
الحجاج : مفهومه و أثره في صياغة القول وإعادة إنتاجه – مناظرات الشيخ أحمد ديدات لقسيسي النصارى أنموذجا –
Argumentation: Its concept and impact in the formulation and reproduction of the satatement
-Debates of Sheikh Ahmed Deedat to the Christian priests as a model-
الدكتور. الشيخ كبير ، المركز الجامعي بلحاج بوشعيب / عين تموشنت.الجزائر
Dr.Cheikhe Kebir, University center Belhadj Bouchaib/ Ain Temouchent. Algeria
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 60 الصفحة 35.
Abstract :
It is often said that the field of philosophy is the field of raising questions where the answers are also present in the same extent as questions and problems. However, the nature of the answer in philosophy is proved and based on the argumentation and argument. It is distinct from the proof because the latter is a property of science, whereas argumentation is required to target or persuade the interlocutor or the receiver and make an impact on him.
Hence, the argumentation becomes the process through which the speaker seeks to change the system of beliefs and perceptions when addressing him with powerful means, It is also a dialogue in order to reach conviction without any persuasion. Thus, the argumentation became a basic requirement in every communication process that requires apprehension and persuasion and It penetrates all speeches in different degrees and ways.
Key words: Argumentation, Speech, Debate, Ahmed Deedat, Priest.
الملخص :
كثيرا ما يقال أن حقل الفلسفة هو حقل إثارة الأسئلة، وفيه من الأجوبة بقدر ما فيه من الأسئلة والإشكالات، غير أن طبيعة الجواب في الفلسفة مبرهن عليه، يقوم على الحجاج والمحاجَّة، وهو يتميز عن البرهان، لأن هذا الأخير يشكل خاصية للعلم، في حين يشترط الحجاج استهداف إقناع المحاور أو المتلقي وإحداث أثر لديه. ومن ثمة أصبح الحجاج العملية التي يتوسل بها المتكلم إلى تغيير نظام المعتقدات والتصورات لدى مخاطبه بالوسائل القوية، كما أنه حوار للوصول إلى الاقتناع دون حمل على الإقناع، وبذلك أضحى الحجاج مطلبا أساسيا في كل عملية اتصالية تستدعي الإفهام و الإقناع، فهو يخترق كل الخطابات بدرجات وكيفيات مختلفة.
وفي ورقتنا البحثية رمينا إلى الوقوف على ماهية الحجاج وأثره في صياغة القول وإعادة إنتاجه، وقد اتخذنا من مناظرات الشيخ أحمد ديدات لقساوسة النصارى أنموذجا لمقاربة تطبيقية تقرر ما ورد في الجانب النظري.
الكلمات المفتاحية : الحجاج، القول، المناظرة، أحمد ديدات، قسيس.
مقدمة
الخطاب الطبيعي خطاب غير برهاني، فهو لا يخضع لمبادئ الاستنتاج المنطقي أو البرهنة الرياضية، ولا القوانين المنطقية التي نجدها في منطق القضايا أو منطق المحمولات أو في أي نسق آخر من الأنساق المنطقية والرياضية. فما نجده في الخطاب أو في اللغات الطبيعية هو الحجاج، وهو منطق اللغة أو هو – على الأصح – تصور من التصورات الممكنة لهذا المنطق الذي يحكم اللغة الطبيعية والذي يختلف اختلافا كبيرا عن المنطق الرياضي أو المنطق الصوري، يختلف عنه من حيث طبيعته ومجاله واشتغاله.
والحجاج لصيق بتاريخ الفلسفة و فن الخطابة، درسه السفسطائيون منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وكان يرمي إلى اقتناص مواقف الجمهور و دفعه إلى الانخراط في موقف سياسي أو ديني أو فكري ما، ومن مظاهر الممارسة الحجاجية في الموروث الإغريقي: محاورات أفلاطون، ومساهمات بروتاغوراس وجورجياس من خلال تأسيسهما لما يسمّى بالخطاب المزدوج (مع/ضد) في معالجة المسائل الفلسفية أو السياسية. وفي موروثنا العربي الإسلامي تراث حجاجي ضخم، تمظهر في مؤلفات ومناظرات.
وفي عصرنا هذا تتنازع الحجاج علوم شتى: المنطق والخطابــة وفلـــسفة اللغة و علم الاجتماع والـــــــتداولية و نحو النصّ، وغيرهما يتأسس المبحث الحجاجي على خلفية فلسفية فكرية تقوم على مبدأ النسبية العامة : لا توجد حقيقة مطلقة / الهدف من الخطاب هو النجاعة وليس الحقيقة.
ولأن مصطلح الحجاج يتداخل مع مصطلحات أخرى، ومنها : البرهنة والاستدلال؛ فقد جاءت هذه الدراسة لمحاولة ضبط مفهوم الحجاج وبيان أثره في صياغة القول وإعادة إنتاجه، النمذجة بأشهر المناظرات العقدية في القرن العشرين، وهي مناظرات الشيخ أحمد ديدات لقساوسة النصارى.
وقد أقيمت ورقتنا هذه على مقدمة ومبحثين وخاتمة؛ حاولنا في المبحث الأول أن نعطي نظرة بانورمية عن الحجاج، تتصل بالجانب المفاهيمي المتصل بالحجاج والعلائق التي تربطه بالحقول المعرفية المجاورة له، أما المبحث الثاني؛ ففيه بلورة لما تم إيراده نظريا من خلال مواقف حجاجية عملية، تمثلت في المناظرات التي عقدت بين قسيسي النصارى والشيخ أحمد ديدات. وجاءت الخاتمة لاعتصار ما أردنا بيانه في دراستنا هذه.
حاولنا في المبحث الأول إعطاء نظرة بانوراميىة عن الحجاج انطلاقا من مفهومه و غايته ، مبرزين الأدوات الحجاجية ، و كذا الحوار المعرفي للحجاج ، و علاقته بالتداولية و اللسانيات ، و البلاغة ، و المناظرة.
أما المبحث الثاني ففيه بلورة لما تم إيراده نظريا من خلال مواقف حجاجية عملية ، تمثلت في المناظرات التي عقدت بين قسيسي النصارى و الشيخ أحمد ديدات ، فحاولنا من خلال ورقتنا البحثية هذه أن نستنطق الآليات الحجاجية في مناظرات الشيخ ديدات منطلقين في ذلك من إشكالية رئيسة : ماهي الآليات التي ساهمت في سبك الخطاب الحجاجي في مناظرات الشيخ ديدات مع قسيسي النصارى؟. فقد جرت الكثير من المناظرات والمساجلات التي تتخذ المنهج العقلي أساسا لها و سَوق الحجج و الأدلة. فاعتمدنا في ذلك على تلك المناظرات الشهيرة لديدات والتي أحدثت في منتصف الثمانينات من القرن الماضي مع القس جيمس سواجارت دويا هائلا في الغرب ، وما زالت أصداؤها تتردد إلى اليوم حول تناقضات الكتاب المقدس “الإنجيل”. ثم عرجنا على مناظرة العصر بين ديدات والدكتور أنيس شروس كنموذج للمناظرات المعاصرة، والتي جمعت بين الحجاج و المغالطة و التي يدور موضوعها : هل عيسى إله؟.
المبحث الأول : نظرة شاملة على الحجاج
مفهوم الحجاج:
إذا ما ولجنا في لسان العرب لابن منظور (1232-1311م/630-711هـ) نخلص أن لفظ الحجاج أو المحاجة يحمل في مضـمونه دلالـة و معنى مستمـدين مما يشكل سياقه أو شرطـه التخاطبي، والمتمــثل فـي التخاصم والتنازع والجدل والغلبة كعمليات مأخوذة بمعانيها الفكرية و التواصلية. وهذه التحديدات غير بعيدة عن اللغة الفرنسية على سبيل المقارنة نجد لفظة « argumentation » تشــير إلى عدة معــاني متقاربـة أبـرزها على الخصوص حسب قاموس « Le Robert » :
1- استعمال الحجج.
2- فن استعمال الحجج أو الاعتراض بها في مناقشة معينة.
3- مجموعة من الحجج تستهدف تحقيق نتيجة واحدة.
والاحتجاج عند ابن منظور يعد مرادفا للجدل، فالجدل عنده : مقابلة الحجة بالحجة[1]، وأبو الوليد الباجي (403-474هـ/1013-1088م) عنون كتابه الذي ينتمي إلى علم أصول الفقه المنهاج في ترتيب الحجاج، ووصفه في مقدمته بأنه كتاب في الجدل[2] ، ونجد الترادف بين الجدل والحجاج عند الزركشي(745-794هـ/1344-1392م) [3]والسيوطي(849-911هـ/1445-1505م)[4] في الفصل الذي عقداه في الجدل في القرآن فهما يستخدمان في المتن ألفاظ المحاجة والحجاج والاحتجاج على أنها مرادفة للفظ الجدل و تسد مسده.
والواقع أن الحجاج أعم من الجدل ، فكل جدل حجاج و ليس كل حجاج جدل، فالجدل مداره على المناقشة النظرية المحضة التي تسعى إلى التأثير العقلي المجرد، بينما الحجاج -بحسب أرسطو- (384ق.م-322ق.م) موجه إلى جمهور ذي أوضاع خاصة في مقامات خاصة، و هو لا يسعى إلى التأثير العقلي فحسب، بل يتعداه إلى التأثير العاطفي باستثارة المشاعر و الانفعالات ومحاولة إرضاء الجمهور واستمالته ، و لو كان ذلك بمغالطته و خداعه و إيهامه بصحة الواقع[5].
إن الخروج من الدلالة القاموسية للحجاج إلى دلالته النظرية و الاستعمالية الواسعة أي إلى فضاءات متشعبة نعترف بوجود أكثر من سياق لهذا المفهوم و أكثر من حقل وظيفي له و من ثم كان من البديهي أن يكون الحجاج كخطاب و كعمليات استدلالية إقناعية و علاقات معقدة و متجددة سواء مع البلاغة الكلاسيكية و الحديثة أو مع المنطق و البرهان أو مع اللسانيات و التداوليات.
فغاية الحجاج في تصور بعض رواده من الغرب إحداث التأثــير المؤدي إلى الفعل ، أنه ينطلق من تفعيل الفكر ليصل إلى تفعيل العمل و تحقيقه ، وسـيلته في ذلك خطابية و قناته هي التأثير في ذهن المتلقي. الحجاج هو التصور الذي يقوم على ارتباط الحجاج بدعوى يروم المتكلم حمل المخاطب على الإذعان لها ، فالحجاج هو عبارة عن الوسائل اللفظية التي يشكلها الكلام للتأثير على المخاطبين سعيا إلى حملهم على الإذعان لدعوى ما، وتغيير أو دعم التمثلات و الآراء التي ينسبها لهم. و تقر صاحبة هذا المفهوم الباحثة -روث أموسي- (1964م .)أن تصورها هذا سبق ل-كريستيان بلانتان- (1947م.) أن أوجزه قائلا :” كل كلام هو حجاجي بالضرورة ، هذه نتيجة ملموسة للملفوظ المرتبط بالسياق ، كل ملفوظ يروم التأثير في مخاطبه وفي الآخر كما يروم تغيير نسق تفكيره ، و كل ملفوظ يرغم أو يحث الآخر على الاعتقاد والرؤية والعمل بشكل مختلف”. وكما سبق لـ- جين بليز جريز- أن أشار إلى الحجاج قائلا : ” الحجاج في مفهومه الشائع ، هو تقديم الحجج و الأدلة لدعم دعوى ما أو نقضها و لكن من الممكن أيضا إدراك الحجاج من منظور أوسع ، وفهمه باعتباره نهي يروم التأثير في رأي وموقف و سلوك شخص ما وينبغي الإلحاح على أن وسائل ذلك مستمدة من الخطاب.
ولأن الحجاج يخترق كل الخطابات بدرجات و كيفيات مختلفة ، و من ثم تلا وجود الخطابات خالية من الحجاج، إلا إذا افترضنا وجود خطابات تمثل إجابات على ما هو بديهي ، وهناك من يقترح مفهومين إجرائيين للتمييز بين نمطين من الخطابات الحجاجية، يقوم أحدهما على ما يصطلح عليه بالغرض الحجاجي الذي يكون في الأنواع الخطابية الصريحة ، الخطابات الحجاجية، المواعظ الدينية، والمرافق القضائية واللوحة الإشهارية، و يقوم الآخر على بعد حجاجي خفي مثلما نجد في أنواع خطابية من قبيل: الأخبار المتلفزة، الرحلة و المحادثة اليومية و الرواية وغيرها.
والخطاب الحجاجي نقطة تقاطع بين المنطقي (logos)، والأخلاقي (éthos)، والعاطفي (pathos)؛ أي مجالات: العقل والعادة والوجدان. والنص الحجاجي لا يختلف كثيرا في تعريفه عن الحجاج؛ فهو: نص تهيمن فيه الوظيفة الإقناعية التي تتوسل لمجموعة من الحجج لإقناع المتلقي بالأطروحة المقترحة، أو هو ذو طبيعة استدلاليه وحوارية وسجالية، غايته : إقناع الآخر لتغيير موقفه وتعديل سلوكه وإنهاضه إلى الفعل المنشود في الوقت المناسب. والنص الحجاجي ينمو بالطريقة نفسها التي ينمو بها النص الوصفي، وذلك باقتراحه عددا لا محدودا من الحجج المرتبطة بهذه الأطروحة أو تلك منظمة على شكل مدار حجاجي وخاضعة لمقاصد محددة إلا انه يجب الاحتراز من مسألتين مهمتين هما : 1/ قلة الحجج المؤدية إلى عدم تحقيق الإقناع. 2/ كثرة الحجج المؤدية إلى التشكيك في قيمتها ، وخاصة إذا أخذت منفردة ومنعزلة عن أخواتها .[6]
وإذا كان النص السردي يبنى على مبدأ الانتقال من وضعية بدئية إلى وضعية نهائية اعتمادا على سيرورة من التحولات، فإن النص الحجاجي دعامته الانتقال من مرحلة التفكير الأولي إلى مرحلة الأطروحة المدحوضة إلى مرحلة التفكير النهائي أي مرحلة الأطروحة المقترحة، و إذ من الممكن أن تظل إحدى الأطروحتين مضمرة في النص تبعا لمقصدية معينة ، كما يمكن أن تختلف النصوص فيما بينها من حيث ترتيب الأطروحات و الحجج.
مع ذلك تبقى هناك عدة تساؤلات تطرح نفسها في هذا الموضوع هل للحجاج معنى واحد كلي؟ وهل مجالات تحققه وتعينه حقول تفضي إلى القول بوجود أنماط حجاجية عدة ؟ أليس ثمة فرق بين مفهومي و منهجي بين الحجاج البلاغي و الحجاج الفلسفي أو بين الحجاج الرياضي و الحجاج الفلسفي مثلا ؟ و مهما كانت الأجوبة فانه مبدئيا يصعب علينا فصل الحجاج عن حقل تعيينه و عن خطابه المرجعي.
الأدوات الحجاجية :
للحجاج بوصفه ممارسة ثلاثة مكونات كبرى هي: المكون السياقي/ الثقافي، المكون المنطقي، المكون اللغوي. يوجه الحجاج إلى الشخص الذي يسعى إلى إقناعه ، و لا يكون الحجاج جيدا إلا إذا نجح في تحقيق هدفه هذا ، أما مسألة درجته ، و نوعه الفكري ، وصولا إلى مصداقيته فهي مسألة ثانوية ، وعليه فإننا مضطرون إلى فصل الحجاج عن البرهنة ، تلك التي تقوم قيمتها على منطقها واحترامها لمقامات القياس ، و القواعد العقلية التي تساعد على تأسيس نظامها .
وعلى الرغم من ذلك ، فان هناك مذاهب حجاجية تسعى إلى نسخ امتدادها من أدوات المنطق الصوري كالاستقراء و الاستنباط. و في المقابل فإن كثيرا من الحجج تكتسب قيمتها من خصوصيتها، فما من علاقة بينها وبين النماذج المنطقية أو العملية ، الحجاج بالإطناب و بالتجاوز ، و باللجوء إلى القيم أو التعسف ، وأنماط أخرى، تبعا لتقنيات الحجاج المتمثلة في : الحجج الشارحة، الاستدلال التطبيقي، الحجج المنفردة (غير الشارحة) ، الطرق الواهية للحجاج[7].
يبنى الحجاج على جملة من التصورات و المقدمات و الفرضيات التي ينسج منها المحاج “خطيبا كان أم كاتبا” خططه البرهانية ، فبهذه المقدمات يستمال المعينون، كما أن لهم الحق في رفضها إذا لم تنسجم مع تصوراتها أو كانت من البساطة أو السطحية بحيث لا تمثل أي عنصر جذاب.
و يرى” بيرلمان” أن مقدمات الحجاج هي التي تؤسس نقاط الانطلاق للحجاج و من أهم هذه المقدمات: الوقائع ، الحقائق ، الافتراضات ، القيم ، هرمية القيم ، المواضع ، فالوقائع بما أنها ثابتة لا شك فيها فإنها تصلح لتأسيس نقطة البداية “فهي تمثل ما هو مشترك بين عدة أشخاص أو بين جميع الناس و التسليم بالواقعة من قبل الفرد ليس تجاوبا إلا تجاوبا منه مع ما يفرض نفسه على جميع الخلق إذ الواقع يقتضي إجماعا كونيا . فالافتراضات وإن كانت مسلما بها من قبل المعنيين سلفا ، إلا أن التسليم القوي بها في إطار الخطاب لا يكون كذلك ما لم تشفع بأدلة و أنساق برهانية تدعمها ، ثم إن الافتراضات ليست ثابتة بل هي متغيرة تبعا للوسط و المقام و المتكلم والسامعين .
أما القيم فهي عنصر أساسي من عناصر الحجاج ، وإلى البحث عنها يرجع بيرلمان الفضل أصلا في اهتمامه بنظرية الحجاج ، و للقيم دور بارز في مجالات العلوم الإنسانية إذ عليها يعتمد في تغيير مواقع السامعين و دفعهم إلى الفعل المطلوب و القيم نوعان : مجردة كالعدل والشجاعة، و محسوسة كالوطن و أماكن العبادة و تخضع هذه القيم لتراتبية هرمية تمثل احترامها و الوعي بها من لدن المحاج عاملين فاعلين في تحقيق الخطاب ، و للقيم دور فعال في بناء الثقة بين المتحاورين ، أما المواضع فتعتبر مقدمات أعم و أشمل من كل العناصر السابقة، وقد اعتبرت في البلاغة اليونانية القديمة “مخازن الحجج” على كل ما يروم الحجاج أن يقتبس منها عماد برهنته وهي تلعب دورا كبيرا في الحجاج والدفع إلى الفعل وحلحلة العقبات التصورية التي تكون أحيانا راسخة لدى المتحاجين والتي لا تنسجم مع البناء الحجاجي المقدم .
فالحجاج في تصور بيرلمان يميزه خمسة ملامح رئيسية ؛ هي: 1- أن يتوجه إلى مستمع. 2 – أن يعبر عنه بلغة طبيعية. 3- مسلماته لا تعدو أن تكون احتمالية. 4 -لا يفتقر تقدمه –تناميه- إلى ضرورة منطقية لمعنى الكلمة. 5- ليست نتائجه ملزمة.
الحوار المعرفي للحجاج :
بما أن الحجاج يتصل بسبب وثيق بحقول معرفية متعددة، فإننا ملزمون بإدراك وضعية مفهوم الحجاج وعلاقته بحواره المعرفي القريب؛ بكل من التداولية واللسانيات، ثم بالبلاغة و الخطابة، ثم بالمناظرة التي يفترض أنها المؤهلة إلى توظيف الحجاج في أرقى صوره.
أ/ علاقة الحجاج بالتداولية واللسانيات :
بما أن الحجاج يعتبر ظاهرة متجسدة في الخطاب ،و به يتحقق فهو متلبس بألبسة لسانية، وأسلوبية ، غير أن علاقة اللسانيات بالحجاج تثير تساؤلات كبرى و أبرز هذه التساؤلات هي: هل مقاربة الحجاج هي مهمة ملقاة على اللسانيات العامة أم على التداولية أم على الأسلوبية أم على البلاغة؟ وإذا كان النص الحجاجي هو “لسانيا” نص متميز عن باقي الأجناس النصية الأخرى ، فهل نولي اهتمامنا لبنيته الحجاجية و علاقتها الداخلية أم لقيمته وفعاليته الحجاجية من خلال تفاعل ذاته أو ذواته مع محيطنا الخطابي .
اعتاد اللسانيون النظر إلى الخطاب اللفظي الحجاجي كخطاب يتوفر على خاصيات بنائية وبراغماتية تجعله مختلفا عن غيره من الخطابات : سردية ، حكائية ، إخبارية ،…الخ[8].
و لأن كان البعض يعتقد أن دراسة الحجاج في الخطاب اللفظي هو شأن التداولية فإن لهذا الاعتقاد ما يبرره إذ بالفعل نجد الخطاب الحجاجي يخضع ظاهريا و باطنيا لقواعد شروط القول و التلقي أي أن كل خطاب حجاجي تبرز فيه مكانة القصدية و التأثيرو الفعالية و بالتالي ، قيمة و مكانة أفعال الذوات متخاطبة هكذا ينتمي القول أو النص الحجاجي إلى مجال التداوليات.
و بالموازاة مع التناول التداولي للظاهرة الحجاجية هناك المقاربة اللسانية التلفظية لهذه الظاهرة، فالمقاربة اللسانية حاولت أن تعالج الحجاج كظاهرة لسانية نصية لا يمكن تفسيرها دون إبراز مراتب المتكلمين و أدوارهم في أفعال الكلام و بالإضافة إلى ذلك هناك الوقوف عند العناصر والروابط الحجاجية باعتبارها أدوات لسانية، ثم تشريح سلالم الحجاج داخل المنطوقات والأقوال.
ب/ علاقة الحجاج بالبلاغة :
تعد نظرية الحجاج التي طورها”بيرلمان” (1966) و”تيتيكا” (1899-1987م) من أهم الطروح المنبثقة عما يعرف اليوم ببحوث البلاغة المعاصرة ، وهي بحوث تهتم أساسا بأساليب إجراء اللغة ،
وتنويعات الخطاب ومقاماته و طبائع الناس المعنيين بكل تلفظ معين ، وقد فرض هذا الاهتمام المتنوع على أصحاب نظرية الحجاج التوسل في بحوثهم النظرية و التطبيقية بالكثير من الآليات المعتمدة من حقول معرفية مجاورة للبلاغة واللغة ، لذا كان لمفهوم التداخل المعرفي دور أساسي في طرحهم ، لان اي عملية حجاجية ستتوسل حتما باليات متعددة يتفاوت إدراكها و الوعي بها من قبل المعنيين . كل هذه التقنيات الجديدة في علاقة المتكلمين بالمخاطبين ، وبالمقام تعد من نتائج التظافر بين البلاغة و البحوث اللسانية المعاصرة التي أثبتت أن اللغة ليست أداة للتواصل فحسب إذ فيها تثوي أبعاد الوجود و حقائقه، كما أنها الأقدر على استيعاب المناهج الأمبيريقية والاستفادة من بحوثها التقنية في التعبير عن الراهن و ربطه بالسالف و اللاحق في آن[9].
كما أكد التطور البلاغي المعاصر هذه الرؤية عندما أصبحت بلاغة الخطاب هي تأشيرة المرور إلى دوائر القراءة المثلى، مهما كان نوع النص أو جنسه، فمن وجهة النظر الكلاسيكية للبلاغة نجد لها سبعة ملامح أساسية هي :
1- الإقناع: أي إبداء الاتفاق.
2 – الإعجاب، الإغراء، أو التلاعب و التبرير.
3 – تمرير الرأي بحجج متينة .
4 – اقتراح الضمني من خلال الصريح .
5 – تأسيس المعنى المجازي على المعنى الظاهري .
6 – استعمال اللغة المجازية و الأسلوبية و الأدبية.
7- اكتشاف نوايا المتكلم أو الكاتب و منحها حجمها اللائق بها[10].
لكن التطور الذي حصل في مناهج الدرس اللغوي جعل الدارسين يطورونها بما يلائم راهن الخطابات والنصوص ، ومن أهم ما تتقاطع فيه هذه الدراسات المعاصرة هو اعتبار (البلاغة دراسة للخطاب ولتقنيات الإقناع والتلاعب بالذوات ، ولتحقيق هذه الأغراض لابد لها من حجاج ، ذلك أن الأقسام الأربعة للبلاغة هي : طرح السؤال ، سرده، بنائه ، حججه ، ومطابقتها مع السؤال )[11].
وهذا ما يجعل –بيرلمان- يطابق بين البلاغة و الحجاج ، عادا كل مكونات الأسلوبية الموجودة في رسالة ما (مكتوبة أو مقروءة ، أو مشاهدة أو حتى إشارية) مستويات معينة من مستويات الحجاج، بما في ذلك التضمين والشواهد والأمثلة حتى السخرية والمفارقة هي عبارة عن (…حجة في ذاتها) وكذلك الاستعارة، إنها استدلال قائم على المقايسة المكثفة … وبالمثل فالبلاغة لم تعد لباسا خارجيا للحجاج بل إنها لتنتمي لبنيته الخاصة.[12]
ومن العلامات البارزة في تاريخ الحجاج هناك فكرة تهيمن حمل مجمل الحجاج في جميع مراحله التاريخية، عادة ما تتم معارضة الاستدلال الصارم (من النمط الرياضي أو المقتبس من المنطق الصوري) بالحجاج الذي يقترب من الديالكتيك و البلاغة أي إلى الخطاب ، و قد عانى الحجاج من تقابله للبرهنة التي تستفيد من الميزة العلمية ، المقترنة بمعالجة ما له صلة بالحقيقي ، بالصحيح ، بالحجة ، بالمنطق ، لأن هذه المقارنة تضع الحجاج في الجهة السيئة من القطيعة الفاصلة بين عقلية الدهاء و العقلية الهندسية ، بين الرأي و العلم ، بين الممارسة والنظرية، بين المحتمل و الحقيقي ، بين الإقناع و البداهة ، و في هذه الحال يجد الحجاج صعوبة من التخلص من دلالة تاريخية ذات طابع قدحي طاغ.
منذ العصور القديمة ، جرى التمييز بين البرهنة و الحجاج ، و يعود جوهر الاختلاف إلى أن الحجاج يقتضي تفاعل الذوات، في حين ان البرهنة تنفي الذات ، وبالتالي فهي صارمة لأنها بمنأى عن جميع تأثيرات اللغة، والعواطف ، وبمنأى عن ظروف المكان والزمان التي يستعمل فيهما ، وإجمالا بمنأى عن دور المستمع والخطيب.
لقد كان مفهوم الحجاج مستخدما لدى جميع فلاسفة العصور القديمة لتحليل فن الحوار “الديالكتيك” وفن الكلام “البلاغة” ، وهكذا فإننا نجد الحجاج موظفا حيثما عمد الفكر إلى المضاربة ، وقد أثرت بقوة على حياة مفهوم الحجاج التقلبات التي عرفتها عبر التاريخ معاني الديالكتيك و البلاغة ، ليعاني بالتالي من القرابة التي تجمعه مع هذين المفهومين غير المفصلين أو غير المحددين بصورة جيدة[13].
الخطاب الحجاجي ميدان ثري للدراسات المتنوعة ، وذلك لغناه التكويني و لتعدد الأبعاد التي ينطوي عليها. الحجاج هو ممارسة لفظية اجتماعية، عقلية تهدف إلى تقديم نقد معقول حول مقبولية الموقف بصياغة مجموعة تراكمية من القضايا التي تبرز الدعوى المعبر عنها في الموقف، أو تدحضها[14].
أساليب الحجاج في البلاغة العربية : مما نستند في هذا المقتطف هو حجاجية الاستعارة في الدراسات العربية المعاصرة ، ينهي طه عبد الرحمان في دراسته الاستعارة بين الحساب المنطق و نظرية الحجاج : (حساب الاستعارة حساب منطقيا، لا يفيدنا كثيرا في تبيين خصائصها) . لأن المبادئ التي يستند إليها الحساب المنطقي الاستعارة (تصادم الحقيقة الاستعارية ، و لا تصح إلا بإخراج الأقوال عن وصفها المجازي و إلباسها إلباس الحقيقة) (فالاستعارة خرق للمبادئ المنطقية مما يجعل وصفها وتحليلها يقتضي استخدام أدوات حجاجية تخاطبية تقر بالتعارض مبدأ).
وعبد القادر الجرجاني هو أول من استخدم أدوات حجاجية لوصف الاستعارة وهو الذي أدخل مفهوم الادعاء بمقتضياته التداولية الثلاثة : التقرير والتحقيق والتدليل ، كما استفاد في ثنايا أبحاثه بمفهوم التعارض من غير أن يطرحه طرحا إجرائيا صريحا. وقيمة الوصف التعارض الاستعارة تعود في نظر طه عبد الرحمان إلى أنه يكشف عن آليات حوارية وحجاجية و عملية في بنيتها يجعلها مركبة المستويات و متداخلة الذوات و متنوعة العلاقات.
ج/ علاقة الحجاج بالمناظرة :
للمناظرة ركنان؛ أولهما: الموضوع و هو القضية التي ستجري حولها المناظرة. والركن الثاني: الطرفان اللذان سيتحاوران حول الموضوع المطروح للمناظرة. وهي تقوم على خمس قواعدها رئيسة، تتمثل في : 1-أن الحق واحد لا يتعدد. 2-التحلي بالقول المهذب. 3-الحجة و البرهان. 4-عدم تناقض أقوال المناظر فيما بينها. 5- إعلان التسليم بالمسلمات.
و كما لا يخفي على أحد أن المناظرة أو المحاججة هي المحاورة بين شخصين حول موضوع يقصد كل واحد منهما إثبات وجهة نظره، وإبطال وجهة نظر صاحبه ، وإن كنت أرى أن لفظ المجادلة أحسن توظيفا في هذا المقام، وهي الأقدم استخداما من لفظ المناظرة لأنها جاءت متأخرة ، أما ما جاء به القرآن الكريم هي لفظة المجادلة المذكورة في مواطن كثيرة في القرآن، ومعناها الوصول إلى الحق ، ويقول ابن قيم الجوزية (691-751هـ/1292-1350م) في قصة وفد نجران : جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك ، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحة من يرجى إسلامه منهم ، و إقامة الحجة عليه[15].
واضح أن الحجاج يدخل في صلب المناظرة، ويتبوأ منها مكانا عليا، ولا يتصور قيام مناظرة بلا حجاج، يدافع وينافح به كل خصم عن وجهة نظره، وقد تتعدد صور المناظرات في دنيا الناس، ولعل أبرز صورها في عالمانا المعاصر اللقاءات التلفزيونية التي تفشت اليوم، تلك اللقاءات التي يتناول أصحابها قضايا مختلفة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية وغيرها، وإن كانت كثيرا ما تحيد عن مسلمات المناظرات.
المبحث الثاني : مناظرات الشيخ أحمد ديدات لقسيسي النصارى
ولمقاربة تطبيقية لما ورد في الجانب النظري ، نحاول أن نعتمد على بعض المواقف التي شهدت فيها المحاججة أو المناظرة مجالا واسعا، ولعل أشهر المناظرات الحديثة التي جلبت انتباه المتابعين لها، مناظرات الداعية الشيخ أحمد ديدات (1918م-2005م) لقساوسة النصارى، من أمثال: جيمي سواجارت (1935م)، أحد كبار قساوسة الأمريكان، وباستر استانلي شويبرج، كبير قساوسة السويد، وأنيس شروش (1933م -2018م )قسيس عربي من أصل فلسطيني. وقد تنُووِلت في تلك المناظرات مواضيع عدة، أبرزها: تحريف الكتاب المقدس، وبشرية المسيح عليه السلام، وصلب المسيح بين الحقيقة و الافتراء، والبشارة بمحمد صلى الله عليه و سلم في الكتاب المقدس، والخمر بين المسيحية و الإسلام.
وسأقصر حديثي على موضوعين، لعلهما من أكثر المواضيع التي طرقت في تلك المناظرات؛ وهما تحريف الكتاب المقدس، وألوهية المسيح عليه السلام.
وقفة موجزة مع الشيخ أحمد ديدات في مجال المناظرة :
يتحدث الشيخ أحمد ديدات عن بداياته في مجال المناظرة فيقول : «قرأت كتاب “إظهار الحق” للشيخ رحمت الله الهندي(1918-2005) ، وقرأت عن المناظرات التي أقيمت حينئذ، وكان الكتاب يشرح تكتيك وأساليب وخبرات توضح طريقة البداية ، وطرح السؤال، وأساليب الإجابة لدى نقاش هؤلاء المتضررين، وكانت هذه المناظرات أكثر شيء أثار اهتمامي، فهي تناسبني تماما في مواجهة المبشرين المسيحيين، كما أنها تقدم في المعلومات والمعرفة التي احتاجها، وهي تقدم لي أيضا الأسلحة لمواجهة هؤلاء المبشرين، فالآن أستطيع أن أدافع عن نفسي ، وعن الإسلام»[16].
وفي حقيقة الأمر أن النصارى هم الذين دفعوا ديدات للاهتمام بهم، والرد عليهم لأن اتجاهه للدعوة إلى الله عن طريق المناظرة لم يكن وليد التخطيط، بل سببه تلك المعاناة و الأحداث المحيطة به التي يتبعها المنصرون، حيث يقول “لقد كان المبشرون يقومون عمليا وبصورة استفزازية لتشويه صورة الإسلام والمسلمين، وبصورة تستفز المشاعر”[17].
وهكذا نجد أنه لتحقيق الهدف السامي من المحاججة أو المناظرة التزام الطرق والأساليب المنطقية القويمة، وهناك قاعدة مشهورة لدى المناظرة صاغها علماء فن المناظرة، هي: “إن كنت ناقلا فالصّحة، أو مدعيا فالدليل”.
فديدات يعد أحد أهم رجال الدعوة الإسلامية في العقود الأخيرة، اهتم بدراسة علوم القرآن، والأديان السماوية الأخرى ، مما جعل منه موسوعة عالمية في علم مقارنة الأديان، كانت نتيجتها نشر ما يزيد عن عشرين كتابا. أكسبته هذه التجربة دقة الملاحظة ، والصبر و قوة التحمل، زيادة على ثقته بالله، و توكله عليه. كما انكب و قرر أن يدرس الأناجيل بمختلف صيغاتها الإنجليزية، حتى النسخ العربية كان يحاول أن يجد من يقرأها له. وقام بعمل دراسة مقارنة في الأناجيل، و بعد أن وجد في نفسه القدرة التامة على العمل من أجل الدعوة الإسلامية ، ومواجهة المبشرين، قرر أن يترك كل الأعمال التجارية ، و يتفرغ لهذا العمل[18].
ولما تميز به من قدرة على التحليل و التعمق في النص الذي أمامه، تمكن أحمد ديدات من ناصية الحجة بشكل لم يصل إليه الكثير من رجال الدعوة في تاريخنا المعاصر، وهذه الميزة أهلته لتفعيل وتجديد فن المناظرات الذي يعتمد سرعة البديهة، وألمعية المتحدث، بحيث تمكنه من الرد باستخدام حجة بينة على الادعاءات والشبهات التي تطلق بحق الدين والرسول محمد صلى الله عليه وسلم بشكل مقنع يسقط حجة خصومه. والشيخ أحمد ديدات أحد أكثر المتعمقين في دراسة نصوص الأناجيل المختلفة، نجح في مناظراته للقساوسة، وأسلم على يديه آلاف البشر، فهو صاحب منهج ومدرسة خاصة، و يمثل مرحلة مهمة في الحوار الإسلامي النصراني.
وقدم حوالي 235 مناظرة و محاضرة فكرية و دعوية، كذلك عقد لقاءات كثيرة مع المنصرين الغربيين بمناقشتهم في أمور دينهم ، وبيان نقاط القصور والضعف الموجودة في عقيدتهم وكتبهم، والرد على ما يرجونه حول الإسلام.
ولعل أهم ما ميز و يميز كتابات أحمد ديدات: اعتماده على النصوص لإثبات وجهة نظره ، وتلك أهم مميزات الأسلوب العلمي الحديث ، و عندما يتناول موضوعا من الموضوعات المتصلة بالدين المسيحي أو الإسلامي ، فإنه يعتمد تماما على النصوص المعتمدة في كليهما ، فيقدم بين يدي الموضوع كل ما يتصل به من نصوص من واقع الإنجيل المعترف به لديهم ، و لدى ديدات قدرة فذة على اكتشاف ما يسمى بالتناقض الداخلي حالما يكون موجودا بصراحة ووضوح ، مبديا رأيه كمسلم دون إلزام أحد به ، وبأسلوب هادئ رصين يلتزم فيه أدب الحوار ، وكان يخاطب مناظره باللغة التي يفهمها هو وقومه.
وفي دراستنا هذه، سنركز على موضوعين من أهم المواضيع التي دارت حولها مناظرات ديدات؛ وهما: تحريف الكتاب المقدس، وألوهية المسيح عليه السلام.
الموضوع الأول : تحريف الكتاب المقدس
ولنبدأ بالموضوع الأول و المتمثل في تحريف الكتاب المقدس.
جرت وقائع هذه المناظرة العالمية الشهيرة في الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 1/4/1487 هـ ، الموافق لـ 3/11/1986 ، وكان موضوعها “هل الكتاب المقدس كلمه الله” ، والتي جرت بين الشيخ أحمد ديدات والقس جيمس سواجارت.
أ-القس جميس سواجارت:
حيث يبدأ ويتظاهر القس بالموضوعية في مستهل كلامه بتقديم اعتذار علني للمسلمين ، لما كان قد نفوه به من عبارات نابية عن الإسلام خلال تقديمه لبرنامج تلفزيوني ، مؤكدا في الوقت نفسه أن فهمه للإسلام قد شهد شيئا من التطور الإيجابي ، غير أنه مع ذلك لا يقر بنبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، يقول : “لقد تعلمت احترام القرآن ، وتعلمت احترام المسلمين ، لكني لا أؤمن أن القرآن كلمة الله ، ولا أؤمن أن محمدا كان نبي الله.
ومع بداية المناظرة يقول القس سواجارت : ” لا يوجد مسيحي واحد يمكن أن يقول أن الرب هو الذي كتب الإنجيل ، فإن الشيء الوحيد الذي أعرف أن الرّب قد كتبه هو الوصايا العشر على الحجر لموسى…” وذلك على الرغم من قوله قبل ذلك “…وقد أعلنت أن هذا هو كلمة الرب العظيم ، وأعلنت أنه لا وجود لكلمة أخرى للرب…” فكلامه هذا يحمل في طياته دعوى مع ضدها في آن واحد ، وهي زعمه أن : الإنجيل وحي إلاهي مع نفيه أن يكون كل محتوياته من الوحي ، وهذا كاف لإسقاط دعواه بداهة ، و عدم اعتبارها و عن التناقض العددي في الأناجيل، وما جاء في ذلك من اختلاف ، لا يجد مخرجا لتفسير ذلك إلا أن يلجأ إلى إتهام القرآن باحتوائه على نفس الظاهرة وليس في ذلك في الحقيقة حلا للإشكال ، وإنما هو هروب وعجز عن موقع المعضلة ، وإتهام للمدّعي أن فيك مثلما تتهمني به.
أما بخصوص تعدد روايات الإنجيل ، فحاول المغالطة و المراوغة ، إذ انطلق بعقد مقارنة بين تراجم الإنجيل، و تراجم معاني القرآن الكريم ، مدعيا في الوقت نفسه أن نص الإنجيل لا يزال كما هو ، و إنما الاختلاف جاء في الترجمات و ذلك قوله : ” في الحقيقة هذا غير صحيح فلا توجد غير رواية واحدة فقط من الإنجيل ، و توجد ترجمات كثيرة….” و يقول أيضا : “… فالمهم أن جوهر النص لم يتغير…” ومهما يكن فإن القرآن قد ترجم بذلك إلى لغات عديدة، و نشرت ترجمة معينة للقرآن ، وصار حولها جدل ، و حتى يثبت ما قاله ، و يقنع الحضور استنجد بأقوال بعض الأعلام من مفكري المجتمع العربي الذين حاولوا أن يثبتوا أن الإنجيل من عند الله، و لكن دون جدوى و لترسيخ ادعاءاته الباطلة يسوق قصة جمع القرآن في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه ليثبت للجمهور أن هذا الجمع ان هو إلا محض محاولات لتوحيد نص القرآن ، زاعما أنه كان هناك عدة نصوص، وأن أمر الخليفة عثمان بإحراق بقية مواد القرآن بعدما تم إنجاز مهمة اللجنة المكلفة بجمعه في مصحف واحد، يؤكدان ثمة بتناقضات في محتوياته، متناسيا أو متجاهلا أو جاهلا أن القرآن كان محفوظا بتمامه قبل وفاة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في الصدور قبل تدوينه في مصحف جامع.
وليشكك في مضمون القرآن يقفز إلى خرافات القدامى من معلميه المستشرقين أن أكثر قصص القرآن منتحلة من الأساطير اليهودية ، و ذلك بقوله : “… و لكن كم هي كثيرة تلك القصص التي انتحلت من الخرافات والأساطير اليهودية” و هذا يتم عن عدم تجرده عن سوابق الأحكام في ساحة الحوار والمناظرة بدون دليل ملموس.
و نلمس أن الغالبية الساحقة من إجابات سواجارت منها مغالطات و تحايل اساسها التقويض والاستسلام المجرد المبني على العجز عن الإدلاء بالأدلة الصحيحة و البراهين القوية. كما أن القس لا يملك ضابط ما يميز به بين ما هو نص أصلي و وحي من الأناجيل و ما ليس كذلك ، إلا بمجرد الإيمان الأعمى و الاستسلام ، وفي ذلك ترجيح بغير مرجح ، و هو ترجح منبعه هوى نفسي قوامه التعصب والجمود. كما نلحظ قصور القس عن إمكانية تفسير و بيان الاختلاف الواقع في نسب المسيح بين إنجيل متى و لوقا ، فيلجأ إلى إلقاء اللائمة على الأناجيل بأنها كتب تاريخ و بنودات ، و هذا أيضا ليس فيه دفع للتهمة الموجهة إلى أناجيلهم.
ويختتم القس مناظرته “وأنا أسلم أمامكم الليلة بأن العهد القديم الذي أحمله في يدي، هو نفس العهد القديم الذي كان اليهود في أيام و زمان محمد، وأنه لم يتبدل، و أن الإنجيل أو العهد الجديد الذي أحمله في يدي هو نفس الكتاب الذي كان لدى الكنيسة في أيّام محمد” استسلام بغير دليل.
ب-الشيخ أحمد ديدات:
قبل أن يخوض ديدات غمار هذه المناظرة يفتتح كلامه بآية قرآنية كريمة مشحونة بوعيد إلاهي شديد للذين يكذبون على الله ما لم ينزل به سلطانا من أجل التكسب و المتاجرة، “فويل للذين يكتتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا”. -سورة البقرة ، الآية 19.
ثم ينتقل ليوضح للحضور عقيدة الإسلام في المسيح عيسى عليه السلام ، فيقول لا يكون المسلم مسلما إذا لم يؤمن بالمسيح عيسى ، ثم يواصل ليبين الفرق الذي بين النسخة الإنجيلية التي يتمسك بها الكاثوليك ، و التي يعتمدها البروتستانت ، و هذا الفرق هو أن ثمة أسفارا زائدة ، يرى الكاثوليك أنها ليست جزءا من الإنجيل، في حين يعتقد الطائفة البروتستانية بأنها وحي بقية النصوص الإنجيلية، وكأنه بذلك يريد أن يدلل على عدم امتلاك الكاثوليك برهان سليم على نبذ هذا الجزء الزائد ورفضه، فإنهم يقبلون ما ينبذون كذلك ما لا يعجبهم معتمدين على هواهم.
ثم يتفق الشيخ أحمد ديدات مع القس سواجارت على اعتماد مرجع إنجيلي واحد ليدور على محتواه النقاش، يتفق ديدات على النسخة التي يعتمدها القس و هي نسخة الملك جميس التي نشرت أول مرة عام 1611م بأمر من الملك جميس و مع أن هذه النسخة هي النسخة هي النسخة الوحيدة المعتمد عليها ، إلا أن ديدات سدد إليها سهام النقد بسبب ما اعتراها هي الأخرى من تبديلات كثيرة من باب النتقيح ، و هذا الطعن يجعل نسخة الملك غير سالمة من عملية التحريف ، فكون هذه النسخة منقحة ، و كلام الله لا يقبل التنقيح من أحد ، إذن فليس بكلام الله.
ومن جملة ما استدل به أحمد ديدات على أن كتابهم ليس كلام الله :
- وصف الله تعالى بصفات النقص والعيب، و صفات البشر؛ فوصف تعالى شأنه بأنه : يأكل و يشرب، ففي سفر التكوين: أن الله كان ضمن ثلاثة رجال جاءوا إلى إبراهيم عليه السلام، فقدم لهم الطعام فأكلوا “ثم أخذ زبدا و لبنا و العجل الذي عمله، و وضعها قدامهم، وإذا كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة فأكلوا”.
- و يورد أحمد ديدات بعض النصوص من الأناجيل التي تضفي على الله صفات البشر ، ثم يبين بالمنهج العقلي استحالة ذلك فيقول ديدات : أما عن وصف الله فإننا نجد أن التوراة تضفي على الله صفات البشر مما يجعله عندهم مماثلا للبشر في الصفات المادية اللازمة للبشرية ، و لكن ديدات يفند كل هذه المزاعم بالحجة و الدليل سواء نقليا أو عقليا تحليليا.
- الإباحية الجنسية الموجودة في الكتاب المقدس ، إذ بلغت حالات زنا المحارم عشر حالات كما أخبر “سواجارت” فيعلق ديدات : في كتاب من عند الله ، لماذا ينحرف الرب العظيم عن الطريق في كتابه المقدس ليوحي إليهم بعشر حالات من زنا المحارم ؟ و لذلك أقول إخوتي وأخواتي الأعزاء أن هذا ليس كلمة الله[19] .
- تعدد روايات الإنجيل وتناقضها فيما بينها، في القضية الواحدة، إذ لو كانت من عند الله يلزم ألا يكون بينها خلاف و تناقض ، مصداقا لقوله تعالى ﴿أفلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾ [النساء: 82]. و من أمثال هذه الأمثلة المتناقضة، ما ورد في إنجيل يوحنا “الله لم يره أحد قط”[20]..وهذا مناقض لما ورد في سفر التكوين “فدعا يعقوب اسم المكان -فنيئيل- قائلا : ” لأني نظرت الله وجها لوجه، ونُجيت نفسي”.[21].
كما يتحدث عن الأسفار الخمسة في العهد القديم مبينا أنها ليست كتب موسى و ذلك لإخبارها سبعمائة مرة أن هذا الكلام ليس كلام الله ، و تمثل بالعبارات التالية ” و قال الرب لموسى وقال موسى لله” إذ لو كان كاتب التوراة موسى لقال : ” لقد قال لي الرب ، و قلت لله” [22] .
- أقوال أحبار النصارى ؛ فهو يحاجج النصارى بأقوال “هانز كوكب” حين قرر “هانز” أنه لا يوجد دليل واحد على أن الإنجيل ينحدر مباشرة من الله، و لقد قدم “هانز” الأدلة الصريحة على أن الإنجيل إنما هو كلام بشر مستدلا على ذلك بما ورد في إنجيل لوقا الذي كان يحاكي من سبقه فيكتب كما كتبوا لا بتكليف من الله ، و لا بتكليف من روح القدس.
وهنا يغالط سواجارت ، إذ انطلق بعقد مقارنة مع الفارق الكبير بين تراجم الإنجيل ، وتراجم معاني القرآن الكريم مدعيا في الوقت نفسه أن نص الإنجيل لا يزال كما هو و إنما الاختلاف جاء في الترجمات و ذلك قوله ” في الحقيقة هذا غير صحيح فلا توجد غير رواية واحدة فقط من الإنجيل ، ويوجد ترجمات كثيرة” ويقول أيضا ” فالمهم أن جوهر النص لم يتغير” و مهما يكن فإن القرآن قد ترجم كذلك إلى لغات عديدة.
الموضوع الثاني : ولادة المسيح عليه السلام
أما فيما يخص الموضوع الثاني و الذي ارتأيت طرحه من خلال ما شهد من جدال ومناظرة هو ولادة المسيح عليه السلام. ففي حوار الشيخ ديدات مع القس “سنكر” وهو رئيس جمعية الإنجيل في جوهانسبورغ ، حول ولادة المسيح عليه السلام ، يوضح ديدات للقس “سنكر” ما يتعلق بعيسى في العقيدة الإسلامية والمكانة السامية التي يحتلها في كنف الإسلام ، و بدأ القس مرتابا فيما ذكر ديدات ، و قرأ له قوله تعالى ﴿قالت ربّ أنّى يكون لي ولد و لم يمسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء ، إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون﴾ [آل عمران: 47].
و بين ما جاء في إنجيل متى “أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا ، لما كانت مريم أمة مخطوبة ليوسف ، قبل أن يجتمعا ، وُجدت حُبلى من الروح القدس”. فيقول ديدات أننا نعلم علم اليقين أن المعنى المقصود من الألفاظ الإنجيلية ليس ذلك الذي يتبادر إلى الأذهان، لكن اللغة المستخدمة هنا هي الملومة لأنها غير مستساغة توحي بمعان غير لائقة ، و هي بذلك دون المستوى اللائق ، ثم يذهب لكي يوضح للقس الفرق مع مقارنة ذلك مع ما جاء في القرآن الكريم. مع الاستشهاد بالآية القرآنية “قال كذلك الله يخلق ما يشاء ، إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون”[23].
هذا التصور القرآني لمولد عيسى عليه السلام لله أن يخلق بشرا مثل عيسى دون أن أنه سبحانه يشاء فحسبَ، و لو أنه شاء أن يخلق مليون عيسى دون أباء و دون أمهات لتحقق له ذلك ، لأنه سبحانه يخلق ما يشاء في الوجود بكلمة كن فيكون. و هنا سأل ديدات القس سنكر ، أيهما تختار لابنتك في ما يتعلق بمولد عيسى ، التصور القرآني أم التصور الإنجيلي ؟ أحنى الرجل رأسه بتواضع و قال : التصور القرآني[24].
كما يبدو المنهج العقلي واضحا لدى ديدات عند مناظرته للقس الدكتور أنيس شورش، بقاعة ألبرت بلندن عندما يقول: إن عيسى رجل هذه حقيقة أكدها بطرس عندما قال : “أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال : يسوع الناصري ، رجل قد تبرهن لكم من قبَل الله بقوات و عجائب و آيات صنعها الله بيده في وسطكم”[25]. و لقد قال يسوع لليهود أنه لم يسمع صوت الله في أي وقت ، و لم ير شكله و لا هيئته إطلاقا. لقد اتهم اليهود يسوع بالسحر و هربوا من طريقه، و لذا فإن يسوع يستحيل أن يكون هو الأب ، ويستحيل أن يكون هو الله لأنه كان ليسوع لسان و شفتان، و تكلم مع اليهود، و كانت له عينان والعينان في وجه، و اللسان يمتد من البلعوم، وكانت له أمعاء، و باختصار كان إنسانا له جسم الإنسان ، و لم يكن إلاها بأي حال ، إن أي شخص ولدته أمه لا يمكن أن يكون إلاها ، و لا يمكن أن يقارن و يتساوى مع الله ، ولقد جاء وصفه بأنه “ابن الإنسان” بالعهد الجديد ثلاثا و ثمانين مرة و وصف بأنه “ابن الله” بالعهد الجديد ثلاث عشر مرة. سل أي مبشر مسيحي ، من هو ابن الإنسان ؟ و سيقول لك على الفور : يسوع[26].
و الإنسان هو الإنسان في كل زمان و مكان ، و يحدثنا الإنجيل أنه كانت قد أجريت ليسوع عملية الختان عندما بلغ يومه الثامن : “و لما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبيَ سميّ يسوع ، كما تسمى من الملاك قبل أن حُبل به في البطن”[27]. ثم يتساءل ديدات إله وتجرى له عملية الختان ؟ ثم يستطرد ديدات بعد استشهاده بالآية الكريمة ﴿ما المَسيحُ ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل و أمه صدّيقة كانا يأكلان الطعامَ كيف تبين لهم الآيات ثم أنظر أنّى يؤفكون﴾ [المائدة: 75].
لقد كان عيسى و أمه يأكلان الطعام ، و يقول الإنجيل “جاء ابن الإنسان يأكل و يشرب ، فيقولون هو ذا إنسان أكول و شريب خمر محب للعشارين و الخطاة ، و الحكمة تبررت من بنيها”[28]. يقول ديدات : أن أكل الطعام يدل دلالة قاطعة على أن عيسى إنما كان إنسانا بكل ما تعنيه الإنسانية من معان، و كذلك كانت مريم العذراء التي يعتقد الكاثوليك بألوهيتها. و من هنا يستحيل أن يكون المسيح إلاها ، أو يكون هو و أمه إلاهيين ، لأن أي شخص يتناول الطعام يستحيل أن يعتبر إلاها ، و كل شخص يأكل الطعام يحتاج الذهاب إلى قضاء حاجته ، و مَن هذا شأنه لا يكون إلاها[29].
يمزج ديدات بين المنهج النقلي و العقلي ليدلل على خطأ النصارى في تصورهم لمكانة عيسى عليه السلام عند ربه، فيذكر ديدات النص القرآني ﴿إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا و الآخرة و من المقربين﴾ [آل عمران: 45]. و يذكر ديدات أن المقصود بالمقربين المتفوقين روحيا و ليس القرب المكاني ، و يذكر ديدات نصا من الإنجيل يبين التصور الخاطئ بقرب عيسى من ربه “ثم أن الرّب بعدما كلّمهم ارتفع إلى السماء ، و جلس عن يمين الله”. و يقارن ديدات بين النصين موضحا أن النصارى أساءوا الفهم هنا بأنهم يتخيلون أن الإله جالس على كرسي فخم و ابنه المسيح على يمينه. و يتساءل هل يمكن استيعاب تلك الصورة ، و نقبل مثل هذا التصور للإله ، إن الله ليس كمثله شيء يمكن أن تحيط به عقولنا أو أن نتصوره.
ثم يبرهن بالمنهج العقلي عن خطأ تصور النصارى أن عيسى عليه السلام إله لأنه ولد من غير أب. قائلا: و من ذلك يمكن لنا أن نستخلص أنه إذا كان عيسى إله لأنه قد ولد من أم بغير أب ، فإن آدم إله أعظم -حسب زعمهم- و ثمة إجماع على أن آدم لم يكن إلاها ، و بناء على ذلك لا يصح أن يكون عيسى إلاها من باب أولى لأنه لم يكن لآدم أب و لا أم[30]. يقول الشيخ ديدات لقد نادى يسوع ربّه قائلا : “إلهي ، لماذا تركتني؟ “[31]. من ذا الذي كان يسوع ينادي عليه لكي ينقذه ؟ هل كان ينادي نفسه لينقذ نفسه ؟ إذا كان عيسى إلاها فكيف إذا ترك اليهود و الرومان يفعلون به ما يفعلون ؟
و قبل أن ينهي الشيخ ديدات حديثه ، يضع الخصم و أنصاره في مأزق و هو أنه إذا كان المسيح فعلا ابنا لله، فما الذي يجعل الرّب يستبعد ذكر اسمه ضمن نسب من يرونه ابنا له ؟[32].
لقد ركز أكثر ما ركز عليه ديدات على مسألة اعتبار النصارى المسيح ابن الله ، لكن مع هذا الاعتقاد في البنوة يشوبه ادعاء يثير الدهشة و الغرابة ، ألا و هو بنوة غير حاصلة عن عملية إنجاب إشكالية لم يستطع كبار علماء النصرانية أن يجيبوا عليها كما يقص علينا ديدات “لأن المسيح عندهم هو الابن الوحيد الذي ولده الله، وأنه مولود وليس مخلوقا، و كنت أسأل النصارى دائما : اشرحوا لي ما الذي تقصدونه حينما تقولون هو وُلد و لم يُخلق ؟ وصدقوني خلال أربعين عاما لم يستطع إنجليزي واحد أن يشرح لي ماذا تعني هذه الكلمة[33].
خاتمة :
في خاتمة بحثنا هذا؛ يعد الحجاج ايوالية خطابية وخطابية لدى الإنسان يمارسها مع الآخرين، دفاعا عن أفكاره، ومعتقداته، عارضا أو مفندا، محاورا أو مقنعا. إنه فعل علائقي يبرر به صاحبه أنماط أفعاله، بالحجة والبرهان، بشكل طبيعي، أو بتعامل فعال، عبر شبكة من الأقوال أو التعابير الحاملة لصورة حجاجية، تستجيب لأهداف تأثيرية انجازيه في المخاطبين أفرادا أو جماعات .إلا أن الحجاج، في معظمه، لا يتم إلا باللغة أو الخطاب، أو داخلهما معا، ما يكسب الحجاج بعدا تلفظيا استدلاليا، تنتمي عناصره الحية المتفاعلة إلى المجال التداولي ، بحكم متغيراته و أفاقه ، و كلما تباينت أنماط الحجاج وتواجهاتها المعرفية والأدائية، كلما تبين في الوقت نفسه عناصر المجال التداولي المستمر ، وتخصصت زوايا النقاط الأثر التداولي منهجا و تقويما .
ولأن المناظرات تمثل معين خصبا لتمثل المواقف الحجاجية، فإن مناظرات الشيخ ديدات التي زاوج فيها بين المنهج العقلي والمنهج النقلي ؛ توثيقا في إسناد النصوص إلى قائليها، والتحقق من سلامتها و فهم مدلولاتها، وإقناعا للخصم بقواعد منطقية تلزم الحدود والرسوم في التعريف والقياس والاستقراء والتمثيل في الاستدلال. كل ذلك يشي بعدم فصل التصور المفاهيمي للحجاج عن سياقه الذي يوظف فيه.
ملحق :
الشيخ أحمد ديدات : هو الشيخ أحمد حسين ديدات ولد في (تادكهار فار) بإقليم سراط بالهند عام 1918م لأبوين مسلمين هما حسين كاظم ديدات وزوجته فاطمة, وكان يعمل والده بالزراعة وأمه تعاونه ومكثا تسع سنوات ثم انتقل والده إلى جنوب أفريقيا وعاش في ديربان وغير أبيه اتجاه عمله الزراعي وعمل ترزياً ونشئ الشيخ على منهج أهل السنة والجماعة منذ نعومة أظافره فلقد التحق الشيخ أحمد بالدراسة بالمركز الإسلامي في ديربان لتعلم القرآن الكريم وعلومه وأحكام شريعتنا الإسلامية وفي عام 1934م أكمل الشيخ المرحلة السادسة الابتدائية وثم قرر أن يعمل لمساعدة والده فعمل في دكان يبيع الملح، وانتقل للعمل في مصنع للأثاث وأمضى به اثنا عشر عاما وصعد سلم الوظيفة في هذا المصنع من سائق ثم بائع ثم مدير للمصنع وفي أثناء ذلك التحق الشيخ بالكلية الفنية السلطانية كما كانت تسمى في ذلك الوقت فدرس فيها الرياضيات وإدارة الأعمال. إن نقطة التحول الحقيقي كانت في الأربعينات وكان سبب هذا التحول هو زيارة بعثة آدم التنصيرية في دكان الملح الذي كان يعمل به الشيخ وتوجيه أسئلة كثيرة عن دين الإسلام ولم يستطيع وقتها الإجابة عنها(1). وقرر الشيخ أن يدرس الأناجيل بمختلف طبعاتها الإنجليزية حتى النسخ العربية كان يحاول أن يجد من يقرأها له وقام بعمل دراسة مقارنة في الأناجيل وبعد أن وجد في نفسه القدرة التامة على العمل من أجل الدعوة الإسلامية ومواجهة المبشرين قرر الشيخ بأن يترك كل الأعمال التجارية ويتفرغ لهذا العمل. و توفي في 8 أغسطس 2005 بفرولام ، جنوب إفريقيا(2). القس جيمي سواجارت : (جيمي سواجارت (من مواليد 15 مارس سنة 1935، قس أمريكي يملك محطة للتلفزيون يستخدمها للتبشير بمعتقده ولأغراض أخرى فضحته النيابة العامة عند إلقاء القبض عليه واتهمته بسوء خلقه فظهر على شاشات كبريات المحطات التليفزيونية الدولية ليعترف تفصيليا بعلاقته الجنسية مع إحدى البغايا(3). هو صاحب مجلة the evangelist و له مناظرة مشهورة جدا مع الداعية الإسلامي الشيخ أحمد ديدات(4).
القس أنيس شروس : أنيس شرّوش مبشر مسيحي من أصل عربي ولد في الناصرة في فلسطين في 6 يناير 1933 ثم هاجر إلى الأردن وواصل دراسته بجامعة ميسيسيبي (Mississippi college). حصل على الدكتوراه مرتين من معهد أمريكا للكهنوت ثم معهد لوثر رايس الدولي للكهنوت وكان يعمل في فلسطين، ومن ذلك عمله في كنيسة القدس المعمدانية. كما عمل في الضفة الغربية من سنة 1959 إلى 1966م وعمل منصراً في أفريقيا في كينيا وكيبتاون وديربانويوهانسبورغ، في التسعينات. وفي سنة 1995 عمل في نيوزيلندا… ثم انتقل إلى إنجلترا… ثم إلى البرتغال.(5) اعتقلته الشرطة في مدينة دافني بولاية ألاباما الأمريكية بتهمة محاولة إحراق برج سكني في المدينة، وكان القس أنيس شروش قد اشغل النار في صندوق القمامة بالعمارة وتعتقد الشرطة أن القس أنيس شروش أراد حرق جميع المنازل بالعمارة وخطط لذلك بأن قام لمحاولة تخريب الأجهزة الوقائية ولم تكشف الشرطة بعد عن الدوافع غير ان الشرطة وجدت في القمامة مستندات للضرائب تخص منظمته التبشيرية الجدير بالذكر ان القس أنيس شروش قد ناظر الشيخ أحمد ديدات وركز جهوده في الفترة الأخيرة علي الهجوم الشرس علي شخص النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أصدر عددا من الكتب يتهم فيها نبي الإسلام بالإرهاب واختطاف زوجاته’ إضافة إلي ذلك يقوم القس أنيس شروش بحملة إرهاب الشعب الأميركي من الإسلام.
ناظر الشيخ أحمد ديدات مرتين. المرة الأولى سنة 1980 في لندن والموضوع : هل عيسى إله ؟ حضر المناظرة 5000 شخص. المرة الثانية في برمنغهام، والموضوع : القرآن والإنجيل : أيهما كلام الله. وحضرها 12000 شخص. كما ناظر شبير علي أربع منظرات عام 2005 في سكوتلندا. وله في موقع أمازون.كوم أنه مؤلف “الفرقان الحق” وهو ما اعتبر محاولة لتأليف ترجمة محرفة للقرآن(6). توفي في 13 مايو 2018 بموبيل ، ألاباما.
———————–
(1) نبذة مختصرة عن السيرة الذاتية للشيخ أحمد ديدات-موقع صيد الفوائد-.
(2) كتاب هذه حياتي ، سيرتي و مسيرتي-أحمد ديدات- أعده أ/أشرف محمد.
(3) About Jimmy Swaggart Ministriesjsm.com. نسخة محفوظة 24 مايو 2019 على موقع واي باك مشين.
(4) About Jimmy Swaggart Ministriesjsm.com نسخة محفوظة 24 مايو 2019 على موقع واي باك مشين.
(5) سيرته من أمازون نسخة محفوظة 23 مايو 2019 على موقع واي باك مشين.
(6) مناظرة هل عيسى إله؟.
قائمة المصادر و المراجع :
القرآن الكريم.
1- ابن منظور الإفريقي، لسان العرب، مادة حجج دار صادر بيروت 1997 .
2- أبو الوليد الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، دار الغرب الاسلامي، لبنان، ط.2، 1978.
3- الزركشي، البرهان في علوم القران، تح: محمد ابو الفضل ابراهيم، دار المعرفة، لبنان، 1972. ج2
4- السيوطي، الإتقان في علوم القران، دار عالم الكتب، لبنان. ج2.
5- أوليفي روبول، الحجاج مفهومه و مجالاته (نصوص مترجمة)،عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج2 .
6- ابن قيم الجوزية، زاد المعاد، مؤسسة الرسالة، لبنان، ط.2، 1992. ج3.
7- أحمد ديدات، هذه حياتي، سيرتي و مسيرتي، دار الفضيلة للنشر، القاهرة.
8- إبراهيم بن عبد الكريم السنيدي، الحوار و المناظرة في الإسلام: أحمد ديدات نموذجا في العصر الحديث، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة الإسلامية، ع46، محرم، 1430.
9- أحمد حجازي السقا، المناظرة الحديثة.
10- إنجيل يوحنا.
11- أعمال الرسل.
12- إنجيل لوقا.
13- إنجيل متى.
14- عبد العزيز حويذق، الحجاج مفهومه ومجالاته (نصوص مترجمة)، عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج3
15- حبيب عراب، الحجاج مفهومه و مجالاته (نصوص مترجمة)، عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج3.
16- لونيل بلنجر، الحجاج مفهومه و مجالاته (نصوص مترجمة)، عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج5.
17- سالم محمد الامين الطلبة، الحجاج مفهومه و مجالاته (نصوص مترجمة) عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج2.
18- عز الدين الخطابي، إدريس كثير بلاغة السؤال، مجلة علامات في النقد، يونيا، 1998.
19- شاييم بيرلمان وأوليرفيت تيتيكا، الحجاج مفهومه و مجالاته (نصوص مترجمة)، عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج5
20- عبد الهادي بن ظافر الشهري، الحجاج مفهومه و مجالاته (نصوص مترجمة)، عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج1.
21- طه عبد الرحمان، الاستعارة بين حساب المنطق ونظرية الحجاج، مجلة المناظرة، ع4، ماي، 1994ص70
22- محمد عبد القادر الفقي، حوار ساخن مع داعية العصر: أحمد ديدات، مكتبة القرآن.
23- سفر التكوين.
24- مناظرة العصر بين أحمد ديدات و أنيس شروش، تر: علي الجوهري
25- راندة إبراهيم النعام، أحمد ديدات و جهوده في الرد على النصارى، رسالة ماجستير، كلية أصول الدين، الجامعة الإسلامية، غزة، فلسطين، 2008.
[1] ابن منظور الإفريقي، لسان العرب، مادة حجج دار صادر بيروت 1997 ص228.
[2] أبو الوليد الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، دار الغرب الاسلامي، لبنان، ط.2، 1978. ص7.
[3] الزركشي، البرهان في علوم القران، تح: محمد ابو الفضل ابراهيم، دار المعرفة، لبنان، 1972. ج2ص24 .
[4] السيوطي، الإتقان في علوم القران، دار عالم الكتب، لبنان. ج2ص135.
[5] عبد العزيز حويذق، الحجاج مفهومه ومجالاته (نصوص مترجمة)، عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج3 ص361.
[6] أوليفي روبول، الحجاج مفهومه و مجالاته (نصوص مترجمة)،عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج2 ص182.
[7] لونيل بلنجر، الحجاج مفهومه و مجالاته (نصوص مترجمة)، عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج5 ص121.
[8] حبيب عراب، الحجاج مفهومه و مجالاته (نصوص مترجمة)، عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج3 ص34.
[9] سالم محمد الامين الطلبة، الحجاج مفهومه و مجالاته (نصوص مترجمة) عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج2ص176.
[10] عز الدين الخطابي، إدريس كثير بلاغة السؤال، مجلة علامات في النقد، يونيا، 1998. ص354 .
[11] أوليفي روبول، هل يمكن ان يوجد حجاج غير بلاغي، تر: محمد العمري، مجلة علامات في النقد، ديسمبر، 1999. ص77..
[12] شاييم بيرلمان وأوليرفيت تيتيكا، الحجاج مفهومه و مجالاته (نصوص مترجمة)، عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج5ص67.
[13] عبد الهادي بن ظافر الشهري، الحجاج مفهومه و مجالاته (نصوص مترجمة)، عالم الكتاب الجديد، الأردن، 2010. ج1ص76.
[14] طه عبد الرحمان، الاستعارة بين حساب المنطق ونظرية الحجاج، مجلة المناظرة، ع4، ماي، 1994ص70.
[15] ابن قيم الجوزية، زاد المعاد، مؤسسة الرسالة، لبنان، ط.2، 1992. ج3ص639..
[16] أحمد ديدات، هذه حياتي، سيرتي و مسيرتي، دار الفضيلة للنشر، القاهرة. ص15.
[17] إبراهيم بن عبد الكريم السنيدي، الحوار و المناظرة في الإسلام: أحمد ديدات نموذجا في العصر الحديث، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة الإسلامية، ع46، محرم، 1430. ص43.
[18] محمد عبد القادر الفقي، حوار ساخن مع داعية العصر: أحمد ديدات، مكتبة القرآن. ص20.
[19] أحمد حجازي السقا، المناظرة الحديثة. ص34.
[20] إنجيل يوحنا. ج1ص18.
[21] سفر التكوين. 32/30.
[22] سفر التكوين. 18/6.
[23] أحمد ديدات، المسيح في الإسلام، تر: علي الجوهري، دار الفصيلة، مصر. ص52.
[24] أحمد ديدات، المسيح في الإسلام، تر: علي الجوهري، دار الفصيلة، مصر. ص54
[25] أعمال الرسل. 2/22
[26] أحمد ديدات، المسيح في الإسلام. ص52
[27] إنجيل لوقا. 2/21
[28] إنجيل لوقا. 2/22.
[29] مناظرة العصر بين أحمد ديدات و أنيس شروش، تر: علي الجوهري. ص67.
[30] مناظرة العصر بين أحمد ديدات و أنيس شروش، تر: علي الجوهري. ص76
[31] إنجيل متى. 27/46
[32] إبراهيم بن عبد الكريم السنيدي، الحوار و المناظرة في الإسلام. ص58
[33] راندة إبراهيم النعام، أحمد ديدات و جهوده في الرد على النصارى، رسالة ماجستير، كلية أصول الدين، الجامعة الإسلامية، غزة، فلسطين، 2008