
إسهامات ابن مضاء القرطبي الاجتهادية في تيسير الدّرس
النحوي وتأصيل منهجه في ضوء المذهب الظاهري
The contributions ‘ibn mada’ alqartabi of diligence in facilitating the lesson Grammar and rooting its approach in the light of the virtual doctrine.
د/ سليماني نجاة ـ جامعة حسيبة بن بوعلي، الشلف –الجزائر-
Dr/ Slimani Nadjat ـ Hassiba Benbouali University of Chlef-Algeria
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 58 الصفحة 99 .
ملخص البحث:
عرفت بلاد الأندلس حركة لغوية نشيطة في تاريخها، ميّزها ظهور عدّة علماء مجتهدين ومبدعين، كان من أبرزهم قاضي الجماعة “ابن مضاء القرطبي“، الّذي عرف بثورته على بعض الأصول النّحوية المتّبعة في المشرق العربي، متأثّرا في ذلك بمبادئ المذهب الظاهري الّذي استلهم منه آراءه التّغييرية والتّجديدية، كإلغاء نظرية العامل، والعلل والأقيسة بهدف تيسير الدّرس النّحوي، وتخليصه من التّعقيد.
وتسعى هذه الدّراسة إلى تسليط الضوء على هذا الموضوع، وذلك من خلال الإشارة إلى واقع الحركة اللّغوية في الأندلس، والتّعريف بشخصية “ابن مضاء”، وتحديد مبادئ المذهب الظاهري، وتوضيح مدى تأثيرها في آرائه، ومن ثمَ استظهار آراءه الاجتهادية لتيسير الدّرس النّحوي، وتأصيل منهجه.
الكلمات المفتاحية: النّحو، التّيسير، المذهب الظاهري، العامل، القياس، العلل.
Abstract
Andalusia was known for its active history in its history. It was characterized by the emergence of several diligent and creative scholars. The most prominent among them was the community judge, Ibn Mada al-Qurtubi, who was known for his revolutionary influence on some of the grammatical origins of the Arab Orient. And renewal, such as the abolition of the theory of the worker, and the pretexts and values in order to facilitate the grammar lesson, and free it from the complexity.
This study aims at shedding light on this issue by referring to the reality of the linguistic movement in Andalusia, introducing the character of Ibn Mada, defining the principles of the virtual doctrine, clarifying the extent of its influence on his opinions, and then invoking his jurisprudential views to facilitate the grammatical study.
Keywords: Grammar, facilitation, virtual doctrine, factor, measurement, ills.
شهدت الأندلس نهضة قوية في تاريخها العريق، ميّزها قيّام حضارة علمية متطوّرة أبدعت فنوناً مختلفة، كفّن الموشّحات، وفن العمارة، وغيره، كما مدّت النحو العربي بعلماء مميّزين، « إذ سرعان ما دخل النّحو الأندلس والمغرب مع تلاميذ النحاة الأوائل، من أمثال الخليل، وسيبويه، ويونس بن حبيب، وهكذا غدت القيروان وفاس وقرطبة، تعجّ بعلماء النّحو والّلغة»[1]، الّذين عملوا جاهدين على إفادة طلبة العلم بما في من علم وافر.
ولا مراء أنّ هدف نحاة الأندلس، كان البحث في النّحو العربي بدافع حماية الّلغة العربية من الخطأ، وصون القرآن الكريم من التّصحيف والتّحريف والّلحن، وساعدهم على تحقيق ذلك تلك الرّحلات العلمية إلى المشرق للدّراسة والاكتساب المعرفي، فتأثّروا بالمذاهب النّحوية الثلاثة، الكوفي والبصري والبغدادي، بيد أنّهم عرفوا النّحو الكوفي قبل أن يعرفوا النّحو البصري، باعتبار أنّ كتاب الكسائي (ت189هـ)، كان الأسبق في الوصول إليهم من كتاب سيبويه (ت 180 هـ)، و« أوّل من اختصّ في النّحو هو: “جودي بن عثمان” (ت 198هـ) الّذي قيل عنه أوّل من صنّف في النّحو في الأندلس، بعدما تتلمذ على يد “الكسائي” و” الفرّاء”، وهكذا شقّ النّحو الكوفي طريقه إلى الأندلس ورسخت قدمه على يد “مفرج بن مالك النّحوي” المعروف بابن البغل»[2]، في حين أدخل “محمد بن موسى بن هشام الأقشتين” (ت 307 هـ) كتاب “سيبويه“، وانطلقت التعليقات والشروحات تتوالى عليه، وممّن اشتهر بدراسته “هارون بن موسى القرطبي” (ت 401 هـ)[3].
وأخذ النّحو في الذّيوع والانتشار بين علماء الأندلس والمغرب، سيما في القرن الرابع هجري، الّذي شهد تطوّرا كبيراً في الدّراسات النّحوية والّلغوية، إذ امتزجت فيه آراء الكوفيين والبصريين، وتطوّر المذهب البغدادي، وارتبط النّحو بالمنطق والفلسفة، وأصبح يركّز على التّحليل والتّدقيق والاستنباط، وكان لهذا آثاره في تكوين مبادئ المدرسة الأندلسية التي بدأت ملامحها تبرز من خلال ما نظمه علماؤها من منظومات تعليمية، وألّفوه من متون وشروحها، وهي «مختصرات تيسيرية للتّعلّم مثل: المقدّمة الجزولية، “لأبي موسى عبد العزيز الجزولي البربري النّحوي”، وعرفت بالقانون في النّحو، والدّرة الألفية في علم العربية المعرفية بألفية “ابن معط”»[4]، وبهذا بدأ الأندلسيون يحققون النّضج الّلغوي عامة، والنّحوي خاصة واكتماله، لاسيما بعدما تهيّأت لهم الظروف، وتوفّرت الوسائل العلمية.
وتلقّى نحاة الأندلس النّحو بفكر علمي محض، هدفه المعرفة الصحيحة، إذ لم يلتزموا التّقليد والمحاكاة والمعاودة وإنّما حاولوا فرض رؤيتهم الشّخصية، وتصوّراتهم اللّغوية الخاصّة، كما أثبتوا حضورهم الّذاتي والّلغوي، حيث أخضعوا « الوافد الموروث للفرز، والنقد والنّقض، والقبول، والرّفض، وفق ما يتوافق وخصائص المنطق التي بنوا عليها دراستهم فلم يتحرّجوا من إظهار محالفتهم لآراء المشارقة، إذا تعارضت وقناعاتهم الذهنية»[5]، وكان من أبرزهم “ابن مضاء القرطبي“، الّذي عرف بثورته على آراء النّحويين، ومعارضته لتأويلاتهم وتعليلاتهم الّتي عقّدت الدّرس النّحوي، وجعلته صعباً، وعسير الفهم، خاصة عندما اقترن النّحو بالتّأويل المنطقي والفلسفي.
وتهدف هذه الدّراسة إلى الإلمام بحيثيات هذا الموضوع، وذلك انطلاقا من معالجة الإشكالية الآتية: من هو “ابن مضاء”؟ وما هي مبادئ المذهب الظاهري؟ وما مدى تأثّر”ابن مضاء”بها؟ و فيم تتمثل آراؤه الاجتهادية لتيسير الدّرس النّحوي، وتأصيل منهجه؟.
1-شخصية “ابن مضاء”[6]:
هو أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن محمّد الّلخمي، المعروف بابن مضاء الأزدي الأشبيلي، وهو جياني الأصل، قرطبي النشأة، أندلسي الوطن، ولد بقرطبة عام (513 هـ)، وتوفي بإشبيليا عام (592 هـ)، وقد نشأ في بيت حسب وشرف، منقطعاً إلى العلم والعلماء حريصاً على الّلقاء بأساتذة عصره، ومن بين الشيوخ الّذين أخذ عنهم العلم القاضي عياض (ت 544 هـ )، وابن العربي (ت 543 هـ)، وابن سمحون (ت 564 هـ)، وابن الرمّاك (ت541 هـ)، الذي درس عنه كتاب سيبويه، وقد اختار المذهب البصري مسرحا لمعاركه مع النّحاة.
ولا شكّ أنّ “ابن مضاء” كان ينزع إلى دولة الموحدين، وهي دولة مغربية إسلامية حكمت بلاد المغرب والأندلس في الفترة الممتدّة ما بين (1121م-1269م) ، وآية ذلك أنّهم أسندوا إليه منصب القضاء في بعض بلدانهم “كفاس” و”مكناس” و”بجاية”، كما كان يميل للأخذ بالمذهب الظاهري في الفقه، غير أنّ تفقّهه وممارسته للقضاء، لم يحولا بينه وبين التّفكير في النّحو، والكتابة في قضاياه، إذ ذكر له المؤرّخون ثلاثة مصنّفات هي: “المشرق في النّحو” وتنزيه القرآن عمّا لا يليق بالبيان“، وهو الّذي ردّ عليه “ابن خروف” (ت 606 هـ) بكتاب “تنزيه أئمة النّحو عمّا نسب إليهم من الخطأ والسّهو“، والكتاب الثالث سمّاه “الردّ على النّحاة“، وهو الّذي يصوّر منهجه ويتضمّن آراءه النّحوية التّيسيرية والتجديدية، التي أنفرد بها عن غيره، وهو المؤلّف الوحيد الّذي وصل إلى أيدي الباحثين.
2-مبادئ المذهب الظاهري وأثرها في أراء “ابن مضاء”:
يرجع الفضل في نشأة المذهب الظاهري إلى “داود بن خلف” البغدادي مقاما الأصفهاني نسباً، المولود عام (202 هـ)، وتتلمذ على يد طلبة الإمام ” الشافعي” (ت204 هـ)، فقد كان شديد الإعجاب به، وبمذهبه وهو « الّذي نبّه إلى وجوب ردّ القياس الفقهي، الّذي أخذ به أستاذه الشافعي كأصل، بعد رفضه للأصول المالكية والحنفية، وقد طبّق داود ما طبقه الشافعي على الاستحسان، فوجده لا يصمد لذات الشروط، ممّا دعاه إلى رفضه»[7]، وبالتّالي الخروج عنه، إذ قال: « أنّ المصادر الشرعية، هي النّصوص، فلا علم في الإسلام، إلّا من النّص»[8]، وبهذا أبطل القياس، ولم يأخذ به.
وضاعف من تقوية دعائم المذهب الظاهري العالم الأندلسي “علي بن أحمد بن سعيد بن حزم” (ت 456 هـ)، فقد كان « أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة مع توسّعه في علم الّلسان والبلاغة والشعر والسيّر والأخبار»[9]، فساعدته سعة اطّلاعه واجتهاده المعرفي، وإتقانه لعدّة علوم، على أن يكون باعثاً لهذا المذهب الّذي امتدّ أثره حتّى شمل الحياة السياسية في المغرب والأندلس، وأصبح يؤخذ به في اتّخاذ بعض القرارات، وحلّ المشاكل.
وتميّز منهج “ابن حزم” الفقهي الظاهري، بـ « الأخذ بظاهر النّص، وإنكار التّقيد، وإباحة الاجتهاد لكلّ قادر على استنباط الأحكام الشرعية من النّصوص الثابتة»[10]، وبالّتالي فهو يمنع أيّ اجتهاد بالرأي في الدّين، باستثناء الكتاب والسنة النبوية، باعتبار أنّ ذلك حكم الله تعالى، وأمّا ما يتوصّل إليه المجتهد من رأي، فيعدّ حكماً خاصاً به، ودليله على ذلك، قوله تعالى «مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»[11]، وقوله تعالى: « أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»[12]، وقوله تعالى: « قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهٍ وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَا مَا يُوحَى إِلِىَّ …»[13]، فهذه النّصوص القرآنية تؤيّد رأيه، باعتبارها أوضحت الشريعة الإسلامية، ولا داعي للإدلاء بأيّ رأي في ذلك.
وهكذا، فإنّ منهج “ابن حزم” الظاهري، «يعوّل على النّصوص أوّلا وأخيراً، لأنّها معقولة المعنى في ذاتها أي إنّها في الجملة مصلحة للعباد، ولكن كلّ نصّ يقصر على موضوعه لا يتجاوزه، ولا يفكّر في علّة مستنبطة منه، ولا يبحث في عللها»[14]، وحجّته في ذلك، قوله تعالى: «لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ …»[15]، وبناء على هذا، فهو يستبعد العلل والقياس في استنتاج الأحكام الشرعية، ويرجع الأمر إلى كلام الله والنبيّ محمّد (صلى اللّه عليه وسلّم)، أو ما ثبت عنه من سنن، من فعل أو قرار أو إجماع، ممّا يعني أنّه « يقيّد نفسه تقييدا شديدا بظاهر النّصوص الدّينية والعمل بأحكامها رافضاً المذاهب الأخرى مهاجماً أصولها، كالرأي والاستحسان، والقياس، والتّأويل»[16]، بيد أن إبطال “ابن حزم” للقياس والقول بالعلل في جمع الأحكام الدّينية، جلب له العديد من الخصوم الفقهاء وغيرهم.
وخصّ “ابن حزم” النّصوص الّلغوية ذاتها بالدّراسة والتّحليل، في ضوء المذهب الظاهري لدراسة النّصوص لأنّ فهم اللّغة وتراكيبها، والتّمكّن من ناصيتها، تعدّ من الأمور الّتي يطالب الفقيه بإتقانها، بهدف اكتساب ملكة لغوية قوية تعينه على الفهم، وتعصمه عن الّلحن، «وإذا كان هذا شأن الفقيه في اللّغة، فإنّ طبيعة المذهب الظاهري تقتضي أن نولي الّلغة ومدلولات الألفاظ المقام الأوّل من العناية، لأنّ بناء هذا المذهب، كان على تلك الدّلالات»[17]، ولذا ينبغي أن نعطي لكل حرف من حروف النّصوص قيمته، ومعناه الخاص.
وكان “ابن حزم” شديداً في رفضه للعلل النّحوية، لأنّها في نظره « كلّها فاسدة لا يرجع منها شيء إلى الحقيقة البتّة»[18]، باعتبار أنّ معاني الألفاظ في الّلغة تمّ تحديدها عن طريق السّماع، أو تواضع عليها أهل الّلغة، الّذين كان لهم الفضل في ضبطها ونقلها، وعليه فـ”ابن حزم” يرى أنّه « لا يجوز تضييق النّص وتوسيعه بطريق التّعليل والقياس وإنّما تنحصر دلالة الّلفظ على ما أقرّه السّماع»[19]، أي أنّ موقفه من القياس، والتّعليل في الّلغة هو الرّفض والإنكار.
وإذا كنّا تعرّضنا إلى منهج “ابن حزم” الفقهي في ضوء المذهب الظاهري، وأشرنا إلى آرائه، فإنّما لالتماس مدى تأثّر “ابن مضاء” بتلك الآراء الفقهية، وأثرها في رؤيته الّلغوية والنّحوية، التي استند فيها على المذهب الظاهري، خاصة عندما ثار على نظرية العامل والعلل والقياس في النّحو، ورفض القول بالرأي ما لم يقم على دليل، كما أنّه كان شديد التّمسّك بظاهر النّص.
وليس بالأمر الهيّن أن يجازف “ابن مضاء” بالثورة عمّا هو مألوف من آراء نحوية بين النّحاة، وهذا ما سعى إليه من خلال كتابه “الردّ على النّحاة“، إذ أخذ « يناقش أصول النّحو، ومناهج التّفكير عند النّحاة الأوائل، ويعرض رأياً غير معتاد، وموقفاً غير مسبوق في أصول النّحو في جرأة نادرة، وثقة كبيرة من سداد الرأي، جعلت من ابن مضاء ظاهرة النّحو الأندلسي»[20]، وقد كان متأثّراً بالمذهب الظاهري في محاولته الثّائرة، غير أنّ ذلك لم يشكّل عائقاً أمام تطلّعاته إلى التجديد والتّيسير، والتّفرّد بمنهج خاص به، يعبّر عن رؤيته الشخصية إلى النّحو العربي، التي نادى فيها بالتخلّي عن بعض أصوله، باعتبارها لا تعود بالفائدة على القارئ، سيما وأنّ هدفه هو تيسير النحو للطلاب والمتعلّمين المبتدئين.
3 –آراء ابن مضاء النحوية:
أ-إلغاء نظرية العامل:
أحدثت فكرة العامل ضجّة كبيرة بين النّحاة، بوصفها المحور الأساسي الذي تبنى عليه جميع قضايا النّحو ومباحثه، وظلّت بقواعدها المحكمة، والصّائنة للّغة من اللّحن، ولذا فإنّ فكرة العامل، تشكّل « النسغ الحيّ الّذي غذّى جميع الأبواب النّحوية في بنية الكلام العربي، حتّى أصبح العمود الفقري الّذي قام عليه التّوظيف النّحوي للجملة، ومهما قيل عن قضية العامل، وما دار حولها من شكوك، فإنّها ترجع إلى كلام الخليل عن العلّة والمعلول»[21]، وعليه، فالممهد لفكرة العامل، بأن تكون نظرية، هو “الخليل بن أحمد الفراهيدي” (ت 170 هـ)، خاصة عندما دخل المنطق والفلسفة النّحو العربي، ممّا أدّى به إلى الخروج عن بساطته ويسره، والتّوجه نحو التّعقيد والغموض.
ويرى “الخليل” أنّ « وراء كلّ رفع أو نصب أو جزم أو جرّ في الأسماء والأفعال عامل يعمل فيها، أي لا بدّ من وجود فعل أو آداة لفظية كانت، أو معنوية تفسّر الحركة الّتي يحملها الاسم، أو الفعل المعرب، وترتبط بوجودها»[22] إذاً، فالكلمة المعربة تكون مرفوعة أو منصوبة أو مجزومة أو مجرورة، ورأى النّحاة، أنّ الرّفع والنّصب والجرّ والجزم أثر ولذا ينبغي وجود مؤثّر، كما نصّ عليه المنطق الفلسفي، ويسمّى هذا الأثر الإعراب[23]، وقد يكون ظاهراً أو مقدّراً وهو الّذي يستدعيه العامل، واتّفق النّحاة على القول به، واختلفوا في نوعه وحقيقته، الأمر الّذي عقّد نظرية العامل.
وتعدّ فكرة العامل في رأي الجمهور، « ضابطاً للكلمات وفق ما يحسّ ويدرك من معاني الكلام، وذلك لإهداء المتكلّم إلى الحركة المطلوبة، والضّبط الصّحيح في القراءة والكتابة والحديث»[24]، وبناءً على هذا، اهتّم بها النّحاة كثيراً وأولوها عناية خاصة، إذ وضعوا لها قواعد وأصولاً.
والعامل عند النّحاة نوعان[25]: لفظي ومعنوي، فالعامل اللّفظي: هو ما كان للّسان في نطقه حظّ، ويكون ظاهراً أو مقدّراً، أمّا العامل المعنوي: فهو ما لا يكون للّسان في نطقه حظّ، وجعلوا للعاملين قواعد وأسساً، ممّا فسح لهما مجال التّحكم في المتكلّم، وتعقيد تفكيره وعرقلته عن الأداء، وذلك بسبب كثرة التّقديرات والتّأويلات للعوامل، الأمر الّذي جعل النّحو أكثر تعقيدا وصعوبة، وبهذا تعدّدت العوامل، واختلف النّحاة في تحديدها، الأمر الّذي أرهق النّحو، وأضاع هدفه، إذ أنّ « النّحاة يختلفون في العامل هل هو اسم أو فعل؟، فالبصريون يعربون زيد في نحو (لولا زيد لأكرمتك) مبتدأ، والخبر محذوف وجوباً تقديره (موجود) والكوفيون يعربونه فاعلاً لفعل محذوف تقديره (لو لم يمنعني زيد لأكرمتك)، و “الكسائي“منهم يعربه نائب فاعل، ويقدّر (لولا وُجد زيد لأكرمتك)»[26]، كما اختلفوا في العامل إن كان لفظياً أم معنوياً؟.
فلا مراء أنّ هذا الاختلاف الواقع بين النّحاة العرب حول فكرة العامل، هو الّذي أدّى بـ ـ”ابن مضاء” إلى إلغاء نظرية العامل، والاستغناء عمّا لا يحتاجه النّحوي، حيث قال في كتابه “الردّ على النّحاة“: «قصدي في هذا الكتاب أن أحذف ما يستغنى النّحوي عنه، وأنبّه على ما أجمعوا على الخطأ فيه، فمن ذلك ادّعاؤهم أنّ النّصب والخفض والجزم لا يكون إلاّ بعامل لفظي، وأنّ الرّفع منها يكون بعامل لفظي، وبعامل معنوي، وعبّروا عن ذلك بعبارات توهم في قولنا (ضرب زيد عمراً)، أنّ الرّفع الّذي في زيد، والنّصب الّذي في عمرو إنّما أحدثه ضرب»[27].
وقد أنكر على سيبويه (ت 180 هـ) قوله:« وإنّما ذكرت لك ثمانية مجار، لأفرّق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة، لما يحدثه فيه العامل، وليس شيء منها – إلاّ وهو يزول عنه- وبين ما يبنى عليه الحرف لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك، فيه من العوامل التي لكلّ عامل منها ضرب من اللّفظ في الحرف، وذلك الحرف حرف الإعراب»[28] فالّذي أحدث الإعراب عند “سيبويه”، هو العامل، والإعراب – كما هو معروف- اختلاف حركات أواخر الكلم جراء ما تحدثه فيها العوامل الدّاخلة عليها، وهذا ما أنكره عليه ” ابن مضاء“، إذ يقول« فظاهر أنّ العامل أحدث الإعراب وذلك بيّن الفساد»[29].
وحاول “ابن جنّي” (ت 392 هـ) التّصريح بخلاف ذلك، فقال: « وإنّما قال النحويون عامل لفظي وعامل معنوي، ليروك بعض العمل يأتي مسبباً عن لفظ يصحبه، كمررت بزيد وليت عمراً قائم، وبعضه يأتي عارباً من مصاحبة لفظ يتعلّق به، كرفع المبتدأ بالابتداء، ورفع الفعل لوقوعه موقع الاسم، هذا ظاهر الأمر، وعليه صفحة القول، فأمّا في الحقيقة ومحصول الحديث، فالعمل من الرّفع والنصب والجرّ والجزم، إنّما هو للمتكلّم نفسه، لا شيء غيره وإنّما قالوا: لفظي ومعنوي لمّا ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامّة اللّفظ للّفظ، وباشتمال المعنى على اللّفظ، وهذا واضح»[30] فهو يرى أنّ المتكلّم هو الّذي يحدث العامل، ويصنع الألفاظ ومعانيها في الكلام، وقال “ابن مضاء” عن هذا الرأي: «وهذا قول المعتزلة»[31]، لأنّ هم الّذين ينسبون الأفعال إلى المتكلّمين، وجنح هو إلى مذهب مغاير، فقال: « وأمّا مذهب أهل الحقّ، فإنّ هذه الأصوات إنّما هي من فعل الله تعالى، وإنّما تنسب إلى الإنسان كما ينسب إليه سائر أفعاله الاختيارية»[32]، وقد يظهر هنا جليا تأثّر “ابن مضاء “بمبادئ المذهب الظاهري الّذي يقدّس اللّغة، ويمنع المساس بها، والقول بالرأي فيها.
ويقول عن العوامل اللّفظية: « وأمّا القول بأنّ الألفاظ يحدث بعضها بعضاً، فباطل عقلا وشرعاً، لا يقول به أحد من العقلاء، لمعان يطول ذكرها فيما المقصد إيجازه: منها أنّ شرط الفاعل أن يكون موجوداً حينما يفعل فعله ولا يحدث الإعراب فيما يحدث فيه، إلاّ بعد عدم العامل، فلا ينصب “زيد”، بعد قولنا: (إنّ زيداً)، إلاّ بعد عدم إنّ، فإن قيل بم يرد على من يعتقد أنّ معاني هذه الألفاظ هي العاملة؟ قيل: الفاعل عند القائلين به، إمّا أن يفعل بإرادته كالحيوان، وإمّا أن يفعل بالطّبع كما تحرق النّار ويبرد الماء، ولا فاعل إلاّ الله عند أهل الحق، وفعل الإنسان وسائر الحيوان فعل الله تعالى، كذلك الماء والنّار وسائر ما يفعل وقد تبيّن هذا في موضعه، وأمّا العوامل النّحوية فلم يقل بعملها عاقل لا ألفاظها ولا معانيها لأنّها لا تفعل بإرادة، ولا طبع»[33].
يرى “ابن مضاء” أنّ العوامل اللّفظية والمعنوية أدوات تظهر وتختفي وتتغيّر، ولذا فهي لا تعمل، باعتبارها لا تفعل بإرادة أو طبع، خاصة وأنّ المتكلّم لا يعدّ حرّاً في تصرّفاته الكلامية، وإنّما هو ملزم و محكوم بما تقتضيه أصول اللّغة الّتي ينتمي إليها ومبادئها، ولذا فالفاعل هو الله تعالى، ولكن العوامل ما هي إلاّ علامات تهدي المتكلّم إلى الحركة المناسبة والمطلوبة.
أمّا العوامل المحذوفة فقد قسّمها إلى ثلاثة أقسام، إذ يقول: « وأعلم أنّ المحذوفات في صناعتهم على ثلاثة أقسام: محذوف لا يتمّ الكلام إلاّ به، حذف لعلم المخاطب به، كقولك رأيته يعطي الناس: (زيداً)، أي أعط زيداً فتحذفه، وهو المراد، وإن ظهر تمّ به، ومنه قوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً»، وقوله تعالى: «وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ، قُلِ العَفْوَ»، على قراءة من نصب، وكذلك من رفع، وقوله عزّ وجلّ : « نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا»، والمحذوفات في كتاب الله تعالى لعلم المخاطبين بها كثيرة جدّاً، وهي إذا أظهرت تمّ بها الكلام وحذفها أوجز وأبلغ.
والثاني محذوف لا حاجة بالقول إليه، بل هو تامّ دونه، وإن ظهر كان عيباً، كقولك: (أزيداً ضربته) قالوا: إنّه مفعول بفعل مضمر تقديره أضربت زيداً، وهذه دعوى لا دليل عليها، إلا ما زعموا من أن (ضربت) من الأفعال المتعدّية إلى مفعول واحد، وقد تعدّى إلى الضمير، ولا بدّ لزيد من ناصب، إن لم يكن ظاهراً فمقدّر ولا ظاهر فلم يبق إلاّ الإضمار، وهذا بناء على كلّ منصوب، فلا بد له من ناصب.
وأمّا القسم الثالث، فهو مضمر، إذا أظهر تغيّر الكلام عمّا كان عليه قبل إظهاره كقولنا: (يا عبد الله) وحكم سائر المناديات المضافة والنّكرات، حكم “عبد الله”، و “عبد الله” عندهم منصوب بفعل تقديره أدعو أو أنادي وهذا إذا أظهر تغيّر المعنى، وصار النداء خبراً»[34].
ويذهب “ابن مضاء” من العوامل المحذوفة إلى الضمائر المستترة، فينكر على النّحاة تقديرهم للضمائر المستترة لأنّ اسم الفاعل عند النّحاة في مثل لفظة (ضارب) تدل على الصفة وصاحبها، وبهذا فهي تحمل معنى الفعل والفاعل إذ يقول: « وإذا كان (ضارب) موضوعاً لمعنيين: ليدلّ على الضّرب، وعلى فاعل الضرب غير مصرّح به، (فإذا قلنا: زيد ضارب عمراً)، فضارب يدل على الفاعل غير مصرّح باسمه، وزيد يدلّ على اسمه، فما الدّاعي إلى تقدير زائد، لو ظهر لكان فضلاً»[35].
ويصل “ابن مضاء” إلى حدّ اتّهام النّحاة بالزيادة في القرآن الكريم، من دون دليل ولا حجة، فيقول: « ومن بين الزيادة في القرآن بلفظ أو معنى على ظنّ باطل، قد تبيّن بطلانه فقد قال في القرآن بغير علم، وتوجّه الوعيد إليه، وممّا يدلّ على أنّه حرام الإجماع على أنّه لا يزاد في القرآن لفظ غير المجمع على إثباته، وزيادة المعنى كزيادة اللّفظ بل هي الأخرى، لأنّ المعاني هي المقصودة، والألفاظ دلالات عليها، ومن أجلها»[36].
فقد يكون من الغريب إصدار رأي مثل هذا، من قاضي الجماعة، ورائد إصلاح النّحو العربي، لاسيما وأنّ القرآن الكريم عربي اللّغة والأسلوب، فهو يتوافق مع قواعد العربية وأساليبها، ولذا فإنّ ظنّ “ابن مضاء” في تفسير القرآن، باعتماد الحذف والتّقدير، زيادة وتقوّل على كلام الله تعالى، قد لا يكون في محلّه.
ب-رأي “ابن مضاء” في باب الاشتغال:
يعدّ باب الاشتغال من الأبواب الّتي اعتمدها “ابن مضاء” كنموذج لتأكيد رأيه في إلغاء نظرية العامل والاشتغال في اصطلاح النّحاة، « أن يتقدّم اسم ويتأخّر عنه فعل، قد عمل في ضمير ذلك الاسم، أو في سببه وهو المضاف إلى ضمير الاسم السّابق»[37]، أمّا أركان الاشتغال[38]، فهي: مشغول: وهو الفعل العامل نصباً أو رفعاً ومشغول عنه: هو الاسم السّابق الّذي يعمل فيه العامل، ومشغول به: ويشترط فيه أن يكون ضميراً للمشغول أو تتمّة معمولة.
ونادى “ابن مضاء” بإلغاء العامل من باب الاشتغال، محاولا تغيير أحكامه، والأمر الّذي حمله على أحكام الاشتغال، ووجوه إعرابه، والثورة على تقسيم النّحاة لهذا الباب إلى ما كان وجوبه الرّفع والنّصب، وما يترجح بين الرّفع والنّصب، إذ يقول: « وإن كان العائد على الاسم المقدّم قبل الفعل ضمير رفع، فإنّ الاسم يرتفع، كما أنّ ضميره في موضع رفع ولا يضمر رافع، كما لا يضمر ناصب، إنّما يرفعه المتكلّم وينصبه اتّباعاً لكلام العرب، وذلك كقولك: (أزيد قام)، وقال تعالى: (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ، أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)، وقولنا: إنّه تارة (منصوب) على أنّه غير مبتدأ وتارة مرفوع على أنّه مبتدأ، فلا منفعة في ذلك، وقال تبارك وتعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ)، فأنتم في موضع رفع وكذلك (أزيد ضرب أبوه عمراً)، وكذلك (أزيد ضُرب)، و(أزيد ذُهب به)، لأنّه في موضع رفع، (أزيد مُرّ بغلامه).
فإن عاد عليه ضميران أحدهما في موضع مرفوع، والآخر في موضع منصوب، أو أحدهما متّصل بمرفوع، والآخر متّصل بمنصوب، كقولك (أعبد الله ضرب أخوه غلامه)، فلك في عبد الله الرّفع والنّصب، إنّ روعي المرفوع رُفع، وإن روعي المنصوب نُصب»[39].
فحاول “ابن مضاء” من خلال هذا النّص اختصار باب الاشتغال، الّذي كان يظنّ أنّه من الأبواب الّتي « تعسر على من أراد تفهيمها، أو تفهّمها، لأنّها موضع عامل ومعمول ولا داعي إلى إنكار العامل والمعمول»[40]، ورأى أنّ إعراب الاسم يتوقف على الضمير العائد على الاسم المتقدّم، فإن عاد عليه ضمير رفع، فيرفع، لأنّه في موضع رفع وإلاّ ينصب، لأنّه في موضع نصب.
جـ-رأي “ابن مضاء” في باب التّنازع:
تعرض”ابن مضاء” إلى باب التّنازع ساعياً وراء تطبيق نظرية إلغاء العامل، فاصطدم بأساليب عربية تؤيّد الأساس الذي أقام عليه النّحاة قواعده، والتّنازع في الاصطلاح: هو أن يتقدّم عاملان على معمول كلّ منهما طالب له من جهة المعنى، نحو (ضربت وأكرمت زيداً)، فكلّ واحد يستمد من (ضربت) و(أكرمت) عاملاً يطلب زيداً بالمفعولية[41].
وإذا نفى “ابن مضاء” كون العامل يحدث إعراباً، فإنّه لا ينكر نوعاً من التّرابط المحدث بين الكلم، الّذي يسمّيه تعليقاً، إذ يقول: « وأنا في هذا الباب لا أخالف النحويين إلاّ في أن أقول: علّقت، ولا أقول: أعملت، والتّعليق يستعمله النّحويون في المجرورات وأنا أستعمله في المجرورات والفاعلين والمفعولين، تقول: (قام وقعد زيد)، فإن علّقت زيداً بالفعل الثاني، فبين النحويين في ذلك اختلاف، “الفراء” لا يجيزه، و”الكسائي” يجيزه على حذف الفاعل، وغيره يجيزه على الإضمار، الّذي يفسّره ما بعده،… وأما أي الرأيين أحقّ فرأي الكسائي»[42].
ويظهر أنّ “ابن مضاء” اعترف بالتّعليق في المجرورات، وبالتّالي فقد اعترف ضمنياً بالعامل في باب التّنازع خاصة عند ما يتعلّق الفاعل بأحد الفعلين، فإنّه يتعرف بإعمال الفعل، وبهذا فهو يقع في تناقض مع ما كان يقوله في نظرية العامل، سيما في باب التّنازع، والدّليل على ذلك أنّه يتبنّى المذهب البصري فيه.
د-موقف “ابن مضاء” من القياس:
يشكّل القياس أحد أهمّ الأصول التي بنيت عليها قواعد النحو العربي، ذلك لأنّ كلام العرب القائم على السّماع، كان بحاجة إلى الإحاطة بمختلف الوجوه التي يكون عليها الكلام ويعتقد النّحاة أنّ إنكار القياس، يعني إنكار النّحو عامة، إذ نلفي “ابن الأنباري” (ت 577 هـ) يقول: « أعلم أنّ إنكار القياس في النّحو لا يتحقّق، لأنّ النّحو كلّه قياس»[43].
غير أنّ “ابن مضاء” يرفض كلّ قياس لا يتماشى مع الاستعمال اللّغوي المطرد، ولا تؤيّده النّصوص المتواترة وهو يرى أنّ الأسس التي بنى عليها النّحاة أقيستهم ليست صحيحة، إذ يقول: «والعرب أمّة حكيمة، فكيف تشبّه شيئاً بشيء، وتحكم عليه بحكمه، وعلّة حكم الأصل غير موجود في الفرع، وإذا فعل واحد من النحويين ذلك جهل ولم يقبل قوله فلِم ينسبون إلى العرب ما يجعل به بعضهم بعضاً، وذلك أنّهم لا يقيسون الشيء، ويحكمون عليه بحكمه، إلاّ إذا كانت علّة حكم الأصل موجودة في الفرع»[44]، ولا يعنى هذا أنّه يرفض القياس عامة، وإنّما هو يجيز القياس إذا كان مدعوما بالنّصوص المتواترة، وينكره إذا كان بعيداً.
وحكم “ابن مضاء” على بعض الأقيسة بالفساد والاضطراب، كما في باب الممنوع من الصرف، إذ يقول: « وأمّا تشبيه الأسماء غير المتصرفة بالأفعال فأشبه قليلاً، وذلك أنّهم يقولون: إنّ الأسماء غير المتصرفة تشبه الأفعال في أنّها فروع، كما أنّ الأفعال فروع بعد الأسماء، فإذا كان في الاسم علّتان، أو واحدة تقوم مقام علّتين، فإنّ كل واحدة من العلّتين تجعله فرعاً، منع ما منع الفعل، وهو الخفض والتّنوين، والعلل المانعة من الصرف: التّعريف والحجة، والصفة والتّأنيث، والتّركيب المزجي، والعدل، والجمع الّذي لا نظير له، ووزن الفعل المختص به، أو الغالب فيه، والألف والنون الزائدتان المشبهتان ألف التّأنيث»[45].
وإذا كان “ابن مضاء” متأثراً بالمذهب الظاهري الرّافض للقياس، فإنّه لم يقتد به، ويرفض القياس عامة، وإنّما قبل منه ما يؤيّده الاستعمال اللّغوي، وتدعّمه النّصوص المتواترة.
هـ-إلغاء “ابن مضاء” للعلل الثواني والثوالث:
لم يتقيّد “ابن مضاء” في موقفه من العلل بالمنهج الظاهري، الّذي يرفض جميع أنواع العلل، إنّما تفرّد بآرائه الخاصة في بعض المسائل النّحوية، فهو لا يرفض العلل كلّها كما أنّه لا يرى بعدم فائدتها، مثلما فعل الظاهريون، إنّما أقرّ العلّة الأولى لغايتها التّعليمية، إذ يقول: «وممّا يجب أن يسقط، من النّحو العلل الثواني والثوالث، وذلك مثل سؤال السائل عن (زيد) من قولنا: (قام زيد)، لِم رُفع؟ فيقال: لأنّه فاعل، وكل فاعل مرفوع، فيقول: ولم رفع الفاعل فالصواب أن يقال له: كذا نطقت به العرب، ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر»[46].
فأسقط “ابن مضاء” العلل الثواني والثوالث لعدم فائدتها، ويقسّم العلل الثواني إلى ثلاثة أقسام: «قسم مقطوع به، وقسم فيه إقناع، وقسم مقطوع بفساده، … والفرق بين العلل الأول والعلل الثواني، أنّ العلل الأول بمعرفتها تحصل لنا المعرفة بالنطق بكلام العرب المدرك منّا بالنّظر، والعلل الثواني هي المستغنى عنها، ولا تفيدنا»[47].
ويخالف برأيه هذا النحويين القدامى، لأنّ العلل عندهم على ثلاثة أضرب: علل تعليمية، وعلل قياسية، وعلل جدلية، كما أنّه رضي ببعض العلل الثواني، كعلّة أنّ « كلّ ساكنين التقيا بالوصل، وليس أحدهما حرف لين، فإنّ أحدهما يحرك، وسواء كانا من كلمتين أو كلمة واحدة، مثل قولنا: (أكرم القوم)، … فإنّ قيل لِمَ لم يتركا ساكنين، فالجواب لأنّ النطق بهما ساكنين لا يمكن الناطق»[48]، وهكذا، فهو يقرّب العلّة التّعليمية الأولى لفائدتها في المعرفة، وبالتّالي فهو يخالف المذهب الظاهري، الّذي نادى بإلغاء جميع أنواع العلل.
و-إلغاء التمارين غير العملية:
أدّى الشغف بالأقيسة، والتّمادي في الاحتكام إليها، إلى الغرابة في توظيف القياس ممّا سمح بظهور التّمارين غير العملية، التي يجتهد فيها أصحابها لاستعراض قدراتهم اللّغوية فيما لم تنطق به العرب إطلاقا، وبناء عن هذا طالب “ابن مضاء” بإلغائها، إذ يقول: « وممّا ينبغي أن يسقط من النّحو (ابن من كذا مثال كذا)، كقولهم: (ابن من البيع) مثال: فُعْل فيقول قائل (بوع)، أصله بُيع، فيبدل من الياء واواً للانضمام ما قبلها، لأنّ النطق بها ثقيل … والناس عاجزون عن حفظ اللّغة الفصيحة الصحيحة، فكيف بهذا المظنون المستغنى عنه»[49]، فنظراً لانعدام فائدة التّمارين غير العملية، وثقلها، دعا إلى إلغائها والاستغناء عنها.
وما سعى إليه “ابن مضاء” من محاولات لتيسير الدّرس النّحوي من خلال منهجه الجديد، كان له تأثيره الكبير في المعاصرين، ولاسيما أصحاب التّيسير، فقد امتثلوه، وأقاموا عليه قواعدهم التّيسيرية، ودعوا إليه، وبهذا كانت محاولة “ابن مضاء” التّيسيرية أحد الدّوافع الرئيسية الّتي أدّت إلى نشأة التّيسير النّحوي المعاصر، إذ نجد”شوقي ضيف“يقول: « كان نشري لكتاب الرّد على النّحاة لابن مضاء القرطبي سنة 1947م، باعثا لي على التّفكير في تجديد النّحو بعرضه عرضا حديثا على أسس قويمة تصفّيه وتروّقه وتجعله داني القطوف للنّاشئة»[50]، في حين لم يهتم القدامى بدعوته، ولم يولوها أيّة عناية.
خاتمة:
وفي ختام هذه الدّراسة، واستناداً عمّا تقدّم، يظهر جليّاً، أنّ الآراء الاجتهادية التّي انفرد بها “ابن مضاء” في النّحو العربي، بغية تيسيره وتبسيطه للقارئ، جاءت مخالفة لبعض أصوله المألوفة الّتي أغرقته في التّعقيد، متأثّراً فيها أحيانا بمبادئ المذهب الظاهري، كثورته على نظرية العامل، والدّعوة إلى إلغائها، بهدف التخلّص ممّا يتعلّق بها من تأويلات وتقديرات، كما نادى بالاستغناء عن العلل الثواني والثوالث، لانعدام فائدتها، ورفض من القياس ما لم يؤيّده الاستعمال اللّغوي وتدعّمه النّصوص المتواترة، هذا فضلاً عن تعرّضه إلى بابي الاشتغال والتّنازع ليؤكّد فساد نظرية العامل وإلغاء التّمارين غير العملية.
ونظراً لما كان ينشده “ابن مضاء” من تيسير للدّرس النّحوي، وتذليل لصعابه في ضوء مذهبه التّجديدي، يعدّ رائدا للإصلاح النّحوي، وتيسيره وتجديده، ومن ثمّ توالت المحاولات التّيسيرية من بعده، والّتي غالبا ما انطلقت من مبادئ منهجه التّيسيري.
المراجع:
-القرآن الكريم.
1-ابن الأنباري، الإغراب في جدل الإعراب، تحقيق: سعيد الأفغاني، دط، مطبعة الجامعة السورية 1957.
2- أنور الزعبي، ظاهرية ابن حزم الأندلسي، ط2، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية 2009.
3-ابن جنّي (أبو الفتح عثمان)، الخصائص، تحقيق: علي النجار، دط، المكتبة العلمية، القاهرة، دت.
4-بكري عبد الكريم، أصول النحو العربي في ضوء مذهب ابن مضاء القرطبي، ط1، دار الكتاب الحديث، الجزائر 1999.
5-مها خير بك ناصر، النّحو العربي والمنطق الرياضي (التأسيس والتأصيل)، ط2، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان 2014.
6-محمد أبو زهرة (الإمام)، ابن حزم، دط، دار الفكر العربي، بيروت- لبنان، 1977.
7- محمد المختار ولد اباه، تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 2008.
8- المقري (أحمد بن محمد التلمساني)، نفح الطيب، شرح وضبط: د/ مريم قاسم طويل، ود/ يوسف علي طويل، ط1 دار الكتب العلميةـ بيروت- لبنان، 1995.
9- ابن مضاء القرطبي، الردّ على النحاة، تحقيق: د/ شوقي ضيف، ط1، دار الفكر العربي، القاهرة 1947.
10-سيبويه، الكتاب/ تحقيق: عبد السّلام محمد هارون، ط3، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1988.
11-صالح بلعيد، في أصول النّحو، ط2، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، 2008.
12- د/شوقي ضيف، تجديد النّحو، ط6، دار المعارف، القاهرة، 2013.
المجلات العلمية:
1-صادق فوزي دباس، جهود علماء العربية في تيسير النّحو وتجديده، مجلة القادسية في الآداب والعلوم التربوية، العددان (1-2)، 2008.
2-ربيح عمار، ابن مضاء القرطبي، ثورة في الفقه … ثورة في النّحو، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية العدد: 05، جوان 2009.
[1] – د/ بكري عبد الكريم، أصول النحو العربي في ضوء مذهب ابن مضاء القرطبي، ط1، دار الكتاب الحديث، الجزائر، 1999، ص25.
[2]– -د/ محمد المختار ولد اباه، تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 2008، ص223.
[3]– المرجع نفسه، ص224.
[4]– د/ صالح بلعيد، في أصول النّحو، ط2، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، 2008 ص157
[5]– د/مها خير بك ناصر، النّحو العربي والمنطق الرياضي (التأسيس والتأصيل)، ط2، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان، 2014، ص65.
[6]– ينظر: ابن مضاء القرطبي، الردّ على النحاة، تحقيق: د/ شوقي ضيف، ط1، دار الفكر العربي، القاهرة 1947، ص 9-13، وينظر: د/ مختار ولد ابّاه تاريخ النّحو العربي في المشرق والمغرب، ص257 وينظر: د/ بكري عبد الكريم، أصول النّحو العربي في ضوء مذهب ابن مضاء القرطبي، ص13.
[7]– أنور الزعبي، ظاهرية ابن حزم الأندلسي، ط2، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية، 2009، ص54.
[8]– محمد أبو زهرة (الإمام)، ابن حزم، دط، دار الفكر العربي، بيروت- لبنان، 1977، ص291.
[9]– المقري (أحمد بن محمد التلمساني)، نفح الطيب، شرح وضبط: د/ مريم قاسم طويل، ود/ يوسف علي طويل، ط1، دار الكتب العلميةـ بيروت- لبنان 1995، ج2، ص293.
[10]– د/ بكري عبد الكريم، أصول النّحو في ضوء مذهب ابن مضاء، ص32.
[11]– الأنعام، الآية: 38.
[12]– العنكبوت، الآية: 51.
[13]– الأنعام، الآية: 50.
[14]– د/ بكري عبد الكريم، أصول النحو العربي في ضوء مذهب ابن مضاء، ص33.
[15]– الأنبياء، الآية: 23.
[16]– أنور الزعبي، ظاهرية ابن حزم الأندلسي، ص167.
[17]– ينظر: د/ بكري عبد الكريم، أصول النحو العربي في ضوء مذهب ابن مضاء، ص34.
[18]– المرجع نفسه، ص نفسها.
[19]– أنور الزعبي، ظاهرية ابن حزم الأندلسي، ص154.
[20]– ربيح عمار، ابن مضاء القرطبي، ثورة في الفقه … ثورة في النّحو، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد: 05، جوان 2009، ص04.
[21]– صادق فوزي دباس، جهود علماء العربية في تيسير النّحو وتجديده، مجلة القادسية في الآداب والعلوم التربوية، العددان (1-2)، 2008، المجلد: 7 ص88.
[22]– د/ بكري عبد الكريم، أصول النحو العربي في ضوء مذهب ابن مضاء القرطبي، ص117.
[23]– ينظر: صادق فوزي دباس، جهود علماء العربية في تيسير النّحو وتجديده، ص88.
[24]– د/ بكري عبد الكريم، أصول النّحو العربي في ضوء مذهب ابن مضاء القرطبي، ص113.
[25]– ينظر: صادق فوزي دباس، جهود علماء العربية في تيسير النّحو وتجديده، ص89. (بتصرف).
[26]– المرجع السابق، ص نفسها.
[27]– ابن مضاء، الردّ على النّحاة، ص85.
[28]– سيبويه، الكتاب/ تحقيق: عبد السّلام محمد هارون، ط3، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1988، ج1 ص13.
[29]– ابن مضاء، الردّ على النّحاة، ص86.
[30]– ابن جنّي (أبو الفتح عثمان)، الخصائص، تحقيق: علي النجار، دط، المكتبة العلمية، القاهرة، دت ج1، ص109-110.
[31]– ابن مضاء، الردّ على النّحاة، ص87.
[32]– المصدر السابق، ص نفسها.
[33]– المصدر نفسه، ص87-88.
[34]– المصدر السابق، ص88-90.
[35]– المصدر نفسه، ص 100.
[36]– المصدر نفسه، ص92-93.
[37]– شرح ابن عقيل،ج1، ص295، نقلا عن: د/ بكري عبد الكريم، أصول النحو العربي في ضوء مذهب ابن مضاء القرطبي، ص141.
[38]– ينظر: د/بكري عبد الكريم، المرجع المذكور، ص141، 142.
[39]– ابن مضاء، الردّ على النّحاة، ص121-122.
[40]– المصدر نفسه، ص118.
[41]– ينظر: د/ بكري عبد الكريم، أصول النحو العربي في ضوء مذهب ابن مضاء القرطبي، ص155.
[42]– ابن مضاء، الردّ على النّحاة، ص107-108.
[43]– ابن الأنباري، الإغراب في جدل الإعراب، تحقيق: سعيد الأفغاني، دط، مطبعة الجامعة السورية 1957، ص86.
[44]– ابن مضاء، الردّ على النحاة، ص156-157.
[45]– المصدر نفسه، ص157-158.
[46]– المصدر السابق، ص151.
[47]– المصدر نفسه، ص 152.
[48]– المصدر نفسه، ص152-153.
[49]– المصدر نفسه، ص163-164.
[50]-ـ د/شوقي ضيف، تجديد النّحو، ط6، دار المعارف، القاهرة، 2013، ص03.