
قياس التديّن في العلوم الإنسانية والاجتماعية
Measuring religiosity in humanities and social sciences
الباحثة: فاتن أحمد السكافي/الجامعة اللبنانية، بيروت
Faten Skafi/Lebanese University-Beirut
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 58 الصفحة 79.
ملخّص:
هدف البحث الحالي لإلقاء الضوء على مفهوم التديّن، والتركيز على موضوع قياس التديّن بالطرق الكمية والنوعية، حيث تناول بشكل خاص أبعاد قياس التديّن الممارساتية والاعتقادية والتجربة الدينية، مع شرح هذه الأبعاد والصعوبات التي تواجه قياس التديّن ، تلا ذلك خاتمة.
الكلمات المفتاحية: التدين–الدين- قياس- أبعاد- كمي-نوعي
Abstract:
The purpose of the present research is to clarify the concept of religiosity, and to focus on the issue of measuring Religiosity in quantitative and qualitative ways. In particular, it dealt with the dimensions of the measurement of religious practice, belief and religious experience, explaining these dimensions and the difficulties facing the measurement of religion, followed by a conclusion.
Keywords: religiosity – religion – measurement – dimensions – quantitative – qualitative
مقدّمة:
يختلف الدين بطبيعة الحال عن مفهوم “التديّن”، فالدين هو الثابت الإلهي والتديّن هو كيف يمارس الأفراد دينهم. ويختلف الأفراد بحسب الدرجة التي يتديّنون بها ولكن لا يوجد تديّن دون دين، فهما متلازمان. وقد تمّ تعريف التديّن من خلال مفهومه بتعاريف متعدّدة باعتباره ما يقوم به المتديّن من ممارسات وشعائر دينيّة أي المعتقدات والمشاركات الدينية. وقد بدأ القياس العلمي للتديّن بصورة بسيطة حيث كان من اليسير إخضاع التديُّن للقياس، من خلال أبعاده، الاعتقاد والممارسة والعاطفة الدينية والتجربة الدينية…لكن من الملاحظ أن هناك نقصاً ملحوظاً في وسائل قياس الظاهرة الدينية، رغم أهمية هذه الظاهرة، ربما بسبب حساسية هذه الظاهرة والصعوبات المنهجية في طريقة القياس والتداخل بين الممارسات الدينية والبيئية. وتأتي النقطة الرئيسية في قياس أبعاد التديّن من خلال مختلف الأبعاد، وبتقنية تجريبية محددّة، كالاستمارة أو تقنية الاستجواب. وقد جرى قياس التديّن بداية على الممارسة الدينية وأبعادها، ثم على الاعتقاد وتنوّعاته، وبقي السؤال مطروحاً حول قياس التجربة الدينية التي تعّبّر عن المعرفة بالله أو بشيء مفارق ومتعال أو حالة مطلقة أو أمر جنائي كمعرفة حضورية شهودية أو كنوع من الظواهر النفسية والمعنوية تتجلّى للإنسان عبر تأمّلاته في ذاته أو مشاهدة يد الله وتأثيره المباشر دون وسائط في الحوادث الخارقة والمعاجز والكشوف وكرامات الأولياء واستجابة الدعاء… وتتمثّل الوسائل الأكثر رواجاً لقياس التجربة الدينية في التنويعات الخاصّة بها كالتنويعات الجوهرية والإسمية والقياسية وتنوّعات السياقات. وتبدو التجربة الدينية في أعين الدارسين تجربة ثريّة نموذجية، تجربة عميقة، تملأ الوعي الفردي، ليس لها أبداً شكلاً ثابتاً خالصاً كاملاً، فهي دوماً تتأثر بواقع حياة المتديّنين وغير المتدينين. ويقدّر العديد أن هذه التجربة الدينية نموذجية، يمكن أن تتفجّر في لحظة ما من حياة الفرد لتخلّف مواقف وسلوكيّات منتظمة. وهناك بعداً جماعياً غنياً للتجربة الدينية، لا يجوز إغفاله، من مثل ما يحصل في ممارسات كالعبادة والصوم والحج وتكريم الأسلاف وما يحصل من تعامل المتديّن مع سواه مما يندرج أيضاً تحت هذا النوع من التجربة الدينية الجماعية، كالأخلاق مثلاً.. فللتجربة الدينية بعدين: فردي وجماعي. كما وتمّت دراسة المنهج النوعي في قياس الظاهرة الدينية وتبعاً لذلك الشكل جرى تطوير علم اجتماع نوعي حقيقي وفعلي من خلال التحليل الظواهري والمنهج الاجتماعي ودراسة أشكال المحادثات في الحالات الخاصة (ضمن العائلة، ضمن الأتراب، أو في تجربة شعائرية لحركة دينية). وسنتناول في هذا البحث مفهوم التديّن باختصار وننتقل بعده لشرح طرق قياس التديّن من خلال أبعاده كميّاً ونوعياً، بهدف توضيح هذا النوع من القياس الذي لا زال غامضاً لدى كثير من الناس، وذلك نظراً لأهميته في حياة الأفراد النفسية والاجتماعية وتأثيره على المجتمعات سواء بشكل إيجابي أم سلبي. ويلي ذلك خلاصة نقدية تلقي الضوء على ما تمّ تناوله في البحث.
مفهوم التديّن:
أنّ ما يسميه ترولتش (Ernst Troeltsch ,1865 – 1923)”الفكرة الدينية ” يتقاطع مع ما يُسمى الجوهر الأصلي للدين أو “الدين في ذاته”، وما يسميه ” محتويات ثقافيّة، يتقاطع مع ما يسمّى الشق الاجتماعي المتغيّر أو “التديّن”. وفيما فرض التطور الاجتماعي على المضامين التشريعية والطقوسية أن تتعدّد بتعدد الديانات، وتتغيّر ضمن الديانة الواحدة بتغيّر الأزمان، بل وتتلاشى كلياً في بعض المراحل الحداثية داخل سياقاتها التوحيدية الخاصة، فرض الجوهر الأصلي للدين في ذاته داخل السياقات التوحيدية المتعددة، رغم تطور الهياكل الكليّة الاقتصادية والاجتماعية والعقلية أكثر من مرّة خلال التاريخ المقروء، بما في ذلك التطور الأخير الذي تمثلّه الحداثة العلمية. ولكن ذلك لا يعني أن الجوهر الأصلي “للدين في ذاته” يسلم من فعل المؤثرات الاجتماعية، فهو ينبصم داخل كل ذات فردية ببصمتها الخاصة لدى إدراكه ولدى التعبير عنه، وينبصم مرة أخرى ببصمة الذات الجماعية حين يتحوّل التديّن إلى رابطة جماعية ذات طابع كلّي (مجتمعي).[1]
إنّ الدين واحد، والتديّن متعدّد من حيث المستوى والنمط، أي إنّ التديّن يختلف بحسب الدرجة فنجد التديّن الشديد، والتديّن المعتدل؛ وكذلك نمط التديّن ، بمعنى تأكيد المتديّن جانباً من جوانب الدين أكثر من الجوانب الأخرى ، ولا يوجد تديّن دون دين، فهما إذن متلازمان[2].
وكذلك كانت هذه الممارسات والسلوكات الدينية معقل تعريف “سانت جيمس” S.Jamesللدين والذي صرّح هو الآخر بضرورتها وأهميتها قائلا : “إن العقيدة التي لا تدور حولها أي شعائر أو طقوس تموت لأنها تكون وحيدة منعزلة، ومن ناحية أخرى فإن الشعائر والطقوس المجرّدة من كل اعتقاد ديني ، ليست من الدين في شيء”.[3]
أما القواميس الحديثة المتخصّصة فهي محتشمة في معظمها للتطرّق إلى مفهوم التديّن. ماعدا ما ذكره “محمد عاطف غيث “من أن التديُّن هو”الاهتمام بالأنشطة الدينية والمشاركة فيها..أو هو الإشارة إلى مجموع السلوك والاتجاهات التي يحكم عليها باعتبارها دينية في جماعة أو مجتمع” ثم يستدرك صعوبة وضع تعريف دقيق للتديّن لينطلق مما انتهى إليه “جيمس فريزر” في حديثه عن تعريف الدين – فيقول “إنه من العسير وضع تعريف عام للتديّن طالما أن الأديان المختلفة تؤكد على سلوك متباين وقيم متنوعة. ولهذا يمكن تعريفه إجرائياً في حدود درجة مشاركة الفرد في الطقوس الدينية”.[4]
كما عُرّف التديُّن في الغرب على أنّه:
– صفة للشخصية تعود إلى توجهات عقلية عن الحقيقة الواقعة وراء نطاق الخبرة والمعرفة، وعن علاقة الفرد بهذه الحقيقة والتوجهات موجهة ضمناً لكي تؤثر على الحياة الدنيوية اليومية للفرد، وذلك بمشاركته في تطبيق الشعائر الدينية. [5]
-حالة كون الفرد مرتبطاً بدين.[6]
-جانب مهم من الدين الذي كثيراً ما ينظر إليه على أنه كثافة المعتقدات والمشاركات الدينية .[7]
قياس التديّن:
بدأ القياس العلمي للتديّن بمسميات بسيطة عن الانتماء مثل الكاثوليك و البروتستانت ، أو اليهود، ولقد اعتبرت هذه مقاييس جامدة حيث أنها تتجاهل المدى الواسع للتنوع في سمات التديّن وممارساته لدى هذه المجموعات العريضة [8].
على الرغم من توافر الاختبارات النفسية التي تقيس الجوانب المعرفية والوجدانية والممارساتية في السلوك الإنساني، إلا أن هناك نقصاً ملحوظاً في وسائل قياس الظاهرة الدينية، رغم أهمية هذه الظاهرة وما تشغله من مساحة في التكوين المعرفي والوجداني والممارساتي للإنسان، أياً كانت انتماءاته أو إتجاهاته: ويمكن إرجاع ذلك إلى أحد الأسباب التالية، أو إليها مجتمعة:
-حساسية دراسة الظاهرة: التي ترجع للحساسية الخاصة التي تكتنف الموضوع وما يحوطه من محاذير وصراعات، صعوبة أن يكون الباحث موضوعياً بدرجة عالية في هذا المجال المشبع بالمعتقدات والوجدانيات، صعوبة إلمام اللازم من قبل الباحث بالعلوم النفسية والعلوم الدينية في آن واحد، انخفاض مستوى الوعي الديني لدى كثير من العاملين في مجالات الصحة النفسية مما يؤدي للعزوف عن دراسة الظاهرة الدينية والسلوك التديّني في مجال الصحة النفسية.
-صعوبات منهجية في طريق القياس: لا يخلو الأمر من صعوبات منهجية حقيقية في طريق قياس السلوك التديّني نذكر منها: كون الخبرة الدينية شديدة الخصوصية ولها أبعاد داخلية عديدة، ونظراً للمكانة الخاصة للدين على المستويين الفردي والاجتماعي فإن الشخص ربما لا يستطيع ان يعبّر عن اتجاهاته نحو الدين والتديّن، وكذلك الاختلافات الهائلة بين مختلف الأديان وحتى بين مختلف الطوائف في أصحاب الدين الواحد من ناحية المفاهيم والمعتقدات والممارسات فإنه يبدو من الصعوبة بمكان تصميم مقياس عالمي موحّد، بل إنه من الصعوبة أن تطغى عدّة مقاييس مساحة واسعة من العالم، صعوبة قياس العامل الأهم في كل الديانات وهو الإيمان وهو اعتقاد قلبي وله جوانب وجدانية متشعّبة، وتعدّد أبعاد الخبرة الدينية مما يتطلّب مقياساً أو مقاييس تغطي كل هذه البعاد مع إعطاء كل بعد الأهمية المناسبة له.
-التداخل بين الممارسات الدينية والبيئية: عند التعامل مع الظاهرة الدينية والسلوك التديّني المترتّب عليها فإننا لا نتعامل مع “الدين” في ذاته، وإنما نتعامل مع نتاج تفاعلات عديدة بين المعتقدات والممارسات الدينية وبين المفاهيم والعادات والأعراف البيئية، وأحياناً نجد الأولى سائدة ويكون ذلك مؤشراً على الاتجاه بقوة نحو المفاهيم والعادات والأعراف الاجتماعية. لذلك فالباحث سوف يجد نفسه أمام تداخلات هائلة في أكثر المجتمعات، والمطلوب منه أن يقوم بعملية تنقية وتنقيح حتى يتأكد أنه يتعامل مع السلوك التديّني فعلاً، وليس السلوك البيئي أو العرقي المصطبغ أو المغطّى بقشرة دينية.[9]
وقد قام كل من الدكتور عادل الدمرداش والدكتور عبد الرقيب البحيري (1988) ببناء مقياس الوعي الديني للبيئة العصرية العربية. وفي الثقافة العربية الإسلامية كانت المحاولات على هذا الطريق قليلة نسبياً على الرغم من طبيعة الدين الإسلامي والتي تحلّ إشكالية صعوبة أو استحالة قياس الجانب الإيمانية في التديّن، حيث الإيمان مرتبط ارتباطا وثيقاً بالعمل وليس مجرّد سبحات روحية داخلية وهذا يسهّل المهمة على الباحث حيث يجد في السلوك شواهد عديدة تعطيه فرصة –لو أحسن قياسها- على تقييم الشخص المفحوص بدرجة معقولة [10].
قياس أبعاد التديّن:
يكون من اليسير إخضاع التديُّن للقياس، على إثر حصر مختلف أبعاده، وذلك باستعمال مناهج عدّة. وبالفعل فمسألة قياس التديّن تضعنا أمام “موضوع” متعدّد الأبعاد، يمكن إلحاق كل واحد منها (مثلاً الاعتقاد) بأبعاد أخرى صغرى مثال: الإيمان بإله، اعتناق مذهب ديني، الإيمان بنظام من التعاليم والسلوكيات الأخلاقية أو الاجتماعية…وبالخصوص تخصيص سلّم لكل بعد .[11]
تأتي النقطة الرئيسية في قياس أبعاد التديّن الأولى التي ننطلق منها على صلة بتبدّلات مختلف الأبعاد، في الصنف أو الأصناف المختلفة. فحين نتحدّث عن الأصناف نستند ضمنياً ، إلى تقنية تجريبية محددّة، الاستمارة أو تقنية الاستجواب. بداخل الوسيلة الدارج استعمالها في علم الاجتماع-الاستمارة- تتميّز ثلاثة أنواع من ” الأسئلة” المتضمنّة، غايتها اختبار بشكل كمي وإحصائي فرضيات بحث محدّدة : الأسئلة الحصرية، الأسئلة المطلقة والأسئلة المحدّدة. ولاستئناف الحديث عن أبعاد التديُّن ، تبدو معالجة ذلك من خلال الأصناف، وبالتالي عبر السلّم البياني، ويبدو طريقاً منهجيّاً جليّاً في العلوم الاجتماعية. (عموماً يستدعي كل سلّم معدّلاً من خمسة إلى عشرة تنوّعات)، وهو ما يعني توسيع “الشبكة” المثلى للمعلومات، التي نشرع في البحث عنها بغرض قياس ظاهرة التديّن، التي ليست هيّنة الإحاطة بها. ونتيجة ذلك، يكون العمل استناداً إلى السلّم، أكثر جدوى من معالجة الأصناف منفردة:
-عزل تلك الأصناف فقط، التي تقيس (أو بالأحرى التي نقدّر أنّها تقيس) الأبعاد التي نرمي إلى اختبارها.
-تجميع مجموعات الأصناف المتلائمة مع البعد الذي نرنو قياسه.
-إعطاء “وزن” لكل صنف على حدة (وزن بمعنى تفسيري سواء ضمن مدلول مفاهيمي أو ضمن سياق إحصائي).
– قائمة أنواع الرسوم البيانية التي استعملتها العلوم الاجتماعية ووظّفتها طويلة، غير أن الأكثر شيوعاً في فضاء البحث الاجتماعي الديني، هي رسومات “غوتمان” التنظيمية، أو التابعة لــــ”ليكرت” شبه التنظيمية وتلك المسماة اعتباطية، وهي عموماً إسمية.[12]
جرت الدراسة على الممارسة الدينية في الثلاثين السنة الماضية وتتلخّص العناصر التي تدخل ضمن تلك الخلاصة في النقاط التالية:
-وجود سلطة دينية مكلّفة بضبط الانسجام بين المواقف العقدية والسلوكيات الطقوسية.
-وجود مجموعة من الطقوس يجري تكرارها دورياً، مع الاحتفاء بها في أماكن مقدّسة محدّدة.
-ثنائية بين من يتولّى تسيير فضاءات الممارسة الدينية وبين من له دور المشاركة في أداء تلك الطقوس، وهو ما لا يعني دائماً فصلاً أو تعارضاً.
ويُدرك على ضوء العناصر الثلاثة المذكورة : السلطة والطقوس والجهاز الكهنوتي، كيف تشكّل الممارسة الدينية مؤشراً على الانتماء…أما الأبعاد التي ينبغي قياسها فتُضبط على الشكل التالي:
-المشاركة في الطقوس وفي خدمات الجماعة، التي تقدّر السلطة الدينية أنها رسمية ومفروضة…
-المشاركة في أداء طقوس عملية ، يمكن إتمامها فقط ضمن اشكال محدّدة في فضاءات عمومية معلومة…
– المشاركة “الخفية” والطوعية، المتمثّلة في الأنشطة الموكولة إلى مبادرات الأفراد، مثل ترديد الأدعية ، وترتيل بعض المقاطع المأثورة، والتأمّل في النصوص المقدّسة أو الممارسات النسكية الخاصة وما شابهها. ويبدو التمييز بين الممارسة المرئية والممارسة الخفيّة مهماً، منذ اللحظة التي تظهر فيها الثانية اكثر عمقاً واكثر انتظاماً من الأولى. فبحسب مختلف السياقات الدينية، يمكن الحصول على تنّوعات في الممارسة الطقوسية، لكن بالتأكيد على بقاء بعض العناصر ثابتة ، وبالخصوص اثنتان: فعلى مستوى أوّل، يختبر الأفراد في الممارسة درجة الإلزام الجماعي التي يفرضها الظرف الاجتماعي الديني على مستوى واسع؛ وعلى مستوى ثان، يمكن أن يعبّر إلى جانب وظيفته الأساسية والجوهرية المتمثّلة في إظهار نوع من التجربة والاعتقاد الديني، عن غيرها من الوظائف ذات الطابع السياسي والثقافي…[13]
ومن أبعاد الممارسة الدينية:
أ- يتعذّر علي عيش التجربة الدينية خارج المؤسسة الكنسية الخاصة.
ب- أخصّص ما يزيد على الساعة أسبوعياً لقراءة الكتاب المقدّس.
ث- أشارك على الأقل ثلاث مرّات إلى أربع في طقوس السبت بالبيعة، بالنسبة إلى اليهود.
ج-فقط رجل الدين بإمكانه إتمام طقوس الزواج الديني.[14]
أما عن التنّوعات التي عادة ما تُستعمل لتحديد البعد الاعتقادي ، فتتعلّق بالأوجه التالية:
-اعتقاد في كائن قدير ومفارق.
-اسم يميّز ذلك الكائن.
-درجة تحدّد مستوى الاعتقاد في ذلك الكائن.
-اعتقاد في ذلك الكائن يأتي ضمن السياق الاجتماعي الثقافي الذي يستند إليه المستجوب (يغلب عليه الطابع الكاثوليكي، أو الطابع البروتستانتي، أو الصوفي، إلخ…)
-اعتقادات لها صلة : عن الشرّ وتبريره (العدالة الإلهية)، عن الخلاص (إن كان ثمّة حديث عن ذلك السياق الديني) ، عن أصل الكون، عن النظام الاجتماعي السائد، وهكذا دواليك.
فالاعتقاد ضمن خط عام، هو نوع من الإدراك المستقل والمتميّز عن المعرفة، المبنيّة على أساس عقلاني وعلى الوضوح التجريبي. وبهذا المعنى يمكن القول إن الاعتقادات هي صياغات-صيغت عبر كلام- يُبدي نحوها الفرد أو المجموعة رضى تاماً، ذهنيّا وشعوريّاً، تعدّ في كافة الحالات صادقة وجليّة وفي منأى عن التشكيك.[15]
غير مباشرة | مباشرة |
-إيمان بالعلاقة الرابطة بين وجود الشرّ ووجود الشيطان. -الغنى والفقر عطيتان من الرب. اهتمام بالمعاني التالية: -وجود الله. -ما يحدث بعد الممات. -إن للحياة هدفاً. -إن للكون مصدراً. | -الاعتقاد في كائن أعلى . -الاعتقاد بأن العالم خلقه كائن أعلى. – الإيمان بكتاب مقدّس. -الإيمان بالآخرة. -الإيمان بأن الشرّ والموت هما ثمرتا خطايا جوهرية. -الإيمان بأنبياء مخلصين أو بمؤسسي أديان.[16] |
شكل رقم (1) يلّخص العلامات المباشرة وغير المباشرة للاعتقاد الديني
يبقى السؤال مطروحاً، كيف السبيل إلى قياس التجربة الدينية؟ وما هي التجربة الدينية؟
التجربة الدينية :
“التجربة الدينية” مصطلح يستعمل في حقول الإلهيات، وفلسفة الدين، وعلم نفس الدين، وظاهريات الدين، لصنوف ثلاثة من الظواهر على الأقل: الأول نوع من المعرفة المباشرة غير الاستنتاجية، تشبه المعرفة الحسّية. معرفة بالله أو بشيء مفارق ومتعال أو حالة مطلقة أو أمر جنائي. لا يتمخّض هذا النوع من المعرفة عن استدلال أو استنباط، ومن ثم فهو ليس معرفة غيبية لله، بل هي معرفة حضورية شهودية. الصنف الثاني نوع من الظواهر النفسية والمعنوية تتجلّى للإنسان عبر تأمّلاته في ذاته. ويعتبرها المؤمنون والمتديّنون حصيلة المعرفة والميل الذاتي الفطري للإنسان نحو الله. فالمؤمنون والمتديّنون يعتبرون النزعات والطموحات والآمال والتطلعات والشهود الروحانية والمعنوية لدى البشر ، وشعور الإنسان بالارتباط بشيء غير مرئي، كلها حالات لا تقبل التبيين ولا الإيضاح، إلا إذا وافقنا على مقولة الفيلسوف الألماني “رودولف أويكن” (Rudolf Euken,1926-1846) “تنشط في داخلنا قدرة فوق الإنسانية تحررّنا من الحدود الضيقة لوجودنا وحياتنا الفردية الخاصة، وتنفخ فينا روحاً جديداً وتغيّر من علاقتنا مع أبناء جلدتنا”. الادعاء هو أن الظواهر النفسية والمعنوية لا تقبل التفسير إلا بافتراض موجود ما فوق البشر تطلق عليه أسماء متعدّدة منها “الله”، وهذا هو سرّ تسمية هذا النوع من الظواهر ب”التجربة الدينية”. أما الصنف الثالث فهو مشاهدة يد الله وتأثيره المباشر دون وسائط في الحوادث الخارقة والمعاجز والكشوف وكرامات الأولياء واستجابة الدعاء. مثلاً من يُلاحظ اختفاء غدّة سرطانية بشكل مفاجئ من جسم ابنه المريض، فكأنه يشاهد تدّخل الله في شفاء ابنه بعد ما طلب إليه ذلك في الدعاء. هذه الصنوف أو الأنواع الثلاثة تسمى تجربة؛ لأن فيها جميعاً معرفة مباشرة ومشاهدة. وكل ما في الأمر أن هذه المعرفة تكون تارة معرفة بالله ذاته (النوع الأول)، وتارة بالظواهر النفسية والروحانية (النوع الثاني)، وتارة ثالثة بالتأثير المباشر لله في بعض الحوادث (النوع الثالث). أما صفة الدينية الملحقة بهذه التجارب فمردّها حسب الادعاء إلى كونها تشهد بالصحة لبعض القضايا الواردة في النصوص المقدسّة للأديان المختلفة. [17]
تتمثّل الوسائل الأكثر رواجاً لقياس التجربة الدينية في الرسوم البيانية، وللأصناف التي تشكّل الإطار أربعة تنوعّات:
-تنويعات جوهرية: تقيس أنواع العواطف التي تثيرها تجربة المقدّس في الأفراد، الذين يعربون عن معانقتهم تلك التجربة.
-تنويعات إسمية: ترتّب المفاهيم التي ينسبها المستجوبون إلى الواقع “المغاير كليّاً” الذي يختبرونه.
-تنويعات قياسية: تسمح بالفهم، إن كانت العواطف أو التجارب المكابدة من طرف فرد أمام المقدّس هي متشابهة أو مختلفة، مقارنة بغيرها من الحالات أو الأوضاع غير العاديّة أو متماثلة من النوع نفسه.
-تنويعات السياقات: تسعى لتوضيح الأوضاع التي يروي من داخلها الفرد تجربته مع المقدّس(كما هو الشأن أمام الزمن-دورة الحياة- ، في اللحظة التاريخية وفي الفضاء وفي الأوضاع الاجتماعية المحدّدة).[18]
وفي كل الحالات تبدو التجربة الدينية في أعين الدارسين تجربة ثريّة نموذجية، تجربة عميقة، تملأ الوعي الفردي، فيمكن أن تفكّك إلى العناصر التالية، والقابلة في مجملها إلى الترجمة ضمن مؤشرات:
-قناعة ذاتية بحضور قوّة خارقة.
-مشاعر التملّك والانجذاب والامتلاء من جانب القوّة.
-سلوك مسلك جديد في الحياة ، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، منذ اللحظة التي يحدث فيها ذلك “اللقاء”.
-تقلّص المشاعر النفسية السلبية ، مثل الضيق والجزع والتوتّر، إلخ…
وما له صلة بالنقطة الأخيرة خصوصاً، أن المسألة لا تزال قيد البحث، وفعلاً فعلاقة الترابط بين حضور التجربة الدينية وتقلّص الضيق أو الجزع، هو في الحقيقة ليس حكراً على الدين، فالدين حين يُعاش بطريقة ذاتية، وبشكل عميق، يمكن أن يحدّ من مستويات الجزع، لكن الأمر ليس ثابتاً، ما لم تدعمه اختبارات موسّعة تجري على عيّنات من الناس، وهو ما لم يتم حتى الظرف الراهن.[19](أكوافيفا وباتشي، مرجع سابق، 94)
ومن الأبعاد التي جرى اختبارها للتجربة الدينية:
أ- تمنح التجربة الدينية حياتي هدفاً لم أجربّه في غيابها.
ب-غالباً ما أحس بالقرب من الله.
ت- يمنحني الدين إحساساً بالأمان أمام الموت.
ث- يمنحني الدين تأويلاً مجدياً للوجود البشري.
ج- في التجربة الدينية يعدّ الاعتقاد بوجود كائنات مفارقة تمنح الحياة معنى أساسياً.[20]
وبما أن الدّين من خلال هذه المستويات قد لا يبرز كظاهرة اجتماعية حينما يكتفي أفراد المجتمع بالمستويين الشعوري والاعتقادي. فمظاهر الدين المتعددة تجعل إدماجه واعتباره ظاهرة اجتماعية صرفة هو مجازفة علمية. فهو قد يكون ظاهرة نفسية حينما يكون في المستوى الأول ويكون ظاهرة فكرية فلسفية حينما يكون تصوّرا واعتقاداً…إلخ[21].
وما عادت الممارسة تمثّل الجوهر المرئي للمشاركة في حياة المؤسسات الدينية، ولا العلامة الجليّة لوجود تجربة دينية فردية أو جماعية بين أفراد الجماعة أيضاً. فعادة ما تترافق مع تراجع الممارسة ، في المجتمعات المتقدّمة، فرص اكتشاف أو تجريب أشكال مستجدّة من التديّن. [22](Wuthnow,1978;Hervieu-Leger,1989;Ferrarotti,1990)
إن التجربة الدينية ليس لها أبداً شكلاً ثابتاً خالصاً كاملاً، فهي دوماً تتأثر بواقع حياة المتديّنين وغير المتدينين، والإلهيات بدورها معرّضة دائماً- بدل الإفصاح الحقيقي عن ذلك الخطاب-للقيام بتغطيته أو تحريفه. في المستوى المتعالي من الحياة، يجرّب الإنسان حقيقته هو وحقيقة العالم اللامتناهي، إن الحقيقة تجرّب في ذلك المستوى المتعالي، بحيث يتّحد الإنسان مع العالم والله، يتحرّر من التناهي ويغدو جزءاً من اللامتناهي. إن هذه التجربة هي تجربة الغنى والشفاء من كل الأوجاع البشرية، إنها تجربة التخلي عن الأنا المحدودة، وتحقيق أنا لا محدودة. إن التجربة الدينية تتصل بمجمل وجود الإنسان.وبالطبع فإن تحقق هذه التجربة فعلياً وقف على الخواص، وهي ليست دائمية حتى بالنسبة للخواص، أما عامة الناس فالظاهر أنهم محرومون من مثل هذه التجربة. على أن النقطة المهمة هي أن ما يلتزم به عامة الناس من مفاهيم وقيم وأحكام عبادية وشعائر، وتكون لها آثارها النفسية والأخلاقية عليهم وعلى المجتمع، لا بد أن تكون وليدة التجربة الدينية للخواص وتابعة لها، لا أن تنبع من حفنة أفكار بلا أساس أو تقاليد ورسوم وعادات مجتمعة صرفة. وفي هذه الحالة فقط يمكن الدفاع أخلاقياً وعقلياً عن الدين كمؤسسة اجتماعية.[23]
ويقدّر العديد أن هذه التجربة نموذجية، يمكن أن تتفجّر في لحظة ما من حياة الفرد لتخلّف مواقف وسلوكيّات منتظمة. فالشيء اللافت في هذه التجربة، أنّها تجربة تفكيكيّة، تبدع منظومة جديدة من الأفكار ومن القيم، وتوجّه فعل الأفراد الذين يعيشونها. [24]
المؤشرات المباشرة -تجربة ذاتية لقوة خارقة: أ- تولّد مشاعر امتلاء، أماناً، زهواً، او بالعكس خشية، إحساساً بالغرابة والوهن. ب- تقود إلى تغييرات في الحياة العاطفية، والأخلاقية ، وفي السلوكيات اليومية: -توجّه مستجد للقيم. -إحساس بالغبطة. – أمان داخلي. | المؤشرات غير المباشرة -أحاسيس وتجارب مماثلة ضمن سياقات أخرى. -تجارب دائرة الغرام (العشق) الكلف الجنسي، إلخ. – تجارب المتعالي والآسر في الطبيعة وفي عالم الفن. |
شكل رقم(2) يبيّن المؤشرات المباشرة وغير المباشرة للتجربة الدينية
وبعبارة أخرى ليس التأمّل المتعالي تجربة، بل صيغة يتعلّمها الفرد، من خلال دورة تعليمية مدفوعة الأجر، تخلّف قدرات للتحكّم بحالات الضيق. وهناك دراسات تبيّن كيف أن الممارسة المعنيّة تهفّت مستويات الضيق والتوتر الحادّة وتساعد على بلوغ العافية. وبناء على ما ذُكر، يمكن القول أن لهذه الدراسات عن التجربة الدينية يعود بالأساس إلى نداء “الجسدانية” إلى عشق تجربة المقدّس.[25]
لكن هناك بعداً جماعياً غنياً للتجربة الدينية، لا يجوز إغفاله، فما يحصل في ممارسات كالعبادة والصوم والحج وتكريم الأسلاف هو كلّه من قبيل التجربة الدينية الجماعية. وما يحصل من تعامل المتديّن مع سواه يندرج أيضاً تحت هذا النوع من التجربة الدينية الجماعية. فالأخلاق، بالنسبة للمؤمن، تشكّل جانباً مهماً من تجربته الدينية، حتى أن الدين في أحد وجوهه، هو المعاملة، كما في التعبير الإسلامي. يضاف إلى هذا ان الفرد، بطبيعته كائن اجتماعي، الأمر الذي يعني أن لكل تجربة ، بما فيها تلك التي تسمى فردية، بعداً جماعياً. فالفرد ، حتى في تأمله الصامت وصلاته الخاصة، يطلب أحياناً كثيرة للآخرين. وقد وجد “جيمس” نفسه نوعاً من الوحدة بين التجارب الدينية، الأمر الذي يضفي على التجارب الفردية، ليس في الدين الواحد بل في الأديان كلّها، بعداً جماعياً كبيراً. فهناك عنصران رئيسيان تدور عليهما تجارب الناس الدينية، هما الشعور بالسقوط والحاجة للخلاص. وإذا نظرنا إلى التجارب الدينية الجماعية، نجد أن لها بعداً فردياً. فإن كان الدين خلاصاً من وضع شاذ، فعملية الخلاص هذه ، في التحليل الخير، نتيجة اقتناع شخصي يحصل في أعماق الذات أو في الضمير. وإن أي ممارسة دينية جماعية، من تلاوة مشتركة لدساتير الإيمان وطواف حول الأماكن المقدّسة وما إلى ذلك ، قد تنحلّ إلى طقوس شكلية فارغة، تنتمي إلى الدين الخارجي أو دين المؤسسات، ما لم تنبع من حرارة القلب. هكذا نستطيع القول بأن التجربة الدينية ذات بعدين: فردي وجماعي، وأن كلا البعدين يكمل أحدهما الآخر، من هنا يمكن تعديل التعريف الذي اقترحه “جيمس” للدين ليصير كالآتي: الدين هو ما يفعله الأفراد في وحدتهم في ما بينهم، انطلاقاً من علاقاتهم مع ما يعدّونه إلهياً. ولئن بدا البعد الفردي، حسب تحليل “جيمس” بعداً مثالياً ومنقذاً للتجربة الدينية، من العثرات التي تقع فيها، فالواقع أن لكل من البعدين الفردي والجماعي انحرافات كثيرة ممكنة. وإذا أخذنا حقلاً واسعاً جداً من حقول التجربة الدينية التي تنطبق عليها صفتا الفردية والجماعية في آن معاً ، وهو حقل الظهورات والرؤى والخوارق، لوقعنا فيه على الكثير من التجارب التي تجعل من الدين ممارسة غريبة في حياة الإنسان، أقرب ما تكون إلى المرض النفسي الحادّ. فكم من شخص في مصح للأمراض العقلية روى أن أحد الأنبياء حالٌّ فيه، أو زعم أن ما ينطق به هو وحي من الله. ولا تقتصر هذه الظواهر على دين واحد، بل نجدها في كل الأديان وهذا يحيل تفسيرها،أو على الأقل تفسير عدد كبير منها، على العلوم الطبية والنفسية، لا على اللاهوت.[26]
المنهج النوعي في قياس الظاهرة الدينية:
منذ سنوات تدعّم خطّ بحث هدف أساساً إلى دمج المقاربة الكميّة في التحليلات، عبر توظيف أدوات الإحصاء، مع منهجية ذات طابع نوعي. وتبعاً لذلك الشكل جرى تطوير علم اجتماع نوعي حقيقي وفعلي. وقد عرف ذلك المبحث تطوراً كبيراً في الولايات المتحّدة فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. والموضوع المحبّذ فيه، هو التفاعل في الحياة اليومية للأبحاث التي أُجريت من طرف علماء الاجتماع الأميركيين. سلّط علماء النفس الاجتماعيون “النوعيّون” الضوء على أن ذلك النشاط من البحث يمثّل شكلاً من التفاعل…ففي اللحظة التي تجنح فيها الاستمارة للإحاطة بحالة مجرّدة ومصطنعة، تكون الإجابات التي نحصل عليها من النوع الخاضع للتفاعل الذي يسود أثناء الحوار. لذلك لا تصير ردود الأفعال القولية للمحاوَر جديرة بالاهتمام فحسب، بل هناك أيضاً أشكال التعبير الأخرى الصامتة (قسمات الوجه، الاستطرادات، نبرات الصوت، سلوكيات المحاور مع محاوره، وهكذا دواليك). وتحدّث “غوفمان” (Goffman,1975) في هذا السياق عن أهمية “الإطار” الذي يجري ضمنه التفاعل. لقد أرسيت أنماط ثلاثة من التحليل التجريبي من قبل علم الاجتماع النوعي:
– التحليل الظواهري الذي يرنو إلى كشف الافتراضات الإيديولوجية أو نظم القيم المحيطة بعملية التفاعل.
– المنهج الاجتماعي الذي يهتم بالشكل الذي ينظّم به الأفراد تدّفق المعلومات الإخبارية في الحياة اليومية.
– دراسة أشكال المحادثات في الحالات الخاصة (ضمن العائلة، ضمن الأتراب، أو في تجربة شعائرية لحركة دينية).
وترد في هذه الدراسات ، ملاحظة قيّمة وهي إن اردنا الإحاطة بحقيقة أية ظاهرة اجتماعية (في حالتنا تحت تسمية السلوكيات الدينية)، يستوجب العمل بجهد لبناء الظرف الذي يجري فيه الموضوع أو المواضيع التي تستعمل رموزاً أو أحكاماً قيمية، تستند في مضامينها إلى تواجد منظومات دينية. وأن نوفق في “التماهي مع المحاور” …وهو ما يعني عملياً المرور من استعمال وسيلة نموذجية مثل الاستمارة إلى سلسلة من التقنيّات ذات الطابع اللّين والمرن التي ينبغي تحويرها بغرض بلوغ نتائج مقنعة في البحث. وتتمثّل التقنيات المعروفة السائدة في شكلين: المقابلات والمعاينات. ويتمثّل الاختلاف مع المناهج الكميّة، أساساً في كون التقنّيتين تبحثان لتجميع المعلومات القيمة ( ووقتياً خالية من التعميم) على مجموعة من الأفراد تشكّل منطقياً فرعاً معتبراً من الواقعة المزمع دراستها. فإن أردنا مثلاً الإلمام بالتفاعل بين رجال الدين والمدنيين في سياق اجتماعي ديني محدّد، يمكن استعمال، جانب الوسائل التقليدية للتحليل الكمّي، المتوجّه إلى قياس درجة التفاهم المتبادل أو الثقة، حوارات مقتصرة أساساً على جماعات منتقاة من الكهنة أو الخوارنة ومع مجموعة مختارة من الناس العاديين الذين ينشطون في الجماعات أو الجمعيات التابعة للأبرشية…ويتم تجميع المعلومات التي تعني البحث وتسجيلها ضمن ملف معدّ سلفاً ، إن كان هناك تعاون أو تصارع، نوع التفاعلات الحاصلة، كيفية توزّع الأدوار الاجتماعية وغيرها داخل المجموعة المعاينة، كيف تنظر المجموعة إلى ذاتها مقابل العالم الخارجي، وهكذا دواليك)… وهناك تقنيّة تحليل أخرى مهمّة تتلخّص في السير الذاتية(Bertaux,1981) . تتعلّق بتحليل الروايات الشخصية التي يسجّلها الباحث في البداية (عادة بواسطة جهاز تسجيل) لمجموعة من الأفراد دُعوا إلى نفض ذاكرتهم أو لرواية أسلوب عيشهم، استناداً إلى أحداث مهمّة أو إلى جوانب محورية في الحياة (العلاقات العاطفية، الدين، العلاقة بين الحياة اليومية والأحداث لكبرى التي تنعكس تاريخياً على الأولى، وهكذا). ينبغي لسيرة الحياة أن تستجيب للشروط التالية: أن تغطي مجمل حياة الفرد، وأن تنجح في كشف، ليس فقط الأحداث التي عاشها الفرد، بل أيضاً الأحاسيس ، التأمّلات ، الخلفيات الرمزية التي لها صلة بالواقع، وأن تخضع للمقارنة فيما بينها، بمعنى يمكن مراقبة الحدث نفسه. [27]
خاتمة:
تطرح عملية قياس التديّن صعوبات منهجية على قدر كبير من الأهمية، ذلك أنّ طبيعة ظاهرة التديّن غير واضحة ومتخفيّة، لذا فقياسها يطرح إشكالات متعدّدة يجب أخذها بعين الاعتبار كي لا نقع في التأويلات والاستنتاجات غير الموضوعية، وبالتالي لا بد من تحديد طرائق قياس التديّن بطريقة كمية وإحصائية قابلة للقياس. ولعل هذا الجدل، هو ما دعا عدد كبير من الباحثين إلى تحديد أبعاد للتديّن وتصنيفه إلى أنماط كالممارسة الدينية والاعتقاد الديني والتجربة الدينية والعاطفة الدينية…كما أنّه ما دفعهم لتحييد الدين عن التديّن وتمييزهما عن بعضهما نظراً لحساسية هذا الأمر في المجتمعات كافة. فالدين هو الثابت والجامع لمجموعة من البشر بشكل مقدّس أما التديّن فهو ما ينتهجه الفرد عند تطبيق دينه لذا فهو يتبع في أحيان كثيرة ذاتية الفرد كما يرجع لعوامل كثيرة نفسية واجتماعية تؤثّر على المتديّنين في طريقة ممارستهم لدينهم. ومن هنا برزت فكرة اللجوء إلى المنهج البيوغرافي (منهج السير) لتجميع المعنى الذاتي للسلوك الديني لدى مجموعة من الأفراد وتنقيب تواريخهم ودورات حياتهم. فحساسية دراسة ظاهرة التديّن في المجتمعات عامّة كثيراً ما تؤدي إلى صراعات تستدعي إلمام الباحث بالعلوم النفسية والعلوم الدينية في آن واحد، نظراً لما تلعبه من دور بارز في حياة الأفراد النفسية بالقدر الذي تؤثّر فيه على صحّتهم النفسية. كما أنّ الاختلافات الهائلة بين مختلف الأديان وحتى بين مختلف الطوائف في أصحاب الدين الواحد من ناحية المفاهيم والمعتقدات والممارسات يُظهر صعوبة على قدر كبير من الأهمية لقياس هذه الظاهرة، كما أنّ تأثيرات البيئة على الأفراد تفرض نفسها كمؤّشر على الاتجاه بقوة نحو المفاهيم والعادات والأعراف الاجتماعية. لذا فالباحث يجد نفسه أمام تداخلات هائلة عند دراسته لظاهرة التديّن وقياسها. وهذا ما يطرح إشكالاً منهجياً في قياس ظاهرة التديّن نظراً لما يطرحه هذا القياس من صعوبة لتحديد دقيق للتجربة الدينية. فطبيعة دراسة ظاهرة التديّن بحد ذاتها صعبة وتزداد صعوبة عندما يكون الهدف قياسها وبدقّة. ولكن ما أدّى إلى بلورة هذا القياس هو تحديد أبعاده بدقّة فأصبح من اليسير إخضاعه للقياس، على إثر حصر مختلف أبعاده، وبالخصوص تخصيص سلّم لكل بعد وذلك ضمن تقنيّة تجريبية، مما يجعله طريقاً منهجيّاً جليّاً في العلوم الاجتماعية. وبالرغم من الصعوبات التي توفقنا عندها سابقاً في قياس التديّن، فإن العديد من الباحثين الذين تناولوا مفهوم التدين، قدّموا عناصر مهمة لتحليل هذه الظاهرة الدينية، من خلال تدقيق مجموعة من المؤشرات الكمية التي مكّنتهم من دراسة هذه الظاهرة المركبة والمعقدة، خاصّة من خلال انطلاق موجة من الأبحاث الإمبيريقية الذي جعلت من البحث الديني أحد أهم الميادين في الدراسات النفسية والاجتماعية خاصّة من خلال بناء مقاييس دينية على مختلف المستويات والأبعاد والتي أكّدت نتائجها على أهمية مفهوم التديّن، ممّا استدعى كذلك تطوير المقاييس والتركيز على العوامل الفاعلة فيها وآثارها على تديّن الأفراد. ما حتّم التصدّي لهذه الإشكالية، أي قياس التديّن كي تتّصف بالقدر المطلوب من الدقّة والموضوعية. فالمؤشرات الخاصة بالعبادات والممارسات الدينية مثلاً لا تبقى على حالها فهي في تطور ملحوظ، ممّا يستدعي إجراء تطوّيرات في طريق قياسها أيضاً. وبالنسبة “للتجربة الدينية” وقياس أصنافها فتستدعي تنويعات ودراسات مكثّفة، وهي كمسألة لا تزال قيد البحث، نظراً لعلاقة الترابط التي أُثيرت بين حضور التجربة الدينية وتقلّص الضيق أو الجزع، فالدين حين يُعاش بطريقة ذاتية، وبشكل عميق، يمكن أن يحدّ من مستويات الجزع، لكن هذا الأمر ليس ثابتاً، ما لم تدعمه اختبارات موسّعة تجري على عيّنات من كبيرة من الناس.
فالدّين من خلال مستوياته لا يبرز كظاهرة اجتماعية حينما نكتفي بالمستويين الشعوري والاعتقادي، فمظاهر الدين المتعددة تجعل إدماجه واعتباره ظاهرة اجتماعية صرفة هو مجازفة علمية. فهو قد يكون ظاهرة نفسية حينما يكون في المستوى الأول ويكون ظاهرة فكرية فلسفية حينما يكون تصوّرا واعتقاداً…إلخ . فالممارسة الدينية لم تعد هي الممثّل الوحيد للدين ولظاهرة التديّن فعادة ما تتراجع هذه الممارسة في المجتمعات المتقدّمة، مع فرص اكتشاف أو تجريب أشكال مستجدّة من التديّن. فالتجربة الدينية ليس لها أبداً شكلاً ثابتاً خالصاً كاملاً، فهي دوماً تتأثر بواقع حياة المتديّنين وغير المتدينين، على أن النقطة المهمة هي أن ما يلتزم به عامة الناس من مفاهيم وقيم وأحكام عبادية وشعائر، تكون لها آثارها النفسية والأخلاقية عليهم وعلى مجتمعاتهم. وبما أنّ التجربة الدينية ذات بعدين: فردي وجماعي، وأن كلا البعدين يكمل أحدهما الآخر، لكن في نفس الوقت فلكل من البعدين الفردي والجماعي انحرافات كثيرة ممكنة. لعل المتتبع لكل الدراسات التي صدرت في السنوات الأخيرة حول الدين والتديّن، يلاحظ من خلال نتائجها وجود ازدواجية سلوكية بين المعتقد والممارسة والتجربة الدينية، ما يحتاج إلى تحليل أعمق لبلورة رؤية واضحة وجليّة في قياس التديّن. فالمنهج الكمي لوحده لم يعد كافياً ، ففهم ظاهرة التديّن تستدعي دراسة نوعية لتكشف عن ما لم يتمكّن المنهج الكمي من كشفه ، فالمنهج النوعي يدعم المنهج الكمي ويكمّله، وذلك من خلال دمج المقاربة الكميّة في التحليلات، عبر توظيف أدوات الإحصاء، مع منهجية ذات طابع نوعي. وتبعاً لذلك الشكل جرى تطوير علم اجتماع نوعي حقيقي وفعلي، حيث تصير ردود الأفعال القولية للمحاوَر جديرة بالاهتمام فالإحاطة بحقيقة أية ظاهرة اجتماعية، يستوجب العمل بجهد لبناء الظرف الذي يجري فيه الموضوع وتتمثّل التقنيات المعروفة السائدة في شكلين: المقابلات والمعاينات. وهناك تقنيّة تحليل أخرى مهمّة تتلخّص في السير الذاتية، التي ينبغي أن تغطي مجمل حياة الفرد، وأن تنجح في كشف ما لم تكشفه الوسائل الكمية. فالمعطيات الخاصة بتديّن الأفراد تبيّن أننّا إزاء ظاهرة شديدة التعقيد والتركيب، وما يمكن استخلاصه هو ضرورة تطوير قياسات أكثر تفسيرية وأكثر ملاءمة لواقع الظاهرة الدينية خاصّة مع تغيّر هذه الظاهرة في المجتمعات تبعاً للعوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تتعرّض لها. وما سعى إليه هذا البحث هو إثارة النقاش العلمي والأكاديمي حول هذا الموضوع الإشكالي الهام قصد التوجّه نحو المزيد من الدراسات حول هذا الموضوع من خلال التخصصات العلمية المتعدّدة والمتنوعة، خاصّة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبمنهجية كمية وكيفية، لأنّه تبيّن أنّه بقدر ما تكون الدراسات الكميّة مهمّة فإنها تعجز عن تفسير السلوكيات والمواقف والاتجاهات، وربّما التجربة الدينية بكل تفاصيلها.
قائمة المراجع:
- إسماعيل، محمد الحسين(2004). الإنسان والدين (ولهذا هم يرفضون الحوار). القاهرة: مكتبة وهبة.
- أكوافيفا، سابينو وباتشي ،إنزو(2011). علم الاجتماع الديني: الإشكالات والسياقات .ترجمة: عز الدين عناية. هيئة أبو ظبي لللثقافة والتراث”كلمة”: الإمارات العربية المتحدّة، أبو ظبي.
- حضري، فضيل( 2011). مستويات الدين وأ شكال التديّن-محاولة تصنيفية. مجلّة الواحات للبحوث والدراسات. (11)، 178-190.
- الرفاعي، عبد الجبّار (2015).الإيمان والتجربة الدينية. (ج2). موسوعة فلسفة الدين.بغداد: مكتبة الفكر الجديد.
- سبشتري، محمد مجتهد (2016)، في موسوعة فلسفة الدين، الإيمان والتجربة الدينية، إعداد وتحرير عبد الجبار الرفاعي. بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر.
- غيث، محمد عاطف(1977). قاموس علم الاجتماع.(ط1). الإسكندرية : دار المعرفة الجامعية.
- فريزر، جيمس(1998). الغصن الذهبي -دراسة في السحر والدين. ترجمة: أحمد أبو زيد. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة. ج (1) ، ص 174
- المهدي، محمد عبد الفتاح (2002). سيكولوجية الدين والتدين. (ط.1). الإسكندرية: البيطاش سنتر للنشر والتوزيع.
- ياسين، عبد الجواد(2014).الدين والتديّن: التشريع والنص والاجتماع. المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء، بيروت، ومؤسسة مؤمنون بلا حدود: الرباط.
- The American Heritage dictionary (1982 ), 2nd college ed,by William Morris, Published 1982by Houghton Mifflinin Boston .
- Dejong,G.;Faulkner, J.; &Warland, J.(1966). Dimensions of Religiosity . Reconsidered in “Social Forces, 54,866-89.
- Larson, D. B., Pattison, E. M., Blazer, D. G., Omran, A. R., & Kaplan, B. H. (1986). Systematic analysis of research on religious variables in four major psychiatric journals, 1978-1982. American Journal of Psychiatry, 143, 329-334.
- Myers, D. G. (2000). The funds, friends, and faith of happy people. American Psychologist, 55, 56-67.
- Rohrbaugh, John & Jessor Richard(1975). Religiosity in youth: A personal control against deviant behavior. Personality Journal,Volume 34,issue 1,p.136-155,https://doi.org/10.1111/j.1467-6494.1975.tb00577.x
- [1] ياسين، عبد الجواد(2014).الدين والتديّن: التشريع والنص والاجتماع. المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء، بيروت، ومؤسسة مؤمنون بلا حدود: الرباط،345.
- [2] إسماعيل، محمد الحسين(2004). الإنسان والدين (ولهذا هم يرفضون الحوار). القاهرة: مكتبة وهبة،31-32.
- [3] فريزر، جيمس(1998). الغصن الذهبي -دراسة في السحر والدين. ترجمة: أحمد أبو زيد. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة. ج (1) ، 174.
- [4] غيث، محمد عاطف(1977). قاموس علم الاجتماع.(ط1). الإسكندرية : دار المعرفة الجامعية،352.
– [5] Rohrbaugh, John & Jessor Richard(1975). Religiosity in youth: A personal control against deviant behavior. Personality Journal,Volume 34,issue 1,p.136-155,https://doi.org/10.1111/j.1467-6494.1975.tb00577.x,138.
- [6] The American Heritage dictionary (1982 ), 2nd college ed,by William Morris, Published 1982by Houghton Mifflinin Boston,138 .
- [7] Myers, D. G. (2000). The funds, friends, and faith of happy people. American Psychologist, 55, 56-67.
- [8] Larson, D. B., Pattison, E. M., Blazer, D. G., Omran, A. R., & Kaplan, B. H. (1986). Systematic analysis of research on religious variables in four major psychiatric journals, 1978-1982. American Journal of Psychiatry, 143, 329-334.
- [9] المهدي، محمد عبد الفتاح (2002). سيكولوجية الدين والتدين. (ط.1). الإسكندرية: البيطاش سنتر للنشر والتوزيع،62-63.
- [10] المهدي، محمد عبد الفتاح (2002). سيكولوجية الدين والتدين. (ط.1). الإسكندرية: البيطاش سنتر للنشر والتوزيع،66-67.
- [11] أكوافيفا، سابينو وباتشي ،إنزو(2011). علم الاجتماع الديني: الإشكالات والسياقات. ترجمة: عز الدين عناية. هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث “كلمة”: الإمارات العربية المتحدّة، أبو ظبي،74-75.
- [12] أكوافيفا، سابينو وباتشي ،إنزو(2011). علم الاجتماع الديني: الإشكالات والسياقات. ترجمة: عز الدين عناية. هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث “كلمة”: الإمارات العربية المتحدّة، أبو ظبي،74-75.
[13] أكوافيفا وباتشي، مرجع سابق، 96،98-99.
[14] أكوافيفا وباتشي، نفس المرجع، 102.
[15] أكوافيفا وباتشي، نفس المرجع، 80.
[16] أكوافيفا وباتشي، نفس المرجع، 88.
- [17] الرفاعي، عبد الجبّار (2015).الإيمان والتجربة الدينية. (ج2). موسوعة فلسفة الدين.بغداد: مكتبة الفكر الجديد،155-165.
[18] أكوافيفا وباتشي، مرجع سابق، 92.
[19] أكوافيفا وباتشي، مرجع سابق، 94.
– [20] Dejong,G.;Faulkner, J.; &Warland, J.(1966). Dimensions of Religiosity . Reconsidered in “Social Forces, 54,866-89.
- [21] حضري، فضيل( 2011). مستويات الدين وأ شكال التديّن-محاولة تصنيفية. مجلّة الواحات للبحوث والدراسات. (11)، 178-190.
أكوافيفيا وباتشي، المرجع نفسه،98، 104. [22] –
- [23] سبشتري، محمد مجتهد (2016)، في موسوعة فلسفة الدين، الإيمان والتجربة الدينية، إعداد وتحرير عبد الجبار الرفاعي.بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر،68.
[24] أكوافيفا وباتشي، 2011، نفس المرجع،88
[25] أكوافيفا وباتشي،مرجع سابق، 95.
[26] الرفاعي،2015،نفس المرجع،82-84.
[27] أكوافيفا وباتشي، مرجع سابق، 121- 117.