
تعليم درس الأدب بين الرهانات الديداكتيكيّة ونظريّة الأدب: تعليم النصّ السرديّ أنموذجا
The teaching a literature between didactic challenges and literary theory :
Narrative text teaching as a model.
الباحث: فؤاد الخطيب- المعهد العالي للتربية والتكوين المستمر-باردو – تونس
Researcher: Fouad ELKHATIB – Higher Institute of Education and Continuing training- Bardo – Tunisia
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 60 الصفحة 57.
الملخّص:
هذا البحث الديداكتيكيّ في مجال الأدب …خطرٌ على اطمئناننا …يستنطقنا، بلا مجاملة، عن معنى القراءة الأدبيّة والنصّ الأدبيّ بما يسلّطه على النقّاد والباحثين في التعليم والتربية من أسئلة تمسّ بأصول النقد والنظريّات التربويّة :حظّ نظريّة الأدب من درس الأدب، ومدى احترام النصوص المقترحة في الكتاب المدرسيّ لخصوصيّة البنى التكوينيّة للأجناس الأدبيّة وحدود احترام خصوصيّة المتعلّم باعتباره قارئا مخصوصا يتنزّل نشاطه في مجال الإقراء لا القراءة …فيرغمنا مهما كان اعتقادنا على معاودة فهمنا لمنزلة درس العربيّة والمتغيّرات التي تحكمه …وليس همه أن يقنع القارئ برؤيته ، بل أن يرده إلى نفسه عسى أن يعيد التفكير ويشحذ عقله بالسؤال …
ABSTRACT :
This is a didactic research in the field of Literature. It shakes up our comfort zone. It interrogates us, blatantly, about literature reading and literary texts as critics and researchers in the fields of Education ask such questions related to the origins of Criticism and the theories of Learning as: – the stake awarded to literary theory in the literature lesson, – to what extent the texts suggested for the school manual respect the particularities of the foundations of literary genres, and – the limits to respecting the learner’s privacy in that he is a specific reader whose activity lies in “Readability” not Reading. Whatever our convictions are, the learner thus compels us to reconsider our understanding of the importance of the Arabic-language lesson and the variables that affects it. This research’s concern is not to convince the reader with the vision it carries but to send him back to where he rethinks things with a questioning mind.
تقديم:
سعينا، في هذا البحث، إلى إثارة جملة من المشاغل الديداكتيكية التي تطرحها القراءة الأدبيّة عموما والسرديّة خصوصا. ونحن إذ سعينا جاهدين إلى ترصّد المقاربات التي انتهجتها بعض البرامج التّعليمية في الوطن العربيّ (التونسيّة نموذجا) في سعي منها إلى إنجاح هذا النشاط في مختلف مراحل التعليم، فإنّنا لم نرم الوقوف عند حدود الرّصد التاريخيّ للممارسات المختلفة لنشاط القراءة، وإنّما حاولنا أن نحاورها للوقوف على مواطن الإيجاب ومواطن السلب وننظر في أسبابها ومظاهرها انتهاء إلى تمثّل جملة من البدائل التي نادى بها الديداكتيكيون، ورأينا وجاهتها ورغبنا في الاستفادة منها قصد تطوير نشاط القراءة عساه يواكب النسق السريع لتطوّر العلوم والمعارف والمناهج التعليميّة بما يعود بالنفع على المتعلّم من جهة، ويحافظ على خصوصيّة الأعمال الإبداعيّة من جهة ثانية، ويمتثل لخصوصيّة القراءة في الإطار المدرسيّ من جانب ثالث.
ومن أسباب تخيّر هذا المبحث الذي يبدو في ظاهره من المواضيع المستهلكة في مجال البحوث المتخصّصة (قضيّة القراءة المدرسيّة)، هو أنّه مبحث مازال يستحق كثيرا من الاهتمام نظرا لكون تحويل نشاط القراءة الأدبيّة إلى موضوع بحث يبقى من المواضيع العصيّة عن الإدلاء بخفاياها نظرا لما يحوم حولها من أسيجة منهجيّة تعيق كثيرا من الباحثين عن تلمس سبيل الصواب. وأقصى غاية في هذا البحث نسعى إليها هي أن يكون بحثنا قادحا للتفكير والتساؤل، لا أن يتضمّن إجابات يستطاب الركون إليها حتى يتمّ إثراء الحقل الديداكتيكيّ وتحويله إلى حقل خصب يضمّ المعارف والمهارات والخبرات التعليميّة بما يكفل له التّجدّد والنّجاعة.
- منزلة القراءة:
يعتبر نشاط القراءة الأدبية من أهمّ الأنشطة التي لاقت حظّا كبيرا من الاهتمام في مختلف العصور. ويذهب الكثير من الدارسين إلى أّن القراءة شكلت انعطافة كبرى في التاريخ لأنّ التاريخ ذاته يقوم على القراءة. فأن يقرأ المرء هو أن يعرف تاريخه أكثر. أن يقرأ المرء هو أن يوسّع حدوده أكثر فأكثر. أن يقرأ المرء هو أن يعرف نفسه أكثر. ولذلك قرن التعليم “بالقراءة” تسمية. فأصبحت دلالة “فلان يقرأ”. معناها أنّ فلانا يتعلّم أو هو متمدرس.
ولم يعرف أيّ موضوع ديداكتيكيّ حجم الأبحاث والدراسات التي عرفتها القراءة والكتابة في تاريخ التربية المعاصرة. تناولت القراءة والكتابة وأسس تدريسها وطرائقها وأهدافها والسنّ المناسبة للبدء فيها وكيفيّة إعداد الأطفال لتعلّمها. ومنهجيّات الإعداد ووسائل التعليم وتطوير الطرائق … وفي هذا الإطار لم تشذّ النّظم التّعليميّة العربيّة عن الاهتمام بمجال القراءة باعتبارها الوسيلة الأساسيّة التي تعتمد في مختلف مجالات التدريس) مواد ومستويات دراسيّة (.
وسنقصر اهتمامنا على نشاط القراءة الأدبيّة السّردية في مادّة العربيّة.؛ حيث صنّفت لذلك عدّة كتب تختلف مرّة وتأتلف أخرى مختزنة تجارب ورؤى اقتضتها المرحلة الزمنيّة أو الثقافيّة أو السياسيّة. فاستجابت لمختلف توجّهات مشاريع الإصلاح التّعليميّ وسعت كلّها إلى عرض متون نصيّة منتقاة ممّا اتفق على استجادة أسلوبه واستملاح محتواه وفق مقتضيات شرائط الاختيار التي تعتمد على معيار “الطّرازيّة” prototype الأدبيّة للنص وما يتناسب من جهة أخرى مع متطلّبات الإملاءات البيداغوجيّة وإكراهات التجاذبات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة وغيرها ممّا يمكن أن يكون طرفا متأثّرا أو مؤثّرا في العمليّة التّعليميّة.
وجدير بالذّكر أن نؤكّد على أنّ تعليم القراءة الأدبيّة عموما والسرديّة خصوصا مبحث شديد التعقيد من حيث مكوّناتُه (أطرافه: المعلّم/ المتعلّم/ المادة المعروضة للتعلّم) ومن حيث ظروفُه. فالقراءة الأدبيّة في الإطار المدرسيّ تختلف عن غيرها من أنشطة القراءة التي يمارسها الفرد متى شاء أن يقرأ نصّا أدبيّا ما؛ لأنّ تعليم القراءة في الإطار المدرسيّ يكون مصحوبا بجملة من الضّوابط التي تجعل المتعلّم يمارس أنشطة اختيرت له من طرف عنصر خارجيّ يتوسّط المادّة الأدبيّة والمتعلّم (مهندسو البرامج والكتب). كما يتمّ تحديد أهداف صريحة أو ضمنيّة يوجّه المتعلّم إليها عن وعي أو بدون وعي منه.
وقد أشار الناقد الفرنسي رولان بارت إلى الإشكاليّة الحقيقية بين المدرسة والأدب.[1] لأنّ تعليم الأدب وفق هذا المنظور يتحوّل إلى شكل ألسنيّ ينهض لدى المتعلّم بوظائف متعدّدة عدّدها الدكتور أحمد فرشوخ فذكر أنّ تعليم الأدب “ينهض بوظيفة تبليغ وتنسيب القيم والأنساق الاجتماعية البانية للذاكرة الجماعيّة بمختلف تفاريقها الرّمزيّة والتخييلية”[2] فنشاط القراءة الأدبيّة في الإطار المدرسيّ يمكّن المتعلّم من تشخيص الحراك الاجتماعيّ “ومن ثمّ إدراك صورته في واقع الحياة اليوميّة عبر آليات التّماهي والإسقاط والتسامي”[3] فتتحوّل النّصوص على هذا الأساس بفعل ما تختزنه من معارف وسلطة تخييليّة إلى إطار ثقافيّ خصب يمكّن المتعلّم من الاهتداء بها في حياته,” ومن ثمّ الاسترشاد بها قصد تعديل سلوكه وتصويب مواقفه بشكل يحوّل المتخيّل الأدبيّ في الوعي القرائيّ إلى واقع محسوس يرشح بصور الحقيقة الاجتماعيّة”[4]. كما أنّ نشاط القراءة الأدبية يمكّن المتعلّم من اكتساب جملة من المزايا السيكولوجية والذّهنية والوجدانية ليتهيّأ للانخراط في الحياة الاجتماعية من مختلف تشعّباتها إذ ” يفضي السّلوك القرائي إلى تفتيح القراءات الإبداعيّة لدى المتعلّم من خلال تحريك خياله وحفزه على تشغيل ذكائه وحساسيته وحدسه وذاكرته لأجل توليد دلالات النصوص وخبراتها بالمعنى الذي يجعله أمام احتمالات حياة وتأويل متعدّدة تدعوه لممارسة الاختيار”[5]. وقد ترصّدت عدّة دراسات الوظائف الهائلة التي يمكن أن يحقّقها نشاط القراءة الأدبيّة لدى المتعلّم من ذلك أنّه يحقّق جملة من الكفايات أهمّها: الكفاية اللّغويّة والكفاية الموسوعيّة والكفاية المنطقيّة والكفاية البلاغية والكفاية الإنجازيّة في السّياق الاجتماعيّ.
- إشكالية المقال:
إنّ السؤال العام الذي ينتظر أن يجيب عنه هذا المقال هو: هل واكب تعليم النّص السّردي تحوّلات
نظريّات الأدب ومقارباته بما يستجيب لخصوصيّاته الأجناسيّة بنيويّا ووظيفيّا
ولشروط اكتساب المعرفة لدى المتعلّم؟
قبل الولوج إلى البحث في إشكاليّة الموضوع بدا من الواجب أوّلا تفكيك المفاهيم الواردة في صياغة الموضوع لبناء عقد مفهوميّ يؤسّس قاعدة واضحة للبحث.
- التعليم والتعلّم:
- اصطلاحا: هو مجهود شخص لمعونة شخص آخر على التّعلم. و يعدّ هذا المصطلح مصطلحا متعدّيا لا يكتفي بذاته بل يقتضي ضرورة مفهوما آخر لا يصحّ إلاّ به ألا وهو مفهوم “التعلّم”. والتعلّم هو مجهود شخصيّ ونشاط ذاتيّ يصدر عن المتعلّم نفسه بمعونة المعلّم وإرشاده. وبذلك يكون “التعليم هو توجيه عمليّة التّعلّم، وحفز المتعلّم واستثارة قواه العقليّة ونشاطه الذّاتي وتهيئة الظّروف التي تمكّنه من التّعلّم أيّا كان نوعه”[6]. هكذا نتبيّن أنّ التّعليم والتّعلّم يحقّقان معا وضعيّة تعليميّة تختلف أدواتها ومناهجها وأهدافها حسب اختلاف النّظريات التي تعنى بـ: سيكولوجيا التّعلم (سلوكيّة/ بنائيّة/ عرفانيّة…).
ولقد أمكن للمباحث في مجال التّعليم إرساء جملة من الضّوابط والمفاهيم الصارمة التي تكسب عمليّة اكتساب المعرفة شروطا صارمة ونجاعة في التّحصيل المعرفيّ. وأهمّها «مفهوم المثلّث التعليميّ/الديداكتيكيّ » الذي يقتضي بدوره جملة من المفاهيم، بدونها ينتفي المثلّث وتتشظّى العمليّة التّعليميّة.
ويمكن أن نمثّل لهذا المثلّث التّعليمي بما يلي:
(المعرفة) التصوّرات و المعوقات النقل التعليميّ
(المعلّم) (المتعلّم)
العقد التعليميّ
وقد نشأ، منذ سبعينيات القرن الماضي، علم جديد أطلق عليه “ديداكتيك المواد” “Didactique des Disciplines” مستقلّ بموضوعه وبمفاهيمه وبمنهجه. ولم يشذّ نشاط تدريس القراءة الأدبيّة والنص السّردي خصوصا عن أن يكون أحد المشاغل التي اهتمّ بها الديداكتيك. ولذلك سنستفيد من هذا العلم في بحثنا المتعلّق بتدريس الأجناس الأدبيّة، باعتبارها نشاطا يندرج في إطار” تعليميّة القراءة الأدبيّة” لنتبيّن مدى استفادتها من المفاهيم المؤسّسة لهذا العلم.
- النّص السرديّ:
- اصطلاحا: أسهم بعض العلماء العرب القدامى في تحديد مفهوم النصّ تحديدا علميّا، ومن ذلك ما أسهم به الإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471) في “نظريّة النّظم”(كتاب: دلائل الإعجاز). التي تهدف إلى خدمة النصّ القرآني وبيان إعجازه. وقد كانت فكرة “الانسجام النصّي” (cohérence textuelle) واضحة في ذهن عبد القاهر الجرجاني وضوحا متميّزا حتّى أنّنا نجده يعبّر عنها بقوله: “واعلم أنّ مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعا من الذّهب أو الفضّة فيذيب بعضها في بعض حتّى تصير قطعة واحدة…”وهذا يدلّ على أنّ بنية النّص في تصوّر عبد القاهر الجرجاني تصل إلى مرتبة “الصّهر” الذي هو أعلى درجات “التشكيل”. وتدلّ كلمة نصّ في الفرنسية” texte” على مجموع الكلمات والجمل التي تكوّن أثرا أو مكتوبا ما بقطع النّظر عمّا يمكن أن يضاف إليه من تعليقات. أو هو جزء من أثر أو قطعة مختارة. وتقوم بين الجمل المكوّنة للنّص علاقات سياقيّة يحكمها الرّابط المعنويّ الواقع بين جملة وأخرى.
من خلال هذه التعريفات نتبيّن أنّ الخاصيّة الأولى لتحديد النّص هي الاتساق والانسجام والاكتمال وليس الطّول ولا الحجم المعيّن. ويؤكّد استنتاجنا قول هيلمسليفHjelmslev أنّ كلمة “نار” تعتبر –في مقابل رواية ضخمة-نصّا، وذلك بفضل الاكتمال والاستقلال بغضّ الطرف عن أبعاده ومدى كمّه. وبذلك يصحّ أن يكون النّص “القول اللغويّ المكتفي بذاته والمكتمل دلالة”. وما خالف هذا التّحديد لا يكون نصّا مهما طال.
- تأويل النّص الأدبيّ:
لقد تعدّد البحث في النّص الأدبيّ بتعدّد المقاربات التي تبحث في اللّغة باعتبارها خصيصة إنسانيّة بامتياز وتمثّل بعدا من أبعاده الثقافيّة. ففي العصر الوسيط غلبت النّزعة القائلة بأنّ الكون قائم على وحدة منكفئة على ذاتها ملتحفة كيانها محاكية أبدا ذاتها… ومن ذلك نزوع الأشياء المتناظرة إلى نظائرها. “ومن آيات ذلك نزوع الأشياء الثقيلة إلى الأرض الثقيلة. وعلى خلاف ذلك تتباعد الأشياء المتقابلة وينبذ بعضها بعضا فيدفعه”.[7] “فالكائنات تتحاور وتتبادل المواقع وتنعكس صور بعضها في بعض بوجوه مختلفة ووفق سنن متعدّدة. فيستحيل الكون إلى نسيج من الرسوم المتكافئة ويغدو العالم لغة مفصحة ناطقة ترتسم علاماتها على أديم الأشياء داعية إلى فكّها ووصلها بنظائرها في الطبيعة. فالعلامة ترتبط بمدلولها ارتباطا حميما وتشدّ إليه بوشائج وأسباب اتّصال متينة.”[8] ويحلّل Borella العلاقة بين الدال والمدلول، في المنظور الأرسطي، فالدال لا يسند إلى المسمى كيفما اتّفق إنّما “يعيّن منه خاصيّات كينونته وبذلك تنتظم بين الاسم والمسمّى علاقة ضرورية مفروضة ثابتة”.[9] وقد يبلغ اقتران الاسم بالمسمّى من الوثوق حدّا يتأثّر معه سلوك المسمّى، ويتيقّظ إحساسه بمجرد تلقّيه اسمه سماعا أو كتابة.[10]
فالعلامة تعيّن شيئا واحدا، تلابسه وتمتزج به حتّى تصبح وإيّاه بمثابة الهويّة المفردة، ومهمّة القائم بعمليّة التّأويل تكمن في إنطاق العلامة واستجلاء معناها الأوحد الموضوع قبليّا والمطابق للطّبيعة التي تضع بصماتها على الأشياء وتدعونا إلى فكّها وكشف النّقاب عنها لإدراك كنهها. والبشر مدعوّون إلى الإنصات إلى صوت الطّبيعة من خلال العلامات المنطوقة أو الماثلة على صفحة الأشياء.
وجدير بالذّكر أنّ البحوث في العصر الوسيط تحلّ الأدب منزلة ووصفا ضمن إنتاج النّص في مفهومه العام دون تخصيصه بمنزلة متفرّدة فـ” الكتابة تتكوّن مثلها مثل سائر الأشياء الماثلة في العالم من رموز مستغلقة يستدعي توظيفها أو تأويلها معرفة بأسرارها ودراية بمقوّماتها، ولا يتاح ذلك إلاّ للخاصة والرّاسخين في العلم. ولـمّـا كان المتقدّمون في حكم هؤلاء العلماء أقرب إلى الطبيعة وألصق بها وأعرف بمحاكاتها، نشطت الحركة القائمة على النّظر في كلامهم والانعكاف عليه لفكّ ألغازه وكشف النّقاب عنه”.[11] أمّا في العصر الحديث فقد تغيّرت النّظرة إلى النّص الأدبي فقد أكّدت عدّة بحوث لسانية حديثة وجود آلية ذاتيّة للغة وأنّها تنتظم في سنن مجرّدة وفق منطقها الخاصّ وهذا ما شرّع إلى نفي المؤلّف بما هو كيان مستقل عن منطق الّلغة فلم يعد تلك الأنا الحاضرة بقوّة في نصّه بل صار نكرة مجهول الهويّة. ويرى بارت -وهو من روّاد المنهج البنيوي-أنّ النّص مجموعة من الدّوال الصادرة عن سياقات ومصادر مختلفة تزيد حركة النّص انفصالا وفضاءه تقطّعا واضطرابا. فتمّ إفراغ اللّغة الأدبيّة من كلّ مضمون قائم الذات محيل على واقع محسوس إحالة علّيّة سببيّة وفق ما روّجت له نظريّة الانعكاس. وقد شبّه بارت الّلغة الأدبيّة بفعل أورفي Orphée الخارج من الجحيم، فطالما اتّجه إلى الأمام عارفا أنّه يقود شيئا هو الواقع تنفّس وانطلق نحو الضّياء، ضياء الدّلالة لكن ما إن يلتفت مصوّبا نظره إلى ما يحبّ” لم يحصل إلاّ على معنى ميت”.[12]
فلغة الأدب لغة لذاتها “pour soi” والدّلالة فيها مكتنزة “يكتنفها أبدا اللبس”.[13] فالأدب “هو لغة اللاّشخص لغة الغياب هو ضياء محروم من الأنا، الكلمة تمنحنا الوجود لكنّه وجود خال من الوجود، إنّها لا تؤدّي تجربة لأنّها هي ذاتها تجربة مغامرة وموطن معرّض في كلّ آن لخطر داهم”.[14] لقد أفلتت اللغة من قيود المؤلّف وتكلّمت نصوص أخرى من خلاله وإن داخله شعور بأنّه متحكّم فيها وأنّه يصنع لغته ولا يصنع بها. هكذا نقف على حقيقة أنّ المعنى الذي يتضمّنه نص أدبيّ ما هو معنى متحوّل حسب القارئ وحسب ظروف التّلقّي وحسب عدد مرّات مقاربة النّص الواحد وحسب الخبرات التي تمرّس بها القارئ في الحياة. وهذا ينسحب على نشاط القراءة الأدبيّة في الإطار المدرسيّ حيث يكون القارئ مرتهنا بسنّ معلوم وبضوابط صارمة تجعل مقاربته لنصّ أدبي مشروطة بما أريد له أن يكتسب من ذلك النّص الأدبيّ (تعليم القراءة لا يخرج عن كونه نوعا من ممارسة وصاية هيكل سلطويّ ما على المتعلّم: سلطة الكهل، سلطة سياسيّة، اقتصاديّة، ثقافيّة، ذوقيّة….)
- نظريّة الأدب:
قد يتداخل في ذهن كثير من الدّارسين جملة من المفاهيم المتّصلة بالأدب والنّقد الأدبي من ذلك مفاهيم: “النّظرية الأدبيّة” و” النّقد الأدبي” / و” تاريخ الأدب”. لذا توجّب أن نبيّن الفروق بينها حتى يتسنّى لنا تجسير الهوّة القائمة بين النّص الأدبي والمتقبّل عموما والنّاقد خصوصا. فـ”النظريّة الأدبيّة”: تدرس مبادئ الأدب وأصنافه ومعاييره، وما إلى ذلك، بينما تنتمي الدّراسات التي تركّز اهتمامها على الأعمال الأدبيّة نفسها إمّا إلى” النّقد الأدبي”(وتتّسم هذه بثبات أسلوب التّناول) وإمّا إلى “التّاريخ الأدبيّ.” لكنّ النقد الأدبيّ كثيرا ما يُستخدم بشكل يجعله يشتمل على النّظريّة الأدبيّة أيضا. ويرى “ويليك ” في هذا السياق أنّه من المستلزم التّعاون بين هذه الأنماط الثلاثة من أنماط الدّراسة لأنّها” تستلزم بعضها بعضا بشكل يبلغ من شموله أنّنا لا نستطيع تصوّر النظريّة الأدبيّة بدون نقد أو تاريخ أو النّقد بدون نظريّة أو تاريخ، أو التّاريخ بدون نظريّة ونقد”.[15]
هكذا تبدو مقاربات النّص الأدبيّ لا تقلّ تعقيدا عن شروط تشكّل النّص الأدبيّ بما هو نشاط لغويّ شديد التّعقيد في فهم آليات تكوّنه ولذلك لا يبدو غريبا أن تتعدّد المقاربات النّقدية إلى حدّ التّعارض والتّناقض وهو من شأنه أن يؤثّر بشكل مباشر في تخيّر آليات تقبّل النّص الأدبيّ وفي رسم نتائج هذه القراءات. ومن ذلك نذكر: المنهج اللونسوني (نسبة إلى لونسون)، النظريّة البنيويّة، نظريّة التلقّي، النظريّة التوليديّة وغيرها من المقاربات النقديّة.
- تعليم النصّ السرديّومدى امتثاله لتحوّلات نظريّة الأدب:
لقد كانت قراءة النّصوص في النظم التعليميّة العربيّة عموما في مختلف مراحلها -ولا تزال-نشاطا أساسيّا في هذا التّعليم ينظر إليه على أنّه مكوّن للمتعلّمين سواء في ذاته أو في ما يفيد به غيره من الأنشطة المصاحبة كاللّغة والإنشاء. فالقراءة تعلّم حذق اللّغة كما تعلّم الكتابة. ولكن من المفارقات أنّ القراءة لم تصبح موضوع معرفة إلا مؤخّرا. ذلك أن إزالة القداسة عن المؤلّف (النقد التقليديّ) قد أضفت على النصّ قداسة لم تكن له (الاتجاه البنيويّ). ثمّ حدث نقل الأهميّة إلى النصّ في علاقته بالقارئ (نظريّة التلقي). ومن ثمّ، تمّ نقل الاهتمام إلى جملة من الأنشطة والأعمال المتشعّبة هي التي تجسّم أعمال القراءة.
وإنّ النّاظر في تاريخ القراءة المدرسيّة في الوطن العربيّ عموما، يلاحظ أنّها قد وعت نفسها وعيا نظريّا ضمنيّا أثناء الممارسة. وهو ما يعكس فهما مخصوصا للمعرفة من حيث نسبيّتها وانفتاحها على الجديد وانتفاعها من التراكم. فممّا يستفاد منه هو أنّ الوظائف التّعليميّة للقراءة كانت مقصورة على تكوين المهارة التّواصليّة لدى المتعلّمين ودعم الشّعور الوطني، ثمّ أصبحت الوظيفة المنوطة بنشاط القراءة مركّزة على النّص. وظهرت في صياغة الأهداف أعمال ذات صلة بالقراءة في معناها الجديد وذات صلة بالأدب.: (تفكيك النصّ/ تبيّن بنائه/ استنطاق النصّ من مبانيه/ تبيّن خصائص الأدب الفنيّة / الإحاطة بالأساليب والأشكال التعبيريّة…) كما ارتبطت صياغة الأهداف بمفهوم مساعدة التلميذ على اكتساب القدرات (بعدما كانت الصياغة مركّزة على المدرّس “إكساب”). فقد تطوّرت القراءة من مرحلة سيطر عليها شرح الألفاظ والعبارات لإبراز المعاني وإعادة صياغة النّص في لغة موازية واعتماد التلقين والحفظ.، إلى مرحلة سيطر عليها الاهتمام بالبنية والأسلوب واستنباط المعنى من المبنى وتأوّل النّص على أنّه بنية أدبيّة دالّة…[16]
على أنّ أبرز عوامل هذا التّطور وجدت في ثلاثة مستويات: بيداغوجيّ/ منهجيّ/ نظريّ. فعلى المستوى البيداغوجيّ، ازدهرت” نظريّة التّعلم”(théorie de l’apprentissage) و”بيداغوجيا الأهداف” تم تجاوز بيداغوجيا الأهداف إلى بيداغوجيا الكفايات. وعلى المستوى النظريّ ازدهرت اللسانيات ونظريّة الأدب بمختلف روافده: ) علوم عرفانيّة/ لسانيّة…(. وأمّا على المستوى المنهجيّ فيتجلّى في استيعاب مناهج النّقد الحديثة وطرائق التّحليل الأدبيّ المتطوّرة.
وما نلاحظه هو أنّ عمليّة اختيار النّصوص في أواسط القرن العشرين كانت لا تخلو من حضور ذوقيّ لا يتأسّس على منهج علميّ صارم واضح بقدر ما هو محكوم بالذّوق وما استأنس به المشرفون على إنجاز الكتاب المدرسيّ وما تطبّعوا عليه من ذوق.[17] (المنهج الانطباعي اللونسوني)
إلاّ أنّنا نلحظ أنّ عددا من الكتب المدرسيّة التي تلت هذه الحقبة مثّلت نموذجا للتحوّل الحاصل في المقاربة النّقدية تحت تأثير تطوّر علم اللسانيات ويتجلّى ذلك من خلال عدّة مواطن تتحدّد في ما يلي:
- إرفاق نصوص الكتاب بأجهزة بيداغوجيّة تحت عنوان “الشرح والتعريف”.
- تذييل كلّ نصّ بحزمة من الأسئلة تثير قضايا تتعلّق بالمضمون (موضوع الجنس الأدبيّ الذي ينتمي إليه النصّ/ الشخصيات/ الأزمنة والأمكنة/ القيم/ العلاقات بين الشخصيات/ الأحداث…).
- ومنها ما تعلّق بالبحث في بنية الجنس (الوصف/ خصائص الحوار/ أساليب الكتابة/ خصائص السرد/ خصائص النّهاية في الجنس الأدبيّ/ موقع الأزمة في…).
- ومن الأسئلة ما تعلّق بالمرجعيّات التي استقيت منها مواضيع النصوص وقضاياها.
- وقد تمّ التّركيز على دعوة التلاميذ إلى الكشف عن مواقفهم من شتى المسائل (عرض الرأي من مسألة ما/ مقارنة قضايا الجنس الأدبيّ بالواقع المعيش/ تقييم موقف ما/ المقارنة بين مقومّات الجنس الأدبيّ ونماذج من الرواية (إثارة قضايا أخلاقيّة ودعوة التلميذ إلى عرض موقفه منها…).
- إيجاد كفاية/كفاءة أفقيّة تفتح النّص المقروء على النّص المنظور (عرض رسوم تحيل على قضية يطرحها النصّ).[18]
- إيجاد كفاية/كفاءة أفقيّة تفتح نشاط تعلميّة القراءة على نشاط تعلميّة البلاغة “مثال: الاستفهام والجواب عنه”. [19]
ومن خلال ما تمّ اعتماده في بعض هذه الكتب المدرسيّة نتبيّن أنّها تتدرّج في مواكبة مختلف النظريّات النقديّة، تمتح منها مناهجها ومفاهيمها وأهدافها فنلحظ منها ما تأثّر بالمنهج البنيويّ الذي مازال يتلمّس خطاه في الميدان التّعليميّ العربيّ عامّة بداية من حقبة الثمانينات من القرن الماضي. وإن كان لا بدّ من التأكيد على أنّ الاتجاه البنيويّ لم يتمّ اعتماده بشكل منفرد في تدريس القراءة الأدبيّة وهذا قد يعود إلى جدّة هذا الاتجاه أو لتغلغل الاتّجاه الانطباعيّ في ثقافة المدرّسين من جهة وفي فكر المهتمّين بإنجاز البرامج والكتب المدرسيّة.
ومنها ما وظّف المقاربة التداوليّة وجمالية التّلقي بداية من القرن الحادي والعشرين لما فيهما من مزايا أعادت للقارئ فاعليته وأضفت على النّص معنى النّسبيّة بحيث تكون علاقة المتعلّم بالنّص وبالكاتب علاقة تفاعل وتحاور ويخرج تعليم القراءة من كونه نشاطا ثقافيّا (القراءة) إلى اعتبار القراءة نشاطا تربويّا تعليميّا (الإقراءfaire lire) ، تراعى فيه جملة من الضوابط التي تتطلبّها عمليّة تعليم القراءة الأدبيّة في السياق المدرسيّ.
وقد تفطن الدكتور أحمد فرشوخ إلى القضيّة الشائكة التي تحكم علاقة المتعلّمين بالأدب فقال: “إنّ المتعلّمين ينظرون عموما إلى النّص الأدبي كموضوع لمعرفة وهميّة بعيدة عن الحياة، تمتح من عالم الصور والتخاييل. ولأجل تعديل هذا الموقف المفترض يتعيّن اجتراح قراءة مبدعة تقوم على نسج صلات ألفة وتحابّ، بحيث يصبح النّص المقروء جزءا من الحياة الوجدانيّة للمتعلّم. وبالتالي محمولا جماليّا لمعرفة أصيلة لا تشخّصها باقي الخطابات، معرفة موسومة بتاريخ المتعلّم ومجتمعه، ومؤهّلة لتفكيك الحقائق المعطاة؛ إذ لا شك أنّ الأدب يقف اليوم في مفترق الطرق، بين القضايا التي تواجهه وقضايا ابستمولوجيّة هامّة”.[20] “فالأدب هو صاحب الامتياز، وربما الوسيط الأوّل للمعرفة: معرفة العالم ومعرفة الذات. وفي المجتمعات التي تحجب فيها الحقيقة وتشوّه وتقمع، تصبح وظيفة الأدب هي إعادة تقييم هذه الحقيقة والكشف عنها”.[21]
من الجليّ الوقوف على تطّور المنهاج التّعليميّ العربيّ والمقاربات التّعليمية المواكبة لتطوّر المناهج النقديّة الأدبيّة، في تدريس الأدب ولكن ما نسجّله هو غياب استراتيجيا ديداكتيكيّة واضحة تعي متطلّبات اكتساب المعرفة لدى الفرد من الجانب السيكولوجيّ، وافتقاد تمثّل ابستيمولوجي جليّ لخصائص الأجناس الأدبيّة وافتقاد المرجعيّة المعرفيّة التي تعي المرجعيّات المختلفة التي تحكم النّظريّات النّقديّة. فأن نزاوج بين عدّة مقاربات نقديّة لتعلّم نصوص أدبيّة قد يوفّر إطارا رحبا للقراءة ولكن يخفي ما بين النظريّات اختلافات مرجعيّة تصل حدّ التناقض بينها وبالتالي يختلّ فعل القراءة ويكون مجرّد تهافت على النّصوص.
ومن هنا ننتهي إلى أنّ تعليم الأجناس الأدبيّة في إطار تعليم القراءة الأدبيّة واكب تطوّر مناهج النّقد الأدبي وفق مقتضى نظريّة الأدب وهو جهد لا ننفي أهميّته ولكن يدعونا إلى السّؤال التّالي: إلى أيّ حدّ ساهم الحرص على مواكبة تحوّلات المناهج النّقدية في الحفاظ على خصوصيّة الجنس الأدبيّ؟ وهل مكّنتنا هذه الطّروحات النّقدية النّظريّة من تبديد حيرة المتعلّم لفهم الجنس الأدبيّ؟ وهل وفّت هذه المقاربات هذه الأجناس حقّها لتستقيم في أذهان المتعلّمين واضحة الحدود بينها؟
- تعليم النصوص السرديّة ومدى امتثاله لخصوصيّتها جنسا أدبيّا:
أثناء البحث في المدوّنة المدرسيّة، لاحظنا اشتراك الكتب المدرسيّة المبرمجة في السنوات الأخيرة لغرض تدريس عدد من الأجناس الأدبيّة في محاور تعتمد مداخل أجناسيّة. وهو ما يقتضي ضمنيّا أن تكون النّصوص المعروضة في هذا المحور محقّقة لاكتمال شروط الجنس الأدبيّ دونما حذف أو تصرف في أيّ منها. ولاحظنا تدوينا لعدد من المفاهيم النقديّة التي تتعلّق بهذه الأجناس (مثال المفاهيم المتعلقة بالنادرة أو الحكاية المثليّة أو الرواية أو المسرحيّة أو الأقصوصة،). وهو ما لم يكن متحقّقا في الكتب التي أنتجت في النصف الأوّل من القرن العشرين التي اختارت مدخلا يعتمد تاريخ الأدب واقترنت بالمقاربة الانطباعيّة اللونسونيّة.
أمّا بالنسبة إلى المنهج البنيويّ الذي سجّل حضوره في نشاط تعليم القراءة الأدبيّة منذ أواخر السّبعينات من القرن الماضي،[22] فإنّنا لا ننكر أهميّته في الحفاظ على رفعة منزلة النّص الأدبيّ من أجل استكناه أدبّيته بمحاورة بناه التّكوينيّة وتسييج النص بحدود منهجيّة تختزل أدبيّة النّص في ما هو معروض من أثر مكتوب منقطع عن باثه. هذا ما أعاد للنّص سلطة كان يفتقدها مع المناهج التي تبحث في الظروف الحافّة بالأثر وتبرز مميّزات المبدع، إلاّ أنّ هذا المنهج وإن أمكنه صياغة منهج صارم وإقرار جملة من المصطلحات الأدبيّة التي أقرّت للجنس الأدبيّ خصوصّيته التّكوينيّة فإنّه نمّط نشاط القراءة الأدبيّة إلى حدّ يكاد يُريضنها (نسبة إلى الرموز الرياضيّة) ويجعلها جملة من الرّموز الجافّة التي تشبه الطّلاسم في تبيّن معانيها وصار النّشاط التّعليميّ يتميّز بالرّتابة وافتقد المتقبّل جذوة المبادرة في إيجاد قراءات مجاوزة للسّبل المنهجيّة المسطورة، بل إنّ المنهج البنيويّ وإن سعى إلى النزوع التّصنيفيّ للأجناس الأدبيّة فإنّه كثيرا ما أحدث تشوّشا في تمييز المصطلحات كما أغفل إحدى شروط الإنتاج الأدبيّ باعتبار النّص تجسيدا لتقاطعات أدبيّة وأجناسيّة عديدة وفق مقولة “التطريس” وأنّ النّص الأدبيّ لا يجسّد إبداعا تامّا نهائيّا منقطعا عن سياقه التّاريخيّ والإبداعيّ وإنّما يجسّد قراءة لنصوص غائبة يمكن أن يثريها القارئ بقراءة إبداعيّة جديدة تتجاوز حدود النّقد إلى الإبداع والتجاوز.
أمّا بخصوص منهج جماليّة التلقّي واللسانيات التّداوليّة فإنّهما وإن اختلفا من حيث المنطلق والمنهج فإنّهما حرّرا النّص والقارئ والمبدع من صرامة الضّوابط التي تكبّلهما وتزرع بينهما بذور التّوتّر والصّراع من أجل تسجيل حضور أحد أطراف عمليّة القراءة وإقصاء الطّرفين المتبقّيين. وميزة هذين المنهجين هي أنّهما وفّرا آليّة خصبة ومفاهيم عدّة إن أحسنّا استغلالها تمكّنا من استيعاب خصائص جنس أدبي ما؛ حيث يمكّننا منهج التلقّي من محاورة النّص الأدبيّ في مستوى بنيته ومعانيه والتّصرف فيه من أجل استحضار ممكنات جديدة لأفق التّلقي، فجماليّة التّلقي يمكن استثمارها ديداكتيكيّا من حيث المفاهيم واقتناص نماذج ومنظورات لها قدرة على الإنتاج وقوّة التنظيم. فالفعل القرائيّ رهين استراتيجية إبداعيّة تعتمد المرسل والمتلقّي كدورين للملفوظين يحقّقان ما يسمّيه إمبرتو إيكو “التعاضد النّصيّ”؛[23] بحيث يتحوّل القول الأدبيّ من خلال عمق طبقاته القرائيّة إلى توليفة الحوافز، وبالتالي إلى إمكانيّة فرضيّة تشترط لتحقيقها قراءة المتلقّي باعتبارها ممارسة إبداعيّة تجعل النّص شبيها بنزهة يحمّل فيها الكاتب الأقوال والقارئ من الدلالات، حيث يحّقق الأوّل البعد الفنّي للنّص، في حين يتكفّل الثّاني بالوظيفة الجماليّة. والأقطاب الأربعة التي تسهم في تكوين الظاهرة الأدبيّة: (المؤلف/ السياق/ النص/ القارئ) حيث الأقطاب الأولى متّصلة أو منفصلة حظيت بالمقاربة النقديّة، فيما ظلّ القارئ المكوّن المنسيّ في الظّاهرة الأدبيّة. فهذا المنهج يحقّق قدرا من التكامل الذي يعطي لأقطاب القراءة الأدبيّة حظّهم ولا سيما حظ النّص الأدبيّ.
ونحكم بنفس الموقف على اللسانيات التّداولية التي وفّرت جهازا مفهوميّا ومصطلحيّا ومنهجا يعيد للنص جذوته من حيث شروط انسجامه واتّساقه ودور الباث والمتلقّي في تحقيق الإفادة ويراجع خصائص اللّغة ويزعزع المسلّمات التي تحصر الدلالة في المستوى النّحويّ للجملة. كما وفّرت اللّسانيات التّداولية مداخل مفهوميّة تمكّن من مقاربة نصوص الأدب باعتبارها أنشطة لغويّة. ومنه يمكن احترام خصوصيّة العمل الإبداعيّ مع إمكانية تغيير زاوية النّظر إليه. فإلى أيّ حدّ راعت المناهج النّقدية المختلفة شروط عمليّة التّعلّم؟
- تعليم النصّ السرديّ ومدى امتثاله لشروط اكتساب المعرفة لدى المتعلّم:
إنّ البحث في هذه المسألة يبدو شديد التّعقيد تعقّد العمليّة التّعليميّة/الديدكتيكيّة من حيث الأطراف والأهداف والآليّات. ومن حيث الشّروط السيكولوجيّة التي تشترطها عمليّة اكتساب المعرفة لدى الفرد ومن حيث طبيعة النصّ الأدبيّ والشروط التي تحكمه والوظائف التي يحققّها ومن أجلها تنزّل منزلة هامّة في مجال التّعليم.
كانت القراءة في المنظور التقليديّ تقوم على تصوّرات ترى أنّ القراءة الأدبيّة السّليمة النّموذجيّة في إطار الفصل الدّراسيّ هي ما أظهر فيه التّلميذ قدرة على التلفظ بالمكتوب أي إظهار القدرة على القراءة الجهريّة. إضافة إلى انتهاج نشاط أساسه إبراز القدرة على التّفكيك أو نقل المعارف وتلقينها واحتذاء بالمدرّس في تذوّقه للنّص وفي استخراجه للمعنى (مازالت هذه الممارسة تجد لها منزلة في ممارساتنا القرائيّة). فكان المدرّس يتنزّل منزلة القارئ النّموذجيّ، مَن شاكله من المتعلّمين في القراءة حقّق الظّفر، ومن خالفه أو تخلّف عنه كان مثالا للقصور. وابتداء من الثمانينات من القرن العشرين، تأثّرت تعليميّة القراءة الأدبيّة في المؤسّسة التّعليميّة العربيّة عموما بعلم الديدكتيك (مع تفاوت بين النظم التعليميّة)، حيث برز مفهوم جديد للقراءة وتصوّر نشاطها. ووقعت صياغة القراءة على أساس “مبدإ التّمشّيات”[24] (processus) وما تستند إليه من استراتيجيات ومهارات وما ينشأ بينها من علاقات اندماجيّة. فاعتبرت القراءة:
*مسارا ذهنيا: ويعني العمليّات الذّهنيّة التي ينجزها القارئ مستندة إلى مبدأ التفكير في النص المقروء وما يحمله من مكوّنات وعناصر وعلاقات فيفضي التفكير إلى تحقّق نشاط القراءة. فالمسار الذّهني هو” مجموعة من الأنشطة تنطلق من المعاينة البصرية واللّسانية للعناصر القائمة في مساحة النّص وضبط الكلمات والتّحليل النّحوي حتّى تبلغ أشدّ الدّرجات تعقيدا مجسّدة في مختلف العمليّات العرفانيّة (cognitives) الموظّفة لبناء الدّلالة الخاصّة والعامّة وتكوين نموذج ذهنيّ يتعلّق بوضعية النّص وأحداثه”.[25]
*مسارا لغويا: فالقراءة تفكير في مادّة لغويّة مكتوبة تشترط لتحقّقها معرفة بالخصائص التّركيبيّة والمعجميّة والسّياقيّة والدّلاليّة للنّص المكتوب.
*مسارا ديناميكيّا: للتّأكيد على أنّ القراءة ليست تخزينا مجانيّا للكلمات الواحدة تلو الأخرى بل هي ضرب من ضروب المعالجة المستمرّة للنص ببناء فرضيّاته ومحاولة اختبارها أثناء القراءة.
*مسارا شموليا: التأكيد على أنّ القراءة ليست مهارات يقع تعليمها الواحدة تلو الأخرى، وإنّما هي نشاط إدماجيّ لجملة من المهارات التي لا يمكن أن تعلّم أو تقوّم بمعزل عن بعضها بعضا اعتبارا لطبيعتها التّفاعليّة. فالفكرة المحوريّة مرتهن فهمها بـ”طاقة المتعلّم على تحديد المراجع وفهم العلاقات السّببيّة وكميّة المعارف السّابقة للقارئ”.[26]
*مسارا لبناء المعنى: “لم تعد القراءة تعني اكتشاف المعنى المختبئ في مكان ما من النّص، وإنّما أصبحت تعني بناء المعنى انطلاقا من العناصر التي يتضمّنها النّص لكون المعنى مشتّتا فيه يسري في كلّ خيوطه”.[27] فبناء المعنى يشترط المعارف السّابقة للقارئ وطبيعة توقّعاته واستجابتها لمشروع الكاتب. وفي هذا السّياق تقول إيفلين شارمو” إنّ الفهم هو عبارة عن عمليّة معقّدة من البناء الذي تشارك فيه المعارف السّابقة للقارئ بقدر كبير، إنّ الفهم هو بناء المعنى داخل النّص”.
*مسارا للتّواصل: إنّ القراءة تنعقد على علاقة تواصل بين الكاتب والقارئ بموجبها يتلقّى القارئ رسالة الكاتب ويتمثّلها، وتقول إيفلين شارمو في هذا الصّدد: “إنّ نشاط القراءة يتنزّل دائما ضمن وضعيّة تواصل،
فالقراءة هي تحقيق وظيفة المتلقّي في إطار وضعيّة تواصليّة معّينة”[28].
*مسارا تفاعليا: إنّ القراءة عمليّة تفاعل بين معارف القارئ والنّص، وبين القارئ والنّص والمقام وما تحيل عليه هذه العناصر من بُنى ومضامين متنوّعة. يقول “كينتش” تأكيدا لهذه الرُّؤية: “تذهب أغلب النّظريّات الحاليّة إلى أنّ الفهم مسار تفاعليّ يقيم علاقة وثيقة بين خصوصيّة المحتوى في نصّ معيّن ومعارف القارئ وكفاياته”.[29]
– مفهوم القارئ:
لقد مكّن ظهور علم الدّيداكتيك من إعادة الاعتبار للقارئ في مستوى نشاط القراءة فصار المتعلّم القارئ قطب الرّحى ومحور نشاط القراءة (النظريّة البنائيّة والتّداولية وجماليّة التلقّي وغيرها من النّظريات العرفانيّة cognitives). هكذا نسجّل حدوث تقاطع بين تعليميّة/ديداكتيك القراءة والنّظريّات الّنقديّة الحديثة ممثّلة في التّداوليّة العرفانيّة (متفرّعة عن التّوليديّة)، وجماليّة التلقّي.، اللّتان راعتا شروط اكتساب الفرد للمعرفة فطوّعتا المفاهيم والمناهج من أجل تحقيق أهداف تراعي خصائص المتقبّل ذهنيّا ونفسيّا واجتماعيا وفيزيولوجيّا… فصار المتعلّم/ القارئ ذاتا تمارس البناء والفهم والخلق “إلى ما يشبه الإبداع الذي يعيد صياغة النّص الأدبيّ…. لا استهلاكا سلبيّا لمنتج جاهز نهائيّ”.[30] تقول إيفلين شارمو في هذا السياق: “يبني القارئ المعنى داخل النّص انطلاقا من إدراك بصريّ وعمل ذهنيّ ومهارات لغويّة معيّنة تتمثّل في القدرة على الّتمييز بين مختلف النّصوص”[31].
حقّقت التّعليميّة (الديداكتيك) تجاوزا واضحا للنّظرة التّقديسيّة للنّص الأدبيّ ولمؤلّفه، فلم تعد ترى حرجا في تجاوز الاختيارات النّمطيّة لمؤلّفين بعينهم في الكتاب المدرسيّ، كما تجاوزت الاختيارات التي تتذرّع بعلّة النّمذجة الإبداعيّة. وهذا ينسجم مع التّحوّل في نظرة تعليميّة القراءة الأدبيّة للأدب وإجابة عن الأسئلة الديداكتيكية التي تتساءل عن الجدوى من الحفاظ على المقياس الّتقليدي في اختيار نصوص أدبيّة بعينها، إذ: لماذا يقع تناول نصوص معقّدة؟ ألا يمكن بناء كفايات القراءة انطلاقا من نصوص وجهاز بيداغوجيّ يراعي شروط اكتساب كفايات القراءة قبل التفكير في نمذجة النصوص” المختارة؟ (من هذه الكفايات المطلوب تحقّقها: الكفاية اللسانيّة/ الكفاية التواصليّة/ الكفاية الخطابيّة: السردية والحجاجيّة/ الكفاية الموسوعيّة)[32].
إلا أنّ الحفاظ على المدخل الأجناسيّ في تبويب النّصوص الأدبيّة في عدد من المناهج التعليميّة (مثال: جنس الأقصوصة، جنس النادرة، الحكاية المثليّة،) أو التّبويب التّاريخي أو التّبويب وفق المؤلّفين، لم تعد تقتضيه الكفايات المستهدفة في تعلّميّة القراءة الأدبيّة. وأنّ اعتماد التّداخل بين النّظريات النّقديّة على سبيل الإثراء وإيجاد فسحة من مناورة النصوص الأدبيّة إنّما يغفل مفارقة خطيرة لا يمكن تجسيرها بين النّظريّات الأدبيّة إذا ما نظرنا إليها في علاقتها بنظريّات التّعلم. إذ كيف يستقيم الجمع مثلا بين النظريّة البنيويّة التي هي نتاج للنظريّة السّلوكيّة في التّعلم مع التداوليّة أو نظريّة التّلقي اللّتان هما نتاج للنظريّة العرفانيّة في التّعلم؟
- تصوّرات المتعلّم: مع ظهور علم الديداكتيك وانتفاعه من اللّسانيات التّداولية وعلم النّفس العرفانيّ، صار هناك تركيز على المتعلّم ووعي بآليات اشتغال إوالياته الذهنيّة ((mécanismes، والتفطّن إلى مختلف أبعاده النّفسيّة والبيولوجية والسوسيولوجية فكانت التّعليميّة (الديداكتيك) تولي هذه الأبعاد اهتماما كبيرا ممّا دعا المشرفين على المجال التّعليميّ إلى إعادة مراجعة الأنشطة في تعليم القراءة بما يراعي هذه الأبعاد. ومن تجليّات ذلك أن تحوّلت وجهة تعليم القراءة من تعلّم مادّة إلى إنجاز نشاط تواصليّ (من مادّة شرح النصّ إلى تعليميّة شرح النصّ) يمكّن المتعلّم من استنفار مهاراته المَا-قبل مدرسيّة وممّا وقر في ذهنه من خبرات اجتماعيّة وعائليّة ومطالعات لتكون رافدا يعين على فهم النّصوص. فالمتعلّم لم يعد ينظر إليه صفحة بيضاء يمكن للمعلّم أن يكتب عليها ما يشاء (نظريّة اللوح الصقيل). وهذا ما دعا المنظّرين إلى مراعاة الفروق بين الأفراد لاختلاف مهاراتهم وخبراتهم في الحياة (ظهور البيداغوجيا الفارقيّة ثم البيداغوجيا التفريقيّة).
- النقل التعليميّ: لا يخرج النّقل التّعليميّ عن حقيقة وعي التعلّميّين (الدّيداكتيكيّون) بآليات اكتساب المعرفة لدى المتعلّمين، والإقرار بنسبيّة الحقيقة العلميّة وإلى التأكيد على وجوب مراعاة القدرات الذاتيّة للمتعلّم كي ينتج المعرفة. وكان أن نتج عن ذلك أن تحوّلت المناهج والكتب المدرسيّة إلى عرض نصوص قرائيّة طرأ عليها تحويل وانزياح حتى تتحوّل من معرفة عالمة إلى معرفة مدرسيّة تراعي قدرات المتعلّمين على مقاربتها وتحقيق الكفايات المرجوّة منها (الكفايات التي سبق ذكرها آنفا)، بل صار من المشروع اعتماد النّقل التّعليميّ بعد أن تزعزعت الثقة في يقينيّة المعارف العالمة(الأكاديميّة). ويمكن أن نضرب في ذلك مثل الأقصوصة بعرضها جنسا أدبيّا يتحدّد بجملة من المقوّمات والمفاهيم الصارمة التي تميّزه عن غيره من الأجناس الأدبيّة الأخرى (مقياس الطّول/ مفهوم وحدة الانطباع/ لحظة التّنوير/ شدّة التّركيز…). وتُعرض هذه المفاهيم كمسلّمات ينطلق منها المتعلّم لكنّ التّعلّميّة سرعان ما تفطّنت إلى أن تدريس الأقصوصة جنسا أدبيّا يحتاج إلى مراجعة هائلة إذ أنّ الخوض في مسألة الجنس الأدبيّ يندرج في إطار المعرفة العالمة التي منها نستقي المعرفة المدرسيّة لكي تكون قابلة للتّعلّم، وهذه المعرفة العالمة تثير لدى منظّري الأدب اختلافات عميقة جدّا يمكن أن نستعرضها كالتّالي:
- مفهوم الجنس الأدبيّ:
يعتبر الجنس الأدبيّ كذلك من أهمّ مواضيع نظريّة الأدب، وأبرز القضايا التي انشغلت بها الشّعريّة الغربيّة والعربيّة، لما للجنس الأدبيّ من أهميّة معياريّة وصفيّة وتفسيريّة في تحليل النّصوص وتصنيفها ونمذجتها و”تحقيبها “وتقويمها ودراستها من خلال سماتها النّمطيّة ومكوّناتها النّوعية وخصائصها التّجنيسيّة. فلقد اهتمّت الإنشائيّة الغربيّة POETIQUE -منذ القديم وما تزال-بمسألة الأجناس الأدبيّة. ويعدّ أرسطو في كتابه فنّ الشعر، المنظّر الأوّل للأجناس الأدبيّة. فقد قعّدها وصنّفها بطريقة علميّة قائمة على الوصف وتحديد السّمات والمكوّنات، وقد قسّم الأدب إلى ثلاثة أقسام: «الأدب الغنائي والملحمي والدّرامي.»[33] وصارت قضيّة التّجنيس في العصر الحديث من أعوص القضايا التي ناقشتها نظريّة الأدب، والتّصوّرات البنيويّة والسّيميائيّة، وما بعد البنيويّة، لما لها من دور فعّال في فهم آليات النّص الأدبيّ وإواليّاته (mécanismes) الإجرائية قصد محاصرة النّوع وتقنين الجنس دلالة وبناء ووظيفة. وقد أشار تودوروف Todorovإلى أنّ مسألة الأجناس” من المشاكل الأولى “للبويطيقا”/ الشعريّة منذ القديم حتى الآن، فتحديد الأجناس وتعدادها ورصد العلائق المشتركة بينها لم يتوقّف عن فتح باب الجدال. وتعتبر هذه المسألة حاليّا متّصلة بشكل عام بالنّمذجة البنيويّة للخطابات، حيث لا يعتبر الخطاب الأدبيّ غير “حالة نوعيّة”[34]. ويؤكّد العالم الألماني كارل فيتورKARL VIETOR أنّ “الأجناس الأدبيّة هي إنتاجات فنّيّة لأنّ أصلها التّاريخي من أغمض الأمور”.[35]ولقد استعير مفهوم الجنس والنّوع من العلوم الطبيعيّة، ويرجع الفضل في ذلك إلى العالم الروسي فلاديمير بروب رائد التحليل البنيويّ المورفولوجي للسّرد الذي استفاد كثيرا من وصفات علم النبات وعلم الحيوان.
ومن الأسئلة المحيّرة المطروحة داخل الدّراسات الأجناسيّة المتعلّقة بالنّص الأدبيّ نطرح ما يلي: هل من حقّنا مناقشة جنس أدبيّ ما من غير أن نكون درسنا أو على الأقل قرأنا جميع الآثار التي تكوّنه؟. هل ثمّة أجناس أدبيّة معدودة فقط (مثلا: أجناس شعريّة، ملحميّة، دراميّة) أو أزيد. منها بكثير؟ وهل عدد الأجناس نهائيّ أو غير نهائيّ؟
وقد دحض كارل بوبر KARL POPPER منهجيّة الاستقراء التي اعتمدت لتصنيف النصوص الأدبيّة وحدّها بقوله: ” من وجهة نظر منطقيّة، لا مبرّر بين أيدينا لاستنتاج فرضيّات كليّة انطلاقا من قضايا جزئيّة، مهما كان عددها، لأنّ كلّ استنتاج من هذا السّبيل يمكن أن يتبدّى كاذبا على الدّوام: مهما كان عدد البجع الأبيض الذي سيكون بوسعنا ملاحظته، فإنّه لا يبرّر استنتاج أنّ كلّ البجع أبيض”.[36]
وأمام أزمة التصنيف والتجنيس، نادى رولان بارت بإلغاء الحدود الموجودة بين الأجناس الأدبيّة، وتعويض الجنس الأدبيّ أو الأثر الأدبيّ بالكتابة أو النّص. وبما أنّ النّص يتحكّم فيه مبدأ الّتناص واستنساخ الأقوال وإعادة الأفكار وتعدّد المراجع الإحاليّة التي تعلن موت المؤلّف فلا داعي للحديث عن الجنس الأدبيّ ونقائه وصفائه، مادام النّص جمّاع نصوص متداخلة وخطابات متنوّعة ومختلفة من حيث التّجنيس والتّصنيف. وفي هذا يقول رولان بارت:” إنّ النّص لا ينحصر في الأدب الجيّد. إنّه لا يدخل ضمن تراتب، ولا حتى ضمن مجرّد تقسيم للأجناس. ما يحدّده على العكس من ذلك هو قدرته على خلخلة التّصنيفات القديمة.”[37]
- منهجيّات مقاربة الجنس الأدبيّ:
لقد تمّت مقاربة الجنس الأدبيّ انطلاقا من زوايا منهجيّة متعدّدة. فهناك دراسات تركّز على الشّكل، وأخرى على المضمون، والبعض الآخر على الوظيفة. وهناك من يصنّف الأجناس الأدبيّة اعتمادا على الزّمن (الماضي والحاضر والمستقبل)، أو الضمائر، أو الأساليب (السرد -الحوار)، أو الأفعال، أو الصيغ اللغويّة أو حسب المواضيع (الرّواية التّاريخية والرّواية السياسيّة والرّواية الاجتماعيّة…).
وهكذا فموضوع الجنس” يثير أسئلة مركزيّة في تاريخ الأدب والنّقد الأدبيّ، وفي العلاقات الدّاخليّة المتبادلة بينهما، وهو يطرح في سياق أدبيّ نوعيّ المسائل الفلسفيّة المتعلّقة بالصّلة بين الطّبقة والأفراد الذين يؤلّفونها، وبين الواحد والمتعدّد، وطبيعة الكليّات”.[38]
- قضايا المصطلح النقدي والنقل التعليميّ:
يطرح المصطلح النّقدي عموما والسّردي خصوصا عدّة قضايا لعلّ أهمّها إشكاليّة نشأته في مستوى المعرفة العالمة التي تختلف من مدرسة نقديّة إلى أخرى، وفي مستوى توظيفه في مقاربة الأجناس الأدبيّة من جهة ثانية وقد تفطّن إدوارد سعيد إلى هذه المسألة فتحدث عن “هجرة المصطلح” وتحوّله ليكتسب خصوصيّة زئبقيّة عصيّة عن التحديد. كما فطن النّاقد المغربي سعيد يقطين إلى أزمة النّقد العربي في مستوى تمثّل المصطلحات وفي كيفيّة توظيفها، فالمفاهيم والمصطلحات الموظّفة ذات مرجعية واحدة، لكن الاختلاف بيِّن في استعمالها، والخلاف صار متعدّدا بتعدّد هؤلاء المشتغلين بها.
ويرى سعيد يقطين في هذا السياق، أنّنا فعلا أمام ضرورة ملحّة وعاجلة للبحث في المصطلح الأدبيّ العربيّ الجديد. وتأتي هذه الضّرورة من كوننا “نصطلح” على الاختلاف، أكثر ممّا نتّفق على «الاصطلاح». ونجم عن ذلك أنّنا نتحدث عن” شيء” واحد، لكن بلغات لا حصر لها. وقد أجمل سعيد يقطين هذه الأسباب فيما يلي:
-إنّ المصطلحات الأدبيّة الجديدة التي نتعامل بها لسنا نحن الذين ننتجها. ومادام كلّ مشتغل بها يتعامل معها بطريقة مخالفة لغيره، فلا يمكن إلاّ أن يفهمها بطريقته الخاصّة، ويقترح تبعا لذلك مقابلات تناسب أشكال فهمه واستيعابه لها.
-إنّ تلك المصطلحات التي يتمّ إنتاجها خارج مجالنا الثقافيّ العربيّ، ليست واحدة ولا موحّدة. إنّها بدورها تختلف وتتعارض، ويناقض بعضها بعضا، كما أنّها عرضة للتحوّل والتغيّر. ويقرّ الباحثون الغربيّون أنفسهم بذلك وبصعوبة إنتاج المصطلحات وتوليدها أو الاتّفاق بشأنها. ونجد تأكيدا لهذا في ما يعبّر عنه ج. جنيت في مختلف كتاباته وخاصّة عندما يصرّح متضجّرا بقوله: “آن الأوان ليفرض علينا مفوّض شرطة جمهوريّة الآداب مصطلحيّة متّسقة “.[39]
إنّ الإنتاج الاصطلاحي الغربيّ مختلف في حدّ ذاته، ونحن نتعامل معه وكأنّه موحّد. ويتولّد عن هذا بالنسبة إلينا اختلاف في التصوّر والعمل، وينجم عنه الخلاف الدائم. ويتكرّس هذا الخلاف عندما لا يتواصل المشتغلون بهذه المصطلحات ولا يتحاورون. أمام هذا الوضع يروح القارئ أوّلا ضحية كثرة الاستعمالات والاختلافات،” فترتبك بذلك عمليّة القراءة، ولا يتحقّق بعد هذا المراد الأكبر وهو تجديد فكرنا الأدبيّ ومعرفتنا النّقدية وتطويرهما”.[40]
- الخاتمة:
أشرنا سابقا إلى أنّ التّعرف على المتعلّم قارئا واقعيّا في سياق مخصوص، لا يقلّ أهميّة عن التّعرّف على النّص وسياق قراءته، إلاّ أنّ هذا التصوّر لا أثر له في الممارسة داخل مؤسّساتنا. فما يلاحظ هو أنّ أغلب المدرّسين منهمكون في معالجة مشكلات النّص المقروء أو مشكلات سياق قراءته دون إيلاء أهميّة لطبيعة التّلقي لدى القارئ المتعلّم، ودون التّساؤل عن الاستراتيجيّة التي يستعملها في فهم هذه النّصوص. فتقف ردود أفعال هؤلاء المدرّسين عند حدود اتّهام المتعلّم بالقصور في الفهم وضعف المستوى. ومعلوم أنّ هذا الموقف يواجه اليوم انتقادات سواء من طرف البيداغوجيين والتّعليميين (الديداكتيكيين) لكونه لا يعي أنّ فهم النّص تجربة تواصليّة وأنّ معرفة النّص ومعرفة الذّات القارئة شرطان أساسيّان لفهم طبيعة هذه التّجربة التّواصليّة. ويمكن أن نتبيّن مظاهر هذا التّحوّل في النشاط القرائيّ من خلال اعتماد المقاربة المنظوميّة في بناء محاور الدروس والانفتاح على نظريّة الذكاءات المتعدّدة لفهم أنساق التلقّي، والقراءة المنهجيّة (القراءة وفق الوضعيّات) التي يمكن أن تكون خيار استراتيجيّا يعيد للإقراء المدرسيّ وهجه ويقطع مع المـأزق الحاصل بين هويّة النصّ وأهداف النظام التربويّ واعتباطيّة اختيار المقاربات النقديّة المناسبة مع سياق تدريس النص الأدبيّ تعليميّا بعيدا عن السلطة الأكاديميّة.
المصادر العربية
- الكتاب المدرسي آفاق أدبية لتلاميذ السنة الرابعة من التعليم الثانوي (المركز الوطني البيداغوجي/وزارة التربية والتكوين/مطبعة بو سلامة 2005).
المراجع العربية
- إيكو أمبرتو. القارئ في الحكاية، ترجمة: أنطوان أبو زيد، المركز الثقافي العربي، البيضاء، بيروت 1996.
- بارت رولان: درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1 ،1986.
- البرهمي محمد. ديداكتيك النصوص القرائية بالسلك الثاني أساسي، النظرية والتطبيق، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء,1998.
- جنيت جيرارد: مدخل لجامع النص، ترجمة عبد الرحمن أيوب، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1 ،1985.
- السيد غسان: النص الأدبي بين المبدع والقارئة ضمن المجلة الثقافية، عدد 43، الجامعة الأردنية عمّان,1998.
- عزت راجح أحمد.أصول علم النفس. دار القلم بيروت لبنان.
- العجيمي محمد الناصر /النقد العربي الحديث ومدارس النقد العربية. دار محمد علي الحامي. ط. أولى. ديسمبر1998.
- العلوي مراد. عقبات القراءة الأدبية في السنة الثانية من التعليم الثانوي: كليلة ودمنة نموذجا. / بحث ماجستير.
- فرشوخ أحمد. تجديد درس الأدب. ط: 1 2005 الناشر: دار الثقافة/ الدار البيضاء.
- القاسم سيزا، روايات عربية، قراءة مقارنة، منشورات الرابطة، البيضاء 1979.
- ويليك رينيه. مفاهيم نقدية/ ت. د. محمد عصفور. عالم المعرفة فبراير 1987
- ويليك رينيه وأوستين وارين: نظرية الأدب، ترجمة: محيي الدين صبحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط3، 1985.
- يقطين سعيد: مقال ” المصطلح السردي العربي: قضايا واقتراحات
المصادر و المراجع الأجنبية
Barth. R, réflexions sur un manuel, in l’enseignement de la littérature colloque cers- la salle. Paris 1971,
- Barth. »sur racine »seuil 1962
- Borella. J »le mystère du signe »1989 éd maison neuve.
- Charmeux (E) : savoir lire au collège, CEDIC ; 1985.
- Foucault. M. Les mots et les choses/ Gallimard 1966
- Gallimard/ Les mots et les choses 1966
- Genette. G, Palimpsestes, Seuils, 1982
- G.GENETTE 🙁 introduction à l’Architexte). IN théorie des genres. Points,
- Giasson Jocelyne : la lecture de la théorie à la pratique.DE BOECK université & larcier. à Bruxelles 1997
- K. POPPER: The logic of scientific discovery. NEW YORK, BASIC BOOKS 1959.
- J.M.SCHAEFFER : Qu’est- ce qu’un genre littéraire, SEUIL, 1989
- Kintsch(E) et Kintsch (W) : la compréhension de textes et l’apprentissage, à partir de texte : la théorie peut-elle aider l’enseignement in les entretiens Nathan, éditions Nathan 1991
- T .TODOTOV et DUCROT : Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage. ED, SEUIL, PARIS 1972,
- TOMACHEVSKI : (thématique), in THEORIE DE LA LITTERATURE, PARIS.ED DU SEUIL1965
[1]R. Barth, réflexions sur un manuel, in l’enseignement de la littérature colloque cers- la salle. Paris 1971, P.17
[2]د. أحمد فرشوخ الأدب. درس الأدب ط:1 2005.الناشر: دار الثقافة/الدار البيضاء.ص18
[3] نفس المرجع ص :18
[4] نفس المرجع ص:18
[5] نفس المرجع ص :19
[6] د. أحمد عزت راجح.أصول علم النفس. دار القلم بيروت لبنان.ص:261
[7] Les mots et les choses/ Gallimard 1966 P 38-39
[8] Les mots et les choses/ Gallimard 1966 P42
[9] J. Borella »le mystère du signe »1989 éd maison neuve. P190
[10] M. Foucault. Les mots et les choses/ Gallimard 1966 P48
[11] محمد الناصر العجيمي /النقد العربي الحديث ومدارس النقد العربية. دار محمد علي الحامي.ط.أولى.ديسمبر1998
[12] محمد الناصر العجيمي. النقد العربي الحديث ومدارس النقد الغربية ص:84
[13] Barth. »Sur racine »seuil 1962.P 160
[14] محمد الناصر العجيمي. النقد العربي الحديث ومدارس النقد الغربية ص:85
[15] رينيه ويليك. ت. محمد عصفور/نظرية الأدب سنة1949 ص:30-31
[16] أخذنا النظام التربوي التونسي نموذجا مصغّرا أجرينا عليه دراستنا
[17] الكتاب المدرسي آفاق أدبية لتلاميذ السنة الرابعة من التعليم الثانوي (المركز الوطني البيداغوجي/وزارة التربية والتكوين/مطبعة بو سلامة 2005) ص:73
[18] راجع كتاب الوسيط في النصوص للرابعة ثانوي لسنة 1975 ص:303/ص317/ص385
[19] نفس المرجع ص354
[20] – أحمد فرشوخ. تجدد درس الأدب/دار الثقافة. ط أولى 2005. ص 25
[21] -سيزا القاسم، روايات عربية، قراءة مقارنة، منشورات الرابطة، البيضاء 1979 ص110
[22] في النظام التربوي التونسي
[23] أمبرتو إيكو. القارئ في الحكاية، ترجمة: أنطوان أبو زيد، المركز الثقافي العربي، البيضاء، بيروت 1996. ص85
[24] مراد العلوي. عقبات القراءة الأدبية في السنة الثانية من التعليم الثانوي: كليلة ودمنة نموذجا. /بحث ماجستير.ص12
[25] مراد العلوي. عقبات القراءة الأدبية في السنة الثانية من التعليم الثانوي: كليلة ودمنة نموذجا. /بحث ماجستير.ص12
[26] Giasson Jocelyne : la lecture de la théorie à la pratique.DE BOECK université & larcier. A Bruxelles 1997 p.21/32
[27] محمد البرهمي. ديداكتيك النصوص القرائية بالسلك الثاني أساسي، النظرية والتطبيق، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء,1998، ص28
[28] Charmeux (E) : savoir lire au collège, CEDIC ; 1985.
[29] Kintsch (E) et Kintsch (W) : la compréhension de textes et l’apprentissage, à partir de texte : la théorie peut-elle aider l’enseignement in les entretiens Nathan, éditions Nathan 1991 p 15
[30] المرجع السابق ص71
[31] Charmeux (E) : apprendre à lire, édition Milan/éducation.1987 .p60
[32] مراد العلوي: عقبات القراءة الأدبية في السنة الثانية من التعليم الثانوي كليلة ودمنة نموذجا /بحث ماجستير ص 17…ص23
[33] جيرارد جنيت: مدخل لجامع النص، ترجمة عبد الرحمن أيوب، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1 ،1985، ص:5
[34] – T .TODOTOV et DUCROT : Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage. ED, SEUIL, PARIS 1972, p : 193 ;
[35] G.GENETTE 🙁 introduction à l’Architexte). IN théorie des genres. Points, pp : 1
[36] K. POPPER: The logic of scientific discovery. NEW YORK, BASIC BOOKS 1959, p:27;
[37] رولان بارت: درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1 ،1986، ص:61
[38] رينيه ويليك وأوستين وارين: نظرية الأدب، ترجمة: محيي الدين صبحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط3، 1985، ص: 239؛
[39] G. Genette, Palimpsestes, Seuils, 1982, P. 7.
[40] يقطين سعيد: مقال ” المصطلح السردي العربي: قضايا واقتراحات