
صورة المكان في شعر الثورة لدى مفدي زكرياء -ديوان اللهب المقدس نموذجا-
Image of the place in the poetry of the revolution by mufdi zakaria – holy flame divan model –
د/ جــغــــــــــــــــــــــــــدم الحـــــــــــــــــــــــاج ، جامعة حسيبة بن بوعلي–الشلف-(الجزائر)
Dr/ DJOURDEM El Hadj Hassiba ben bouali university-chlef – (Algeria)
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 57 الصفحة 75.
ملخص البحث:
أضحت الثورة الجزائرية الكبرى (1954-1962) فضاء رحبا للإبداع، مما مكن الشعراء العرب عامة، ومفدي زكرياء خاصة من التعبير عن نضالهم في هذه الثورة المباركة، إذ أصبح الشعر نتاجا حيا لواقع معين، وانعكاسا صادقا لقضايا الوطن يتفاعل بعمق مع هموم وأفراح الجماهير، مبرزين إسهاماتهم الفعالة في تحريك الفعل الثوري، فجاءت قرائحهم بإبداع صاف يحمل خالص تجاربهم، ويعبر عن عمق مشاعرهم.
الكلمات المفتاحية : الثورة؛ الشعر؛ النضال؛ صورة؛ مكان.
Abstract :
The great algerian revolution (1962-1954) became a vast space of creativity, which enabled the arab poets in general, and mufdi zakaria in particular to express their struggle in this blessed revolution. Because of that the poetry has become a living product of a certain reality, and a true reflection of the issue of the homeland, that interact deeply with the concern and joys of the masses. Highlighting their active contributions in triggering the revolutionary action. Their talents came with pure cretivity bearing clear experiences, and expressing their deep feelings
Keywords : revolution ; poetry ; struggle ; image ; place.
أولا: توطئة
إن مفدي زكرياء يعد من أكثر الشعراء العرب في العصر الحديث إبداعا لهذا اللون الشعري في ديوانه اللهب المقدس، الذي رصعه بعديد القصائد الثورية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: اقرأ كتابك، تعطلت لغة الكلام، لا عز حتى تستقل الجزائر… وغيرها حيث أبان فيه عن نضاله وثورته ضد المستدمر، والتغني بالانتصارات الباهرة التي حققها الشعب الجزائري.
ومن هنا تروم هذه الورقة البحثية إبراز صورة المكان في شعر الثورة لدى مفدي زكرياء، مركزين على صورة الجبل، السجن، المدينة …الخ، وهي محاولة لفهم الآليات التي تحكم النص الشعري الذي يستمد شعريته من المكان، مشيراً إلى علاقة الخارج بالداخل، في إشارة إلى العالم الحسي الفيزيائي، وأثره في بناء النص الشعري.
قبل أن نخوض في الحديث عن صرة المكان في شعر مفدي زكرياء الوطني المقاوم التي تجلت في صورة الجبل، وصورة المدينة، فصورة السجن، لابد من الوقوف عند نظرة النقاد للمكان الذي استجاب لمقاومة الإنسان، فكان قاسياً في مقاومته للأعداء، رحيما بأبناء الوطن.
يري إبراهيم رماني “أن المكان الذي يشكله الخيال ويبنيه في اللغة على نحو يتجاوز حدود الواقع الفعلي… ليس المكان الفني أبعادا هندسية وحسية خارجية، إنما صورة جمالية، تبدعها الذات وتضفي عليها من ذاكرتها الحضارية، التاريخية أبعادا لانهائية”[1].
يبدو أن الباحث يتجاوز القيمة الطبيعية للمكان الفعلي، ليجسد المكان الشعري الذي يحوّل التجربة الذاتية إلى نص إبداعي، تبرز فيه العناصر الجمالية من صورة وإيقاع ودلالة، تعبيرا عن الحالة النفسية التي اخْتُزِنت في ذاكرة الشاعر بفعل المقاومة الحدث.
ويرى الأخضر بركة ” أن المكان الشعري ينتقل فيه العالم من الفضاء اللامتناهي “الخارج” إلى الفضاء المتناهي “الداخل” والذي هو النص، انتقالا أساسه الارتياح والتحويل، ولذا فإن بنية المكان –الشعر، هي نموذج لبنية مكان العالم من جهة وهي – في الآن ذاته- شيء يشير إلى ما يتجاوز العالم –الفيزيائي- من جهة أخرى…”[2].
إن الباحث هنا، يبحث عن الآليات التي تحكم النص الشعري الذي يستمد شعريته، مشيراً إلى علاقة الخارج بالداخل، في إشارة إلى العالم الحسي الفيزيائي وأثره في بناء النص الشعري.
وعليه فإن صورة المكان ليست مرتبطة بعصرنا الحديث، بل تعود إلى الشعراء العرب القدامى الذين وقفوا طويلا على الأطلال، في إشارة إلى فقدان الحبيب والديار، مع اختلاف بسيط في طبيعة الصورة، إذ يعتبر المكان –في عصرنا الحاضر- مجالا خصبا لإبراز صورة الصراع بين “الأنا” و”الآخر” في ظل تمادي الإستدمار في عملية السطو على الأمكنة الجزائرية.
وبعد، فإن الحدث الثوري الذي جسده الشعب الجزائري على عهد الإستدمار الفرنسي، كان استجابة للمكان الذي ظل ردحاً من الزمن يئن تحت وطأة المستدمر، ليصبح ملاذا أمينا للمقاتلين في مواصلة المقاومة، حتى تأخذ الجزائر استقلالها.
1-صورة الجبل:
إن المتتبع لتاريخ الجزائر يجده يعبر عن ملحمة شعب ظل يناضل من أجل بقاء كيانه الوطني بين الأمم، إذ انتقلت مقاومته لغاصبي الحق من المقاومة السياسية إلى المقاومة المسلحة، فالثورة التحريرية التي اكتملت بفضلها التجربة الشعرية لدى شعرائنا، تتخذ من الجبل المكان الذي أفرغ فيه الشعراء كل التداعيات النفسية الكامنة في أعماق الذات الشاعرة، مبرزين صوره[3].
وحين نتأمل تاريخ الشعر العربي القديم نجد “الجبل”، يشكل مكانا ثوريا مقاوما، كيف لا وهو الذي أوى الخارجين عن القانون قانون القبيلة أو الدولة أو الاحتلال، للصعاليك والمعارضين وهو ملائم لحاجات الوطن في الحرية و الشموخ والعزة، ومناسب لمتطلبات الثورة في الحركة والامتداد[4].
ومن هذا المنطلق يرى مصطفي بيطام “أن نظرة الشاعر إلى الجبل لم تكن مجرد نظرة أو وصفا من أجل الوصف بقدر ما هي نظرة واعية، لما يرمز له الجبل الذي كثيرا ما وقف عند أسراره العديد من الشعراء عبر العصور الأدبية العربية.
وما وصف “الجبل” لابن خفاجة، الشاعر الأندلسي بالصورة الفنية المعبرة التي لفتت انتباه الدارسين والنقاد إلا دليل على وعي الشعراء بدور الجبل في بعث الشموخ والثبات”[5].
لقد رأي شعراؤنا في “الجبل” المكان الطبيعي “للأنا” وامتدادا ماديا لثورة الشعب في مقاومته “الآخر” ليكون مكانا وطنيا تترائ فيه الدلالات الإيحائية كالفداء والخلاص وبعث الأمل في نفوس الثوار، فتعاطفوا معه ليؤلفوا لوحة فنية من أعالي الأوراس وجرجرا.
من هذه الزاوية إذن، سنقوم بجولة تحليلية لصورة “الجبل” في شعر مفدي زكرياء، إبان ثورة التحرير أو قبلها، ولعل اول صورة للجبل” تلك التي يحملها نشيد “من جبالنا”، والتي يقر من خلالها الشاعر أن ” الجبال” منبر لصوت الأحرار، ونداء للشعب من أجل الاستقلال، وكشف عن التضحية، إذ يعبر بها عن الدلالات الإيحائية لبيان رمز التحدي و الصمود.
وفي القصيدة الموسومة بـ “اقرأ كتابك”، يؤكد مفدي زكرياء على شهادة “الجبال” على أفعال المستدمر الدنيئة، مبرزا سخريتها من الأعداء الذين طمسوا الحقائق بالادعاءات الباطلة.
يقول الشاعر[6]:
هَذِي الجِبَالُ الشَاهِقَاتُ شَوَاهِدٌ سَخِرَتْ بمَنْ مَسَخَ الحَقائِقَ وَاِدَّعَى
ما زال الشاعر يسترسل في صنع صور “الحبل” ليبرز دوره في الإجابة عن تساؤلات الإنسان، وهو يعج غضبا ليكون وبالاً على رؤوس المستدمر، وشاهداً على الأفعال العظيمة التي ما فتئ الثوار يصنعون أطوارها.
يقول مفدي زكرياء[7]:
سَلْ جُرْجُرَا تُنْبِئُكَ عَن ْغَضَايَتِهَا واسْتَفَتِ شيلْيَا لحظةً وشلَعلعَا *
واخْشَعْ بـ “وارَشْنِيسْ” إنَ تُرَابهَا ما انفْكَ للجُنْدِ المعطَرِ مَصْرَعَا **
لقد كانت الجبال، إبان ثورة التحرير المسلحة تلعب دورا استراتيجيا في إيواء جنود جيش التحرير، وفي الوقت نفسه مقابر للجند المعطر، وربما لا يكتفي الشاعر بالتحويم العائم على الجبال، أو الصورة الغائمة تلتقط من الجو، وإنما يتبعها بأسمائها.
إن قدرة الشاعر على حشد جملة من الدلالات الإيحائية لصورة “الجبل”، وإبراز أبعاده النفسية والثورية والتاريخية والطبيعية والجمالية، جعلته يضع هذه اللوحة الشعرية الرائعة التي أبرم فيها العَقْدَ بين الأرض –مجال للمكان الثائر- والسماء، في إشارة إلى صفتي الإتحاد والتضامن.
وما الدماء الطاهرة التي تخصبت بها الأرض، إلا بمثابة الدافع الذي جعل “الأنا” يبث قراره لإلحاق الهزيمة بالآخر، ” سلسلة الأطلس الجبلية أصبحت تبث قرارها فينقاد إليه الحلف الأطلسي الذي لطالما ألقى الرعب والذعر في نفوس المستضعفين، وما انقياد الحلف الأطلسي وخضوعه إلا نتيجة للتحالف الصلب والولاء المتين فيما بين السموات والأرض[8]“.
يقول مفدي زكرياء:[9]
أرضُ الجزائرِ والسَماءُ تَحالفَا فاخْتَطَ حِلْقُهما النجيعُ الأحمرُ !
والأطْلَسُ الجبارُ بثَّ قــــــــرارهُ قـــائِــــدُكَ مِنْــــــــــــــهُ الأَطْلَسُ المُتَجَبِرُ
و” الجبل” عند مفدي زكرياء، مكان يحمي المجاهدين، فتراه يلعب دورا في المقاومة ” وإذا أصدر الأطلس قراره، وقام بدوره الجبار في الثورة حيث اعتصم به المجاهدون وتمنعوا في شواهقه يصبون منها على العدو ونيرانا وجحيما يصيبون ولا يُصَابون، فإن السبب هو أن يدي الله نفسه هما اللتان تقدحان الزناد في أيدي الثوار”[10].
يقول مفدي: [11]
وطني أنْتَ بسمَةُ الَّربِ فِي الأَرْ ضِ وَمِرآةُ حُسْنِــــــهِ المُتَوَاتِـــــــــــــرِ
وعَلَى الأطْلَسِ المُرِيـــــــــــــــــــــــدِ يَداهُ تَقْدَحَانِ الزِنَادَ فِي كَفِ ثائرِ
إذن، لا فرق بين “الجبال” و”الإنسان” عند مفدي زكرياء، فكلامها أعلن منذ الوهلة الأولى عن رفضه المطلق للآخر، ومقاومته لكل أشكال التسلط على الذات الجزائرية، من هنا جاءت شعرية المكان عنده تنبض بقوة المعنى وجمال المبنى، وتعد مشاركا في المعرركة إلى جانب الرشاش، وإن كان اهتمامه بجانب –المضمون- حتى يفي شعره بغرضه في ساحة القتال، وذلك على حساب الجانب الفني.
2-صورة السجن
لقد أثبتت سنوات الجمر التي قادها الثوار أثناء ثورة التحرير، أن السجون قد تحولت إلى مدارس يتبادلون فيها السجناء الدروس لخوض غمار الثورة، وليس أماكن للحد من نشاطات الثوار، كما زعمت سلطات الاحتلال.
يبدو، أن تجربة السجون أكسبت الثوار –الذين يتطلعون إلى غد مشرق- شحنة مضادة، لكل أشكال التعذيب الطويلة، بأن كافة أشكال التعذيب أعجز من أن تقتل إرادة المناضل أو تكسرها، إن الانهيار لا يأتي من الجسد لكنه يأتي من ثغرة في نفس الإنسان او عقله…”[12].
وإذا حق لنا أن ننتشل من أفواه الرجال كل المعاني التي قيلت عن تلك المساحة المربعة أو المستطيلة “السجن”، فإننا سنتلقفها من شفتي المناضل الكبير مفدي زكرياء “… أسمع بالسجن فأنقبض وتضيق على أنفاسي، فلما من الله علي بنعمة دخول السجن، وجدت في أعماقه ما كنت أجهله، ورأيت بين طياته ظلامه الحالك كثيرا من أماني الضائعة التي كنت أفتش عنها في غير السجن…”[13].
وإذا كان “الجبل” –كما رأينا سابقا- مجالا طبيعيا “للأنا”، حيث كان يستمد قيمته من قيمة الفعل الذي كان يمارس فيه، لأنه تحققت عبره رغبات مكبوتة في الإنسان الجزائري، التي لم يكن بالإمكان تحقيقها عبر أماكن أخرى، وظهرت فيه للعيان تلك الممارسات الدنيئة التي أقبل المستدمرون على اقترافها في حق الشعب الجزائري.
فإن “السجن” على أرض الواقع مكان اصطناعي “للآخر” المستدمر الفرنسي، بحكم أنه وسيلة من وسائل القهر التي ابتكرها العدو، فحولها إلى ” زنزانات ومقابر ظل يمارس فيها مالا يتصوره العقل من ألوان العذاب الجسدي والنفسي والتقتيل البشع ضد أحرار الحرار الذين رفضوا سياسة القهر والتسلط والعبودية”[14].
إن المعاناة التي لحقت الشاعر مفدي زكرياء في السجون جعلته ينفرد عن غيره من الشعراء –في هذه المرحلة- بتجربة السجن، حيث قضى سبع سنوات متراوحة على خمس مرات ما بين 1937-1959[15]، فتحول عنده من رمز “للآخر” إلى رمز “للأنا”، ليصبح ميدانا للصمود والتحدي، “كان السجن في تارخ الثورة الجزائرية ميدانا آخر من ميادين المقاومة والرفض”[16].
لقد شد انتباهي –وأنا أتصفح الشعر الجزائري الحديث- نقطة في غاية الأهمية تتمثل في إحجام الشعراء الجزائريين عن تصوير المقاومة الوطنية للغزاة في السجون إلا السرد اليسير من القصائد، واندفاعهم لتصويرها في الجبال الشاهقات، هذا إذا استثنينا الشاعر مفدي زكرياء الذي كان إبداعه وليد السجون والمعتقلات
والأمر، ها هنا يرجع في جوهره، إلى الخلق الإبداعي المتعلق بالسجون يحتاج إلى المعاناة خاصة ورؤية داخلية تستوجب من الشاعر أن يعيش التجربة في سياق داخلي وليس خارجي، والشاعر مفدي زكرياء من الشعراء الذين يتبوءون الريادة في هذا المجال لما لَقِيَهُ من عنَتٍ وإرهاب نفسي وجسدي.
وركحا على هذا التأسيس، فإننا سنحاول في هذه المعالجة الوقوف عند بعض المقطوعات الشعرية، ولعل القصيدة التي سنأتي عليها بالدراسة، تلك الموسومة ب ” نشيد بربروس “.يقول الشاعر [17]:
يا ليلُ خيّمُ…واعصِفِي يا رياحْ
يا أفُقُ دَمدِمْ…واقْصِفِي يا رُعُودْ
يَا سجُن اِزْخرْ…بجنودِ الكِفَاحْ
فأَنْتَ يا سجْنُ…طَرِيقُ الخُلودْ…!
أنتَ محرابُ الضحــــــــــــايَـــــــــا
في حنــــــــــــــــــاياكَ الأُســــــــــــــــودْ
أنتَ… أنتَ… أنتَ… يا بربروسْ…
يبدو أنّ النشيد يرمز إلى معنى المواجهة والتّصدي لقوى الظلم والطغيان، وانتشال الوطن من قبضة الاستدمار، وذلك في العبارتين، ” اعصفي يا رياح واقصفي يا رعود”، وفيه أظهر بأنه جَبْرٌ يحمل إلى الخلود ومحراب للضحايا، لقد صار مكانا مقدسيّا.
لم يعد السجن عند مفدي زكرياء ذلك الإطار الذي أحكم العدو صنعه، لِيَصْنَع للذات الجزائرية الموت والدمار والخراب والكآبة، بل صار من الامكنة الأكثر تعبيرا عن الإنسان الجزائري بحتمية الانتصار على المستدمر، ولهذا فالشاعر صوره على أنه مكان حقيقي في مواجهة بين “الأنا” و “الآخر”، حتى غدا رمزا للمجد والفداء، ومصنعا للبطولة والشهادة. يقول مفدي[18]:
يا مصنعَ المجدِ، ورمزَالفـــــداَ
يا مهبطَ الوَحْي، لشِعْرِ البقَا
يا معقلَ الأبطـــــالِ،والشهدَا
يا مُنْتَدَى الأحـــــــرارِ،والملْتَـــــــــقَى
يوم قُمْــــــــــــــــــنَا ورفعْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنَا
فيِ السمـــــــــــــــــــــــــواتِ البنــــــــــــــــــــــــــــــــــودَ
أنتَ… أنتَ… أنتَ… يا بربروس…
يعد السجن مكانا تنطلق منه دلالات سلبية[19] كالحزن والأسى والعذاب والتأوه والأنين* إلا أنه عند الشاعر مفدي زكرياء في القصيدة الموسومة بـ”بنت الجزائر” مكان يقاومه في تحدٍ وصمود، ويهزء بالقائمين عليه، مصورا فيه أشكال التعذيب والترهيب التي لم تزد الأبطال إلا تكتما لستر الثورة، يقول[20]:
سيانَ عنديَ، مفتــــــــــــوحٌ ومنغلقُ يا سجنُ، بابكَ، أم شُدَّتْ بِهِ الحَلْقُ
أم السِيَّــــــــــــــــاطُ، بها الجلادُ يُلْهِبني أم خــــــازنُ الناَرِ،يَكْوِيــــــــــــــنِي فأصطفقُ
والحوضُ حوضٌ وإِنْ شَتَّى مَنَابِعُهُ أُلْقَى إِلى القَعْـــــــــرِ، أَمْ أُسْقَى فأَنْشَرِقُ
تكْلُمْ بعض ملامح صورة السجن كما تراءت أمام عيني الشاعر مفدي زكريا ونقلها إلينا بأدواته الفنية ليعثر على المكان المشترك الذي ظل يصنع صراع “الأنا” مع “الآخر” بين الجدران من منظار واقعي، وفي مستطيل من الورق من منظار خيالي كان الدور فيه لشعرية اللغة والمعاني المجازية.
3- صورة المدينة:
يبدو أن الذات الوطنية قد مرت بمراحل تاريخية مؤلمة عبر عشرات السنين وذلك ما جعل تجربتها ثرية بأحداث ومواقف قد لا يصدقها عقل، كما أن علاقتنا مع “الآخر” كانت تكتسي طابعا مأساوية والقهر والظلم والغبن داخل المكان المسلوب “المدينة”، وكل ذلك طبع سلوكاتنا و أخلاقنا بطابع متميز، كما سكب كل ذلك على إبداعاتنا الفنية عامة والأدبية خاصة ملامح فنية وأسلوبية يجب الوقوف عندها[21].
من هذا المنظور إذن، نود أن نكتشف “صورة المكان” داخل المتن الشعري عند مفدي زكريا، للوقوف عند “شعرية المكان”، لمعرفة ملامحها وأبعادها، لكن هل يتوفر الشعر الوطني المقاوم عنده على مادة كافية، لمعالجة “صورة المدينة”، وهي تقاوم “الآخر” في جغرافية أحكم قبضتها؟ أم للمدينة خصوصيات تختلف اختلافا شاسعا عن “الجبل” مكانا “للأنا” دون غيره.
ويرى النقاد أن “شعرية المدينة” هي امتداد “لشعرية المكان” الذي يتشكل من عنصري الخيال واللغة، على نحو يتجاوز فيه المبدع المكان الواقعي.
يبدو أن الشعر الوطني الثوري، قد انتزع لنفسه سمة الانتماء إلى المكان بأبعاده الحاضرة التي تتخذ من الواقع التاريخي الحضاري مجالا لحضور الماضي التليد وتجاوزا للحاضر المأساوي والغبن الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، على نحو يتخذ فيه المكان شخصية زمانية ليصبح هذا النظر الزماني إلى المكان متصل بإحساس ضمني بالمكان الهارب الذي يفلت كما يفلت الزمان[22]
ونعتقد أن شعراء الثورة العربية في الجزائر، كانوا حينما يأتون موضوع “المدينة”، فإنهم يصفونها ويكتبون عنها بإحساس خارجي، بشعور الواصف لا الفاعل، فهم يصفون مدينة موجودة لم يسهمو في صنعها، ولم تبلغ درجة التجربة الشاملة[23]
من هنا تأخذ صورة “المدينة” عند مفدي زكرياء مجالا هاما في شعره، إذ يعيش معها لحظات الإعتراب والغوص في ثنايا الماضي لوصف مرابع الصبا، وأيام الشباب التي قضاها مع الأهل والأصدقاء كما هو الشأن في القصيدة الموسومة بـ” فلاّ عز حتى تستقيل الجزائر” مجسدا فيها الجانب العمراني، ضمن وصف خارجي سطحي، الهدف منه الكشف عن المكان المغتصب، ودعوتها إلى الثورة. يقول الشاعر[24]:
جَزَائِرُ.. مَهْمَا بَاعُدَ الخَطْـــــــــ بُ بَيْنَنَا تُبَاكِرَنِي النَّجْوَى، وَتَهْفُو بِي الذِكْرَى
حَنِينِي إِلى (القَصْبَـــــــاءْ) هَاجَ مَدَامِعِي وَشَوْقِي إِلى (بَلْكُورْ) أَفْقَدَنِي الصَّبْــــــرَا
وَفي حيِّ (بَابَ الوادِ) مَاضِي صَبَاَبِتي تَرَكْتُ(بِبَابِ الوَادِ) مِنْ كَبِدِي شَطْرَا
وفِي (القبةِ الفيحــــــــاءْ)عُشٌّ خَوَاطِرِي تَرَكْتُ بِهَا (لَمَّا أَحَاطُـــــــــــــــــــــــوا بِنَا) وَكْرَا
يبدو، أن النص مضمونيا ينهض على “مواقع الذكريات في طول الجزائر وعرضها وينتشي بها وقد أصبحت مسرحا، يطوق به طوفان المجنون على مرابع ليلى، ويقف بك على الأحياء البارزة في عاصمة الجزائر، ويطيل الموقع في “القبة” مقر سكناه”[25].
وتقوم بنية القصيدة على جملة من العناصر المتآلفة، والبداية فيها بالإشارة إلى ذكرى أول نوفمبر التي أسرعت إليه لتباكره، ثم الولوج إلى بث حنينه الجارف وتسوقه إلى شوارع “المدينة” فالعودة إلى أيام الشباب.
وليس بعيدا عن أجواء القصيدة التي طبعت بطابع وصف الجانب العمراني فيها، ها هو ينتقل في القصيدة ذاتها إلى الاستفسار عن الأشياء التي يتألف منها الوسط الذي كان جزءا لا يتجزأ من كيانه وفي الاستفسار يريد معرفة، هل أن مكونات الوسط ما زالت كما كانت، أم أن آلة الاستدمار قد أزالتها؟
يقول الشاعر:[26]
ألا خبرني ..هل منــــــــــــــــــارك لم يزل يشع على دربي، فيغمره بشــــــــــــــــرا !؟؟
وهل لم تزل في الحقل، سنبلتي التي غرست؟؟ وهل في الحقل زنبقتي الحمرا
وهل لم يزل فيها دجــــــــــاجي وقطتي وكلبـــــــــــــــي توتو رابض يشبه النمــــــــــــــــرا
ومكتبتي والشعــــــــــــــــــــر والغرفة التـــــي أحاط بنا (كوهين) في جوفها ظهرا
يستمر الوجود لتستمر المعاناة في أعماق الشاعر الغريب عن المكان الغارق في ديمومة الصراع بين “الأنا” و”الآخر” إنه الاستفسار عن مدينة “سيرتا” ذات البعد التاريخي الأصيل، والمناظر الطبيعية الجميلة، لينتقل الاستفسار عن جبل “الوحش” مستفسرا عن حاله، إن مازال مبتسم الثغر، أم أن يد الاستدمار امتدت إليه، فحولت اخضراره إلى يابس.
الخلاصة:
نستنتج مما سبق، أن المكان بأبعاده الثلاثة: الجبل، السجن، المدينة، قد لعب دوراً في رفضه المطلق للآخر، ومقاومته لكل أشكال التسلط على الذات الجزائرية، فجاءت شعريته تنبض بالمعنى وجمال المبنى، حيث تجلت تلك الصور أمام الشاعر فنقلها إلينا بأدواته الفنيّة؛ إذ شارك الجبل في فعل المقاومة إلى جانب الإنسان والأمر نفسه ينطبق على السجن الذي أبدع الشاعر في وصفه بمنظار خيالي، كان الدور فيه لشعرية اللغة و المعاني المجازية، دون أن ننسى صورة المدينة التي برزت صورها في شعره، حيث وقف الشاعر على المناظر الجميلة التي حولها المستدمر إلى دمار و خراب.
قائمة المصادر والمراجع
- إبراهيم رماني: المدينة في الشعر العربي الجزائري، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1992، المقدنة، ص أ.
- الأخضر بركة: الريف في الشعر العربي الحديث، دار الغرب، وهران، 2002.
- مصطفي بيطام: الثورة الجزائرية في شعر المغرب العربي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1998.
- مفدي زكرياء : اللهب المقدس، موفم للنشر والتوزيع، 2000.
- نور الدين صبار: موضوعة الأرض في الشعر الجزائري الحديث، في مجلة كلية الآداب، تلمسان، ع ا، سبتمبر، 2000.
- يحي الشيخ صالح: شعر الثورة عند مفدي زكرياء، ط1، دار البعث، قسنطينة، 1987.
- نزيه أبو نضال: أدب السجون، دار الحداثة للطباعة والنشر، ط1، 1981.
- محمد ناصر: مفدي زكرياء شاعر النضال والثورة.
- نور سلمان: الأدب الجزائري بين الرفض والتحرر، ديوان المطبوعات الجامعية، 1982.
- محمد بشير بويجرة : المتن الروائي-المخيال والمرجعية- في مجلة القلم، جامعة وهران، ع1، 2001.
- خالد سعيد: حركية الإبداع، دار العودة، بيروت، ط1، 1979.
- إبراهيم رماني : أسئلة المتابة النقدية المؤسسة الوطنية للطباعة، 1992.
[1]– إبراهيم رماني: المدينة في الشعر العربي الجزائري، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1992، المقدنة، ص أ.
[2] الأخضر بركة: الريف في الشعر العربي الحديث، دار الغرب، وهران، 2002، ص 18.
[3] م، س، ص111.
[4]– ينظر: مصطفي بيطام: الثورة الجزائرية في شعر المغرب العربي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1998، ص 106.
[5]– م، س، ص 108.
[6]– مفدي زكرياء : اللهب المقدس، موفم للنشر والتوزيع، 2000، ص 65.
[7]– م، س، ص 66.
*جرجرا: سلسلة جبال شاهقة ببلاد “القبائل الكبرى” من مجموعة الأطلس الجبار، شيليا: أعلى جبل بسلسلة الأطلس الممتد على الأوراس، سجل فيه المجاهدون أنصع صفحات الكفاح والجهاد.
**”وارشنيس”:جبل بالجبهة الغربية من سلسلة الأطلس، الجيش المعطر صفة أطلقها الشاعر على الجيش الفرنسي، لما رأى فيه من الأنوثة.
[8]– نور الدين صبار: موضوعة الأرض في الشعر الجزائري الحديث، في مجلة كلية الآداب، تلمسان، ع ا، سبتمبر، 2000، ص 27.
[9]– مفدي زكرياء: م، م، س، ص 134.
[10]– يحي الشيخ صالح: شعر الثورة عند مفدي زكرياء، ط1، دار البعث، قسنطينة، 1987، ص 150.
[11]– م، س، ص150.
[12]– نزيه أبو نضال: أدب السجون، دار الحداثة للطباعة والنشر، ط1، 1981، ص 71.
[13]– إبراهيم رماني: م، م، س، ص110.
[14]– مصطفي بيطام: م، م، س، ص150.
[15]– ينظر: محمد ناصر: مفدي زكرياء شاعر النضال والثورة، ص 59.
[16]– نور سلمان: الأدب الجزائري بين الرفض والتحرر، ديوان المطبوعات الجامعية، 1982، ص36.
[17]– مفدي زكرياء، م.م.س ، ص 88.
[18]– م.م.س، ص91.
*يمثل هذا الاتجاه الشاعر المتمرد ” مبارك جلواج” يقول:
“وسجن رمت بي في دجاه يد القضا على غفلة مني ولست بمحبوب
[19]– محمد بشير بويجرة : المتن الروائي-المخيال والمرجعية- في مجلة القلم، جامعة وهران، ع1، 2001، ص20.
[20]– م، س، ص20.
[21]– محمد بشير بويجرة : المتن الروائي-المخيال والمرجعية- في مجلة القلم، جامعة وهران، ع1، 2001، ص20.
[22]– خالد سعيد: حركية الإبداع، دار العودة، بيروت، ط1، 1979، ص130.
[23]– ينظر إبراهيم رماني : أسئلة المتابة النقدية المؤسسة الوطنية للطباعة، 1992، ص78.
[24]– مفدي زكرياء، م.م.س، ص 314.
[25]– مفدي زكرياء: م، م، س، ص 315.
[26]-مفدي زكرياء : اللهب المقدس،ص315.