
الإقليميّة الجديدة والعولمة: جدلية العلاقة بين الانتقالية و الانسحاب المصلحي
New Regionalism and Globalization
د. رمزي بن دبكة، الأستاذ بالجامعة الإسلامية العالميّة ماليزيا.
Ramzi Ben Debka (Malaysia)
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات السياسية والعلاقات الدولية العدد 26 الصفحة 61.
Abstract
The study of any phenomenon in international relations needs to collaborate and understand its relationship with other contemporary phenomena by observing the changes that occur during their interaction with each other. One of the most prominent characteristics of today’s relations is its high degree of complexity and interplay between different issues and regions in the world. At the end of the 1980s and the beginning of the 1990s, the world witnessed several changes, most notably the beginning of the globalization transition with the collapse of the polarization and the re-emergence of the regional phenomenon in both quantity and quantity levels. This synchronicity has made every region intertwined with two other levels strongly, namely the international level and the internal national level. Hence, through this study, we will seek to highlight the relationship between the new regionalism as a phenomenon, with globalization, which represents the general framework of the contemporary international order. While some scholars and experts in international relations and political economy believe that the regionalism is an initial and precedent-building stage of globalization, others believe that regionalism in fact, divides the international system into separate pieces and rival blocs. Thus, it is only a decline and a deviation from globalization, and therefore, regionalism is not an earlier stage of transition (ie, globalization).
الملخص
تحتاج دراسة أيّة ظاهرة في العلاقات الدوليّة إلى رصدها وفهم علاقاتها مع باقي الظواهر المعاصرة لها من خلال ملاحظة التغيّرات الحاصلة أثناء تفاعلها مع بعضها البعض. فمن أبرز سمات وخصائص العلاقات اليوم، وصولها إلى درجة عالية من التعقيد والتداخل الواقع بين مختلف الأجزاء المشكّلة للصورة الكليّة للعالم. ولقد شهد العالم مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات عدّة تغيرات لعل أبرزها بداية التحوّل نحو العولمة مع انهيار القطبية، وإعادة تشكّل الظاهرة الإقليمية كمّاً ونوعاً. إنّ هذا التزامن جعل كلّ ما هو إقليمي متداخل مع مستويين آخرين بقوة، وهما المستوى الدولي والمستوى الداخلي القومي. ومن هنا، سنسعى من خلال هذا العرض إلى ابراز العلاقة الموجودة بين الإقليميّة الجديدة كظاهرة، مع العولمة التي تمثّل الإطار العام للنظام الدولي المعاصر الذي تزامن مع عودة انبعاثها. ففي الوقت الذي يرى فيه بعض العلماء والخبراء في مجال العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي أنّ الإقليمية الجديدة هي مرحلة أوّلية وسابقة لبناء العولمة، يرى البعض الآخر بأنّ الإقليمية في الحقيقة تقسّم النظام الدولي إلى قطع منفصلة وإلى كتل متنافسة وبالتالي ماهي إلاّ تراجع وانحراف عن طريق العولمة وليس مرحلة انتقالية سابقة لها (أي العولمة). فهل الإقليمية هي مرحلة سابقة للعولمة أم أنّها انفصال عنها وبالتالي تكون الاقليمية أحد مظاهر تفكّك العولمة؟
كلمات مفتاحيّة: الإقليمية، العولمة، مستويات التحليل، الاقتصاد السياسي.
المقدمة
تحتاج دراسة أيّة ظاهرة في العلاقات الدوليّة إلى رصدها وفهم علاقاتها مع باقي الظواهر المعاصرة لها من خلال ملاحظة التغيّرات الحاصلة أثناء تفاعلها مع بعضها البعض. فمن أبرز سمات وخصائص العلاقات اليوم، وصولها إلى درجة عالية من التعقيد والتداخل الواقع بين مختلف الأجزاء المشكّلة للصورة الكلية للعالم. تعتبر علاقة الإقليمية والتوجهات الإقليمية مع العولمة من أكثر المظاهر تعقيداً وتداخلا في العلاقات الدولية اليوم. يسعى هذا البحث إلى ابراز العلاقة الموجودة بين الإقليميّة الجديدة كظاهرة، مع العولمة التي تمثّل الإطار العام للنظام الدولي المعاصر الذي تزامن مع عودة انبعاثها. ففي الوقت الذي يرى فيه بعض العلماء والخبراء في مجال العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي مثل Hettne ، Beeson، Dent أنّ الإقليمية الجديدة هي مرحلة أوّلية وسابقة لبناء العولمة، يرى البعض الآخر مثل Gilson و Baghwati بأنّ الإقليمية في الحقيقة تقسّم النظام الدولي إلى قطع منفصلة وإلى كتل متنافسة وبالتالي ماهي إلاّ تراجع وانحراف عن طريق العولمة وليس مرحلة انتقالية سابقة لها (أي العولمة).[1]
إنّه يمكن للإقليميّة أن تؤثّر سلبيّا على التعاون المتعدد الأطراف الذي يقود إلى العولمة من خلال النقاط الآتية:
أوّلا، إنّ الاتفاقات الإقليمية تقزّم التجارة من العالميّة إلى الجهويّة وذلك بسبب خلقها للأفضلية في التعاملات الاقتصاد يّة بين الدول الأعضاء وعدم قدرة الدول الغير الأعضاء على الاستفادة من نفس الأفضلية. كما أنّ الخيارات الاقتصاد ية تصبح محدودة ومقتصرة على الدول الأعضاء دون غيرها.
ثانياً، الإقليميّة تحوّل انتباه الدول المشاركة فيها وتجعلها تفقد الاهتمام في النظام المتعدد الأطراف وتعطّل تطوّر العلاقات الاقتصاد يّة العالميّة وقد تهدّد حتى حيويتها وتفاعلاتها. ذلك أنّ كلّ الاهتمام والتركيز يكون منصباً نحو التعاون الإقليمي وتكثر ارتباطات الدول جهويّا بحيث لا يبقى لها مجال للمشاركة في الاتفاقيات المتعدّدة الأطراف المؤدّية إلى العولمة.ولعلّها مع الوقت قد تسهم في تفكّك الدول وانفصالها عن الإقليمية ذاتها كما يحدث في أوروبا الآن بمحاولة انسحاب بريطانيا من ال اتحاد الأوروبي.
ثالثا، إنّ للإقليمية تأثير جيوسياسي واستراتيجي كبير من شأنه ادخال الدول في حروب مستقبلا. إذ إنّ العلاقات الإقليمية الواسعة والمكثّفة قد تؤدّي إلى انشاء صراعات بين التكتلات والمنظمات المختلفة، سعيا منها للمحافظة على المكاسب التي قد تنشأ من خلال ارتباطها إقليميا من جهة، وإلى التنافس فيما بينها اقتصاديا أو حتّى سياسيّا وعسكريّا من جهة أخرى. وبالتالي فإنّ أحد أهداف التعاون التي أنشئت لأجله المنظمات والذي هو السلم، سيكون مهدّدا من الاقليمية ذاتها بسبب إمكانية تحوّل الصراعات بين الأقاليم المختلفة.
لقد كان لدعاة التوجّه الإقليمي ردود فعل على الانتقادات الموجّهة من دعاة العولمة، والتي يمكن تلخيصها وحصرها في الآتي:
أوّلا، إنّ الإقليمية تشجّع التجارة الحرة والتعدّدية الاقتصاد ية من ناحيتين على الأقل: فهي تخلق الديناميكية الاقتصاد ية الداخليّة والدوليّة للدول من خلال زيادة النشاط التجاري والصناعي وفتح أسواق جديدة، وهذا ما يعزّز من فرص تفاعلها أكثر مع العولمة بدل انغلاقها على نفسها. فالديناميكية الداخليّة مهمّة جدّا خاصة بالنسبة للبلدان النامية وبالتالي فإنّ الالتزامات الإقليمية قد تمكّنها من التقدّم اقتصاديا والتأقلم مع العولمة أسرع بكثير مقارنة بالتوجّه المباشر نحو الاتفاقات العالمية. يضاف إلى هذا الصعوبات الكبيرة في توجه الدول المباشر نحو العالمية والانفتاح على المجتمع الدولي باعتبار أن الدول تخاف على سيادتها من خلال الانفتاح الغير متكافئ على العالم. ومنه تصبح الاقليمية حلاّ وسطاً وقابلا للتطبيق لأنّه يمكّن الدولة من التحكّم المثالي في الداخل والتعاون الفعلي في الخارج وذلك عكس التوجّه المباشر نحو العالمية الذي قد يكون له نتائج سلبية على الدولة.
ثانيا، لاحظ أنصار الإقليميّة أنها أثبتت في الكثير من الأحيان وجود الرشادة في التسيير. ذلك أنّ التعاون والتكامل الإقليميين عوّد المسؤولين والحكومات على عمليّة اتخاد القرارات المهمّة، وبالتالي فإنّ للحكومات القدرة لاحقا على اتخاد قرارات مماثلة في حال التحاقها بالمنظمات العالمية المتعددة الأطراف.
ثالثا ،للإقليمية آثار ايجابية أكثر منها سلبية في الجوانب الجيوسياسية. فقد جعلت التجارة والتكامل الاقتصاد ي في أوروبا، الحرب مستحيلة بين ألمانيا وفرنسا مرّة أخرى. كما استخدمت الأرجنتين والبرازيل السوق المشتركة لدول أمريكا الجنوبية (MERCOSUR) كأداة لإنهاء الخصومة التّاريخية، والتي اتخذت أبعادا نووية في العقود الأخيرة. ومن الأهداف الرئيسية لمنظمة التعاون الاقتصاد ي لدول آسيا والمحيط الهادي (APEC) هو ترسيخ الاستقرار في آسيا وإقامة الروابط التنظيمية بين الخصوم السابقين، مثل اليابان والصين وبقية دول آسيا الشرقية كالفليبين وماليزيا، وبالتالي فإنّ احتمالات تحقيق السّلام من خلال التعاون هو أعلى من احتمال خلق الصراعات كما يشير إليه الرأي الأول .
الاشكاليّة: يحاول هذا المقال تسليط بعض الضوء على أوجه العلاقة الجدليّة بين الاقليمية والعولمة. فهل الاقليمية هي مرحلة انتقاليّة نحو العولمة، أم أنّها تمثّل محاولة انسحاب من العولمة وخدمة مصالح الدول التابعة للإقليم فقط؟
المحور الأول : الإطار النظري للدراسة
- النظام الإقليمي كمستوى للتحليل
ينظر الباحثون إلى المنظومة السياسية الدولية بوصفها شبكة أو مجموعة متراكبة من المنظومات الفرعيّة المترابطة والتي بدورها تحوي مجموعة من الكيانات المتنوّعة والمتباينة التي ترمز إلى الدولة الحديثة أو القوميّة. ومنه يرى كلّ من ويليام تومسنWilliam[2]Thomson و فواز جرجس[3] بأنّ مدخل دراسة العلاقات وجب أن يختزل التعقيد الحاصل في فهم العلاقات الدولية والعموم في تحليل ظواهرها المتعدّدة. لذلك يجب تحديد مستوى التحليل بوضوح في دراستنا للعلاقات مع ذكر علاقته بالمستويات الأخرى من حيث الطرحومن حيث التفاعل الحتمي في ظل معطيات شديدة التعقيد والتغيّر على الساحة الدوليّة. ومنه فإنّ مستوى التحليل في هذا البحث هو المنظومة الإقليمية. ومن حيث علاقة المستوى بالعولمة فهو يختلف اختلافاً موضوعيا باعتبار النظريات المستعملة أو باعتبار فهم المحللين. فقد تعتبر المنظومة الإقليمية مركزاً للتحليل ومنه فإنّ تحقّقها هو غاية في حدّ ذاتها تستدعي تأطير الدول القوميّة من أجل الانخراط فيها والعمل على تأسيسها. كما أنّ سعي الدول إلى التكامل والتعاون الإقليمي يجعلها في مأمن من تداعيات النزاع والصراع الذي قد يهدّد الدولة ويجعلها عرضة للانهيار. ومنه فإنّ التعامل مع النظام الإقليمي هو تعامل مع غاية في حدّ ذاتها تقوّي الدولة وتجعلها أكثر أمناً ورفاهاً. وباعتبار هذا الطرح، تكون الإقليمية هي ابتعاد عن العولمة وحفظ لمجموع كياناتها (الدول) من التآكل ومن أخطار العولمة التي قد تؤثّر على اقتصاداتها وسياساتها بالقوّة.
ومن ناحية أخرى، فإنّ النظام الإقليمي قد يعتبر كمرحلة سابقة للعولمة فتكون تابعة من حيث التحليل. إذ إنّ تشكّل عدد كبير من الأنظمة الإقليمية وترابطها هو الصورة النهائية للعولمة التي تبحث عن التعميم وتعقيد العلاقات بين الكيانات فتصبح إطارا (كياناً) واحدا غير قابل للتجزئة وقابل للتعميم. فالعولمة هنا هي نموذج معقّد في التكوين وموحّد في التعميم. وتكون بذلك الإقليمية ليست غاية لذاتها وإنّما تابعة لنظام أكبر منها وهي العولمة. وهكذا وفي ظلّ هذا المفهوم فإنّ الإقليمية تبقى تابعة وتقاس درجة فاعليتها من خلال مدى قربها أو ابتعادها عن العولمة. أمّا باعتبار علاقتها بالدولة، فإنّ الإقليمية تعتبر وسيلة لزيادة نفوذ الدولة وخدمة أغراضها التوسعيّة من حيث استغلال أسواق جديدة و زيادة الثروة. فهي إذن ليست هدفاً في هذه الحالة بقدر ما هي أحد الوسائل المتاحة للدولة لزيادة القوّة فتكون تابعة من هذا الجانب. وهكذا فإنّ الإقليمية هنا هي بمثابة خطوة سابقة ورشيدة نحو العولمة من جهة، كما أنّها وسيلة متاحة للدول من أجل التمرّن على اقتصاد العولمة أو من أجل زيادة النفوذ إقليميا ودوليّاً. ومنه فإنّ البحث سيرتكز على اتجاهين متباينين من حيث تركّز الإقليمية تجاه العولمة. بحيث تكون وحدة التحليل، أي الإقليمية هي مركز التحليل في حالة انفصالها عن العولمة، وتابعة للعولمة من حيث اعتبارها مرحلة سابقة لها. أما الدولة فهي مجموع الأجزاء المشكّلة للكيانات الإقليمية أو العولمة. يوضّح الرسم البياني أدناه الإطار النظري للدراسة وما ينتج عنه من تحليل لعلاقة الإقليمية بالعولمة.
رسم بياني 1. الإطار النظري للدراسة
تعتبر النظريات الليبرالية والماركسية التقليدية على حدّ سواء بأنّ التكامل وإدماج المجتمعات والدول في اقتصاد موحّد على أنّه عامل إيجابي في النمو الاجتماع ي والرفاه الوطني. فالتجارة تشكّل محركاً للنمو. ومنه فإنّ التدفّق الإقليمي للتجارة ورأس المال وتكنولوجيا الانتاج هو بمثابة خطوة مثالية نحو التدفق العالمي وبالتالي حدوث عولمة اقتصادية مرنة ومرحليّة بحيث لا تتأثر الدولة بالدخول المباشر في إطار العولمة بل تتمرّن على ذلك إقليميا مع مجموعة إقليمية في أشكال متوازنة.[4]ومن ناحية أخرى، فإنّ الاقتصاد يين الواقعيين والقوميين يعتقدون بأنّ اقتصاد السوق إنما يعمل ضدّ مصلحة الاقتصاد والرفاه المحلّي. فالتجارة هي محرّك استغلال للدول المتخلّفة وهي وسيلة انحدار للاقتصاد وعليه يجب الحذر من التوجّه الإقليمي والتعامل معه على أنّه آليّة بالنسبة للدولة بحيث يمكن استخدامها في أوقات المصالح والاستغناء عنها إذا كانت ستشكّل عبئاً على الدولة.
- ضبط المصطلحات البحثيّة
وبهدف تحديد الإطار المنهجي والمفاهيمي، فإنّ الأنظمة الإقليمية في هذا البحث هي أنظمة متماسكة ومتشكّلة في شكل منظمات محدّدة ومعلومة حتى يمكننا تتبّع العلاقة التفاعليّة مع العولمة.
أ. الإقليمية
هناك ما أصبح يعرف بالإقليمية الجديدة في أواخر الثمانينات وبداية التسعينيات والتي تعرّف على أنّها عمليّة متعددة الأبعاد لتحقيق التكامل الإقليمي، والتي تشمل الجوانب الاقتصاد ية والسياسية و الاجتماع ية والثقافية في صيغة منسّقة. ومنه فالتكامل الإقليمي لأي منطقة يكون من خلال قرارات وسياسات تشمل كل الجوانب المذكورة آنفا ومن دون استثناء.[5]يمكن تعريف الإقليمية الجديدة كذلك بوصفها عمليّة معقّدة تنطوي على محاولة توحيد مجموعة من الدول أو إرساء التعاون فيما بينها. تحدث هذه العملية نتيجة تفاعل هذه الدول مع المتغيرات العالمية والإقليمية المتسارعة التي قد تستوجب الدخول في تكتلات لاجتناب أثارها السلبية، أو لمواكبة التطورات الحاصلة في شتى المجالات فتكون الإقليمية إمّا كردّة فعل على واقع المنطقة أو كأداة لتجنّب الأزمات التي قد تضرب الدول بسبب التحولات الجوهرية العالمية المختلفة والتي قد تؤثّر على الدولة إذا لم تكن محميّة بعلاقات متشابكة ومتشعّبة مع دول أخرى[6].قد تعني الإقليمية كذلك تلك العمليّة المعقّدة والمركبة والتي تتضمّن التدابير التي يراد منها إلغاء التمييز بين الوحدات الاقتصاد يّة المنتمية إلى دول مختلفة يجمع بينها حيّز جغرافي معيّن وهو الاقليم.[7]
ب. العولمة:
بالرغم من وجود اختلافات مضامنيّة وتعريفيّة في توظيف مفهوم العولمة، إلاّ أنّه ينبغي علينا أن نحدّد منذ البداية مفهوما للعولمة من خلال الإطار المعرفي والتطبيقي يكون مناسبا لغرض التحليل والمناقشة.[8] يتجلّى الاطار المعرفي في محورين أساسيين. أوّلا، من خلال الخطابات والدراسات والبحوث التي تهدف في مجملها إلى التركيز على أنّ الدولة ليست محور العالم وإنما العولمة هي التي تحدّد الموضوعات العالمية التي يمكن التفكير فيها واتخاذ القرارات المناسبة بصددها. أما المحور الثاني، فيتعلّق بالتغيّرات الجوهريّة على المستوى الأكاديمي والعلمي بحيث أنّ عملية الجمع بين عدد من العلوم والمعارف في اختصاص واحد، أصبح أكثر من ضرورة سواء من أجل فهم الأحداث والمتغيرات أو من أجل إيجاد الحلول للكثير من المشاكل الراهنة والتي أصبحت أكثر تعقيدا وتداخلا. أما الجانب التطبيقي للعولمة، فيرتكز على ظهور مجموعة من العمليات والممارسات في المجالات الاقتصاد ية، والسياسية، و الاجتماع ية، والثقافية لا تعوقها الحدود الجغرافية للدول.
يعرفها أنتوني جيدنزAnthony Giddens ” العولمة” بأنّها مرحلة جديدة من مراحل الحداثة وتطورها، تتكاثف فيها العلاقات الاجتماع ية على الصعيد العالمي، وحدوث تلاحم بين الداخل والخارج، وربط بين المحلي والعالمي بروابط اقتصادية وسياسية وثقافية وإنسانية.[9] ولا يعني هذا إلغاء المحلي والداخلي، ولكن أن يصبح العالم الخارجي له حضور العالم الداخلي نفسه في تأثيره في سلوكيات الأفراد وقناعاتهم وأفكارهم، والنتيجة هي بروز العامل الداخلي وتقويته. هذا في حين يذهب بعض الباحثين إلى أنّ العولمة هي عملية “إقامة نظام دولي يّتجه نحو التوحد في القواعد والقيم والأهداف، مع ادعاء إدماج مجموع الإنسانية ضمن إطاره.
وهكذا، فإنّ تنامي فكرة اللاحدوديّة بين دول العالم، هي نتيجة حتمية لتزايد مجموعة من الحركيات المتشابكة والمعقدة التي تنتهي بتوحيد القيم العالمية بحسب ما ذهب إليه أنصار العولمة. ويجب التنبيه هنا إلى ضرورة التفريق بين مصطلحي العالمية (Universal) والعولمة(Globalization). فالعالميّة هي انفتاح على الآخر وانفتاح الأمم على بعضها البعض في اطار التواصل الحضاري وصياغة مفاهيم تقوم على أسس التعاون والاحترام والحريّة. فهي بهذا المفهوم خيار يفتح المجالات ويقبل بالتنوّع. أمّا العولمة هنا، فهي توحيد للقيم والممارسات وفق نظرة واحدة لا تتيح التنوّع بل تلزم بالاتباع سواء بطريق أو بآخر وهذا ما قد يجعلها تلغي الآخر بدل الانفتاح عليه.
المحور الثاني: الإقليمية مرحلة سابقة للعولمة
- الاتجاه المضطرد نحو التدويل
يرى روبيرت غيبسون Robert Gipsonأحد كبار منظري الاقتصاد السياسي بأنّ من أهم ما يرمز له الاقتصاد السياسي هو العلاقة الوطيدة بين ما يسمى بالدولة والسوق، أو القوة والثروة. ومنه فإنّ هدف علم الاقتصاد السياسي هو دراسة العلاقة المتبادلة والديناميكية بين السعي وراء الثروة والسعي وراء القوّة وكيفية تأثير كل واحد منهما في الآخر مع أهميّة الاقتصاد العالمي وتأثيره في الاقتصاد ات المحليّة.[10]انطلاقا من هذا الفهم، فإنّه لم تعد الحدود الوطنية في عصرنا هذا كافية لنمو القوى الانتاجية نموا مضطردا وسلساً. ويرجع ذلك حسب فؤاد مرسي إلى صعوبة ازدياد معدّل القوّة والثروة معاً في حال عدم الأخذ بالتدابير اللازمة من خلال توسيع الأسواق وتوجيه الانتاج لخارج الدولة.[11] إنّ توقّف التنمية من حيث القوّة والثروة سيهدّد بالأساس كيان الدولة من الداخل كما حدث في الأزمات المتعلّقة بالكساد أو من خلال انحصار القوّة داخل حدود معيّنة والتي قد تتآكل مع الوقت مع تآكل الثروة الوطنيّة التي ليس لها معدلات نمو تكون في صالح الدولة. ثم إنّ سعي الدول إلى الرفاه والازدهار أكثر، مرتبط بتطوير القوى المنتجة وتوسيعها لتشمل مناطق خارجة عن النطاق الجغرافي للدولة ذاتها وعليه فإنه لم يعد في وسع تنمية هذه القوى المنتجة سواء في الدول المتقدمة أو الدول النامية حسب مرسي فؤاد إلاّ في إطار التدويل المضطرد للحياة الاقتصاد ية بكاملها ابتداء من دورة الانتاج إلى دورة التبادل إلى التداول فالاستهلاك خارج نطاقها الجغرافي الذي تحدّده الدولة. هذه الحياة الاقتصاد ية بأكملها لم يعد بالوسع إدارتها إلاّ في إطار متّسع وأكبر من الدولة. ومنه فإن بحث الدول المتقدمة عن أسواق جديدة وأشكال مختلفة لتنويع الاقتصاد، بالإضافة إلى محاولتها الحصول على المواد الخام وتحقيق الأمن، وفي المقابل، فإنّ بحث الدول النامية عن فرص اقتصادية أكبر وعن التكنولوجيا والتقنية الحديثة في عملية الانتاج والتصنيع، كل ذلك جعل من التعاون الإقليمي بمثابة الحتمية التي تستدعي الدخول في مشارعها كمرحلة مهمة وسابقة للعولمة.[12]
ويمكن للمراحل التاريخية السابقة أن تعطي موجزا مهما عن الاتجاه المضطرد نحو التدويل والحاجة إلى التعاون الإقليمي وصولاً إلى العولمة في صورتها الآنيّة. لقد صحب نهاية الحرب العالميّة الثانية بزوغ مجموعات إقليمية لها ثقل اقتصادي مؤثّر في التوازنات العالميّة انطلاقا من السوق الأوروبية والمحيط الهادي وآسيا. كما صحب نهاية الحرب كذلك نهاية المد الاستعماري المباشر وما ترتب عنه بعد حصول العديد من الدول الآسيوية والافريقية على استقلال ها في الخمسينيات والستينات. وهذا ما تجلّى في استقرار البنيات المؤسّسية في العديد من بلدان العالم. كما انخفض ارتباط نموذج التراكم بالعلاقات مع اقتصاد (دول الاستعمار) سواء تعلّق الأمر بردّ فعل معاكس ورافض لهذه العلاقات – دول افريقية- أو بمحاولة المواءمة معها بحيث أصبح مستوى اندماج الاقتصاد يأت في السوق العالميّة بكلّ متغيراتها هو العامل الفاعل في إقرار السياسات الاقتصاد يّة لدول – دول جنوب شرق آسيا- بالعالم الثالث. ومع تكريس أغلب دول العالم لجهودها من أجل التفرة الاقتصاد ية والتنمويّة اللازمة التي تحتاجها الدولة الحديثة، وسعي أوروبا والعالم لتخطي خيبات الحروب والمشاكل الداخليّة، يضاف إليها انطلاق الحرب الباردة ونهايتها فإنّ العالم أصبحت فيه ما أطلق عليه السياسات الظرفيّة في المجال الاقتصاد ي والمالي عاجزة على تخطّي الاختناقات والصعوبات على عكس المراحل السابقة أين كانت هنالك قدرة ولو نسبية على متابعة الاختلالات وضبطها في ظل عدم التعقيد.[13]
وهكذا فقد أخذت المشاكل الاقتصادية طابعاً بنيويّاً بسبب قصور السياسات الحكوميّة كما حدث في عدد كبير من الدول الافريقية وأمريكا اللاتينية والمكسيك مع أواخر الثمانينات، أو بتكريس مظاهر التخلّف في العالم كتصاعد المديونيّة وانخفاض أسعار المواد الأوليّة وتزايد الحاجيات الأساسيّة بفعل التزايد الديمغرافي. ومع نهاية الثمانينات كان من الضروري للدول وخاصة الكبرى منها بالتخلي عن التوجهات التقليدية والانفتاح على العالم أكثر مع محاولة إيجاد البدائل من أجل استمرارية الاقتصاد .
ومع الوقت، فقد أضحى للاقتصاد طابع عالمي أكثر تعقيداً، ذلك أنّ السوق العالميّة هي نقطة تداخل والتقاء لكلّ الاقتصاد ات الوطنيّة، وأنّ متغيراتها وتقلباتها لها تأثير مباشر وعضوي على التوازن العام لتلك الكيانات (دول).ومن هذا المنطلق التاريخي و الواقعي، تدلّ التحولات البنيوية الاقتصادية والسياسية العالميّة على بروز مستوى التحليل الإقليمي كفاعل رئيسي في العلاقات وذلك كاستجابة طبيعية وواقعيّة لمستجدات الواقع العالمي.
وهكذا، فإنّ تكوين المنظمات الإقليميّة موازاتاً مع المتغيرات العالميّة الكثيرة التي أوصلت العلاقات إلى درجة من التعقيد، يعكس ارتقاء مستوى الاقتصاد العالمي بصفة عامّة وفي ذات الوقت فإنّه يؤدّي إلى انتقال وضع الاقتصاد السياسي من إطار الدولة إلى إطار الدول المجموعة في إطار أرقى منها. ومع الوقت فإنّ هاته المجموعات سترتقي بدورها إلى إطار أعلى منها وهي العولمة. ولكن يجب الاشارة إلى أنّه وفي ظل عمليّة التدويل هاته كما فسرها فؤاد مرسي وآخرون، فإنّ التداخل بين المستويات له تأثيراته التي تنعكس على مسألة التحالف سواء الاقتصاد ي أو السياسي أو الأمني. إذ إنّ قوّة الإقليم مثلاً ك الاتحاد الأوروبي قد يكون له تأثير سلبي على اقتصاديات أقاليم أخرى أكثر من مجرّد تأثير العولمة. إذ إنّ أجزاء الاتحاد التي هي دوله لها تاريخ كبير في تدويل الاقتصاد من أيام الاستعمار والثورة الصناعية كما أنّ الدول الأوروبية سابقة من حيث التنمية والانتاج القابل للتمدّد خارج حدود الدولة ومنه فإنّ التعاون مع دول أخرى ومناطق أخرى من العالم الغير صناعيّة هو تعاون غير متكافئ باعتبار أنّ الأسبقيّة التاريخيّة في التدويل والتبعيّة الاستعمارية أحياناً تجعل من الصعب للدول الجديدة والنامية من مواكبة التطوّر الحاصل في الاقتصاد الدولي والتسارع في تحقيق المطالب العالمية للاقتصاد كما قد يحدّ من السيرورة التي تحتاجها الإقليمية وبالتالي فإنّ التدويل قد يكون في صالح الأقاليم الأكثر تطوراً بدل أن يكون عاملاً مساعداً لباقي الأقاليم.
- الإقليمية في ظل المنظمات الدوليّة المكرّسة للعولمة
إنّ أصحاب الرأي القائل بأنّ الإقليمية هي مرحلة انتقالية نحو العولمة الكليّة، يعتبرون بأنّ العولمة والإقليمية ليس شيئين متناقضين. وتستند حجّتهم على ما جاء في الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركيّة والتجاريّة (GATT) ومنظمة التجارة العالمية(WTO) ووصفها لمسألة الإقليميّة على أنّها مرحلة سابقة للعولمة. فالإقليمية والعولمة تحدث في وقت واحد وتتفاعل ايجابيا مع بعضها البعض. ومن أهم مظاهر هذه العلاقة، هو جمع الدول بين التجارة الحرّة على المستوى الإقليمي وقدرتها على التعاون الأفقي داخل المنطقة، وبين الأخذ بالفرص المتاحة في السّوق العالمية وقبول الاتفاقيات والمعاهدات الجديدة والمتعدّدة الأطراف في نفس الوقت. وباعتبار أن منظمة التجارة العالمية تمثل آلية مهمّة في إطار العولمة، فإنّ عدد الاتفاقيات الاقليمية هو خير دليل على التطوّر الحاصل في مجال الاقليمية الجديدة مقارنة بالإقليمية التقليدية. وبلغة الأرقام والمقارنات، نلاحظ بأنّ عدد اشعارات الاتفاقات التجارية الإقليمية من سنة 1948 إلى سنة 1994، وهي سنوات منظمة (GATT)، وصل إلى 124 اشعاراّ. بينما نلاحظ أنّه من سنة 1994 إلى 2017 تلقت المنظمة البديلة (WTO)ما يقرب من 445 اشعارا بالتعاون الاقليمي. وبالتالي، فإنّ العلاقة الموجودة بين العولمة والمتمثلة هنا أساسا في المنظمات و المؤسسات الدولية الكبرى ودورها الكبير في مركزة النشاط والجهد العالمي في صيغة اتفاقيات دولية شاملة للدول، قد تزامن مع بروز عدد كبير من الاتفاقات الاقليمية والتي لم يسبق وأن حدثت بهذا الكم من قبل.
ومن جهة أخرى، فإنّ التوجّه الاقليمي لم يعد حكرا على العالم المتقدّم كأوروبا مثلاً، وإنّما انتشر كذلك على نطاق أوسع بين الدول النامية وخصوصا في آسيا وأمريكا اللاتينية. وبالإضافة إلى ما سبق، فإنّ الإقليمية الجديدة صارت تجمع بين دول متباينة اقتصاديا وغير متكافئة من حيث طبيعة الدخل العام وبنية الاقتصاد وقوّته وانتشاره. ف ال اتحاد الأوروبي مثلا أصبح يجمع بين دول يفوق دخلها السنوي ألفي مليار دولار كألمانيا وفرنسا، ودول كانت إلى وقت قريب تعاني من العجز الاقتصاد ي كرومانياـ كسلوفاكيا وغيرها.
يمكن للتعاون الإقليمي أيضا بأن يكون بمثابة الخطوة التحضيريّة الجيّدة لاقتصاد دولي مفتوح. فعلى سبيل المثال، في جولة الأوروغواي سنة 1993، كان لاندماج المنطقة الأوروبية في شكل (European Union) السبب الرئيسي في قبول بعض الدول الأعضاء لاتفاقية(GATT) سعياً منها لمواكبة وتيرة التعاون والاندماج الحاصل في أوروبا باعتبارها أنموذجاً تقدّمي وذلك طمعاً في الوصول إلى درجتها وقدرتها الاندماجية. وفي نفس السياق، يرى Larry Summers أنّ التوجّه الإقليمي هو أفضل وسيلة نحو الاقتصاد العالمي الحر. ذلك أنّ قدرة الدولة في التعامل مع محيطها الخارجي الأول والمتمثّل في دول جوار، قد يكون حافزا لها من أجل الانطلاق في مشاريع أكبر والدخول في اتفاقيات أكثر اتساعا وعمقاً سواء من حيث العضويّة أو من حيث الممارسة.[14]
المصدر: بالاعتماد على احصاءات موقع منظمة التجارة العالمية WTO))، 2017.
وبالتّالي، فإنّ انفتاح الدول على محيطها أوّلا ثمّ على باقي الدول ثانيا، هو توجّه أكيد نحو العولمة. ولعلّ أهمّ ما يحفّز أصحاب هذا الرأي هي الميزات التي تتمثّل بها الإقليمية الجديدة من مرونة وقدرة على تجاوز الحدود كما الحال بالنسبة لمنظمة آسيا والمحيط الهادي الاقتصادية (AsiaPacific Economic Cooperation)، وشراكة دول البحر الأبيض المتوسّط.(EU-Mediterranean Partnership) فالبرغم من تباعد الدول نوعاً ما جغرافياً وانتمائها إلى مناطق مختلفة، إلاّ أن ذلك لم يمنعها من التعاون في إطار إقليمي اقتصادية. وهذا ما يعتبره أنصار العولمة الاقليمية بمثابة الانجاز وأحد مظاهر نجاح التفاعل الحاصل بين العولمة والاقليمية.
تشير الخريطة أدناه إلى أنّ الدول الأوروبية هي الأكثر انخراطا في الاتفاقات الإقليمية تليها الولايات المتحدة و المكسيك وكندا واليابان و الصين و أستراليا ودول من أمريكا الجنوبية كالشيلي والبيرو والاكوادور. ولكن الأمر يختلف كثيراً في دول الجنوب وخاصة أفريقيا والشرق الأوسط وبعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً. ومع ذلك فإنّه تجدر الإشارة إلى أنّه لم تبقى منطقة أو دولة في العالم لم تشارك وتنخرط في الاتفاقات الاقليمية وهذا ما يعكس حيويتها ونشاطها دوليّاً. هذه الحيويّة الإقليمية تعكس كذلك الحيويّة التجاريّة والاقتصاد ية لعدد من الدول في العقود الثلاثة الأخيرة. كما أنّ المستفاد من الخريطة هو أنّ الدول الأكثر انخراطاً في الاتفاقات الإقليمية هي الدول المتقدّمة والتي تستفيد وتسعى إلى المزيد من الأسواق والنفوذ الاقتصاد ي على المستوى الإقليمي الذي تعتبره آليّة إيجابية لتطوير الاقتصاد .
خريطة 1. انخراط دول العالم في الاتفاقيات الاقليمية
المصدر: المشاركة في الاتفاقيات التجارية الاقليمية لدول العالم. موقع منظمة التجارة العالمية WTO))، 2017.
ومن جهة أخرى، يبيّن الرسم البياني أدناه عدد المعاهدات والاتفاقات الإقليمية لجل مناطق العالم إلى غاية سنة 2017. وكما يظهر، فإنّ أوروبا لها العدد الأكبر من الاتفاقات بمعدّل 100. تليها كلّ من منطقة شرق آسيا وجنوب آسيا ب 88 و 62 اتفاقاً على الترتيب. وبعد ذلك تأتي منطقة دول الكومنويلث وشمال أمريكا وأمريكا اللاتينية على نحو متقارب جداّ من حيث عدد الاتفاقات التي تمّت على المستوى الاقليمي والذي لا يتعدّى 45. ثم تأتي المناطق الأقل انخراطا في الاتفاقات الاقليمية لأسباب متعدّدة والتي من أهمها أفريقيا ودول المحيط الهادي و الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وفي الأخير تأتي منطقة الكاريبي بأقل من 10 اتفاقات.
المصدر: قاعدة بيانات الاتفاقيات التجارية الإقليمية، موقع منظمة التجارة العالميّة، 2019.
المحور الثالث: التفكّك )الإقليمي( بدل التكامل )العولمي(
على النقيض من المحور الأول ، فإنّ أصحاب الرأي الثاني يؤكدون على أنّ الاتفاقات الإقليمية وشبه الإقليميّة ماهي إلاّ ردّة فعل على العولمة. فعلى سبيل المثال، يرىBaghwatiأنّ الإقليميّة تسير بالتوجّه الاقتصادي العالمي نحو الأسفل وتهدّد النظام التجاري المتعدد الأطراف(Multilateralism) من خلال حمايتها للاقتصاد المحلّي وتضييقها لنطاق التعاون ليقتصر على بعض الدول فقط وهذا ما يتنافى مع سير العولمة.[15]وعلاوة على ذلك، فإنّ تحديد الأولويات الاقتصاد يّة من جانب تكتّل واحد، كما يتّضح من مثال الاتحاد الأوروبي، قد يتسبّب في غلق المناطق والأقاليم جغرافيّا واقتصاديّا وحتّى سياسيا، وبالتّالي فلا مجال للتصديق بأنّ الإقليمية هي مقدّمة للدخول في العولمة. ومن اللافت للنظر كذلك هو أنّ الأنظمة الإقليمية أصبحت تعاني من (تفكّك إقليمي ليس بالطّارئ).ومعنى ذلك هو تعدّد المؤشرات التي توحي بالتفكّك عن المجال الإقليمي بما يتماشى مع مصلحة الدولة بدل التفكير بالارتفاع بتلك المنطقة نحو العولمة. ويعتبر هذا الفهم للإقليمية لبّ التفكير في المدرسة الواقعيّة القوميّة التي ترى بأنّ المنظمات والهيئات والتحالفات ما هي إلاّ وسيلة من وسائل الدولة لزيادة ما نسميه هنا بمجال ممارسة النفوذ (Power Practice Domain). فالدولة لا تدخل في المشاريع الإقليمية إلاّ إذا تأكّدت من حصولها على امتيازات معيّنة وعلى نطاق يسمح لها بممارسة النفوذ. فإن أصبح المجال الإقليمي لا يخدم مصلحة الدولة أو صار عبئاً عليها، فإنّها ستنسحب من المجال الإقليمي كما استعملت ذلك المجال أصلاً (أي الإقليمية) للهروب من التبعات السلبية للعولمة.
يمكن ذكر عدّة أمثلة لهذا التذبذب الإقليمي الحاصل من خلال الرجوع إلى التجارب الحديثة ودراسة طبيعة النماذج المتنوّعة التي وصلت إلى مراحل صعبة من التكامل أو التعاون لتصل إلى درجة بداية التفكّك ك ال اتحاد الأوروبي (EU) ومنظمة التعاون الاقتصاد ي لدول آسيا والمحيط الهادي(APEC) واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية(NAFTA) . وما يجب التنبيه عليه هو أنّ تناول بعض النماذج لا يلزم منه التعميم بقدر ما قد يفسّر على أنّه مجرّد تقييم لما وصلت إليه هذه المشاريع الإقليمية التي لطالما اعتبرت ناجحة.
- الاتحاد الأوروبي
إنّ الإشكالات المعاصرة التي تشهدها القارة الأوروبية تتمثل أساساً في طبيعة تشكّل الدولة القومية في القارة أولاً، وفي المخرجات الاقتصادية التي صاغتها العولمة للمنطقة ثانياً.
أ. تشكّل الدولة القومية وعلاقته بالإقليمية
إنّ التجربة الأوروبية هي تجربة في التكامل بين دول قوميّة متبلورة ومكتملة النضج. وتأسيساً على هذه الحقيقة فقد استقر لدى الجميع وعي كامل بأنّ الهدف من العمليّة التكاملية هو ليس اضعافاً للخصوصيات بقدر ما هو تنوّع ثقافي وقومي خادم لطموحات كل الدول وخاصة منها الجوانب الاقتصادية ومحاولة تحدي للإشكالات والتحديات العالمية.[16]يعتبر حسن نافعة بأنّ السياق التاريخي الذي أفرز النظام الإقليمي الأوروبي وتجربته التكاملية هو من أهم محددات التفاعل والترابط. إنّ الوحدة الدينية في أوروبا تحت راية الكنيسة ما لبثت أن تلاشت ولم تتجسد غالباً إلاّ في مواجهة (الآخر). ومع استقرار السلطة الزمنية في شكل الدولة القومية وإرساء أسس الحكم الديمقراطي برزت أنواع أخرى من الصراعات. لقد كان للدول القومية دور في نزوع أوروبا إلى الحروب والصراعات. وكانت دوافعها دول قومية تختلف موازن القوى بينها ولها رغبة في السيطرة على القارة والهيمنة عليها. كما برزت صراعات أوروبية استعمارية خارجية وجسّدها التنافس والتكالب على الاستحواذ على قدر كبير من المستعمرات خارج القارة الأوروبية.[17]
لقد أدّى الصراع الأوروبي بين الدول القومية المختلفة إلى حدوث صدامات فيما بينها في العديد من المرّات إما بسبب السعي نحو السيطرة على مناطق النفوذ وإما لأسباب استراتيجية وسياسية وتاريخية أخرى. وتطوّر الصراع أدّى إلى النزوح إلى خيار الحرب الشاملة لمرتين متتاليتين في القرن العشرين، 1914 و 1939. لقد كانت النتائج كارثية على كل دول أوروبا والعالم. ولكن أهم شيء في ذلك كان تقويض الدول الأوروبية ونقص هيمنتها بالإضافة إلى خمول الأحاسيس القوميّة تحت وطأة ضربات الحلفاء و الاتحاد السوفياتي حينها. ومنه فإنّ سعي الدول الأوروبية للتعاون الإقليمي حسب حسن نافعة كان هدفه الخروج من تلك المرحلة الصعبة التي تلت الحرب العالمية الثانية، كما أنّها كانت في حاجة إلى الالتحام والترابط من أجل مواجهة تحديات ما بعد الحرب والتي من أهمها التوغّل السوفياتي في الأراضي الأوروبية وإعادة بناء وإعمار القارة. لقد رأت الدول الأوروبية بأن مصلحتها الآنية في الحقيقة تكمن في الحفاظ على وجودها كدول في وجه المد الأيديولوجي الشيوعي الذي لا يلقي بالاً للحفاظ على قومية الدولة بقدر ما يغيّر الولاءات داخلها فيصبح اقتصاد وسياسة الدولة منفصلة عن قوميتها وملحقة بالأيديولوجية السوفياتية. هذه المعطيات والحقائق جعلت من الولايات المتحدة تتدخّل في أوروبا من خلال برامج مساعدات لإعادة بناء القارة المنهارة على كل الأصعدة عقب الحرب ولكن الأهم هو جعل القارة متّحدة في مقابل المد الشيوعي. ومنه فإنّ الهدف الأولي للتعاون الأوروبي ليس بالتنازل عن السيادة والعمل في ظل منظمة إقليمية تشمل الكل، وإنّما الهدف منه هو الحفاظ على الدولة القومية من الانهيار والانحلال في أيديولوجيات أخرى معادية لأساس تشكّل الدول في تلك القارة.
ب. طبيعة اقتصاد العولمة
عدد كبير من دول القارة الأوروبية المعاصرة لها اقتصاد ضخم ولكنّه مثقل بالديون والأزمات. وهذا ما دفع دولا مثل المملكة المتحدة إلى محاولة الهروب من النظام الإقليمي الجامع. ويفسّر هذا الهروب على أنه هروب من التبعات السلبية للعولمة وعواقبها. ومنه فإنّ النزعة القومية لا تزال مسيطرة أوروبيا ولم تصل إلى هدف تحقيق الوحدة السياسية الإقليمية.[18]
منذ أن حصلت الأزمة الاقتصادية عام 2008، دخلت أوروبا في حالة من الاضطراب المتتابع والتي لم تنتهي إلى الآن. إنّ تبعات الأزمة زادت خطورتها بحالة التفكّك التي أصابت القارة وكشفها للفوارق الكبيرة بين الاقتصاد ات الأوروبية ومدى هشاشة الكثير منها. إنّ الاتحاد الأوروبي أعتبر دوما كطفرة في مجال العلاقات الدولية بما أنّه القدوة لباقي المناطق من أجل التكامل والتعاون المنتهي بصيغة العملة الواحدة والقابل للانتهاء في بوتقة وحدة سياسية واحدة. إلاّ أنّ الأزمات الاقتصادية المتتالية، والخلافات السياسية الخارجية كشفت عن حقيقة كون ما يظهر على أنّه وحدة سياسية على الأقل من حيث الظاهر، هو في حقيقته غطاء لعدد معتبر من المشاكل الإقليمية المتراكمة والمختلفة من دولة لأخرى.
وكمثال على الخلل في السياسات الاقتصاد ية الأوروبية، تأتي مسألة الدين العام المستحق سداده في أوروبا كواجهة مفسّرة لدرجة التعقّد والاضطراب الذي كنا نظن بأنّ التعاون والتوجّه الإقليمي كان سيحلّه. بحيث بلغ الدين العام في اليونان أكثر من 180 بالمئة سنة 2012 وهذا بحد ذاته يمكن أن يصنّف على أنّه كارثة اقتصادية في البلد والتي لم تستطع دولة اليونان الخروج منها إلى الآن بالرغم من الجهود المبذولة لذلك. ويلي دولة اليونان من حيث مشاكل الديون، دولة إيطاليا بنسبة حوالي 130 بالمئة ثم البرتغال ب 125 في المئة. وبعد هذه الدول تأتي كل من بلجيكا وفرنسا واسبانيا بنسب متقاربة فيما بينها من حيث الديون المستحقة بالنسب المئوية.
المصدر: الدين الوطني للدول الأوروبية وارتباطه بالدخل الوطني الخام )موقع ستاتيستا، 2019(.
- منظمة التعاون الاقتصاد ي لدول آسيا والمحيط الهادي (APEC)
إنّ التعاون في إطار منظمة APECأعتبر حلاّ لعدد كبير من الدول في ظلّ تشتتها الجغرافي وبعدها عن الامتدادات التي تشكل جوهر التعاون الإقليمي كابتعاد أستراليا ونيوزيلاندا. ولقد جاءت منظمة آبيك (APEC) بمفهوم الإقليمية المنفتحة (Open Regionalism) وذلك بتغليب التعاون الدولي مع دول أخرى مجاورة أو من بقية العالم من أجل تعميق التعاون الاقتصاد ي. لقد كان لتطوّر المنظمة مسار متناسق مع تطوّر وتصاعد المطالب بالحوار بين الشمال والجنوب حينها.[19] لم تلجأ الدول المؤسّسة إلى اتباع المنهج التقليدي للتكامل كما فعلت بعض منظمات المنطقة كسارك (SAARC) وآسيان (ASIAN)ولكنها فضّلت عليه منهجا تعاونيّا بالدرجة الأول ى. وتتّسم المنظمة بالمرونة في طرح الأفكار والتعاون بين الدول. إذ إنها تمثل ملتقى بين مختلف الدول فيما يسمى بالمنتدى (Forum) أي أنّها ليست مؤسّسة تشريعية للإقليمية. كما أنّ أغلب دول المنطقة يتخذ من النظام الليبرالي منهجاً اقتصاديا متبعاً ومنه فإنّ الانتماء إلى هذه المنظمة هو تقوية للعلاقات الاقتصادية والتبادل بصفة تعاونية مرنة.
كما يرى الباحث محمد إمام بأنّ ما يميّز منظمة التعاون الاقتصاد ي هو اهتمامها بالإقليمية المنفتحة والتي تعطي أهميّة كبيرة للعلاقات مع العالم الخارجي للإقليم بدل النحو البيني بين دول المنطقة. ومنه فإنّ المنظمة تسعى إلى العولمة الاقتصاد ية الواسعة بدل المنهج التقليدي للتكامل كما في المثال الأوروبي. ومن جهة أخرى، فإنّ صفة التفاوت من حيث الاقتصاد هي صفة دوليّة من خلال تمايز الدول بين متقدمة ونامية وفقيرة. لقد أكسبت منظمة آبيك لهذه الصفة بعدا آخر يتمثل في خاصية عدم التمايز. ومنه فإنّ الدول تتعاون فيما بينها من أجل حلّ مشاكلها الاقتصاد ية وفك العزلة وربط نفسها أكثر بالعالم بالرغم من تفاوتها في ذلك ولكنها متساوية في طرح الأفكار والتعامل في ظل الاقليمية المفتوحة.[20]
- لقد استند التفكير السياسي الطموح لدى بلدان آسيا الباسفيك في علاقته مع الولايات المتحدة الأمريكية على ركيزتي ال استقلال ية والشراكة. بمعنى ال استقلال ية في إدارة العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكريّة والثقافية مع الآخرين، والشراكة مع الولايات المتحدة على أساس قاعدة التعاون الاقليمي بشروط واضحة ومعلومة.[21] ولقد عبّر عن هذا الاتجاه ال استقلال ي بشكل حاسم رئيس وزراء ماليزيا الذي رفع شعار (جنوب شرق آسيا لجنوب شرق آسيويين). وكذلك التوافق الإقليمي على الخصوصية الثقافيّة والحضارية الآسيوية التي لا تتفق بالضرورة مع شعارات النظام الدولي السائد والقيم الغربية.
- من وجهة نظر الاقتصاد السياسي كان لوقوع أزمة 1997 جزءاً من التطورات والتغيرات على الساحة الدولية مع نهاية القرن العشرين. وتعد الأزمة بمثابة محاولة إخضاع منطقة جنوب شرق آسيا لجراحة اقتصادية كبرى وذلك من أجل تحديد ورسم دور اقتصادي جديد لها مع حلول القرن الواحد والعشرين في إطار العولمة.[22] لقد مثلت دول جنوب شرق آسيا قوة منافسة لها خصوصياتها والتي ينبغي لتلك القوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية أن تتحدّر منها وتعمل على كبحها وتحديد نموها.
- الدوافع السياسية للولايات المتحدة للإيقاع بالحلفاء الآسيويين عندما قاموا بالتحرك الفرادي والجماعي في مواجهة السياسات الأمريكية في المنطقة والرامية إلى فرض الهيمنة الاقتصاد ية والأمنية والثقافية على المنطقة. والتدخل في شؤون دولها. إذ كان الموقف الآسيوي يصل إلى درجة الرفض والاعتراض من خلال اجتماعات آسيا الباسفيك.
- لقد كانت دول آسيا تسعى إلى التصرف بوصفها كتلة اقتصادية إقليمية لها خصوصيتها وأولوياتها وتسعى إلى التعامل مع مركزي ثقل أخريين وهما اليابان والصين، ما يشار له بمصطلح التوجّه شرقاً مع محاولة استثمار القدرة العسكرية حتى تتناسب مع القدرات الاقتصادية. ولكن في نفس الوقت محاولة البحث عن علاقة شراكة مع أمريكا على أنها عامل توازن استراتيجي وأمني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في المنطقة.
- محاولة اليابان التحالف مع مختلف الدول الآسيوية وبعث اقتصاد إقليمي قوي مبني على رؤية يابانية للاقتصاد العالمي. كما تتطلّع الصين هي الأخرى إلى تشكيل تكتل اقتصادي مع هذه الدول الآسيوية عبر ما يعرف بالأصول الصينية لعدد كبير من سكان بلدان آسيا.
ومنه وبناء على ما تقدّم، فإنّ العلاقات داخل منتدى آسيا الباسفيك للتعاون تشوبه حقائق بنيوية وعراقيل تكاملية يصعب لأي طرف بأن يتخلّى عنها. وعليه وبالرغم من سياسة الانفتاح التي جاءت بها المنظمة إلاّ أن الواقع أثبت بأنّ بلدان المنطقة لها أجنداتها الخاصة والتي قد تتعارض مع عولمة المنطقة. وهكذا فإنّ المنظمات الاقليمية في منطقة آسيا الباسفيك تتعامل وقد تستفيد من آليات العولمة ولكنها في نفس الوقت تعمل على تشكيل أطر محليّة وإقليمية لا تتوافق مع النظرة الخارجيّة للمنطقة.[23] ويضاف إلى ذلك بأنّ آسيا الباسفيك تمثّل إطاراً مفيداً لدول مثل اليابان والصين من أجل عودة الانفتاح على المنطقة وبناء اقتصاد جديد على أساس التعاون و التفاعل مع دول المنطقة والتي تعتبر من هذا الجانب على أنّه تعامل مصلحي للدولة مع المنطقة وهكذا فإنّ المنظمة هي أداة تكريس وليس مرحلة سابقة للعولمة من هذا الجانب.
إنّ اتفاقية نافتا التي تم توقيعها سنة 1994 هي اتفاقية خاصة بإنشاء سوق للتجارة الحرة بين ثلاث دول متجاورة جغرافيّا وهي الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمكسيك. ويبلغ عدد سكان هذه الدول تقريباً 500 مليون نسمة وحجم الاقتصاد بنحو 22 ترليون دولار وفقاً لإحصاءات البنك الدولي لسنة 2018. مما يجب ذكره في هذا الصدد هو أن اتفاقية نافتا لها أهمية لا تقل عن اتفاقية (GATT) من وجهة نظر الأعضاء من حيث تحرير الاقتصاد وتوسيع الأسواق وتوحيد دورة الانتاج مع إلغاء للرسوم والحواجز الجمركيّة. فهي من هذا الجانب تعمل على تحقيق نفس أهداف المنظمات الدولية الساعية إلى تحقيق العولمة.
قامت اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA) بشكل أساسي بإعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية لأمريكا الشمالية ، مما أدى إلى تكامل غير مسبوق بين اقتصادات كندا والولايات المتحدة المتقدمة والاقتصاد النامي في المكسيك. في الولايات المتحدة، تمتعت نافتا بدعم الحزبين. تم التفاوض عليه من قبل الرئيس الجمهوري جورج اتش دبليو. بوش ، أقر الكونغرس الذي يسيطر عليه الديمقراطيون، وتم تنفيذه في عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون. وشجعت التجارة الإقليمية على أكثر من ثلاثة أضعاف، كما نما الاستثمار عبر الحدود بين الدول الثلاث بشكل كبير.[24]
ومع ذلك ظلت اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA) (هدفاً دائمًا في الجدل الأوسع حول التجارة الحرة. يقول الرئيس دونالد ج. ترامب Donald Trumpإنّه قوّض وظائف الولايات المتحدة وتصنيعها، وفي أكتوبر 2018 ، أبرمت إدارته صفقة مع كندا والمكسيك بشأن نسخة محدثة من الاتفاقية، تعرف باسم اتفاقية الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك وكندا. كما بشّرت اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية في حقبة جديدة من اتفاقيات التجارة الحرة الإقليمية والثنائية (FTAs)، التي انتشرت مع توقف محادثات التجارة العالمية لمنظمة التجارة العالمية (WTO) . كما قامت نافتا بدور رائد في دمج أحكام العمل والبيئة في اتفاقيات التجارة الأمريكية، حيث أصبحت الأحكام أكثر شمولاً في اتفاقيات التجارة الحرة اللاحقة.
يتفق الاقتصاد يون إلى حد كبير على أن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية قدمت فوائد إلى اقتصادات أمريكا الشمالية. ازدادت التجارة الإقليمية بشكل حاد على مدى العقدين الأول ين للمعاهدة ، من حوالي 290 مليار دولار في عام 1993 إلى أكثر من 1.1 تريليون دولار في عام 2016. كما ارتفعت الاستثمار ات عبر الحدود ، مع زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر الأمريكي في المكسيك. الفترة من 15 مليار دولار إلى أكثر من 100 مليار دولار. لكن الخبراء يقولون أيضاً إنه ثبت أنه من الصعب اكتشاف الآثار المباشرة للاتفاقية من العوامل الأخرى، بما في ذلك التغير التكنولوجي السريع، وتوسيع التجارة مع دول أخرى مثل الصين، والتطورات المحلية غير ذات الصلة في كل البلدان. ويستمر النقاش حول إرث نافتا على العمالة والأجور ، حيث يواجه بعض العمال والصناعات اضطرابات مؤلمة حيث يخسرون حصتهم في السوق بسبب المنافسة المتزايدة ، بينما يربح آخرون من فرص السوق الجديدة التي تم إنشاؤها.[25]
- لقد كانت نافتا ملاذاً للمكسيك من أجل حلّ مشاكلها الداخليّة ومراجعة تراجعها الاقتصادي الرهيب في أواخر الثمانينات وما بعدها. لقد كان من أهداف زعماء المكسيك كذلك تسريع عمليّة التحرّر الاقتصاد ي وجذب رأس المال الأجنبي ليساعد المكسيك على تحقيق المزيد من الاندماج في الاقتصاد العالمي.[26]ومنه فإنّ نافتا كمنظمة إقليمية لم تكن هدفاً بحدّ ذاتها للمكسيك بقدر ما اعتبرت كأداة لحلّ المشاكل الاقتصادية الداخلية المتراكمة.
- انتقال رأس المال من جانب واحد. بحيث أنّ الولايات المحتدة هي من يضخ الأموال في شمال المكسيك من أجل بناء وإنشاء القواعد الصناعيّة لصالحها. ولقد كان من أهم أهداف ضبط الصناعات في الشمال المكسيك هو إيقاف الهجرة الغير شرعيّة وتخفيض العمالة الداخلية في الولايات المتحدة. ومنه فإنّ الشراكة في الحقيقة قد خدمت طرفاً واحداً من هذا الجانب ولم تخدم كل الأطراف.
- إنّ تدويل القواعد الصناعيّة في المكسيك يجعل من السلع موجّهة للتصدير لصالح الولايات المتحدة وكندا. وهذا بدوره، أي التدويل يحتاج ليد عاملة كبيرة جدا من داخل المكسيك. لقد أدّى هذا الوضع إلى انتقال الهجرة داخل المكسيك نحو الشمال أين توجد المصانع والمؤسسات الكبرى. لقد أدّى هذا إلى ترك عدد كبير من المكسيكيين لوظائفهم الداخليّة والتي هي لصالح الدولة، ممّا أضرّ بالاقتصاد المكسيكي على المستوى البعيد.
الخاتمة
لقد سعى الباحث من خلال هذه النبذة التي تبرز العلاقة بين الإقليمية والعولمة إلى لفت انتباه الباحثين في حقل العلاقات الدوليّة من أجل الاهتمام بالدراسات الإقليمية المعاصرة ومحاولة فهمها أكثر وفهم علاقتها بالظواهر الأخرى وخاصة العولمة. وفي الحقيقة يمكن القول بأنّ فهم العلاقة بين الإقليميّة والعولمة تعتمد بالدرجة الأول ى على فهم الأسباب والعوامل التي أدّت إلى الدخول في التكتلات الجهويّة، ثمّعلى مدى تفاعل وعزم الدول المشاركة في كلتا العمليّتين على اتخاد الاجراءات المناسبة إمّا لجعل الإقليميّة مرحلة سابقة للعولمة أو لجعل التعاون فيما بينها كأداة لمواجهة تأثيرات العولمة وبالتّالي محاولة الهروب منها. لقد اعتمد البحث على المستوى الإقليمي في عملية التحليل بحيث يدرس العلاقة بين الإقليمية والعولمة و التأثيرات التي يمكن أن يحدثها على كل المستويات الأخرى. ومنه فإنّ مختلف التجارب والمتغيرات قد أدّت إلى ظهور نتائج مختلفة من خلال التحليل فيما يتعلّق بالتفاعل بين الإقليمية والعولمة. يمكن القول بأنّ ما يشهده العالم في الآونة الأخيرة في مجال العلاقات الدوليّة، قد أفرز مظاهر جديدة وجب دراساتها بعد أن كانت مظاهر التعاون التي كانت مجال الثناء وحقيقة واقعة كالتعاون الأوربي، قد أصبحت محل شك وريبة بسبب مطالبة دول عظمى كبريطانيا الانفصال عن ال اتحاد . إنّ التوجهات المعاصرة قد تحوّل مرة أخرى التحليل من التركيز على العلاقة بين الإقليمية والعولمة إلى تحليل علاقة الإقليمية بالدولة من جديد وذلك بسبب تزايد المد القومي ورجوع العصبيات للدولة. ومنه فإنّ فهم المتغيرات والظواهر المعاصرة التي تخص الإقليمية والعولمة هو استشراف لمجالات بحثية مستقبلية قد تغيّر من المفاهيم بسبب تغيّر الوقائع والتحوّل في المواقف تجاه تلك المفاهيم ذاتها.
قائمة المراجع
-
Anderson, K. and Blackhurst, R. (1993). Regional Integration and the Global Trading System. London : Harvester.
- Axelrod, R. and Keohane, R. (1985). ‘Achieving Cooperation under Anarchy: Strategies and Institutions,’ World Politics 38: 226–254.
-
Baylis, J., Smith, S. and Owens, P, (Eds). (2007).The Globalisation of World Politics: An Introduction to International Relations–fourth edition, Oxford: Oxford University Press.
- Beeson, Mark and Jayasuriya, Kanishka. (1998). ‘the political rationalities of regionalism: APEC and the EU in comparative perspective’. The Pacific Review, 11 : 3.
- Bende-Nabende, A. (2002).Globalization, FDI, regional integration and sustainable development. Farnham : Ashgate.
- Bineau, Y. and P. Montalbano.(2011). Selected developmental aspects of trade and trade policies. HTSPE Limited. Herts, UK.
- Blair, Alasdair. (2005). The European Union since 1945. London : Pearson Education Limited.
- Calleya, Stephen. (2000). Regionalism in the post cold war world. Hants : Ashgate Publishing Company.
-
Cooper, Andrew F., Hughes, Christopher W., & De Lombaerde Philippe. (2008). Regionalization and global governance. New York : Routledge.
- De Melo, J. and Panagariya, A. (1992). The New Regionalism in Trade Policy, Washington DC:WorldBank Publications.
- De Melo, J. and Panagariya, A. (1995). New Dimensions in Regional Integration, Cambridge:Cambridge University Press.
- Filippo , di Mauro, Stephane Dees and Warwick, J. McKibbin. (2008). Globalisation, regionalism and economic interdependence. Cambridge : Cambridge University Press.
- Lake, David and Patrick Morgan. (1997).Regional Orders. Building Security in a NewWorld. Pennsylvania : Pennsylvania State University Press.
-
Louise, Fawcett.,Andrew, Hurrell. (1995). Regionalism in world politics. New York : oxford University Press.
- Nesadurai, Helen E. (2003). Globalization, domestic politics and regionalism. London Routledge.
- Panagariya, Arvind. (1998, November). The regionalism debate: an overview. London : Routledge.
- Panagariya, Arvind. (1998, November).The regionalism debate: an overview. London Routledge.
- UNCTAD (United Nations Conference on Trade and Development). (2007). Trade and Development Report 2007: Regional Cooperation for Development. New York and Geneva: United Nations Conference on Trade and
[1]Beeson, Mark and Jayasuriya, Kanishka. (1998). ‘the political rationalities of regionalism: APEC and the EU in comparative perspective’. The Pacific Review, 11: 3. See also: Bhagwati, Jagdish. (April, 1992). Regionalism versus Multilateralism. Washington DC: World Bank Conference. Hettne. B. (1994). The New Regionalism, Implications for Global Development and International Security, Helsinki: UNU/WIDER. Hettne, Bjorn. (2004). ‘The New Regionalism Revisited’ in Frederick Soderbaum and Timothy Shaw (eds.).Theories of New Regionalism. London: Palgrave. Gilson, Julie. (June, 2007). Strategic Regionalism in East Asia. Review of International StudiesVol. 33, No. pp. 145-163.
[2]William R. Thompson. (Mar., 1973). The Regional Subsystem: A Conceptual Explication and a Propositional Inventory. International Studies Quarterly. Vol. 17, No. 1 pp. 89-117.
[3]جرجس، فواز. النظام الاقليمي العربي والقوى الكبرى. مركز دراسات الوحدة العربية. ص 21. 2017.
[4] Gilpin, Robert. (1987). the Political Economy of International Relations. USA: Princeton University Press. Pp. 23-25. Robert, O Keohane, Joseph, S Nye. (2014). Transnational Relations and World Politics. Cambridge: Harvard University Press.
[5]Breslin, Shaun, W., Nicola Philips, Hughes, & Ben, Rosamond. (2002).New regionalisms in the global political economy. London: Routledge.
[6]Hettne, Bjorn. (1995). International political economy: understanding global disorder. Nova Scotia: Fernwood publishing. pp 2-5. See also: Louise, Fawcett.,Andrew, Hurrell. (1995). Regionalism in world politics. New York: oxford University Press.Mansfield, E.D. & H. Milner. (1999). ‘The new wave of regionalism.’ InternationalOrganization 53:589-627.
[7] عمر، حسين، التكامل الاقتصادي: أنشودة العالم المعاصر )دار الفكر العربي، لبنان، 1998(، ص 7.
[8]امحند، برقوق، العولمة واشكالية الأمن الانساني. (مقال نشر بتاريخ: 20/05/2011) المصدر: http://www.politics-ar.com/ar/index.php/permalink/3060.html
8Giddens, Anthony.(1991). the Consequences of Modernity.Cambridge: Polity Press. (70-78). Giddens, Anthony. (1999). Runaway World: How Globalization is Reshaping Our Lives. London: Routledge.
[10]Gilpin, Robert. (1987). the Political Economy of International Relations. pp. 2-5.
[11]مرسي، فؤاد، 1980 مشكلات الاقتصاد الدولي المعاصر. الاسكندرية: منشأة المعارف. ص: 19 وما بعدها.
[12]مرسي، فؤاد، نفس المرجع السابق. ص: 20.
[13] نفس المرجع السابق، 21.
[14]Lawrence H. Summers, (1991). “Regionalism and the world trading system,” Proceedings – Economic Policy Symposium – Jackson Hole, Federal Reserve Bank of Kansas City, pages 295-301.
[15]Bhagwati, Jagdish. (April, 1992). Regionalism versus Multilateralism. Washington DC: World Bank Conference.
[16] نافعة، حسن، الاتحاد الأوروبي والدروس المستفادة أوروبياً. )مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان(. ص 60-61.
[17] نافعة، حسن، نفس المرجع السابق، ص 60.
[18] نفس المرجع السابق، ص 61.
[19] إمام، محمد، تجارب التكامل العالمية ومغزاها للتكامل العربي، )مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2004(، ص 281.
[20] نفس المرجع السابق، ص 325.
[21] أنظر: محمد الموسوي، عبد الوهاب، الأزمة الآسيوية، إشكالات النظام الجديد، )عمان، دار المناهج، 2016(، ص 199.
[22] نفس المرجع السابق، ص 21.
[23]Lasserre, P., Schutte, H., Schütte,Hellmut. (2006).Strategies For Asia Pacific Meeting New Challenges. UK: Palgrave Macmillan.
[24] عمر، حسين، نفس المرجع السابق، ص 158.
[25] أنظر: نوال، شحاب، أثر التحولات الاقتصادية العالمية على تحرير التجارة الدوليّة، ) جامعة الجزائر، مذكرة تخرج لشهادة الماجستير، 2010(، ص 61 وما بعدها.
[26] أنظر نفس المرجع السابق، ص 208.