
مصادر الحصيلةِ الُّلغويَّةِ لدى الشَّاعرِ : نديم مُحمَّد
Sources of linguistic ammunition in the poetry of Nadim Mohammed
د. وليد العرفي /جامعة البعث / سورية
dr.waleed alarfy– ALBaath University – Syria
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 58 الصفحة53.
ملخص:
يُعنى هذا البحث بدراسة مصادر الحصيلة اللغوية لدى الشاعر السوري : نديم محمد أحد أبرز شعراء المذهب الرومانسي في الشعر العربي المعاصر من خلال استنباط أبرز السمات التي تجلَّت في شعره الغزير ، وقد حدَّد البحث نطاق اهتمامه في المجلد الثاني من ضمن أعماله الشعريَّة الكاملة المنشورة في خمسة مجلدات ، ويضمُّ المجلد الثاني موضوع بحثنا مجموعة الشاعر آلام بأجزائها الثلاثة إلى جاني مجموعتيه : فراشات وعناكب .
كلمات مفتاحية : نديم محمد , الحصيلة اللغوية ، آلام ، فراشات وعناكب . الرومانسية
Abstract:
This research is concerned with studying the sources of linguistic outcomes of the poet: Nadim Mohammed, one of the most prominent poets of the romantic doctrine in contemporary Arabic poetry by devising the most prominent features that were manifested in his prolific poetry, and the research has identified its applied field in the second volume, which includes his poetry collections: (Pains in its parts. The Three and the Collection of Butterflies and Spiders.
Keywords: Nadim Mohammed, Linguistic Outcome, Romance, Pains of Butterflies and Spiders
أحدثت الثورة العلمية في نهاية القرن التاسع عشر تغييراً في فهم وتفسير العملية الإبداعية بما رافقها من معارف كانت مجهولة خصوصاً ما يتصل منها بعلم النفس واكتشاف فرويد للاشعور ، إذ أصبح الإبداع يُعْزَى إليه لدى الشعراء والفنانين و بذلك أصبحت العملية الإبداعية لا ترجع إلى عوامل خارجية ، وقوى خفية ، وكائنات أسطورية من عوالم الشياطين والجن، بل أصبح الإبداع مرتبطاً بعوامل داخلية نفسية وخارجية اجتماعية تستند إلى مكونات شخصية ، ومرجعية فكرية ثقافية تتشابك فيما بينها بعلاقات متنوعة بحق تفاعلها إنتاج العمل الإبداعي الذي يستند إلى مكونات ثلاثة هي : المرجعي والفكري والجمالي الفني.
وسنتلمس أثر هذه المؤثرات في نص الشاعر نديم محمد من خلال حديثنا عن شكل المتن اللغوي لديه ، ونتبين أثرها و مرجعياتها الثقافية التي ساعدته في تشكيل لغته ، كما نشير إلى المصادر التي أغنت تجربته الشعرية ، وأمدته بهذا الزخم من الغنى والثراء اللغويين اللذين جعلا من نتاجه الأدبي الغزير المطبوع في خمسة مجلدات نتاجاً قلّ نظيره لدى غيره من الشعراء المعاصرين مما يبعث على التساؤل عن مصادر هذه الثروة اللغوية في معجمه الشعري ، ويستحثنا على متابعة الينابيع التي استقاها منها.
إن التجربة الأدبية لدى أي كاتبٍ تستقي من مصدرين أساسيين كما يشير إلى ذلك الشاعر الإنكليزي تشوسر الذي (يفرق بين مصدرين للأديب عامة:
أولهما- التجربة : بمعنى المعرفة ، أو المهارة ، أو الخبرة التي يستخلصها الإنسان من مشاركته في أحداث الحياة ، أو ملاحظته لها مباشرة ، وبين الحقائق التي تعتبر كنزاً للذكريات البشرية.
ثانيهما- الحِكَمُ : التي استخلصها البشر خلال العصور المختلفة ، وواجب الأديب ومهمته الجمع بين هذين المصدرين)[1].
ويمكننا أن نميز لدى الشاعر نديم محمد بين جانبين للمعرفة:
الأول – فطري : يتمثل في كل ما يتصل بالشاعر عن طريق الوراثة.
الثاني – مكتسب : تجسده معرفة الشاعر ، وما تكوّن لديه من تراكم معرفي نتيجة اختلاطه بمجتمعه بما يمثله من أعراف وتقاليد ، وأخلاق عايشها كلاماً وممارسة.
تحققت لنديم محمد منذ طفولته فرصة الاختلاط بالناس لمن إذ كانت لأبيه مضافة قلما تخلو من زائر مما جعله على احتكاك مباشر بالمجتمع الذي أطلَّ عليه من خلال هذه المضافة ، فتعرّف أخلاق وعادات الناس ، وهذه المباشرة في التعامل مع المجتمع منذ حداثة سنه ستجعل من نديم الطفل متمرداً على التقاليد والأعراف الاجتماعية السائدة التي رأى فيها الكذب ، ومظاهر النفاق والرياء ، فيرتفع صوته مجاهراً بتمرده الذي كاد أن يودي بحياته عندما ثار على مقدسات الناس وعباداتهم.
كما أسهمت رحلته الدراسية إلى أوربة التي تنقل فيها بين فرنسة ، وسويسرا في اطلاعه على الثقافة الغربية مما أمده بروافد ثقافية كانت نتيجة تلاقح الثقافتين العربية والغربية اللتين كونتا لديه خلفية فكرية وثقافية مما زاد غنى معجمه اللغوي.
وقد أمدته التجربة الحياتية بحكم سنوات عمره التي عاشها برافد آخر أسهم بدوره في تطوير معجمه اللغوي ، وتبلور شخصيته فنياً فتجارب الشاعر التي خاضها فيما يزيد على الثمانين عاماً جعلت من حياته تجربة غنية بما رافقها من أحداث كبيرة مصيرية ، فعلى الصعيد الوطني عاصر الشاعر الاحتلال الفرنسي لسورية عام 1920 وتقسيمها إلى دويلات ، وما استتبع ذلك من اجتزاء لواء إسكندرون ، وإلحاقه بتركية عام 1936 م ونكسة حزيران عام 1967 م التي أحبطت الإنسان العربي وهزت كيانه من الداخل إضافة إلى السياسات الداخلية التي عصفت بحياة القطر في تلك الفترة ، ولم يكن الوضع القومي بأفضل شأناً فقد حدثت أكبر فاجعة أصابت الأمة العربية باحتلال فلسطين عام 1948 م التي ما تزال إلى يومنا الحاضر تلقي بظلالها السوداء على مسيرة حياتنا اليومية ، وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني في الثمانينات كل هذه الأحداث متضافرة كانت روافد صبت في نهر شاعرنا نديم محمد ، فكان عطاؤه قريحة شعرية لا تنضب وشلال قوافٍ لا تجفّ مياهه منذ طفولته إلى مماته ، تمثل في هذا الكم الهائل من النتاج الأدبي الذي جعل معجمه اللغوي يزداد اتساعاً وثراء ، وسنبين هذه الآثار من خلال شعره عبر بيئته الريفية والبحرية.
- إن أولى هذه الآثار التي نجدها في النص الشعري لديه تمثله طبيعة الريف فالشاعر نديم محمد فتح عينيه في أحضان الأشجار وعلى سماع زقزقة العصافير هذا الجو الريفي طبع شعره بسمة وجدانية ونزوع رومانسي مثلته الطبيعة بما فيها من الصفاء والشفافية ورحابة الأفق الذي يمتد أمام العين ، حتى توهم نقطة التقاء السماء بالأرض ، مما جعل شعره لوحات ريفية تصور الريف بأشكاله البكر ومعانيه العذراء فهو يصف الريف بمفردات: (صفاء – النظيف – الطهور).
ويزيدُ الحياةَ سحراً صفاء الـ… ـريف مــن كـلِّ شائبٍ وكديرِ
كلُّ شيءٍ في الرّيفِ يحكي عنِ الريـ… فِ وعنْ قلِبهِ النظيفِ الطهورِ ص 108
أما المنزل : فقد حقق له التعرّف بنماذج بشرية مختلفة مما جعله يختبر الناس وصفاتهم منذ طفولته بحكم المضافة التي كان يرتادها
الناس.
وكانت تربيته في وسط جو من الأخوة الذكور الذين عاملوه معاملة جعلت نديماً يشعر بأنه مشوّه الخلقة[2]، وفي هذه البيئة تعلّم نديم
وسط جو من التربية الدينية التي كان للأب الدور الهام في غرسها في الابن تجلّت في شعره نفحات صوفية امتزج فيها المثال في الواقع
والجسد بالروح يقول:
ليتني أملكُ الزَّمانَ فأرسى فلكَهُ خلفَ مولدِ الأعرابِ
وأصوغُ النُّفوسَ والعيشَ إنسا ناً وخيراً يجري بغيرِ حسابِ
فتفيقُ الدُّنيا على صدحةِ النَّا ي صلاةً تنهلّ منْ محـرابِ
فألمُّ الخيالَ بالهدبِ والهـد بِ وأغفو طفلاً بحضنِ الغابِ
والفراشاتُ والرَّياحينُ والأنداءُ في المرجِ والضُّحى أترابي
وأعبُّ الرؤي سلافاً وأرقـى للثُّريا على جناحِ شهـابِ ص 168
أنهى نديم تعليمه في مرحلته الأولى فحقق صلته بتراث أمته ولغته العربية إذ تعلم مبادئ الحلقتين الأولى والثانية[3]،وقد تأصلت في نفس
الشاعر هذه النزعة التراثية الأصلية التي بقيت ملازمة له في المستقبل شكلاً ومضموناً.
فمن حيث الشكل : التزم الشاعر نظام القصيدة البيتية ، فقد نظم جميع قصائده عليه ، وما كتبه من شعر حديث خارج هذا الالتزام لم
يتجاوز الست قصائد ، فكان للتسلية وتزجية الوقت كما يقول الشاعر نفسه[4].
أما من حيث المضمون : فقد حافظ الشاعر على اللغة وجماليات الأسلوب العربي الأصيل فلم ينحرف بها على الرغم من انجراف غيره
من الشعراء المعاصرين وانسياقهم خلف تيارات الحداثة التي عاصرها الشاعر ، بل نجده يؤكد فهمه ورؤيته للشعر فيعد الوزن واللغة قاعدتيه[5] وهذا الجانب التراثي في لغته ينقلنا إلى الكشف عن قراءات نديم محمد الشعرية ومدى انعكاسها وتأثر أسلوبه التعبيري بها واستفادة متنه اللغوي من هذه الذاكرة التراثية فيما يسمى بالمصطلح النقدي (التناص) الذي نقترح تسميته بـــــــ التواقع النصي في شعره ونعني به أثر الذاكرة الحفظية في أسلوب الشاعر وهو مقابل لمصطلح التناص، وقد وجدنا فيه مصطلحاً أكثر وضوحاً وأقرب إلى ما نريده لإفادته معنى المشاركة الذي نقصده سواء من حيث المعنى أم الأسلوب وهو مصطلح منحوت من الفعل وقع والاسم النص يفيد الفعل وقع حسب المعجم الوسيط[6].
يشرح المعجم الوسيط الفعل الثلاثي المجرد (وقع) بـــــــ: سقط كما يفيد الصيغة الظرفية[7] على وزن تفاعل. معنى المشاركة بين اثنين كتسابق
الرجلان وتصالح القوم وهذه الفائدة المتوخاة من دلالة المصطلح من حيث الإشارة إلى اشتراكٍ في المعنى أو الأسلوب أو التركيب هو ما
يعطينا حسب رأينا الحق في مشروعية هذا الاشتقاق ونرى في رد المتنبي على من اتهمه بالسرقة ما يدعم ما نذهب إليه عندما قال: (الشعر مضمار خيل وقد يقع الحافر على الحافر)[8]، وإذا كان الشيوع والاستعمال شرطي ابن جني لجواز المصطلح أو عدمه فإن للزمن حكمه على هذا الاصطلاح.
ومن هذا التواقع النصي في شعر نديم محمد نجد أخلاقيات عنترة بن شداد إذ قال:
أثني عليَّ بما علمْتِ فإنَّني سَمِحٌ مخالفتي إذ لم أُظْلَمِ
فإذا ظُلِمْتُ فإنَّ ظلمي باسلٌ مرٌّ مذاقتُهُ كطعمِ العلقم[9]
فهو يلتقي مع قول نديم محمد:
جرَّبْتُ أخلاقَ الرّجـا لِ فقلْتُ أختارُ السَّماحا[10]
فالذاكرة التراثية حاضرة لدى الشاعر عند إبداعه شعره هذا يتجلى ذلك من خلال حصول التلاقي الفكري في:
- البنية اللغوية : إذ استخدم عنترة الشرط لتحقيق الجواب بوجود الأداة – إذا – على التقديم والتأخر بينما استخدم نديم الشرط المضمر فكأنه قال إذا جربت أخلاق الرجال أقول أختار السماحا وكذلك في استخدام اللفظ نفسه سمح /السماح/ بينه وبين عنترة.
وإذا ما اقتربنا إلى العصر الأموي فإننا نجد أثر الشاعر عمر بن أبي ربيعة أكثر وضوحاً في غزليات نديم محمد خصوصاً ما يتعلق منها بمغامراته النسائية ويتجلى هذا الأثر باستخدام الحوار في نسيج النص الشعري وإن اختلفت طريقة التوظيف والدور ففي حين يأخذ الشاعر عمر بن أبي ربيعة دور الواصف الراوي لأحاديث النساء التي تدور فيما بينهن عنه في قصيدته (وهل يخفى القمر) التي يقول فيها:
قلْنَ يسترضيْنها مُنيتُنـا لو أتانا اليومَ في سرٍّ عُمَرْ
بينما ينعتنْني أبصرْنّني دونَ قيدِ الميلِ يعدو بي الأغرْ
قالتِ الكُبرى أتعرفْنَ الفتى قالتِ الوسطى نعمْ هذا عُمَرْ
قالتِ الصُّغرى وقدْ تيّمْتُها قدْ عرفناهُ وهلْ يخَفى القمرْ ؟ ! [11]
نجد استخدام الحوار في شعر نديم محمد يقوم على لغة القص التي تتخذ من فعل الحكي شكلاً تعتمده بنية القصيدة عبر تواتر الفعلين : قلت وقالت في حركة متناوبة بين الشاعر وامرأة غريبة يترك الشاعر لها المجال لتعبر عن نفسها مما يحقق للنص ارتباطه بمرجعية الواقع ، ويكسبه حرارة تولدها سيرورة الحدث عبر الحركة المتولدة كما في قصيدته (غريبة وكهف):
قالَتْ : وتنشدُ عندنا قلتُ : الهوى منْ كلِّ صنـــــــفِ
قالَتْ : أتعبثُ قلْتُ : منْ يدري فتنهرني بظــــرفِ
وتقولُ : أفٍّ للشَّيــا طينِ الصَّغـارِ فقلْتُ : أفِّ
وتعاجبَتْ زيرٌ صغـ ـيرٌ قلْتُ : تسميتي ووصفي ص 261
ومن ذلك استخدامه الحوار في نشيده المرقم بالرابع عشر ،إذ نجد التأثر واضحاً من حيث الفكرة وإن اختلفت جنسية المتكلم :
قالتِ الوردةُ الصغيرةُ للكبـ ـرى بصوتٍ مُجرَّحِ النَّبراتِ
أنا يا أمُّ لمْ أعشْ لأرى الشَّا عرَ ماذا يكونُ في الكائناتِ ص95
لمْ تجبْ أمُّها ولكنْ وريدا تٌ غيارى أغرقْنَ بالوشوشاتِ
يا لها غرَّةٌ وحمقاءُ كالنّحــ ــل وعرياً منْ ثوبها كالحصاةِ
أيَّ شيءٍ يكونُ طائرَ ليلٍ يتلهَّى بالّليلِ بالثَّرثـراتِ
وتضاحكْنَ قدْ تفتَّحْنَ في الَّليـــلِ فماذا تقولُ للجـــاهلاتِ ؟ ! ص 96
ومن استعانته بمعاني القدماء نجده يستحضر المتنبي الذي وصف نحول الجسم في قوله:
روحٌ تردّدُ في مثلِ الخلالِ إذا أطارتِ الرّيحُ عنْهُ الثَّوبَ لمْ يبنِ
كفى بجسمي نحولاً أنَّني رجلٌ لولا مخاطبتي إيَّاكَ لمْ تــرَني [12]
إذ يقول نديم في هذا المعنى:
خفَّ جسمي حتَّى لتسأل عنَّي العينُ منْ مقعدي ومنْ جلبابـي ؟ !
مائتُ الَّلونِ ضائعُ الَّلفظِ في الحلــ… ــقِ كأنّي مُفرَغٌ منْ إهابـي ص 88
وللذاكرة حضورها في استخدام تراكيب تبدو مألوفة من حيث طريقة الاستخدام أو المفردات كما في قوله:
صنْتُ روحي وصنْتُ نفسي عن الرَّجـ…سِ فكانَ العذابُ حُسْنَ جزائي ص 233
فمثل هذا الاستخدام للتركيب (صنت نفسي) والإيقاع العروضي المتمثل بالبحر الخفيف تعيد الذاكرة إلى قصيدة (إيوان كسرى) للشاعر البحتري الذي يقول فيها:
صنْتُ نفسي عمَّا يٌدنّسُ نفسي وترفَّعْتُ عنْ جدا كلِّ جبسِ[13]
وكأن الشاعر يتعمد المعارضة في هذه القصيدة وإن لم يلتزم بالقافية نفسها.
وتلتقي حالة الاغتراب التي يعيشها الشاعر على الصعيد النفسي مع اغتراب المتنبي الذي يجد نفسه وحيداً في مجتمع لا يفهمه ولا يقدر فيه الإبداع بقول:
ومنَ الجهلِ أنْ تسودَ بغيرِ الـ ـجهلِ في أمَّةِ العصا والنَّيرِ ص 259
فهذه الحالة تلتقي مع اغتراب المتنبي في رفضه الانتماء لمجتمعه وواقعه يقول:
أنا منْ أَّمةٍ تداركَها الَّلـ…ــــــــهُ غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ[14]
وللتربية الدينية أثرها في رفد شعره بروافد من هذا المعين إذ يستقي النص الشعري لديه من الديانة الإسلامية مفردات أغنت المتن اللغوي وأمدته بزخم كبير من الألفاظ الإسلامية ويبرز هذا التأثير في:
أولاً- استخدام الأسلوب القرآني نفسه في الصياغة التي يعتمد فيها الأداة الظرفية المكانية (إذا) في قوله:
فإذا الماءُ عسجدٌ في السَّواقي وإذا الوردُ أنجمٌ في الرَّوابـي
إذا الطَّيرُ في الخمائلِ أعرا سُ عذارى على الضِّفافِ الرّطابِ ص 167
فمثل هذا الاستخدام يحيل إلى أسلوب القرآن الكريم في قوله تعالى:
” إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)”[15]
ومن الأسلوب القرآني أيضاً استخدام صيغة النفي كما قوله:
لا تمشِ في خدِّ الغديـ… ـرِ ولا على وجهِ الحريرْ ص 424
فهذا الاستخدام يعيد الذاكرة إلى قوله تعالى:
” وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” [16]
ثانياً- إغناء النص الشعري بمفردات ذات دلالات دينية مستفيدةً من الديانات الثلاث نوردها تبعاً لكثرة استخدامها:
فمن الديانة الإسلامية نجد مفردات مثل: ( القرآن ، محمد ، أحمد ، الصلاة ، نبينا العربي ، الإسلام ) .
يقول: باللهِ بالإسـلامِ لا تبكي على القدسِ الشَّهيدِ
بنبينا العربيّ لا تُصغي إلى شكـوى العبيدِ ص 393
ومن الثقافة الدينية المسيحية نجد أسماء مثل:
(المسيح ، الصليب ، الإنجيل ، طوبى ، مريم ) يقول:
لا بنتَ عمرانَ اســتفا ق بها الحياءُ ولا أميَّـــــــــــةْ
وبلى يرشونَ الصَّــلا ةَ مع البكورِ و في العشـــــــــيَّةْ
لا يُوصَفُ الإنجيلُ والـ قرآنُ للمعدِ الخويـَّــــــــــةْ
الجنَةُ الخضراءُ فـي ظلِّ السّيوفِ المشرفيَّــــةْ ص 390
ومن الديانة اليهودية تظهر مفردات (اليهود ، موسى) يقول:
أنا كالقتلِ في شريعةِ موسى وأنا كالجحودِ في الإسلامِ ص 20
ومنه في موضوع آخر:
مَنْ أحسنتَ يدُهُ إلى تركٍ وجادَ على يهودِ ص 393
ومن ذلك أيضاً استعارة المفردات التراثية في وصف المرأة مثل(خود رداح ) في قوله:
تكذبُ العفَّةُ الغبيَّةُ معنى الـ……..ـعيشِ سُكْر ٌ بريقِ خودٍ رداحِ ص 159
ومن مفردات السياسة التي عرفها ومارسها من خلال انتسابه إلى صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي نجد مفردات ذات دلالة سياسية مثل استخدامه مفردات : (شعب ، حزب ، بلاد ، عيد النصر) يقول:
يا شعبُ ماءَكَ والطّعا مَ ولا تمتْ ظمأً وجوعا ص 413
يا شعبُ حقُّكَ أنْ تعيـ… شَ وما لحقّكَ أنْ يضيعا ص 414
ومن ذلك:
وبخورُكَ المسحورُ يعـ… ـبقُ في مجامرِ ألفِ حزبِ ص 430
ومن استخدام اللغة المأنوسة التي لا تتسطح إلى العامية ولا توغل في تراثيتها فتحتاج إلى المعاجم لفهم دلالتها ومن معالم هذه الواقعية استخدام مفردات تقترب من اللغة الدارجة عبر صيغ اشتقاقية تبعث فيها الجدة مثل:(تسكعت ، تسمعت)
يقول: وتسمّعْتُ حالماً لاشتدادِ الصَّخـ …..ـرِ في السَّفحِ وانفجارِ الرَّنينِ
وتسكَّعْتُ في طريقي وللـرا … عي ورائي تعجّبٌ منْ جنوني ص 142
ومن ذلك : ( زيقي ، المفروط) في قولهٍ:
لمْ أنسَ مدرجَها على صدري ومأخذَها بزيقي ص 144
ومن التراكيب (نوم العمى) يقول:
نومُ العمى والموتُ للـ… ـــــغافينَ في عرسِ الجمالْ ص 378
ومنه قوله في موضع آخر:
أحرقْتُ في نارِ انتظـا… رك والصَّبرُ كفرُ ص 282
ثانياً : استجلاب عناصر البيئة في وصف المرأة إذ يستعير من موجوداتها صفات تكتسب المرأة من خلالها جمالها الوجودي الفني والطبيعي:
عينانِ منْ لونِ البنفـ…ــسجِ والقرنفلِ والسَّماء ص 287
وقوله في موضع آخر:
شفتاكِ زنبقتانِ تغـ…ــــتسلانِ منْ نبعِ الَّلهيبِ ص 295
ثالثاً : نعت اللغة بأوصاف الطبيعة مثل : (لغة الطيوب)
رُدّي سلامَ الطّيبِ ، يا حسناءُ في لغةِ الطّيوبِ ص 295
- البيئة البحرية : فقد عاش نديم محمد في مدينة طرطوس مجاوراً البحر الذي كان يجد فيه صورته من التناقض بين الهدوء والصخب فكان لهذه المعايشة أثرها في تشكل مادة متنه اللغوي وأمدَّه بصورٍ وآفاق أدخلته فضاءات الشعرية المجنحة على الخيال ، ومن خلال غنى قاموسه اللغوي بمفردات البحر التي تعددت أشكال استعمالاتها:
إذ تجلت على شكل مثل شعبي أعاد الشاعر صوغه في قالب شعري شحنه بطاقة إبداعية جعلت منه مادة خصبة جديدة ذات دلالة تراثية في ذاكرتنا فمن المثل المعروف يبني قوله:
للبحرِ يشربُ ماءَهُ الـ…ـحسَّادُ منْ إنسي وجنّ ص 218
للسَّاخرينَ البحرُ تشـ… ـربُهُ حناجرُهُمْ زمانا ص 303
ومن هذه البيئة يستحضر مفردات (الموج) باختلاف صيغها الاسمية والفعلية كما في قوله:
نحنُ الشَّبابُ ، يموجُ أغــ. . . ـنيةً وعطراً في سمانا ص 303
وقوله في موضع آخر:
وتماوجي صحواً أنيــ…ـقَ الَّلمحِ في شعري وفنّي ص 307
لا ينسى المرأة التي تأخذ صفة البحر فتصبح (حوريته):
مَنْ أنتِ ، يا حوريتي ؟ مَنْ أنتِ ؟ عابرة السبيل ص 298
ويغتني متن الشاعر نديم محمد اللغوي بما يستمده من التراث العربي الأصيل فنجد مفردات مثل : (العلج ، السيف ، خيل ، جحفل ، الطلول ) كما في قوله:
ما هزَّني هذا الإبـا ءُ العلجُ سادَ بنا وتاهَ ص 402
ما كنْتُ أحسبُها بقا يا السَّيفِ للزَّمنِ الوقاحِ ص 396
وقوله في موضع آخر:
هذا أحبُّ منَ البكا … ءِ على الطّلولِِ و أعقلُ
وأبرُّ منْ مضغِ الكلا … مِ إذا تدافعَ جحفـلُ ص 398
ومن ذلك استخدام صيغ الدعاء كما في (تعش ، تسلم يا حبيبي ، تخزى العيون ) في قوله:
وأعوذُ منْ كرمِ الدُّعا ءِ : تعيشْ ، تسلمْ ، يا حبيبي ص 426
وقوله في موضع آخر:
تخزى العيون الحاسدا ت فما لها في الحسن حيلة ص 312
ومن هذه الواقعية استخدام مسميات ذات مرجعية ترتبط بالواقع مثل أسماء أزهار من البيئة المحلية : (كعصفور الندى ، ميال الشمس ، شقائق النعمان وأسنان الجليلة) يقول:
سمُّوكِ يا زهراتِ حسـ. ……. ـنائي بأسماءَ جميلةْ
ميَّالَ ، عصفورَ النَّـ… ـدى ، نعمانَ ، أسنانَ الجليلةْ ص 311
ومن هذه المسميات ما يدل على أكلات محلية مثل : (شواء الفريك وقراص التلما) يقول :
وشواءُ الفريكِ أو حجَّةُ الغا … وي لفوضى جري وسكرِ اغْتسالِ ص 184
وأقراصُ التَّلما وشبَّابةُ الرَّا… عي ونبعٌ يجري بعــذبٍ زلالِ ص 185
وإذا كان نص الشاعر نديم محمد قد استمدَّ من معين التراث والمعاصرة هذه الروافد إلا أنها بقيت ضئيلة قياساً إلى حجم أعماله الكاملة المطبوعة في المجلدات الأربعة المتبقية التي كان التأثر فيها أكثر وضوحاً ، ومرد ذلك إلى أن المجلد الثاني موضوع دراستنا الذي اشتمل على مجموعات (آلام) الثلاث بالإضافة إلى مجموعتيه : (فراشات وعناكب) كان يمثل مرحلة نضج فني جعلت شعره يحمل بصمة الشاعر الذاتية التي جعلت منه أحد شعراء الرومانسية المعدودين في سورية ، بل يَعدُّه عيسى بلاطة الرومنسي الأوَّل في الشّعر السّوري[17].
الخاتمة :
يُمكِننا في نهايةِ البحثِ أنْ نُسجّلَ الملاحظات الآتية :
أوَّلاً ــ لقدْ تشكَّلتْ لدى الشَّاعر نديم محمد ثقافة فطريَّة ، وأخرى مُكتسَبة كانتْ نتيجةً طبيعيَّةً لارتباط الشَّاعر بالبيئة المكانيّة التي وُلد فيها ، أو نتيجة تأثرُّه بالبيئة التي سافر إليها في بلاد الغرب.
ثانياً ــــ اغتنى معجم الشَّاعر الُّلغوي من المحيط الاجتماعي ، والموروث الثقافي على حدٍّ سواء ؛ فقد ْكانَ الشَّاعر نسراً يُحلِّقُ بجناحي المعاصرة والترُّاث معاً .
ثالثاً ـــــ شكَّل التَّعالقُ النَّصيّ في شعر نديم محمَّد ملمحاً أسلوبيَّاً من ملامح تجربته الشعريَّة التي تبدّتْ محافظةً على تفرُّدها وتميّزها بما حقَّقَ لها أسلوبيَّتها الخاصَّة في التفرُّد والتَّميّز .
رابعاً ـــــ استمدَّ الشَّاعر نديم محمَّد من الطَّبيعة معينَهُ الّلغويّ ما كثَّف لديه حضور مفردات الحقل الدّلاليّ الخاص بالطَّبيعة ، وأغنى الحصيلةَ الُّلغويَّة لديه ، ومدَّها بمعين من الثَّراء الَّلغويّ الَّذي لا ينضب .
خامساً ـــــ شكَّلتِ البيئةُ البحريَّةُ التي عاشَ الشَّاعر فيها رافداً منْ روافد لغتهِ الشّعريّة التي تجلّت ظهوراتها اللغويَّة في أغلب نصوصه الشّعريَّة .
سادساً ـــــ مازج الشاعر نديم محمَّد في تعابيره اللغويَّة بين الُّلغة الفصيحةِ ، والُّلغة البسيطةِ التي تلهجُ بها ألسنةُ العامَّةِ ما حقَّقَ لشعرهِ صلةً وثيقةً بالمحيطِ الاجتماعيّ الذي ينتمي إليه ، والحيز الجغرافي الذي عاشَ فيه .
مكتبة البحث
أولاً ـ المصادر :
القرآن الكريم .
1ـ محمد ، نديم : الأعمال الشعرية الكاملة : ( خمسة مجلدات ) المجلد الثاني ،وزارة الإعلام السورية، دمشق، 1979 م.
2 ـ المهندس ، كامل ووهبة مجدي : معجم المصطلحات في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، بيروت ، 1979 م .
3 ـ مجمع اللغة العربية : المعجم الوسيط ، القاهرة ط2 ، 1972 م م .
ثانياً ـ المراجع :
الدواوين الشعرية :
1 ـ ابن أبي ربيعة ، عمر ، تح : محمد محي الدين عبد الحميد ، دار الأندلس ، بيروت ،ط 2،1983.
2 ـ البحتري ، عني بتحقيقه وشرحه والتعليق عليه: حسين كامل الصيرفي ، دار المعارف ، مصر ، مج 2 ، 1963م .
3 ـ بلاطة ، عيسى : الرومنطيقية ومعالمها في الشعر العربي المعاصر ، دار الثقافة ، بيروت ، 1960 م.
4 ـ الزوزني ، شرح المعلقات السبع ، دار الإرشاد ، حمص ، 2001 م .
5 ـ المتنبي ، شرح العكبري ، وضع فهارسه وصححه : مصطفى السقا ، إبراهيم الأبياري ، عبد الحفيظ الشلبي ، ج 4 ، دار المعرفة ، بيروت .
6 ـ الغلايني ، مصطفى : جامع الدروس العربية ، المكتبة العصرية ، صيدا ، بيروت ، ط 39 ، 2001 م .
- المجلات :
نديم محمد شاعراً رومنسياً وقومياً ، د.عادل الفريجات ، الموقف الأدبي ، اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، عدد 341 ، أيلول 1999.
[1] ــ معجم المصطلحات في اللغة والأدب ، مجدي وهبة وكامل المهندس ، مكتبة لبنان ، بيروت ، 1979 م .
[3] – د.عادل الفريجات ، نديم محمد شاعراً رومنسياً وقومياً ، الموقف الأدبي ، اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، عدد 341 ، أيلول 1999.
[4] – انظر مقدمة فراشات وعناكب وموقفه من الشعر الحديث
[5]– انظر آلام / من ضمن سلسلة الأعمال الشعرية الكاملة ( خمسة مجلدات ) المجلد الثاني ،وزارة الإعلام السورية ، دمشق ، 1979 م ،ص 17.
[6]– المعجم الوسيط ، مادة : و ق ع .
[7]– مصطفى الغلاييني ، جامع الدروس العربية، المكتبة العصرية ، صيدا ، بيروت ، ط 39 ، 2001 م ، ص 220.
[8]– ديوان المتنبي ، شرح العكبري ، وضع فهارسه وصححه : مصطفى السقا ، إبراهيم الأبياري ، عبد الحفيظ الشلبي ، ج 4 ، دار المعرفة ،بيروت ، ص 186.
[9]– هذان البيتان من معلقته التي يستهلها بقوله: هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم ؟
شرح المعلقات السبع ، الزوزني ، دار الإرشاد ، حمص ، 2001 م ، ص 161
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم ؟
[10]– نديم محمد ، المجلد الثاني ، ص 168
-[11] ديوان عمر بن أبي ربيعة ، تح : محمد محي الدين عبد الحميد ، دار الأندلس ، بيروت ،ط 2،1983.
-[12] ديوان المتنبي ، مرجع سابق ، ص 186.
[13]– ديوان البحتري ، عني بتحقيقه وشرحه والتعليق عليه: حسين كامل الصيرفي ، دار المعارف ، مصر ، مج 2 ، 1963 م ، ص 1152
[14]– المتنبي ، مرجع سابق ، ج 2 ، ص 752.
[15]– الانفطار (1- 4).
[16]– لقمان(18)
[17]– الرومنطيقية ومعالمها في الشعر العربي المعاصر ، د.عيسى بلاطة ، دار الثقافة ، بيروت ، 1960 م.