيما في موضوع التصويب اللغوي .
المحور الثاني : مقاييسه النقدية
1 – اعتمدت اختياراته الأدبية بشقيها الشعري والنثري على مقياس الرضا والقبول والجودة .
2 – الاعتماد على المقايسة الفعلية لضبط النص المشروح بما يوائمه من نماذج أخرى .
3- اتبع منهجه النقدي مقياس الوضوح والغموض ، ليتناسب ذلك مع توجهه التأويلي في التحليل .
4 – لا تتشكل الصورة الشعرية أو الفكرية ما لم تتم عملية المزاوجة الفعلية بين اللفظ والمعنى، لأنهما الأساس في التشكيل البنائي من جهة والتوصيف الفكري من جهة أخرى .
5 – لم يكن مقياس النحو واللغة بعيدا عن مسار خطابه النقدي ؛ بل كان أكثر حضورا للتقليل من حجم الالغاز والشفرات التي توزعت في النصوص .
المحور الثالث : المسكوت عنه في خطاب الناقد
1 – اتسم خطابه بالنخبوية التي مارسها من خلال اختياراته الراقية لشعراء وكتاب لهم وزنهم الفكري في ساحة الثقافة والمعرفة امثال بشار بن برد والمتنبي وسلم الخاسر وابن جني وغيرهم .
2 – حاول المؤلف ابراز إرث التراث العربي الخالد وبيان قيمته وتفاصيل وجوده وثباته ، للوصول الى قناعة لا يمكن الحياد عنها وهي سلطوية ذلك الإرث وأثره في الحاضر الآني .
3 – اتسمت رؤيته النقدية بانها رؤية ثوريَّة تمردت على فكرة استيراد الجاهز من المعلومات ؛ وعملت على مُلاحقةِ القضايا بطُرق المُجادلةِ والمُعارضةِ للوصولِ إلى الحقائقِ المُستحسنة .
4 – حاول المؤلف التأسيس لهويته النقدية من خلال اعلاء فرديته المطلقة في لي عنق النصوص ، ولكنه في الوقت نفسه كان يتكئ على الآراء والرؤى التي يراها متناغمة مع توجهه النقدي .
5 – أسس خطابه لفكرة الامتشاج بين النص ومتلقيه ، من حيث ان النص يتمتع بإشاراته الخاصة وكذلك الحال بالنسبة للمتلقي . وهذا يعني التأرجح بين ناصيتين لهما دور في تعزيز أرصدة الدلالات والمعاني .
6 – استطاع خطابه النقدي تسليط الضوء على النزعة الانسانية في الأدب من خلال بيان تأثيرات النصوص في المتلقين.
7 – تحرك خطابه باتجاه الانفتاح على مديات زمنية متعاقبة متمثلة بالنصوص العائدة الى شعراء وكتاب مثلوا مراحل زمنية متتابعة .
8 – تمثلت في خطابه نزعة الدفاع عن التراث العربي الأصيل ، وتمثل ذلك باتكائها على المؤلفات العربية في التنظير ، والتأسيس لذائقة نقدية عربية مهمتها تحقيق الانسجام بين التنظير والتطبيق” .
قدم بعدها أ.د. أحمد الهادي رشراش المداخلة الثالثة وهي تحت عنوان “المرجعية التاريخية في كتاب على هامش النص لمنتصر الغضنفري مقاربة منهجية”، تحدث فيها عن منهجية الكتاب والذي ركز فيها المؤلف على التسلسل التاريخي المنطقي في جميع مباحثه، إذ وضح اعتماده على المرجعية التاريخية، لاسيما في التأطير النظري للظواهر قيد الدراسة، فالكاتب يستعرض تاريخها من خلال التعريفات المقدمة حولها، أو من خلال الحديث عن نشأتها، أو ذكر المؤلفات التي تناولتها، في تسلسل تاريخي منطقي، فالتاريخ لم يكن مجرد حشو في هذا الكتاب، وإنما وجد لخدمة مختلف الدراسات بحسب ما تقتضيه أدبيات البحث العلمي في الدراسات الأكاديمية. هذا ووضح ذ. رشراش أن الارتكاز على التاريخ يدل على أمرين رئيسيين: الاهتمام بأدبيات الدراسة، والانضباط المنهجي.
خُتمت المداخلات بمشاركة الأستاذة سوهة رومي والتي وسمتها بـ “البعد الضمني في كتاب على هامش النص للدكتور منتصر الغضنفري” التي وضحت فيها أن هذا الكتاب كان “تجسيدا لممارسة جديدة ومحاولة قول أو كتابة كل شيء يقصده الكاتب، حتى بالنسبة لجملة بسيطة، فكل تحليل بلاغي للنصوص هو شيء أضافه الكاتب، ليكون واضحا تماما. ولكنه دراسة تعتبر الهامش الأدبي في تحليل النصوص القديمة.
واتبع الكاتب في كتابه غالبا المنهج التداولي، لما تقتضيه سيرورة البحث في دراسة الجانب الاستعمالي للغة، كما أن أي تحليل تداولي يستلزم بالضرورة التجديد الضمني للسياق الذي تؤول فيه الجملة”.
هذا ووضحت أنها اعتمدت على ثلاثة عناصر في محاورته يتجلى فيها البعد الضمني كما هو في الكتاب، وتتمثل حسب رأيها فيمايلي:”1_ القصدية: من حيث دراسة المعنى التواصلي أو معنى المرسل في كيفية إفهام المرسل إليه بدرجة تتجاوز معنى ما قاله، وتتمثل في قصدية المتكلم، في الفخر بالأصل الفارسي، في شعر (بشار بن برد) على حساب شعر الغزل الظاهر في النص الشعري. وقصدية (السيد الحميري) في مدح الخليفة السفاح ولكنه يقصد الولاء لمعتقده العلوي.
2_ التلميح: اعتمد فيه الكاتب على فن التوقيعات، والتي تميزت بالاختصار، فكانت عبارة عن تلميحات مختصرة موجهة للمتلقي أو المخاطب، ترتكز على الأقوال المضمرة الصادرة عن المتكلمين وهم الخلفاء، ضمن وضعيات محددة تتحول إلى أفعال ذات أبعاد اجتماعية؛ كالأفعال الكلامية التي تعبر عن سلوك المخاطب بالفعل.
3_ التضمين اللغوي: انتبه فيه الكاتب على الأخطاء النحوية التي غفل عنها النحاة، كتسكين المتحرك، ولام الكاتب عدم تنبه النحويين لهذه الظاهرة، التي اعتبرها احتيالا عند أبي نواس، وضرورة شعرية عند البعض الآخر”.
كما بينت أن الباحث أشار أيضا إلى ظاهرة تفشي العامية في الشعر القديم، كشعر أبي نواس ومقامات الهمذاني، ليتوصل إلى أنها تقود إلى الإغراق في الابتذال والركاكة المخلة والتي تسيء إلى لغة القصيدة، لكنها في نفس الوقت تسهم في إكساب الشعر خصوصية محلية.
فتح بعدها ذ. رشراش باب الحوار والنقاش أمام الحاضرين، حيث تم التفاعل في جو علمي ودي هادئ وعقلاني، في الختام شكر ذ. الغضنفري والجميع مركز جيل البحث العلمي على اتاحته لهم لهذه الفرصة العلمية الثرية.