
أزمة الدولة الوطنية: الإكراهات الدولية والسيادة المنقوصة
The national state crisis: international constraints and imperfect sovereignty
محمد أمزيان جامعة قطر.
Mohammed Amezzian – Qatar University
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات السياسية والعلاقات الدولية العدد 26 الصفحة 29.
ملخص:
يهدف هذا البحث إلى بيان الإكراهات الدولية التي تتعرض لها الدولة الوطنية منذ لحظة إعلان استقلال ها كمدخل لفهم العوامل التي تعيد إنتاج أزمتها على الدوام. وهذه الإكراهات تجسدها علاقة التبعية التي فرضتها دول المركز الاستعماري على دول الأطراف، وهو ما أخل بمبدأ التكافؤ الذي يفترض أن يحكم علاقة الدول ببعضها. وتحاول هذه الورقة توضيح هذه الحالة من خلال العديد من المؤشرات أجملناها في مبحثين: الأول عن “علاقة التبعية وتداعياتها على السيادة الوطنية”، وتناولنا فيه التبعية السياسية والاقتصاد ية، والسيادة المنقوصة؛ والثاني عن “التدخل العسكري والسيادة المنقوصة”.
الكلمات المفتاحية: الدولة الوطنية، الإكراهات الدولية، السيادة، التبعية.
Abstract
This research aims at exploring the international pressures that imperial states impose on the Arab national state since its establishment. The article presupposes that: 1) the assessment of these pressures helps us understand the factors that reproduced the chronic crisis of sovereignty and, 2) the dependency relationship between the central imperial states and the Periphery states violates the right of sovereign equality that should govern the international relations. This article offers several indicators illustrating these two propositions in two sections. The first discusses the impact of dependency on state sovereignty especially in areas of politics and economy. The second is devoted to military intervention and the incomplete sovereignty.
Key words: national state, international constraints, sovereignty, dependency.
تقديم
ولدت الدولة الوطنية في خضم الإكراهات الدولية حيث تزامنت مرحلة ال استقلال أواسط القرن العشرين مع تأجج الحرب الباردة والصراع على مناطق النفوذ في عالم الجنوب. وعلى مدى عقود الحرب الباردة كما بعدها، عاشت دول الجنوب وعلى رأسها المنطقة العربية تحت التهديد الممنهج لسيادة دولها، وانتهاك قواعد القانون الدولي، والتنكر لأبسط القواعد الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان. وقد استخدمت القوى الإمبريالية في ذلك كل ما تملكه من قوة الردع العسكري والاقتصاد ي الموجه لإخضاع الخارج، والتأثير الإعلامي الموجه للداخل لتعبئة قواها السياسية والشعبية واستنفارها لمواجهة “أسطورة العدو الافتراضي”، و “حماية أمنها القومي”. ومع أن الشعوب المستهدفة بهذا الإرهاب الدولي المنظم كانت متهاوية أصلا، ولا تزال في بداية تلمس طريقها نحو ال استقلال ، إلا أن الإمبريالية العالمية نجحت في شيطنتها والحيلولة دون استكمال مشروعها التحرري بتصنيفها ضمن خانة “الدول المارقة”، كما نجحت في كثير من الحالات في مساومتها على مشروعها التحرري وتحويلها إلى مجرد دولة وكيلة محكومة بعلاقة ما بات يعرف بـ”التبعية”.
هذا الوضع الدولي مس بالأساس مبدأ استقلال ية الدولة، وخياراتها التنموية والثقافية، وبرامجها الإصلاحية، كما مس مبدأ التكافؤ الذي يفترض أن يحكم علاقة الدول ببعضها، وغيرها من الممارسات المرتبطة بسيادة الدولة. ويشير مفهوم السيادة إلى ولاية الدولة في حدود إقليمها باعتبارها ولاية انفرادية ومطلقة. وعلى مستوى العلاقات الدولية، يعتبر احترام السيادة الإقليمية فيما بين الدول المستقلة أساسا جوهريا من أسس العلاقات الدولية([1]). وهذا المفهوم يقتضي أن تتمتع الدولة بالحرية التامة في اتخاذ القرارات، وسن القوانين، واحتكار شرعية العنف في الداخل. أما في الخارج، فيقتضي عدم خضوع الدولة لأية سلطة أخرى تعلوها إلا ما كان من قبيل العهود والمواثيق الدولية التي عقدتها بإرادتها. ووفقا لهذا المفهوم أيضا، يفترض أن تكون الدول جميعها متساوية قانونيا، كما يفترض عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، بحيث تكون كل دولة حرة في اختيار نظامها السياسي والاقتصاد ي، و الاجتماع ي والثقافي([2]). والملاحظ أن هذا المفهوم للسيادة لم يكن له أي تجسيد فعلي بالمعنى الحقيقي خارج نصوص المدونات الأممية الناظمة للقانون الدولي، حيث كانت الشرعية الوحيدة التي تحكم علاقة المركز بالأطراف هي شرعية “الفيتو” في المحافل الدولية، والتحكم الاقتصاد ي والتدخل العسكري، حيث تناوبت الشركات المتعددة الجنسيات والضربات العسكرية الأدوار خارج حدودها السياسية.
أولا. علاقة التبعية وتداعياتها على السيادة الوطنية
دون الدخول في تفاصيل التنظيرات المتشعبة للمفهوم، نقصد بالتبعية “تلك الحالة التي نشأت عن عملية تاريخية تم بمقتضاها إلحاق الدول المعروفة حاليا بدول العالم الثالث بالنظام الرأسمالي العالمي من منطلق عدم المساواة وعدم التكافؤ، مما نتج عنه تعطيل الإرادة الوطنية للدولة التابعة([3]). ولخطورة هذه الظاهرة على مستقبل الوطن العربي وسعيه نحو الخروج من دائرة التخلف وتحقيق مشروعه النهضوي، حظيت باهتمام كبير لدى الدارسين العرب، وأنجزت في هذا المجال عدة أبحاث حاولت تقديم دراسة علمية تعتمد مؤشرات موضوعية، للخروج برؤية واضحة تشخص قدر الإمكان حقيقة التبعية كظاهرة قابلة للقياس بالرغم من كل الصعوبات المنهجية التي تعترض هذا النوع من الدراسات. وفي مساهمته القيمة في هذا المجال، اعتمد إبراهيم العيسوي مجموعة متكاملة من المؤشرات الدالة على التبعية، من خلال رصد تجلياتها السياسية، والاقتصاد ية، والثقافية، والعسكرية، والتقانية، والمعلوماتية، وغيرها([4]). وتكمن أهمية هذا النوع من الدراسات في كشف زيف الادعاءات الجوفاء التي أدمنت على استهلاكها النخب السياسية الحاكمة في الوطن العربي، والتي تعمل جاهدة على إخفاء إخفاقاتها التنموية ورضوخها للإملاءات والشروط الدولية، وأيضا المساومات التي تتعرض لها مقابل استمراريتها في السلطة.
ومن الناحية التاريخية، منذ أن حصلت الدولة الوطنية على استقلال ها، لم تتحقق لها سيادتها الفعلية الكاملة. لقد ولدت مقيدة باتفاقيات تشدها إلى المركز الاستعماري القديم، بما يضمن استمرارية مصالحه الاقتصاد ية والثقافية، ويبقيها تحت نفوذه وطوع إرادته السياسية وحتى العسكرية. وقد أكدت قابلات الأيام أن علاقة التبعية التي رسختها التقاليد الاستعمارية، لم تكن لتتخلى عنها بعد رحيلها، لكن ضمن شروط تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الدولية مع صعود موجات ال استقلال ، حيث سيتم الانتقال من النمط الاستعماري إلى النمط الإمبريالي. واستنادا إلى هذا التفسير، فإن نهاية الاستعمار العسكري لم يكن يعني أكثر من تبادل في الأدوار بهدف إعادة ترتيب الوجود الاستعماري، واستمراريته في التحكم بمستعمراته القديمة، وإن فعل ذلك من وراء حجاب. لكن هذا التفسير على أهميته لا يعكس سوى جزء من الحقيقة، فإلى جانب استمرار حضور النفوذ الاستعماري، كانت هناك أيضا الاتفاقات التي مثلت قيودا حقيقية على سيادة الدولة المستقلة بما يجعل استقلال ها مشروطا بأشكال من التبعية الاقتصاد ية والثقافية وغيرهما.
تاريخيا، شهد مطلع الخمسينات من القرن العشرين انحسار الظاهرة الاستعمارية، حيث سجل بروزُ الدول الوطنية المستقلة نهايةَ مرحلة الاستعمار المباشر تحت الهيمنة الأوروبية لتفسح المجال أمام نمط استعماري جديد تحت الهيمنة الأمريكية التي نجحت بعد الحرب العالمية الثانية وخلال فترة الحرب الباردة في تحجيم النفوذ الأوروبي على مستعمراته القديمة. ومع التسليم باستمرارية تبعية الدول العربية للدول الأوروبية التي استعمرتها، إلا أن هذه الدول ذاتها أصبحت تحت الهيمنة الأمريكية، باعتبارها القائد الأوحد للإمبريالية العالمية، مع قدر من التراضي على اقتسام مناطق النفوذ. وتشهد الحروب والهجمات العسكرية التي خاضتها الولايات المتحدة ضد مختلف الدول العربية خاصة في منطقة الخليج العربي أن الجيوش الأوروبية التي شاركتها في عدوانها باتت أشبه ما تكون بالجيوش المرتزقة التي تترقب حصتها من غنائم الحرب الأمريكية. لذلك، يمكن القول بأن مرحلة الخمسينات كانت مرحلة تحول في مراكز النفوذ حيث أصبح العالم العربي بؤرة تركيز السياسة الأمريكية على خلفية الأفكار الثورية التي تبنتها القوى والأحزاب اليسارية، وما صاحبها من انقلابات عسكرية رفعت فيها الأنظمة القومية الشعارات التحررية، وهو ما اعتبره مخططو السياسة الأمريكية عدوانا موجها ضد أمنهم القومي حيث أصبح النفوذ السوفياتي يتمدد إلى مناطق كانت تابعة إبان المرحلة الاستعمارية للقوى الإمبريالية الرأسمالية، وهي المناطق التي أريد لها أن تشكل مجالها الحيوي في مرحلة ال استقلال . وبحسب نعوم تومسكي، فقد استوعبت الإدارة الأمريكية المتغيرات الدولية الجديدة لمرحلة ال استقلال إذ تفيد الادعاءات الصادرة عن المخططين للسياسة الخارجية الأمريكية لما بعد الحرب العالمية الثانية بأن التهديد الأساسي المزعوم للمصالح الأمريكية يأتي من دول العالم الثالث، وتحديدا من الوطنيين والأنظمة الوطنية التي باتت تستجيب لمطالب شعوبها في تحسين معيشتهم وتوفير حاجياتهم الضرورية. لذلك، كان القرار الذي اتخذه مخططو السياسة الأمريكية يتجه إلى الحيلولة دون وصول أولئك المغالين في وطنيتهم للحكم، وفي حال تمكنوا من ذلك، يتحتم وعزلهم وتنصيب حكومات موالية([5]).
- التبعية السياسية والسيادة المنقوصة
ثمة حكمة بليغة لأحد الشعراء نستهل بها موضوع السيادة تقول: “إن القوانين وغيرها من الأدوات الأخرى ليست سوى شباك عنكبوت كما وصفها أحد شعراء القرن السابع عشر. ففي هذا الشباك “يتم التقاط الذباب الصغير بسرعة، بينما يستطيع الكبير منها أن يفلت ثانية”([6]). هذا حال القانون الدولي كما يصفه كبار منتقدي النظام العالمي الذين لم يجدوا أدنى صعوبة في إدانة الإمبريالية العالمية استنادا إلى سجلاتها التي وثقت علاقتها بالمنظمات الأممية والقوانين الدولية. ولعل المفارقة هنا أن يتحول أحد كبار منظري الإمبريالية الأمريكية، صمويل هنتنغتون، إلى واعظ يحذر واشنطن من التداعيات الخطيرة لسياساتها العدوانية التي باتت تمثل في أعين كثير من بلدان العالم وربما معظم العالم، كما يقول، “القوة العظمى المارقة”([7]). وبعيدا عن الاستخدام الدعائي لمفهوم “الدولة المارقة” الذي أطلقته الولايات المتحدة الأمريكية على من تصنفهم بأعدائها السياسيين، يؤكد نعوم تشومسكي أن الاستخدام الصحيح والموضوعي لهذا المفهوم ينطبق على الدول التي لا تعتبر نفسها مقيدة بالأعراف الدولية المدرجة في ميثاق الأمم المتحدة، وقرارات محكمة العدل الدولية وغيرها من الاتفاقيات التي تعتبر الولايات المتحدة نفسها معفاة منها، وخاصة بعد نهاية الحرب الباردة. وبالرغم من كل التحذيرات الشديدة التي صدرت بهذا الشأن عن بعض المنظمات القانونية الأمريكية كما هو الحال مع تصريح الجمعية الأمريكية للقانون الدولي سنة 1999، إلا أن المواقف التي صدرت عن القادة الأمريكيين كانت صادمة لدرجة تثير الغثيان، وهذا التصريح للرئيس نيكسون الذي ينسب إليه القول بنظرية “الرجل المجنون”، يغني عن البقية. فقد أثر عنه قوله: يجب على أعدائنا أن يدركوا بأننا قد جُننا، ولا يمكن لأحد أن يتوقع ما سوف نفعله بقوة التدمير الخارقة التي نمتلكها مما يجعلهم يركعون لإرادتنا خائفين([8]).
وبناء على هذه الخلفية الإمبريالية، كانت مهمة السياسة الأمريكية الصاعدة ليس إعادة الاحتلال، بل استيعاب الحركات التحررية وإخضاعها وضمان تبعيتها بكل الوسائل التي تبقيها تحت السيطرة. ومنذ بروزها على الساحة الدولية أصبحت الإمبريالية الأمريكية تسوق برامجها المعادية تحت عناوين التدمير الممنهج، فأعلنت مع نهاية الستينات عن برنامج “لعبة الأمم”، ومع أواسط السبعينات “برنامج الزعزعة” (Destabilization)، أو “الحيل القذرة” بهدف زعزعة أي نظام حكم وإرباكه سياسيا واقتصاديا تمهيدا لإزاحته عسكريا أو إسقاطه مدنيا([9]).
ففي مصر، وبعد نجاح الانقلاب الناصري، وصف وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس (John Foster Dulles) جمال عبد الناصر بأنه “متعصب وشديد الخطورة”، وشبهه بهتلر([10]). وفي سوريا، تشير التقارير الصادرة عن المخابرات الأمريكية والبريطانية إلى مصادقة الرئيس الأمريكي على الخطة البريطانية التي عرفت بمشروع “أوميغا” (OMEGA)، والذي كان يهدف إلى الإطاحة بالحكم السوري المتعاطف مع نظام جمال عبد الناصر، كجزء من خطة أشمل تسعى إلى إسقاط الحكم الناصري. أما في العراق، فقد اعتُبر الانقلاب الذي قاده الضباط القوميون عام 1958 تهديدا للسيطرة الأنجلو أمريكية على مناطق إنتاج النفط، وحينها هدد الرئيس الأمريكي أيزنهاور باستخدام السلاح النووي لردع القوميين العراقيين ومنعهم من الوصول إلى الكويت. وفي السنة ذاتها التي حدث فيها الانقلاب العراقي، أرسل أيزنهاور عشرة آلاف من المارينز إلى شواطئ بيروت للحيلولة دون كسر الاحتكار الأنجلو أمريكي على نفط الشرق الأوسط. وفي السياق نفسه، هددت بريطانيا بما وصفته بـ “التدخل الوحشي بكافة الطرق إذا امتد العفن القومي إلى الكويت”، كما هدد وزير خارجيتها سيلوين ليود باحتلال الكويت، ونصح بالتضامن الكامل مع الولايات المتحدة في السيطرة على الخليج لتأمين بقاء حقول نفط السعودية والبحرين وقطر في أيدي واشنطن ولندن، بعيدا عن أيدي القوى الوطنية في الداخل. واستنادا إلى مدونات المؤرخ مارك كوتيس (Mark Curtis)، فإن أكثر ما هتمت به واشنطن ولندن في تلك الفترة هو حماية دول الخليج من عدوى ال استقلال القومي، وإحكام السيطرة على ثرواتهم. وبموازاة مع ذلك، تؤكد وثائق أمريكية تعود إلى تلك الفترة على ضرورة إبقاء شعوب الخليج أسارى لنمط اقتصادي بدائي، مع ضمان بقائهم في جهل وتأخر يعانون الفقر والمرض([11]).
ومن المهم أن نلحظ هنا تفاوت الدول العربية في استجابتها وخضوعها للتهديدات الأمريكية لسيادتها. لكن هذا التفاوت لم تكن له أية دلالة على قدرة الأنظمة العربية على الانعتاق من قبضة هذه التبعية. وسواء أكنا نتحدث عن أنظمة تحررية ثورية أو “عميلة”، وبتعبير ملطف “موالية” و”صديقة”، تبقى حالة التبعية التي حكمت علاقتها بالإمبريالية العالمية ثابتا مشتركا بغض النظر عن درجاتها وتبايناتها من نظام إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى. وهذه الحالة يمكن التدليل عليها من خلال بعض المؤشرات التي سنأتي ذكرها في المبحث الثاني من هذا الفصل بخصوص الأمن القومي العربي، والتي يمكن اعتبارها تجليا واضحا لحجم اختراق القوى الإمبريالية للوطن العربي، وتحكمها في إرادته السياسية، واعتدائها على سيادته، باستخدام أساليب تراوحت بين التهديد والترغيب، بدءا من تحكمها في القانون الدولي واستخدام حق الفيتو ضد الحقوق العربية، ومرورا بخدعة المساعدات الإنسانية، وانتهاء بالتدخل العسكري تحت طائلة محاربة الإرهاب.
هذا الوضع الإلحاقي للدولة الحديثة، يفقد مفهوم السيادة مصداقيته كحقيقة ماثلة في واقع التوازنات الدولية، ويتحول في وعي النخب الفكرية العربية إلى مجرد “خدعة” يكرس التقسيم المجحف للعالم، كما يكرس استراتيجية السيطرة العالمية، وهو ما يبرر نعته بالسيادة المستعارة([12]) التي بموجبها تضع الدولة الحديثة نفسها تحت وصاية القوى المتنفذة عالميا.
- التبعية الاقتصاد ية والسيادة المنقوصة
أمام سياسة الإفقار الممنهج التي تنهجها القوى العظمى من خلال التحكم الكامل في اقتصادات الدول الضعيفة، ظهرت حملات مضادة قادها كبار المفكرين والاقتصاد يين المناهضين للعولمة كان لها الفضل في تعرية الممارسات الاقتصاد ية المتوحشة التي باتت تهدد ليس فقط دول الجنوب بالمجاعة والموت، بل أيضا، وهو الأخطر، استمرارية وجود الحياة البشرية بسبب حجم الدمار البيئي الذي أفقد كوكب الأرض توازنه. لذلك، يمكن القول، وبقدر كبير من التعميم، بأن سياسة التحكم الاقتصاد ي، وما ينتج عنه من تحكم في سيادة الدول ليست ظاهرة خاصة بالعالم العربي، بل ظاهرة عالمية مرتبطة بالتوحش الاقتصاد ي الذي يمارسه عالم الشمال ضد عالم الجنوب.
إن استصحاب هذه الحقيقة، بحسبانها ظاهرة عالمية، يعيد طرح السؤال حول حقيقة ال استقلال الذي نالته دول الجنوب، بل وحقيقة الاعتراف بسيادتها الذي نصت عليه المواثيق الدولية. إن تحليل العلاقات الاقتصاد ية القائمة اليوم بين دول الشمال والجنوب، تشير إلى أن ال استقلال السياسي الصوري الذي حصلت عليه دول الجنوب لم يصاحبه استقلال حقيقي لسيادة تلك الدول على ثرواتها، وحقها في تحقيق تبادل تجاري عادل يحترم سيادتها. إن ما حصل في واقع الأمر هو التحول من سياسة الاستنزاف المباشر لثرواتها تحت طائلة القوة العسكرية، أي نمط الاستعمار الإكراهي، إلى نمط الاستعمار “الطوعي” الذي باتت تجري طقوسه تحت مظلة القوانين الدولية التي فرضها الأقوياء على الضعفاء. ويؤكد بعض الخبراء الغربيين بوجود نوع من التلازم بين الاستعمار والإمبريالية، ويرون بأنه من الخطأ الاعتقاد بأن الإمبريالية المعاصرة كان يمكنها أن تتحقق بمعزل عن الاستعمار، كما أن نهاية الاستعمار ليست لها أية دلالة على نهاية الإمبريالية. وهذه الظاهرة تجد تفسيرها في أن الوجود الاستعماري كقوة عسكرية وسياسية كان ضروريا لإعادة تشكيل المؤسسات الاقتصاد ية و الاجتماع ية للعديد من الدول المستقلة حسب حاجات المراكز المتروبولية([13]).
إن فهم هذه الظاهرة العالمية الطارئة تتطلب ضرورة العودة إلى منتصف القرن الماضي، وما أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية من موجات ال استقلال الوطنية، وما رافقها من تدابير دولية خططت لاستمرارية الهيمنة الغربية على الدول التي أصبحت تعرف في مرحلة ال استقلال بدول العالم الثالث.
وتعود بنا بعض الدراسات النقدية الغربية في هذا الموضوع إلى الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي ترومان يوم 20 يناير 1949، والذي أسس فيه لسياسة الولايات المتحدة لمرحلة ما بعد الاستعمار. ووفقا لاقتراح تقدم به أحد مساعديه عرف بالبند الرابع، تم ابتداع مفهوم جديد للهيمنة تحت مسمى “التنمية”، ومن ثم شُبِّه هذا البند بالإنجيل، إشارة إلى أهميته القصوى في رسم مستقبل السياسة الأمريكية وهيمنتها على دول الجنوب. ولعل وجه تشبيهه بالإنجيل هو صيغته البلاغية وإيحاءاته الأخلاقية المبشرة بمستقبل عالم تحكمه العدالة وتكافؤ الفرص أمام الشعوب في استثمار خيرات الكرة الأرضية. في ذلك الخطاب التاريخي، ذكَّر ترومان بالوضعية المأساوية التي يعيشها “أكثر من نصف البشرية في هذا العالم” تحت وطأة الفقر والحرمان والضياع، ووعد هؤلاء بأنهم “لأول مرة في التاريخ” سيحدث تغيرٌ ما في حياتهم، وتصبح السـعادة في متناول أيديهم، ويعيش العالم عهدا يعم فيه السلام والرفاهية الجميع. بهذه “النبرة الأخلاقية” توجه ترومان بخطابه إلى الأمة الأمريكية: “لا علاقة للإمبريالية القديمة، أي الاستغلال لصالح الأجنبي، بنوايانا. ما نرغب فيه هو برنامج تنمية مبني على تصورات لمفاوضات منصفة وديموقراطية. إن كل الدول، بما فيها نحن، ستستفيد بشكل واسع من برنامج بنّاء يسمح بتوظيف أفضل لموارد العالم البشرية والطبيعية([14]).
هذا هو السياق التاريخي الذي شهد ميلاد مفهوم “التنمية”، وهو أكثر المفاهيم انتشارا وجاذبية وقبولا. وفي إطار هذا المفهوم السحري، سيشهد العالم ميلاد أكثر البرامج والمؤسسات والمنظمات الدولية التنموية والمالية احتكارا ونهبا وتدميرا لثروات العالم، وإفقارا لشعوبه باسم البرامج التنموية، وتصدير التكنولوجيا، والاستثمار ات الأجنبية، وإعادة الهيكلة، وتحرير التجارة العالمية، ومنح المساعدات والقروض المالية، وغيرها من الطقوس اللبرالية والرأسمالية المتوحشة التي جرى تمريرها بقوة القانون الدولي الذي صاغه الأقوياء، وفرضته مؤسساتهم الدولية. والنتيجة الطبيعية لهذه الممارسات التحكمية –كما يؤكد نقاد الإمبريالية الاقتصاد ية الغربية هي عدم التكافؤ في المبادلات التجارية بين الدول الكبرى والدول النامية([15])، على العكس تماما مما هو رائج من مفاهيم مضللة حول التنمية.
لذلك، نشط كبار المفكرين والاقتصاد يين الغربيين المناهضين للإمبريالية الرأسمالية في إدانة هذا الخداع، ووضعه في سياقه التاريخي حيث كانت الحاجة إلى صياغة نظام جديد لعالم ما بعد الاستعمار، وهذا النظام لم يكن في حقيقته –كما وصفه تشومسكي-سوى نظام “قرصنة عالمية منظمة”([16])، وهو توصيف دقيق لطبيعة العلاقة الاقتصاد ية التي ستسود في مرحلة ال استقلال بين دول الشمال ومستعمراتها القديمة من جهة، وبين القوة الاقتصاد ية الأمريكية الصاعدة، ووريثة القارة العجوز في دول العالم الثالث من جهة ثانية. ووفقا لما يقوله مناهضو العولمة الرأسمالية، سيتحول دور دول العالم الثالث في الجنوب خلال مرحلة ال استقلال إلى دور خدمي يقتصر على تقديم الموارد الأول ية، والعمل الرخيص، وفتح الأسواق وفرص الاستثمار أمام الرأسمال الإمبريالي، وتحويل الأرباح، فضلا عن استقبال التلوث([17])، وهي كل المقومات المحددة لما يسمى بالاقتصاد الاستعماري.
هكذا سيتيح مفهوم “التنمية” إمكانات لا حدود لها لنهب ثروات دول العالم وتخريب اقتصاداتها دون الحاجة إلى استدعاء القوات العسكرية وفرض الاحتلال المباشر، وإن كان هذا الخيار قد بقي قائما وفاعلا عند الضرورة، خاصة عندما كانت تبرز حكومات ذات توجهات وطنية استقلال ية. وما عدا ذلك، فقد شكل ما سمي بالمساعدات من أجل التنمية القوة الناعمة البديلة التي ربطت مصير معظم دول العالم الثالث بالديون الخارجية، خاصة في ظل وجود حكومات فاسدة أصبحت شريكا استراتيجيا للقوى الإمبريالية في نهب ثروات شعوبها، بالتوازي مع نهب المساعدات الخارجية بنسبة قدرها بعض الخبراء الدوليين بـ 80%، وهو ما برر تسميتها بالحكومات المهووسة أو المدمنة على النهب (kleptocrates). ويرى هؤلاء الخبراء أن النهب الممنهج تحت غطاء التنمية أصبح أكثر شراسة مع إنشاء المنظمة العالمية للتجارة سنة 1995، حيث أصبحت الشركات الدولية تستشعر قدرة أكثر على تطبيق نظمها الشرسة، ليس على الدول الموقعة على اتفاقية صندوق النقد الدولي فقط، بل على العالم أجمع، وهذا النظام كما يقولون، لم يكن نظاما للتبادل الحر، بل نظاما للتبادل الإجباري([18]).
لقد مثلت هذه المنظمة أداة فعالة بيد الدول المهيمنة للنفاذ إلى اقتصاد العالم الثالث والتحكم في السياسات التنموية لدوله وبرامجها “الإصلاحية”، كما عمل صندوق النقد الدولي من جهته على توجيه السياسات الاقتصاد ية لبلدان الجنوب من خلال منحها قروضا ضخمة، ولكن بشروط مسبقة أكثر مساسا ب استقلال ها. ولعل أهم تلك التدابير هو تحرير الأسعار، وإلغاء دعم الدولة للمواد الأساسية، وتجميد أو تخفيض الأجور لتشجيع المقاولين، وتحرير الواردات لإقصاء المقاولات المحلية، وتخفيض العملات، وإضعاف القوانين التي تضيق على تحويل الأرباح والاستثمار ات إلى الخارج، الأمر الذي جعل بلدان الجنوب الواقعة تحت الوصاية تفقد قرارها الاقتصاد ي والسياسي، وتُكرس تبعيتها لبلدان المركز صانع تنميتها وتوجهاتها الاقتصاد ية والسياسية وحتى الثقافية([19]). ولعل أكبر المفارقات هنا أن تكون “الديون الإنمائية” التي حصلت عليها الدول العربية بهدف الانعتاق من التبعية الاقتصاد ية أحد أهم المؤشرات وأكثرها دلالة على التبعية بعد أن أصبحت الدول المدينة مرتهنة وخاضعة لإملاءات دائنيها. ولكن أخطر ما في هذا الأمر هو إضفاء الصبغة القانونية على هذه الممارسات حيث أصبحت الشركات المتعددة الجنسيات تمارس استنزافها لثروات الشعوب تحت غطاء قانوني في إطار الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتجارة الدولية، ضمن قواعد متفق عليها مسبقا تقوم على أساس تبادل المصالح حيث تسهل الحكومات عمل شركاتها ودخولها إلى مناطق نفوذها مقابل تأمين هذه الشركات لمصالح حكوماتها، وخاصة إضعاف الحكومات المحلية والتدخل في سيادتها.
ثانيا. التدخل العسكري والسيادة المنقوصة
تؤكد مراجعة تاريخ العلاقات الخارجية الأمريكية منذ تأسيسها أن العقيدة العسكرية الأمريكية قامت على أساس العدوان العسكري على جوارها السياسي كما على بقية دول العالم الثالث. وتبرر الولايات المتحدة انتهاكها لسيادة الدول بذريعة الحفاظ على أمنها القومي. وهذا المفهوم كما صاغه الأكاديميون الأمريكيون يعبر عن معنى شديد العمومية، فالأمر لا يتعلق فقط بوجود خطر محتمل من قبل الأعداء، بل بمحاربة الدول ذات التوجهات ال استقلال ية والحيادية، وهو أمر يعتبر في حد ذاته تهديدا محتملا للأمن القومي الأمريكي([20]). لقد عملت الدعاية الأمريكية جاهدة على إقناع الرأي العام في الداخل بما يمكن تسميته برهاب (فوبيا) التهديدات الخارجية. وحتى بعد سقوط المعسكر الشرقي، كان لابد من إيجاد عدو افتراضي بديل يؤمن الاستمرارية على سياسة التخويف، ويقدم المبررات الأخلاقية والقانونية للتدخل في سيادة الدول. أما الهدف الحقيقي الذي كان ولا يزال يحرك العقيدة العسكرية الأمريكية عبر كل مراحلها التاريخية، فيتمثل في الإبقاء على سياسة الهيمنة والسيطرة التي رسختها القوى الاستعمارية التقليدية في دول العالم الثالث، والإبقاء على دورها الخدمي في مرحلة ال استقلال ، وخاصة ما يتعلق بإمداد المصانع الغربية بالطاقة والمواد الأولية.
والواقع أن سجل الولايات المتحدة في علاقتها بدول العالم لم يعد بحاجة إلى مزيد من البيان بالنظر إلى الدراسات المتزايدة في هذا المجال. وبعيدا عن المذابح التي خاضتها الولايات المتحدة ضد شعوب أمريكا اللاتينية، كان للأوطان العربية النصيب الأوفر من الإرهاب الأمريكي الموجه ضد العالم الثالث، والذي استهدف ضرب الحركات التحررية في العالم العربي منذ بواكيرها الأول ى مطلع الخمسينات كما سبق الإشارة إليه في تصديها للأنظمة التحررية القومية. وما يعينا هنا تحديدا هو بيان حجم العدوان الأمريكي الذي تعرضت له المنطقة العربية عبر تدرجاته التاريخية، بالقدر الذي يفسر حالة الشلل التي أصابت الإرادة السياسية للدول العربية، وتآكل سيادتها. وبالعودة إلى تاريخ العلاقة الأمريكية بالمنطقة العربية، نجد أن سياسة العدوان ظلت الثابت الذي حكم هذه العلاقة إبان الحرب الباردة وما بعدها على السواء.
وبالرغم من تزايد النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط منتصف القرن العشرين بعد اكتشاف النفط، إلا أن المنطقة ظلت منطقة نفوذ بريطاني بالأساس حتى بداية السبعينات من القرن الماضي حيث خلف رحيل الاستعمار البريطاني عن المنطقة فراغا أمنيا بالمعنى الإمبريالي للكلمة. لذلك، مثلت مرحلة السبعينات محطة تاريخيا كبرى في علاقة الشرق الأوسط بالإمبريالية الأمريكية انتهت بإحكام هيمنتها الاقتصاد ية والعسكرية على منطقة الخليج العربي برمته. وقد عرفت أول خطة استراتيجية أمريكية تستهدف المنطقة بـ “مبدأ نيكسون”، وكانت ترتكز على ثلاثة نقاط: التحكم في بترول الخليج، وضمان أمن إسرائيل واحتواء الدول المعادية([21])، كما عرفت هذه الخطة أيضا بسياسة العمودين المتساندين حيث راهنت الولايات المتحدة على كل من إيران([22]) والسعودية([23]) وتعاونهما معا لتنفيذ سياستها في المنطقة.
لكن “مبدأ نيكسون” في المنطقة لم يعمر طويلا بسبب التغيرات المفاجئة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط. فالحظر البترولي الذي فرضه العرب في حرب أكتوبر 1973، وسقوط نظام الشاه مع نجاح الثورة الإيرانية سنة 1979، وتداعياتها الأمنية الخطيرة على الجارة السعودية التي شهدت في نفس السنة انتفاضة الشيعة في المنطقة الشرقية إضافة إلى أحداث الحرمين، والغزو السوفياتي لأفغانستان، كلها عوامل فرضت على الولايات المتحدة تجاوز مبدأ نيكسون، وعدم الاعتماد على الوكلاء الإقليميين في فرض هيمنتها وحماية مصالحها بالطرق السلمية. لقد فرضت تلك المتغيرات الإقليمية والدولية التفكير في استراتيجية جديدة ترتكز على التحكم العسكري المباشر في المنطقة، وهي الخطة التي عرفت بـ “مبدأ كارتر”([24]). وهذه الخطة الجديدة حددها خطاب الرئيس كارتر سنة 1980 بهذه اللهجة الصارمة: “ليكن موقفنا واضحا تماما، إن أي محاولة من أي قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج الفارسي ستعتبر هجومًا على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، وسيتم صد هذا الهجوم بأي وسيلة ضرورية بما في ذلك القوة العسكرية “([25]).
لقد مثل مبدأ كارتر تحولا دراميا في منطقة الخليج التي أصبحت من أكثر البؤر الملتهبة عسكريا في العالم. فبعد مضي بضعة أشهر على خطاب كارتر بتاريخ 23 يناير1980، اندلعت أطول حرب في تاريخ المنطقة إلى ذلك التاريخ في شهر سبتمبر من نفس السنة، وعلى مدى ثمان سنوات من الدمار الممنهج والمتلحف بنزعة طائفية حيث سميت في الطرف العراقي “السني” بـ “قادسية صدام”، مقابل “الدفاع المقدس” في الطرف الإيراني “الشيعي”. لكن هذه الحرب على الرغم من حجم الدمار الذي تكشفت عنه، لم تكن سوى فاتحة لما بعدها من الحروب الأمريكية المدمرة التي ستتفرد الإدارة الأمريكية بالتخطيط لها في مرحلة النظام العالمي الجديد تحت قيادتها.
والواقع أن سقوط المعسكر الشرقي سنة 1991 جعل المنطقة العربية عامة، والخليج خاصة مفتوحة أمام الأجندة العسكرية الأمريكية، وبمفاهيم جديدة لم تكن شعارات “الدولة المارقة” والحرب على الإرهاب” عناوينها الوحيدة. وتشير التقارير الصادرة من البيت الأبيض إلى الكونغريس بعد سقوط ال اتحاد السوفياتي إلى ضرورة الحفاظ على ارتفاع ميزانية الإنفاق العسكري لضمان ما سمي بـ “القمع في الخارج”. أما المبرر الحقيقي لهذا القمع الخارجي فهو ضمان الهيمنة الأمريكية على ثروات العالم الثالث. ولكن هذا الهدف جرى تسويقه رسميا –كما هو مألوف في سياسة الخداع الممنهج-تحت مسمى التهديدات المرعبة الآتية من العالم الثالث، ومن ثم يتوجب إعادة توجيه القوة العسكرية الأمريكية في هذا الاتجاه، مع اعتبار منطقة الشرق الأوسط الهدف الأول للسياسة العسكرية الجديدة في فترة ما بعد الحرب الباردة([26]).
وقد أدى دخول العراق إلى غزو الجارة الكويت إلى تسميم العلاقات الخليجية الخليجية، والخليجية العربية بعد أن انضم من كانوا بالأمس حلفاء صدام ضد “العدو الفارسي” المشترك إلى “الحليف الاستراتيجي الأمريكي” المشترك. ومرة أخرى أثبت الخداع الأمريكي كفاءته العالية في احترافه لخدعة التخويف. لقد نجح هذا الخداع في الزج بدول مجلس التعاون الخليجي في أكبر عملية تدمير ذاتي في تاريخها تحت ذريعة التصدي لأطماع صدام التوسعية، تماما كما جرى في حرب الخليج الأول ى تحت ذريعة التصدي للأطماع الفارسية.
لكن سياسة الخداع والتخويف ستصل أقصى مداها مع تفجير الحادي عشر من سبتمبر 2001، أو “الخدعة الرهيبة” كما هو عنوان الكتاب الذي أصدره الصحفي والناشط السياسي الفرنسي تييري ميسان([27])، تلك الخدعة التي دشنت مرحلة غير مسبوقة في العدوان الأمريكي على الشرق الأوسط تحت ذريعة محاربة الإرهاب. فتحت هذه الذريعة تم غزو العراق، وكان قرار الحرب ترجمة عملية لما بات يعرف أمريكيا بـ “مبدأ بوش” (Bush Doctrine)([28]) وهو المبدأ الذي ابتدع فكرة “الحرب الاستباقية” التي أصبحت تترجم العقيدة العسكرية الجديدة للسياسة الخارجية الأمريكية لمواجهة التهديدات الإرهابية المزعومة ضد أمنها القومي. وقد كشفت قابل الأيام مدى توغل الإرهاب الأمريكي في العدوان على العالمين العربي والإسلامي باسم الحرب الاستباقية والضربات الوقائية. فبعيدا عن التضليل الإعلامي الأمريكي، شكلت الحرب على الإرهاب غطاء دوليا لتنفيذ مسلسل التدمير الممنهج لدول الشرق الأوسط. ومن الخطأ حصر التداعيات الأمنية للإرهاب الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، فبالإضافة إلى تدمير العراق في أطول حرب في المنطقة (من ماي 2003 إلى ديسمبر 2011)، وفتح المجال أمام التحكم المطلق للكيان الصهيوني في المنطقة، أصبحت كافة بلدان العالمين العربي والإسلامي وفقا لـ”مبدأ بوش” ساحة مفتوحة أمام العمليات العسكرية الأمريكية بدعوى محاربة الإرهاب.
والخلاصة التي يمكن أن نستنتجها من هذا العرض التاريخي، أن تدويل التدخل العسكري في منطقة الخليج تم وفق رؤية استراتيجية أمريكية بعيدة المدى انتهت بإرساء قواعد عسكرية أمريكية دائمة في المنطقة، وهو ما يعني أن المنطقة أصبحت في حكم الدول المحتلة بعد أن تم عزلها كلية عن الأمن القومي العربي، حيث تم تأبين ميثاق الدفاع العربي المشترك مع أحداث غزو الكويت، في ظل استفراد الولايات المتحدة بالتحكم الكامل في أمنها وثرواتها على السواء.
أما الخلاصة الثانية، فهي أن الدول العربية عامة، ودول الخليج على وجه الخصوص، ساهمت في تمكين الاحتلال الأمريكي، وكانت شريكا استراتيجيا في تدويل التدخل العسكري في المنطقة، أي في تدمير ذاتها. فمع أن هذه الدول هي المستهدفة أساسا من هذه الحروب الأمريكية، إلا أنها لم تتردد في الانخراط في التحالف الدولي أو لعبة “الإرهاب الدولي” بعبارة أدق، مما يعني نجاح الخداع الأمريكي مرة أخرى في تجنيد دول العالم العربي والإسلامي ضد نفسها أولا، وضد بعضها البعض ثانيا، التزاما بالبنود التي نصت عليها استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لسنة 2015 ، خاصة منها البند الذي ينص على دعم وتعزيز التحالفات الأمريكية وشراكاتها العالمية ، والبند الذي صدر تحت مسمى “السعي لتحقيق استقرار الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال مكافحة الإرهاب ومنع إيران من الحصول على سلاح نووي والحد من المصادر الأساسية للصراع”([29])، وبموجبهما أصبحت الولايات المتحدة تقود تحالفا دوليا قوامه ستون دولة لمحاربة تنظيم “داعش”.
وتكمن أهمية هذه الخلاصة في أن الانتهاكات التي تعرضت لها سيادة الدولة الوطنية لم تكن بسبب التهديدات الخارجية فحسب، ولكن أيضا بسبب ارتهان كثير من أنظمتها الحاكمة للإمبريالية الدولية، إما طلبا لحمايتها من جوارها السياسي، أو استقواء بها ضد مطالب شعوبها. وفي كل الأحوال، تظل المآزق الأمنية التي تعيشها هذه الأنظمة واحدة من أهم الأسباب التي كانت ولاتزال تدفع بها إلى التنازل عن سيادتها، وهو ما يطرح أسئلة جوهرية حول مدى التزام كثير منها بتأمين مصالحها العليا، وصيانة استقلال ها، كما تطرح أسئلة حول مبررات وجودها ووظيفتها. وأيا كان تقديرنا لحجم الضغوط الخارجية، ونوع الاستجابة التي أظهرتها الدول العربية، ومهما تكلفنا التماس العذر لكثير من قراراتها الخاطئة تحت وطأة التجزئة وانقسام البيت العربي، ثمة مواقف لا تقبل التأويل، تواطأت فيها معظم الدول العربية ضد مصالح شعوبها، وهي قصة شديدة التشعب والتشابك، وهو ما يجتهد المبحث الموالي في كشف بعض جوانبه.
قائمة المراجع:
- تشومسكي نعوم، النظام العالمي القديم والجديد، ترجمة عاطف عبد الحميد، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2007.
- ماذا يريد العم سام، تعريب عادل المعلم، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998.
- جولد سميث تيدي، ما قبل التنمية، ترجمة: محمد أمزيان، مجلة المنعطف، المغرب، 2004 العدد المزدوج 23/24.
- ريست جلبير، ابتداع التنمية، ترجمة الحسن مصباح، مجلة المنعطف، العدد المزدوج 23/24، المغرب، 2004.
- العيسوي إبراهيم، قياس التنمية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، مشروع المستقبلات العربية البديلة، آليات التنمية البديلة في الوطن العربي، بيروت، ط1، 1989.
- القادري عبد القادر، القانون الدولي العام، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب، 1984. ضمن كتاب: السيادة والسلطة، الآفاق الوطنية والحدود العالمية، سلسلة كتب المستقبل العربي، (52)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2006.
- المقدم أمينة، وهم التنمية إلى أين؟ مجلة المنعطف، المغرب، 2004، العدد المزدوج 23/24.
- غليون برهان، المحنة العربية، الدولة ضد الأمة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط3، 2003.
- النقيب خلدون حسن، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر، دراسة بنائية مقارنة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط2/1996.
- Buckley Mary and Singh Robert, The Bush Doctrine and the War on Terrorism Global responses, global consequences. Routledge Taylor & Francis Group. First published 2006.USA.
- Chomsky Noam, Year 501, the Conquest Continues. South End Press Collective. Cambridge. 1993.
- _____Rogue States. The Rule of Force in World Affairs. Haymarket Books. Chicago. 2015.
- Jasper Marc. W, Security assistance in the Persian Gulf and the roots of the Nixon Doctrine. Naval Postgraduate School. December 1997.
- Naji Saeid and Jawan Jayum A., Role of the Persian Gulf’s Oil in the US Geopolitical Codes during the Cold War Geopolitical Order. International Journal of Humanities and Social Science. Centre for Promoting Ideas, USA. Vol. 1 No. 5. May 2011.
- Meyssan Thierry, L’Effroyable Imposture:11 septembre 2001. Chatou Carnot. 2002.
- Owen Roger and Bob Sutcliff, Studies in the Theory of Imperialism, Published by Longman, New York, 8 impression 1983.
- Fact Sheet: The 2015 National Security Strategy . The White House. Office of the Press Secretary. February 06, 2015. Shorturl.at/hOUW8, accessed 10/06/2019.
([1]) عبد القادر القادري، القانون الدولي العام، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب، 1984. ضمن كتاب: السيادة والسلطة، الآفاق الوطنية والحدود العالمية، سلسلة كتب المستقبل العربي، (52)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2006، ص120.
([3]) إبراهيم العيسوي، قياس التنمية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، مشروع المستقبلات العربية البديلة، آليات التنمية البديلة في الوطن العربي، بيروت، ط1، 1989، ص13.
([5]) نعوم تشومسكي، ماذا يريد العم سام، تعريب عادل المعلم، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998، ص19-20.
([6])Noam Chomsky. Rogue States. The Rule of Force in World Affairs. Haymarket Books. Chicago. 2015. p. 151.
للعلم، فقد كان نيكسون بهذا القول يردد شعار حزب العمال الإسرائيلي في الخمسينات حيث كان رئيس الوزراء مشي شريط يسجل في يومياته محذرا بأنه سيتصرف بجنون.
([9]) خلدون حسن النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر، دراسة بنائية مقارنة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط2/1996، ص166.
([10]) نعوم تشومسكي، النظام العالمي القديم والجديد، ترجمة عاطف عبد الحميد، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2007، ينظر الصفحات: 116، 288، 289، 295.
([12]) برهان غليون، المحنة العربية، الدولة ضد الأمة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط3، 2003، ص204.
([13]) Roger Owen and Bob Sutcliff, Studies in the Theory of Imperialism, Published by Longman, New York, 8 impression 1983, p.164.
([14]) جلبير ريست، ابتداع التنمية، ترجمة الحسن مصباح، مجلة المنعطف، العدد المزدوج 23/24، المغرب، 2004، ص 34.
([15]) Studies in the Theory of Imperialism. op. cit. p.188.
([16]) ينظر: نعوم تشومسكي، النظام العالمي الجديد والقديم، مرجع سابق، ص11.
([17]) Noam Chomsky. Year 501. The Conquest Continues. South End Press Collective. Cambridge. 1993. p.33.
([18]) تيدي جولد سميث، ما قبل التنمية، ترجمة: محمد أمزيان، مجلة المنعطف، العدد المزدوج 23/24، ص155.
([19]) وهم التنمية إلى أين؟ أمينة لمقدم، مجلة المنعطف، العدد المزدوج 23/24، ص 57 – 58.
([20]) النظام العالمي القديم والجديد، مرجع سابق، ص45.
([21]) Marc. W. Jasper. Security assistance in the Persian Gulf and the roots of the Nixon Doctrine. Naval Postgraduate School. December 1997. p.31.
([24]) Saeid Naji, Jayum A. Jawan. Role of the Persian Gulf’s Oil in the US Geopolitical Codes during the Cold War Geopolitical Order. International Journal of Humanities and Social Science. Centre for Promoting Ideas, USA. Vol. 1 No. 5. May 2011. p. 215.
([25]) Role of the Persian Gulf’s Oil. op.cit. p. 216
([26]) النظام العالمي الجديد والقديم، مرجع سابق، ص102.
([27]) Thierry Meyssan. L’Effroyable Imposture: 11 septembre 2001. Chatou Carnot. 2002.
([28])Mary Buckley and Robert Singh. The Bush Doctrine and the War on Terrorism Global responses, global consequences. Routledge Taylor & Francis Group. First published 2006.USA. p.13.
([29])Fact Sheet: The 2015 National Security Strategy . The White House. Office of the Press Secretary February 06, 2015.