
استدعاء الذاكرة التاريخية في السّرد الجزائري المعاصر
Recall historical memory in contemporary Algerian narrative
يوسف يوسفي, جامعة عبد الرحمان ابن خلدون – تيارات (الجزائر)
Youcef YOUCFI, University Of ADERRAHMAN IBN KHALDOUN Tiaret (Algeria)
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 56 الصفحة 105.
Summary
It’s important for culture to take care of history and to pass it on for next generations.
It’s the reflexion of nations philosophy and culture. It reflects the past .translates the present and predicts the future.
Therefore . nations pay attention to their history because it guides them in present and for future.
People may think that history is different from literature but it’s not true. Literatures give to historians many details which help them to build realistic picture. Whereas arab writers and poets.
Moreover history is international period between memory of people and their vision for future.
That’s why we try to answer in this research; what was the Algerian literature and novel position in history? Did they involve Algerian history? How can a novelist trust narrative imagination which does not correspond the real facts history.
Key words: The novel, the narrative, history, the Arabic novel, Algerian novel, Memory, memorize history, Relationship, history use, historical context, narrative accumulation, reality, literature.
الملخص
لا ريب أن الاهتمام بالتاريخ وتدوينه يعتبر معلما ثقافيا هاما ، يعكس فلسفة الشعوب وثقافتها ، بل هو المرآة الحقيقية التي من خلالها تتم الإطلالة على كل ما يحيط بتلك الشعوب ، فهو عاكس للماضي مترجم للحاضر مستشرف للمستقبل ، ولذلك وجدنا الأمم قاطبة تُعير له كلَّ الاهتمام ، وتحاول تمريره إلى الأجيال صحيحا واضحا ، ليكون هاديا ومرشدا في الحاضر والمستقبل ، ومن ثمَّ إما أن يكون للأمة وجود أو عدم وجود حسب حركية وفاعلية هذا التاريخ فيها .
ولقد يظهر للعيان أنَّ ثمَّة اختلافٌ بين الأدب والتاريخ باعتبار أن لكلٍّ منهما مجال اشتغاله ،إلا أنَّ الحقيقة غير ذلك ،، حيث نّ هناك علاقةً جدلية بينهما تتأرجح بين ثنائية الأخذ والعطاء ، يعطي الأدب نصوصا يشتغل عليها التاريخ باعتبارها وثيقة تعكس بعض التفاصيل التي تساعد في بناء صورة متكاملة . والتاريخ باعتباره وثائق ومعطيات ،كثيرا ما وظّفها الأدب في نسج آثاره الخالدة.
والأدباء العرب ليسوا بدعا في هذا المجال، فقد استلهموا التاريخ لكتابة نصوصهم الأدبية شعرا ونثرا ، بالإضافة إلى أن التاريخ يكون في المنطقة – البرزخ – بين ذاكرة الشعوب ورؤياها المستقبلية . وعليه يحاول هذا البحث الإجابة عن إشكالية تمثلت في : ما موقع الأدب والرواية الجزائرية بخاصة من ذلك ؟ وهل استدعت الرواية الجزائرية الذاكرة التاريخية ؟ وكيف يراهن الروائي بالكتابة عن موضوعة تاريخية لا تتوافق في كثير من وقائعها وحقائقها مع المتخيل السّردي الذي سيشتغل عليه كرؤيا للمستقبل؟
الكلمات المفتاحية
الرواية ،السّرد ، التاريخ ، الرواية العربية ، الرواية الجزائرية ، الذاكرة ، استدعاء التاريخ ، العلاقة ، توظيف التاريخ ، السّياق التاريخي ، التراكم السّردي ، الواقع ، الادب .
مقدمة :
للرواية الجزائرية مكانتها في الأدب العربي بخاصة والأدب العالمي بعامة ، حيث ظلت تحمل همّ الشعب الجزائري وقضاياه المتعددة والمتشعبة ماضيا وراهنا ومستقبلا . فكانت مرآة عاكسة لآلام وآمال الشعب .وبهذا الفن استطاع الروائيون الجزائريون الكبار- أمثال الطاهر وطار ،رشيد بوجدرة ، عبد الحميد بن هدوقة، واسيني الاعرج والحبيب السايح – التعريف بهوية الأمة الجزائرية وتاريخها المجيد ، بطولات وشخصيات وعلوم. ولقد أسهمت الرواية التاريخية عند كثير من الكتاب الجزائريين في إماطة اللثام عن كثير من القضايا التي زادت في بلورة الحقيقة التاريخية ،أو كشفت عنها ، في حين أن التاريخ ربما قد سكت عنها في كثير من المواقف ، فماهي علاقة التاريخ بالرواية عموما ؟.
تعالق التاريخي بالسرد الروائي :
الرواية فن حديث ظهر عند العرب في القرن التاسع عشر الميلادي متأثرا بالنتاج الغربي عبر البعثات العلمية والترجمات الادبية ، عبرت هذه الاخيرة عن الواقع العربي معتمدة التاريخ والاجتماع . وعلاقة الرواية بالتاريخ يعود الى ” تزامن صعود الرواية الاوربية …مع صعود علم التاريخ واتكأ الطرفان على مقولة الإنسان الباحث عن أصوله …فتعاملت الرواية مع الانسان ورحل علم التاريخ الى عرف الماضي …”[1]
وإذا كانت الرواية الأوربية قد تزامن صعودها مع “علم التاريخ ” في القرن 19 م فإن الرواية العربية بدأت مع القرن العشرين الميلادي ، دون أن يكون ذلك الاقتران مع علم التاريخ ، فكانت ولادة الرواية العربية ( في شرط غير روائي ،فالزمن العربي لم يكن كالأوروبي سائلا عن أصوله ، وهذا ما جعل التاريخ موضوعا مسيطرا في الرواية العربية المتنامية …)[2]
والعلاقة بين التاريخ والرواية وطيدة قوية منذ النشأة الأولى ، فالتاريخ اعتبر من الروافد الكبرى التي استعان بها الكاتب في إنتاج رواياته التاريخية ، التي تستلهم الماضي وتستدعيه ، فالتاريخ هو المادة الأساسية للعمل الروائي التاريخي .وهكذا تحاول الرواية التاريخية إحياء الحضارات وبعث الشخصيات تاركة الحرية للروائي ليفضي على ذلك كله شيئا من أخيلته مكملا بذلك الحلقات الضائعة من التاريخ ، مضيئا بعض الزوايا المظلمة منه، مستدعيا بعض القضايا التي سكت عنها التاريخ . وقد شهدت الرواية التاريخية في مرحلة ما بين الحربين (1919م -1952م) ازدهارا فنيا لافتا ، حيث اعتبرت مرحلة ذهبية في تاريخ الرواية التاريخية العربية . وقبل ذلك يمكن ان نطرح السؤال التالي : كيف وظف كل من الغرب والشرق (العرب) التاريخ في الرواية ؟.
01-توظيف التاريخ عند الغرب :
أ –جورج لوكاتش (الرواية التاريخية )
يرى لوكاتش أن الرواية التاريخية في أوروبا تبدأ في مطلع ( ق 19 م )وما كان قبل ذلك ما هو الا مقدمات لذلك ، وقد ذكر في كتابه (رواية التاريخية )الظروف التاريخية والاجتماعية لنشأة هذه الرواية ، حيث قال : “وما يهمنا على أية حال ، هو أن نبلور على نحو محدد الصّفة الخاصة لهذا الحس التاريخي قبل الثورة الفرنسية ، وبعدها معا ، لنرى بوضوح ماهية الأساس الايديولوجي والاجتماعي الذي كانت الرواية التاريخية قادرة على الظهور منه “[3]. وقد ربط لوكاتش في نظريته بين تاريخ الرواية والتاريخ الاجتماعي “فالرواية تصعد بصعود البرجوازية وتتداعى مع تداعي الطبقة التي أعطتها الميلاد والازدهار متهيئة لدخول طور جديد تكون فيه رواية أخرى فما حركة الرواية الا أثر لصراع طبقات متناقضة تخلق في صراعها التاريخ وتضيف إليه تاريخا مجزوءا هو الرواية “[4].
وقد اعتبر جورج لوكاتش أن الرواية ” وليدة الطبقة البرجوازية ، وهي البديل عن الملحمة “[5] أو هي سليلتها ،لأن موضوع الملحمة هو المجتمع ، أما الأمر بالنسبة للرواية فهو متعلق بالفرد الباحث عن أصوله ومعرفة نفسه ، وهو جزء من ذاك المجتمع. ويرى لوكاتش في الرواية التاريخية أن ” ما يهم فيها ليس إعادة سرد الاحداث التاريخية الكبرى ، بل الإيقاظ الشعوري للناس الذين برزوا في تلك الاحداث . وما يهم هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والانسانية التي أدت بهم الى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماما في الواقع التاريخي “[6].
ب –ليو تولستوي (رواية الحرب والسّلم )
تعتبر هذه الرواية اعظم رواية في تاريخ الأدب لحجمها وموضوعها ، وهي تعالج فترة حاسمة من التاريخ ،” كما لا توجد رواية استطاعت أن تتناول هذا الحشد الضخم من الشخصيات والأحداث “[7] .والرواية ذات أهمية بالغة ، حيث يتحدث فيها عن أسباب الأحداث التاريخية على العموم وفي حركة الشعوب الغربية . حول حتمية في التاريخ ،يقول :” فمنذ أواخر عام 1811 م شرعت أوروبا الغربية في تجهيز قواتها تجهيزا كثيفا ..وفي عام 1812 م أخذت هذه القوات ملايين الرجال ..متجهة الى الحدود الروسية..” فالحدث في نظره مخالف للعقل ومناقض للطبيعة البشرية ومنه فلا مفر من الحتمية في التاريخ لتفسير الحوادث اللاعقلانية ، أي ” الحوادث التي لا تفهم معناها ” وكلما جهدنا في تفسيرها منطقيا ، بدت لنا أكثر بعدا عن العقل ، وأكثر استعصاء عن الفهم”[8] فهي رواية ملحمية اختار (1828- 1910 م) إعادة التاريخ ليس “كمأساة ثم مهزلة “بمفهوم سياسي ، وإنما ليقدم سيرة ذاتية ثقافية ، توازي التاريخ الشخصي مع التاريخ العام لروسيا في القرن 19 م .
فالرواية تاريخية ، تسرد أحداثا تاريخية ، وفي توضيحه لهذا العمل يقول : ” إن المؤرخ الذي يدرس الدور التاريخي الذي قام به شخص في تحقيق هدف واحد من أهدافه ، يقع على أبطال ، أما الفنان الذي يدرس أفعال فرد من الأفراد في جميع ظروف الحياة، فإنّه لا يمكنه ، ويجب عليه أن لا يرى أبطالا وإنما هو يرى بشرا ” [9] .
02- توظيف التاريخ في الرواية العربية
الرواية التاريخية هي نتاج امتزاج الرواية بالتاريخ فالحدث التاريخي مرجعية للحدث الروائي ، وبهما تتكون مرجعيتان الأولى تاريخية والثانية تخيلية .والتعامل مع التاريخ لا يعني أن يكون بديلا عن التخييل ، والرواية التاريخية لا تكمن في طبيعة الحدث بل في طريقة التناول ، وهي لا تعيد التاريخ وإنما تحاول أن تقول مالم يقله التاريخ، ومنه يكون التاريخ في الرواية التاريخية خاضعا لذاتية الروائي . والرواية التاريخية هي عودة للماضي كما يشير شيبارد ولوكاتش لأنها تثير الحاضر ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق .وبالتالي تعيد الرواية التاريخية انتاج التاريخ روائيا اتماما لمشهد ن أو تفسيرا له أو تعليلا أو تصحيحا ، لغايات اسقاطية أو استذكارية أو استشرافية .
والمتتبع لمسار الرواية التاريخية العربية يجد أنها مرت بمراحل نذكرها كما يلي :
-* هي محاولات اخذت مادتها من التاريخ موضوعا وشخصيات وحدث ، وقد اتجهت الى إعادة كتابة التاريخ بصورة ممتعة بهدف تثبيت تلك الأحداث ولولا بعض التخييل لكانت تاريخا جافا .الا ان البعض امثال جرجي زيدان فالذاتية والايديولوجية عملت عملها في التحريف والتزييف .
-* في هذه المرحلة حاولت أن تكون الرواية وسيلة لا غاية ، فقد حاول جيل هذه المرحلة أن يكون أقل تبعية للتاريخ فالحديث عن الماضي إنما هو احتجاج على الحاضر ، يمثل هذه المرحلة نجيب محفوظ من خلال ‘كفاح طيبة ).
-*هذه المرحلة تمثل مرحلة الرواية الحديثة ، حيث عاد كتاب الرواية الى التاريخ باعتباره مسلكا تجريبيا ومثل هذا المنحى كل من جمال الغيطاني ويوسف العقيد في مصر ، واسيني الاعرج وبوجدرة والحبيب السايح في الجزائر ، وبن سالم حميش والميلودي شلغوم في المغرب .وقد اعتمد هؤلاء على استثمار المادة التاريخية من منظورهم الخاص ، محاولة منهم إسقاط الماضي على الحاضر على أساس الاستمرارية .وكل من هؤلاء انتهج طريقا خاصا به في استثمار المادة التاريخية ،فوجدنا ازياحا للنص (الف ليلة وليلتان )ومنهم من اراد ان يخيّل التاريخي ، ومنهم من أرّخ للخيال ، وهنا يصبح التخييل التاريخي ناتجا عن العلاقة المتفاعلة بين السرد المعزز بالخيال والتاريخ المدعم بالوقائع ، فانتقلت الرواية من تعليمية الى نفعية الى مساءلة وإعادة كتابة لتفضح ماسكت عنه التاريخ ، ساردا تاريخا آخر على لسان شخصيات تنتمي للهامش ،ولا تؤرخ للمنتصر أو للسلطان.
الرواية التاريخية في الجزائر
المتتبع لمسار الرواية الجزائرية منذ بداية القرن العشرين ، سيشدُّ انتباهَهُ جملةٌ من المسارات التي عرفتها هذه الرواية ،بدءا بأول نص كُتِبَ في الفترة العثمانية على يد ( أبراهام دنينوس) الذي يندرج ضمن الرواية المسرحية ، تم اكتشافها مؤخرا في الجزائر؛ وقام بتحقيقها وتقديمها مخلوف بوكروح. عنوانها : «نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق[10]»؛ وكانت قد طُبِعَتْ طباعة حجرية سنة 1847 في الجزائر. مسرحية تثير مشكلة جديدة/ قضية جديدة تصاغ بسؤال: من اكتشف المسرح وكان له السبق بوضع أول نص مسرحي عربي وباللغة العربية؛ المغاربة أم المشارقة ؟علما أنّه في نفس السنة أي في 1847 عرّب مارون النقاش مسرحية “البخيل ” ل( موليير). ( وإن كان هناك تقاطع بين الروايتين )
هذه الرواية تتوزع فيها الأدوار بين اثنين وعشرين شخصية ، منها ثمانية أدوار نسائية والباقي لوجهاء المدينة وبعض العامة من البيئة المحلية الجزائرية. وقد ظهر فيها تأثر أبراهام بالتراث العربي الإسلامي والثقافة الشعبية، وهذا ما يبرزه الحوار المسرحي الذي يجمع بين العامية والفصحى .[11] متناولا البيئة الجزائرية في الزمن التركي .
ثم يأتي العمل الروائي “ادريس “ل”علي الحمّامي[12] ” الجزائري ت(1949م)[13] وهي رواية تاريخية فلسفية ،كُتب تحت العنوان الرئيسي “رواية من شمال افريقيا “وهي تسلط الأضواء على البيئة المغاربية بشكل عام ،وهو نص مكتوب باللغة الفرنسية [14]، ظهر في الأربعينيات من القرن العشرين ، وإن كان أقرب الى السيرة الذاتية منه الى الرواية التاريخية ، أتمّ كتابتها في 1941 في بغداد .
الرواية مزيج من أطروحة سياسية ودرس في التاريخ ، بطلها أحد المناضلين من أجل تحرير بلده ، المغربي الشمال افريقي ،وحيث لا يرى أفقا لنضاله الا بلادَه الواسعة ، التي تشملُ تونسَ والجزائر والمغرب ، وكلّما وقف “ادريس” على مكان يتذكر ما جرى فيه من أحداث، تضرب في عمق التاريخ ، ولا يستطيع “إدريس”أن يَغْفَلَ في أي لحظة أنه سليل أجيال أثمرتها تلك الأمكنة ، وقامت عبر القرون بصنع تاريخ شمال إفريقيا. وهو يهدي روايته إلى محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي كتب مقدمة الطبعة الأولى .
وحسب محمد العربي المساري في “قراءات في سطور المدينة المغربية “يرى بأن النفزاوي يقدم الرواية “إدريس” على أن الحمّامي يطرح دعوته الى القومية “المغاربية” في سياق التطورات التي نتجت عن الحرب العظمى الأولى التي كان من نتائجها سقوط الخلافة العثمانية ، وانكشاف أن الأمة الإسلامية تتكون من أقوام أربعة ( العرب ،الترك ، الفرس والمغاربة ) ، والحمّامي لا يريد أن يلحق بلاد المغرب ببلاد المشرق ، مريدا إبراز كيانها القائم منذ القرن التاسع (09) الميلادي ، فالبربر أسلموا حينما تبربر الفاتحون واندمجوا في البربر ضمن المصير المشترك وأصبح الجميع مغاربة ، وحلّت عبارة بلاد المغرب بدل البربر.
واللّحمة الفكرية التي أقام عليها الحمّامي مشروعه تقوم على ثالوث تجلّت فيه العبقرية المغربية هي (ابن رشد – ابن تومرت – ابن خلدون) وهو مركز تاريخ وحضارة بلده ورمزها ، والدولة الموحدية هي ممثلة القومية المغربية والكاتب إنما حاول :
+إسقاط التاريخ على الواقع –الاستعمار –الثورة (العقل /التربية / القوة )
+الماضي عند الحمّامي ليس ذكرى ، بل حقبة حيّة مستمرة في التبلور .
ثم ألفينا مجموعة من كتّاب الرّواية باللغة الفرنسية إنبرَوُا الى الكتابة من منظور التاريخ لوقائع عاشوها ، بدليل رواية “لبيك حج الفقراء “[15] التي كتبها المفكر الجزائري مالك بن نبي في الأربعينيات من القرن العشرين ،التي ظلّت في عرف النقاد رواية سيروية لرحلة الحج الى البقاع المقدسة …ولم تتبلور الرواية التاريخية أو التي استدعت التاريخ كإسقاط جمالي على وقائع وأحداث وأزمنة وفضاءات تحتفي بهوية الشعب الجزائري ، الا مع روايات كل من “نجمة ” لكاتب ياسين ، و”الثلاثية “(الحريق ، الدار الكبيرة ،والنول ) لمحمد ديب و “التلميذ والدرس “ل مالك حداد .
جُلُّ هذه الروايات كما عبّرها عنها الناقد أحمد مَنُّور في كتابه “الأدب الجزائري المكتوب باللسان الفرنسي “، أنها حاولت الخروج بشكل أو بآخر من معطف الرواية السّْرَوِيَة بالتعويل على المنظومة الرمزية ولاسيما رمزية الثورة الجزائرية التي انبثقت عن خصوصية شعب طالما رضخ تحت نير الاستعمار أزيد من 130سنة .ولكن السؤال الذي يُطرح ، هو : هل يمكن لقارئ هذه الأعمال التي اشتغلت على فكرة “الفعل الثوري كنتيجة حتمية ، أو كإيديولوجيا هوياتية أسهم في تأجيجها :
– البعد القومي للثورة الجزائرية
-الطبيعة الاستئصالية للاستعمار الفرنسي .
-بالإضافة الى ثراء الذاكرة الشعبية التي أغنت الكثير من مفاصل السرد الجزائري غداة الاستقلال بثقافتها المحلية .
هل كل هذا كان كافيا لصنع منظومة الرواية التاريخية في الجزائر ؟
المهاد التاريخي :
لكي يتسنى لي وللقارئ الكريم وضع النقاط على حروفها ينبغي أن أشير في هذه التوطئة ‘المهاد التاريخي ‘ الى رواية اعتبرت أول نص روائي جزائري كَتَبَ تاريخ الانسانية لصاحبه “لوكيوس أبوليوس “[16] المسماة (الحمار الذهبي “كما ترجمها الناقد أبو العيد دودو(1934م-2004م)،و”تحولات الجحش الذهبي ” بترجمة محمد فهمي خشيم الليبي (1936م-2011 م).
ألا يدعونا هذا التأسيس المراهنةَ على أنّ النصوص السّردية في شمال إفريقيا – سواء في تونس أو الجزائر أو المغرب – هي أسبق تأسيسا على الشّعر ؟ ومن ثم ألا يمكن القطع يقينا بأن الأرض المغاربية هي أخصب من حيث الزمان والمكان لإنتاج النص السّردي ؟ ثم لماذا أضع هذه التساؤلات في خضمّ هذا التراكم من الإنتاج السردي ؟
وللإجابة عن ذلك أقول : أن الجزائر ومن ضمنها الشعوب المغاربية لازالت تستدعي في كتاباتها السياقات التاريخية وتحتكم في كتاباتها الى جعل التاريخ أسمى مرتبة من الشّعر على النقيض مما قاله أرسطو (الشّعر أسمى مرتبة من التاريخ )، سندنا في ذلك أننا نعاني اليتم الشّعري حتى أن بكر بن حماد التيهرتي وجد نفسه شاعرا في مصافّ أبي العتاهية إلا حينما ارتحل الى المشرق العربي.
من هنا تنبثق فكرة أننا نمتلك جينيالوجيا رواية تمتد أصولها الى العهد الروماني مع لوكيوس أبوليوس ، صاحب” الحمار الذهبي “. ولا مندوحة من أن نفخر بهذه المأثرة حتى ولوكتبت بلسان لاتيني فإنّ روحَها جزائرية تسري فيها دماء هذه الأرض الطيبة .
التراكم السّردي الجزائري وسياقاته التاريخية :
لقد ذكرنا سابقا أن أغلب النصوص تمثلت وقائع كالحروب وغيرها ،وهناك روايات حاولت التأريخ لثوراتها كمشروع إعادة كتابة الثورة من خلال نماذج روائية جزائرية بدليل أن المؤسسة السينمائية الجزائرية أوعزت هذا المشروع الى كتاب روائيين ، حيث نجد أن رشيد بوجدرة كتب سيناريو فيلم (سنوات الجمر للأخضر حمينة ، وكتب رواية معركة الزقاق التي استدعى فيها حادثة فتح طارق بن زياد للأندلس )فتوظيف التاريخ واستدعاؤه انما يتأتى قصد إغراء القارئ القارئ بالغرائب والعجائب التي كانت ضمن المسكوت عنه في الحادثة التاريخية ، فيطعمها الروائي بموضوعات (تيمات )جديدة على التاريخ ك(حوار الحضارات ) كما فعل واسيني في كتاب الأمير ، وصراع الاجيال كما فعل الحبيب السايح في ( كولونيل الزبربر )أو الصراع الحزبي داخل الحزب الواحد كما في (زمن النمرود)، والهدف من كل ذلك هو محاولة إسقاط الواقع على التاريخ وسنعرض ثلاثة نماذج تدور في هذا السياق – طاهر جاووت من خلال (اختراع القفار )و(كتاب الامير) لواسيني ثم (كولونيل الزبربر) للحبيب السايح .
* الطاهر جاووت (رواية اختراع القفار )
تتمة لما قلناه سلفا يتضح أن كُتَّاب الرواية في الجزائر على اختلاف مشاربهم وعصورهم ،رافعوا من أجل استنطاق الوقائع التاريخية ،مثل رشيد بوجدرة في روايته ” معركة الزّقاق[17] “التي بنى فيها معماريته السّردية على نص إنجاز فيه الى استدعاء العهد الاندلسي المفقود بمواصفات روائية تنطلق من المحلية لتنتهي الى مصاف العالمية .
وكما يقول الناقد محمد طيبي مستشهدا بكلام رولان بارت: “التاريخ لن يكون أمام الكاتب ،سوى ذلك الحدث لاختيار ضروري بين أخلاقيات اللغة “.و ” التاريخ يُلزمُ الأديبَ إعطاء الأدب دلالات قد لا يتحكم فيها “[18] .
وإذا كنا نعتقد أن الدارس للمتون السّردية التي تتوخى إنتاج المادة التاريخية أو إضفاء سلطة التاريخ عليها هي في حصيلتها دراسة أفكار ومناهج كما يسميها سيد قطب في كتاب “التاريخ منهاج وفكرة “، وهذا ما لاحظناه على الرواية باللسان الفرنسي ، مثل الطاهر جاووت[19] الذي سخّر الوعي التاريخي والجمالي وراهن عليهما في استنطاق جغرافية (صنعاء اليمن ، وهقار الصحراء )، في رواية اختراع القفار “[20] التي تكاد تكون وثيقة تاريخية ، تقوم أحداثها بين ثنائية الإقامة والترحال ، لكن هذه الرواية كما أشار اليها محمد طيبي لم تكتب كتابة إبداعية محضة ، مقصديتها الوقائع التاريخية التي تؤرخ لتاريخ الاسلام في العصور الوسطى ، بل كثتِبَتْ تلبية لطلب ناشر أوروبي وفرنسي بالتحديد ،يريد إصدار سلسلة عن تاريخ الاسلام الوسيط ، والناشر لم يعط أية توجيهات وارشادات ، بل طلب فقط وببساطة أن يكتب روائيا تاريخ المرابطين[21] .
فقد فرضت الصحراء نفسها على الانسان ، كما وجهت عملية الابداع لديه حتى عدّها منبع الإلهام ، ومثلت مواقف ورؤى وجودية لا حصر لها ، ارتبطت بمتخيل ديني ضارب في القدم لتغدو الصحراء رمزية اسطورية عميقة . فالصحراء رمز للبحث عن الجذور الهوياتية من خلال شخصية البطل .
جاووت يبحث عن سبب الظاهرة المستحدثة ، ومن خلال أبعاد رمزية عاد بنا من خلالها الى مؤسس الدولة الموحدية (المهدي بن تومرت ) ليستنطق من خلاله البطل الذي يجعل من حياته سِيَرا دون نهاية .لأنه مولع بالسّفر مثل ابن تومرت الذي جاب الصّحراء العربية ، فالسّفر الى الصّحراء هو بمثابة التوجه نحو الداخل لتجاوز آثار التحولات الايديولوجية والسياسية التي أسهمت في تغييب الهوية الحقيقية للشعوب وارتداء هويات إيديولوجية أخرى .
تدور الرواية حول شخصية ( محمد بن تومرت)[22] ، مستلهمة الوقائع من رحلته من مدينة مهدية بتونس الى مراكش .
الرحلة الأولى :يحدد الطاهر جاووت المنطلق الجغرافي لرحلة ابن تومرت من مهدية الى مراكش مرورا بقسنطينة وبجاية. ونشير إليها برحلة “شرق غرب ” فهي تتماهى مع السيرة الذاتية لابن تومرت [23] إذ تتشعب فيها الأماكن والأحداث الموثّقة تاريخيا ، كما يستمتع القارئ ب(الوقوف على العادات وسلوكات أهالي قسنطينة وبجاية ) ونلاحظ في هذه الرحلة ما يُعرفُ بسرد التاريخ كوثيقة أدبية .
الرحلة الثانية :الاتجاه هنا هوشمال جنوب أي الانطلاق من بسكرة الى جبال الطاسيلي في منطقة الآهَقَار (الهقار)، وهنا يتخلى السّارد عن السّيرة الذاتية ، ويحمل على كاهل شخصيته البطلة ثقل التاريخ الذي خلّفه الأجداد ولاسيما التاريخ الأمازيغي ، ورسم ملامح الحقبة التي تشير الى أصل تاريخ البربر ، بل التاريخ الشامل لشمال إفريقيا .أما في :
الرحلة الثالثة :فإنها تأخذ وجهة شمال جنوب إذ تنطلق من مدينة جدة بالسعودية الى مدينة عدن باليمن مرورا بصنعاء ، وما يلاحظُ في هذه الرحلة أنها توازي بين زمانين من التاريخ أحدهما إندرس وغاب ، والثاني لازال حاضرا بكل إسقاطاته ووقائعه التاريخية إذ في هذه الرحلة تبدو لنا جلية رسالة الاسلام التي وثّقتها هذه الرحلة من خلال التدقيق في وصف المدن العربية وجغرافيتها ، وتتجه هذه الرحلة الى استكشاف رحلة الكتابة من خلال زمنين متداخلين – الزمن التاريخي الغابر – والزمن التاريخي الحاضر / زمن رسالة الاسلام – وزمن الواقع العصري . وفي هذه الرحلة نلحظ أن الروائي يستلهم شخصية آرتير رامبو الذي سلك المسلك نفسه في رحلة ابن تومرت. .
الرحلة الرابعة : من المغرب الى المشرق العربيين في رحلة الحج ، هنا يستدعي المؤلف ُ أسطرة لغة المغامرة التي يشيِّد من خلالها أسطورة أبطاله الحُجّاج من خلال صعوبة المسلك من البلاد المغاربية الى الجزيرة العربية ، ويمكن تلخيص فكرة هذه الرحلة ،في أنّها رحلة روحية بامتياز نظرا لما تتضمّنه من شعائر وطقوسات دينية فهي (رحلة كتابية =سيرة= في رحلةالحج ) [24] كما لاحظنا ذلك مع مالك بن نبي في “لبيك” الرواية “رحلة الى البقاع المقدسة” . وكثير من أعلام الطرق الصوفية الذين كتبوا رحلات حجهم الى البقاع المقدسة .
الرحلة الخامسة : تظل فكرة التاريخ تهيمنُ على الروائي ، ففي هذه الرحلة يطرح الكاتب الصراع الحضاري القائم بين ثقافات الغرب وروحانية الشّرق بما فيه المغرب العربي .وهنا تظهر جليا الصورة المتناقضة بين الاحتلال البغيض للمستعمر ومدى تنافره مع القيم الرّوحية للثقافة الاسلامية .
المجالات الزمانية والمكانية تتقاسمها تلك الرحلات ، إذ يمثل الأول المجال السوسيو ثقافي مغاربيا (المجال البربري ) أما الثاني فيمثل البوتقة التاريخية الثقافية المندثرة ، اما في المجال الثالث فيمثل الحضارة العربية الاسلامية وعلاقتها بالمغرب ، أما المجال الرابع فيمثل التواصل العربي البربري ، اما المجال الاخير فيمثل صراع الحضارات ، الشرق مع الغرب، فرغم التناقض كانت باريس متنفسا لعملية الكتابة وفيها يتم النشر والتوزيع .
هذه الرواية تاريخية بامتياز موضوعها تاريخي ، تحتاج هذه الأخيرة الى دراسة معمقة ومن خلالها يظل الأدب أدبا والتاريخ تاريخا، ولا يجوز دراستها الا ك (رواية) رغم أننا لانكتب لها البراءة فالرواية “اختراع القفار” هي اختراع للأسطورة وبين القفار والأسطورة يعيش الخيال وبالخيال وفي أحضان المخيال يعيش الإبداع .
*واسيني الأعرج (كتاب الأمير ، مسالك أبواب الحديد )
يعد واسيني من ابرز الروائيين الجزائريين وهو أكثرهم قربا من حرب فترة حرب التحرير ، وهذا ما جعله يستلهم التاريخ الوطني ليجعل منه مادة روائية بامتياز. فتوظيف التاريخ عنده ليس عشوائيا ، بل ملمحا من ملامح التجريب ( وقد بلغ واسيني قمة التاريخ محاولا مزج المكون التاريخي بالمكون الروائي ،إنقوة واسيني التجريبية التجديدية تجلت بشكل واضح في الروايات الأخيرة التي يكتبها ويحاول من خلالها مساءلة التاريخ، مما يثير جدلا نقديا كبيرا، إذ ثمة فارق بين التاريخ والمتخيل . وهذه الرواية (كتاب الأمير ) أثارت الكثير من الجدل في الأوساط الأدبية والنقدية )[25] وهي ليست الأولى التي استقت مادتها من التاريخ ولكنها أول رواية نالت قصب السبق في الكشف عن بعض الحقائق المنسية في حياة و شخصية الأمير عبد القادر الجزائري .
هذه الرواية لا تقول التاريخ ولا تتقصى الأحداث والوقائع لاختبارها، بل تسند على المادة التاريخية، وتدفع بها إلى قول ما لا يستطيع التاريخ قوله. تستمع إلى أنين الناس وأفراحهم وانكساراتهم، إلى وقع خطى مونسيني ورديبوش، قس الجزائر الكبير، وهو يركض باستماتة بين غرفة الشعب بباريس وبيته للدفاع عن الأمير السجين بأمبواز. وهي رواية فوق كل هذا، درس في حوار الحضارات ومحاورة كبيرة بين المسيحية والإسلام، بين الأمير من جهة ومونسني ورديبوش من جهة ثانية، تفند نظرية تصادم الحضارات إذ أن روح التسامح الإنساني تجمع شخصين مختلفين ديانة وهي بذلك تجسد صورة من صور التعايش .
ولقد استطاع “واسيني الأعرج” أن ينقل لنا صورة حية للواقع الأليم الذي واجهه الأمير عبد القادر الجزائري ومعاناته النفسية أيام الجهاد، ومعاناته أيام الأسر . والرواية نقلة نوعية للأدب الروائي العربي، بالرغم من وجود تباين في قراءة هذا النص من خلال أكثر من ناقد أو قارئ، إلا أن ذلك لا يقلل من شأن هذا الكتاب ومن الجهد الطيب الذي قام به المؤلف بتسليطه الضوء على حقبة تاريخية من النضال الجزائري ضد الفرنسيين، وإعادة الأذهان لأحد أبطال الجهاد المبارك الأمير عبد القادر الجزائري. يروى واسيني سيرة الأمير عبد القادر الجزائري والقس ديبوش على لسان راويين أحدهما هو جون موبي والآخر غير مذكور الهوية ومن خلالهما استطاع واسيني بسرده العذب أن يقدم صورة جميلة لكل منهما, فالأمير ذاك الفارس النبيل الذي قدم مصلحة بلاده على أية مصالح شخصية قاوم الفرنسيين في معارك دامية وكبّدها خسائر بالجملة بمعداته الضعيفة, أشعل الحب في نفس كل من اتبعوه و منحوه صفاءهم وثقتهم وحبهم الكبير واتخذوه مثالا وقدوة وقائدا, تتكرر اللقاءات والزيارات من قبل القس للأمير وفي فلاش باك متكرر يقص الأمير أحداث الحرب والانتصارات والهزائم والأخطاء.
تذكر الرواية أن القس مونسينيور بعث برسالة إلى الأمير عبد القادر يناشده فيها لإطلاق سراح السجناء الفرنسيين بغرض إنساني خاصة بعدما أتت عنده زوجته البائسة تحمل رضيعها وهي ممزقة الثياب تبكي على زوجها ..”[26]. فقام الأمير بإطلاق سراحهم وهو مدرك ان مثل هذا الفعل الصادر عنهم سيكتب في التاريخ بالمقابل توجه الأمير بطلب الى القس في الافراج عن السجناء [27]
يقول واسيني عن كتاب الأمير ما أردت قوله في هذا العمل أن مسألة التسامح الديني موجودة، وقد لعبت دوراً كبيراً في العلاقات الصحيحة بين مختلف الطوائف والمذاهب. وفي الحقيقة إن كتابة هذه الرواية جاءت نتيجة مجموعة من التساؤلات حول سؤال الأديان، وسؤال حوار الحضارات. مؤكداً فيها على حوار الحضارات الذي يتم حتى في أصعب الظروف، والرواية كلها مبنية في هذا السياق .
*الحبيب السايح ( رواية كولونيل الزبربر )
يتبوأ إنتاج الحبيب السايح الروائي مكانة كبيرة عند الدارسين والنقاد ، إذ تأسس كقطب رحى في عملية انهاك المضمر الإبداعي ، حتى يخرج من تستراته الكامنة خلف اللاوعي بإنتاجات الوعي والذاكرة ،حيث تلازم كل عملية إبداعية عملا نقديا يزيد من المبدع تألقا ومتعة في الكتابة . ولم يكن السايح في منأى عن تاريخ الجزائر انطلاقا من الثورة ومرورا بالعشرية السوداء ووصولا إلى إسقاط ذلك كله على الواقع المعيش مستدعيا ومسائلا التاريخ زمانا ومكانا وأحداثا وشخصيات ..
وفي الفعل الكتابي للتاريخ يرى السايح أنه ليس تسجيلا للواقع ، بل هو نصا مختلفا نابعا من موقع فكري وتاريخي اتجاه محنة الجزائر ، لذلك لم تكن الرواية سوى نصا يصور واقعا آخر مختلفا . ففي رواية” كولونيل الزبربر”يجمع الحبيب السايح بين ذاكرتين ذاكرة التاريخ وذاكرة الجغرافيا في سرد هذه الرواية ،الزبربر المكان الذي كان ابان الثورة معقلا لجيش التحرير (1954م – 1962 م)، يصبح مركزا لكتائب الجامعات المسلحة 1992م . لقد اعتمد الروائي على التاريخ كمرتكز للأحداث الروائية ، فنجده في المقطع الآتي يذكر تسليم كراسة من قبل مولاي بوزقرة التي دون فيها ذكريات لأحداث جيش التحرير “…ماكان والده مولاي سلمه غياه ، بخط يده في كراسة ذات نابض ، قائلا له قبل نقله آخر مرة …أخشى أن لا أعود ، هذا الشيء من حماقات الرجال ومن حالات ضعفهم ..شيء من قذارتهم أيضا، وشيء آخر من شهامتهم ، إنه شيء من تاريخي ، فللحقيقة رائحتها المنتنة أيضا ..”[28]
وتعرض الرواية مشاهد تاريخية كبرى على غرار 01 نوفمبر واندلاع الثورة ، إضراب الطلبة 19 ماي 56 ،احداث 1958 معركة الحدود (خطي شال وموريس ) ،حادثة نقل الأسير انطوان ،استشهاد زيغود يوسف 25/09/1956، استشهاد سي مسعود شيهاني 25/10/1955 ومقتل بن بو العيد 22/03/1956 ، واستشهاد عباد رمضان 26/12/1957 .(مفاوضات بين الوفدين الجزائري والفرنسي ) ثم الاستفتاء فالاستقلال .ثم إعدام العقيد شعباني .أما بالنسبة لكولونيل الزبربر فقد عاش هو كذلك ذكريات في جبل الزبربر محاولا القضاء على الجماعات المسلحة .
هذه الرواية هي أول نص روائي يتجرأ على المسكوت عنه في حرب التحرير والعشرية السوداء فجبل الزبرب يحمل الكثير من أسرار حرب التحرير ،والعشرية السوداء ،فالسايح يتعرض الى بعض التفاصيل التي لم يذكرها التاريخ ، تعكس اخطاء وتجاوزات فيقدم صورة جديدة واقعية عنها ، حيث ان البطل (بوزقرة )عاش جحيم الثورة وذاق مرارة الخيانة .
خاتمة
توجد علاقة وطيدة بين الأدب والرواية والسّرد التاريخي ، لا يفصل بينها سوى شعرة رهيفة تمنح لكل منها اختصاصه وخصوصيته ،فللرواية مهما كان طابعها فهي لا تسرد سوى التاريخ ، مادامت لا تستطيع الاستغناء عن الزمان والمكان والشخصيات والأحداث ، وما التاريخ إلا تلك العناصر المكونة للسرد .وهي أي الرواية بدون ذلك رؤى فكرية وفلسفية مجردة .
إن الرواية في محاورتها للتاريخ تحاول إثارة الحاضر استنادا الى ما حدث في الماضي ، تهدف إما الى منح تلك القداسة الى ذلك الماضي الذي لا تراه الا مجيدا ، وإما الى نقده وتبيان ما أغفله التاريخ أو تجاوزه ، أو لم يمنحه حقه باعتبار أن التاريخ يكتبه المنتصر.
ومنه فإن الرواية تحاول فهم بعض ما يعتمل راهنها ،استنادا إلى ما عاشته في ماضيها ، وإذا كان هذا الحاضر هو غرس الماضي ، فالاتجاهان السابقان يبرزان في موقفهما من التاريخ ونقله روائيا ،اتجاه كتب عن التاريخ تمجيدا له وإعادة بعث لبطولاته ، واتجاه حاول إنارة الجوانب الخفية أو المغفل عنها ، كما فعل واسيني الاعرج في “كتاب الأمير” ونفس الشيء مع حبيب السايح في “كولونيل الزبربر” .
فالتعاطي مع التاريخ ليس معناه الاحاطة بهالة من القداسة ، ولا تعني معاداته كليا ، لأن التعامل والبحث عن التفاصيل وعدم التسرع في الحكم أمور في غاية الأهمية ، بل دورها ووزنها كبير لحظة الحديث عن علاقة الرواية بالتاريخ .
ولقد استطاعت الرواية الجزائرية أن تفرض نفسها وتحقق كينونتها سواء في سبقها وجوديا – مع أول نص روائي “الحمار الذهبي ” لصاحبه لوكيوس أبوليوس ومرورا بالعمل الروائي “إدريس ” لعلي الحمّامي ووصولا الى الرواية الحديثة والمعاصرة سواء المكتوبة باللغة العربية أو الفرنسية، مع الطاهر جاووت ” رواية اختراع القفار “أو ما كتبه كل من واسيني الأعرج في “كتاب الأمير “أو حبيب السايح في “كولونيل الزبربر” – أو بحثا عن المضامين التاريخية والفلسفية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الجزائري عبر محطات تاريخية هامة و متباينة ،ناهيك عن النقلة النوعية والفنية التي امتاز ت بها الكتابة السّردية في الجزائر .
مصادر البحث ومراجعه
المصادر :
- الحبيب السايح رواية كولونيل الزبربر ، دار الساقي. الجزائر ، ط01 ، 2015.
- طاهر جاووت Édition du seuil paris Invention du désert1 février 1987[1]
- مالك بن نبي رواية “لبيك :حج الفقراء “، ترجمة: د. زيدان خوليف ، دار الفكر للنشر والتوزيع ، 1947م عن (دار النهضة) بالجزائر.
- واسيني الاعرج “كتاب الأمير ، مسالك أبواب الحديد”بيروت دار الاداب 2006
المراجع :
الروايات:
- تولستوي ، الحرب والسّلم ج 1- تر:صباح الجهيم منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي دمشق 1981 .
الكتب:
- جورج لوكاتش ، الرواية التاريخية ،تر : صالح جواد الكاظم ، بغداد ، دار الشؤون الثقافية 1986 م .
- رولان بارت الكتابة في درجة الصفر ترجمة د/محمد نديم خشفة،مكتبة طريق العلم مصر 2015..
- عبد المحسن طه بدر : تطور الرواية العربية الحديثة .دار المعارف السلسلة مصر مكتبة الدراسات الادبية .2017.
- علي عطا “الحرب والسلم ” في ذاكرة الكتابة ، القاهرة 2004
- فيصل دراج :الرواية وتأويل التاريخ ، المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء المغرب ط01 2004
المجلات:
- طانية حطاب ، جدلية التاريخ والمتخيل في رواية الامير لواسيني الاعرج ، مجلة تاريخ العلوم عدد 04.الجزائر 2016.
- محمد طيبي مجلة اللغة والادب ، جامعة الجزائر ، العدد 15 .ابريل 2001.
فيصل دراج :الرواية وتأويل التاريخ ، المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء المغرب ط01 2004 ص 05
[2]ينظر المرجع السابق بتصرف ص 06
جورج لوكاتش ، الرواية التاريخية ،تر : صالح جواد الكاظم ، بغداد ، دار الشؤون الثقافية 1986 م ص 11[3]
فيصل دراج ، نظرية الرواية والرواية الغربية ط 02، 2002 ص 35[4]
جورج لوكاتش المرجع السابق ، ص 46[5]
جورج لوكاتش المرجع السابق ص 64[6]
علي عطا “الحرب والسلم ” في ذاكرة الكتابة ، القاهرة 2004 ،.[7]
تولستوي ، الحرب والسّلم ج1تر:صباح الجهيم منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي دمشق 1981 ص ص 09-13. [8]
تولستوي الحرب والسلم م السابق ص13.[9]
يعود الفضل في اكتشـــافها كما يرى مخــــلوف بوكروح إلى الباحث البريطاني فيـــليب ساد جروف أستاذ ورئيس الدراســـات الشـــرقية في جامــعة «مانشستر ……إن مخلوف بوكروح أراد من تحقيقه هذا أن يؤكد لنا أن الجزائري أبراهام دنينوس 1798- 1872 اليهودي الديانة؛ هو أول من وضع نصا عربيا تأليفا وطباعة، في التاريخ الحديث، مارون النقاش أول من مثل وأخرج/ عرض نصا مسرحيا، ذلك لأنه يريد أن يضعنا أمام حقيقة علمية أدبية. [10]
أن أبراهام دنينوس عمل في كتابة مسرحيته على الاقتباس من أمهات الكتب الأدبية العربية (ألف ليلة وليلة) و(كشف الأسرار في هياج الطيور والأزهار)، وغيرهما من المراجع والمصادر الأدبية والدينية. [11]
نسبة الى عين الحمام الواقعة في قلب تيزي وزو بالجزائر .[12]
صاحبها مجاهد جزائري من أجل قضية بلدان المغرب العربي وخاصة ضد الاستعمار، ولد في تيهرت ـ الجزائر سنة 1902، وتوفي في باكستان سنة 1949، أما الرواية فكتبها في بغداد سنة 1942م. [13]
النص الاصلي مكتوب باللغة الفرنسية ، قام بترجمة الرواية الدكتور التونسي محمد الناصر النفزاوي ، الذي اعاد الحياة للرواية لكونها عدّت في حكم المفقود .[14]
رواية “لبيك :حج الفقراء “، تأليف مالك بن نبي ،ترجمة: د. زيدان خوليف ، والذي صدر عن دار الفكر للنشر والتوزيع ،ترسم عمق الروح الجزائرية وشخصيتها المنتمية إلى تراث الثقافة والحضارة الإسلامية وظهرت الرواية في زمن مبكر من تأمل مالك بن نبي ومما جاء في مقدمة الكتاب:”لبيك اللهم لبيك”. كلمات يناجي بها المسلم ربه خلال فريضة الحج. اختار بن نبي هذه العبارة عنواناً لرواية كتبها بعجالة وبين سفرتين في غرفة فندق. وتم نشرها سنة 1947م عن (دار النهضة) بالجزائر.. تدور أحداث القصة في مدينة عنابة (بونة إبان الحقبة الاستعمارية)، حيث وضع بن نبي القارئ في الأجواء التي كان يعيشها الإنسان الجزائري البسيط ، حيث مؤثرات النمط الأوربي قد طغت على الجو العام. فالعم محمد، والطفل هادي والسكير إبراهيم وزوجته، كانوا يمثلون الشعب الجزائري بمختلف فئاته. فالعم محمد يمثل الأصالة المتجذرة في الأمة. أما إبراهيم فهو يمثل – وعلى انحرافه- الجيل الذي احتك بالمجتمع الأوربي في الجزائر حيث كان في حيرة من أمره. فكل ما تعلمه منذ الصغر وإن كان غائصاً في أعماقه، فإن ما يطفو على السطح لا يتناسب مع أحاسيسه العميقة. إنه الفراغ الذي يعانيه كل امرئ غير مقتنع بعقيدته ومقوماته الأخلاقية. لكنه استدرك الأمر، وأدى إبراهيم فريضة الحج.”[15]
لوكيوس أبوليوس و بالأمازيغية أفولاي (125م – 180 م) ترعرع في مداوروش هو كاتب لاتيني وخطيب أمازيغي نوميدي وفيلسوف وعالم طبيعي وكاتب أخلاقي وروائي ومسرحي وملحمي وشاعر غنائي. ولد في حوالي عام 125 م، في مدينة مادور، والتي يطلق عليها اليوم مداوروش في ولاية سوق أهراس، الجزائر. كان يسمي نفسه في مخطوطاته أحيانا ” أبوليوس المادوري الأفلاطوني ” و” الفيلسوف الأفلاطوني ” أحيانا أخرى.يعتبر صاحب أول رواية في التاريخ وتوفى سنة180 م
كتب رواية التحولات أو التغيّرات باللغة اللاتينية القديمة، وهي الرواية الوحيدة بتلك اللغة التي لها نسخة محفوظة بحالة سليمة. وُيطلق على الرواية أيضًا الحمار الذهبي. وقد كتبت في 11 جزءًا، بأسلوب طغى عليه التعقيد والمحسنات اللفظية. وتتعرّض لمغامرات شاب يُدْعَى لوسيوس، شاءت الصدف أن يُمسخ حمارًا. فصار يتنقَّل من مكان إلى مكان، وهو يُمعْن النظر في غباء البشر وقسوتهم. وأخيرًا تنجح الإلهة المصرية إيزيس في إعادته إلى هيئته البشرية. وتحتوي الرواية على العديد من الحكايات القصيرة، أشهرها قصة كِيُوبيد وبْسيشة.[16]
مراهق بطل من مرصد للحياة على معترك المعاش وهشاشة التاريخ، بما فيهما من تشابكات وتناقضات: في الماضي البعيد بطولة طارق بن زياد في صراع مع أميره موسى بن نصير الذي حركته الغيرة بعد انتصار مأموره في معركة الزقاق التي فتحت بلاد الأندلس، وفي الماضي القريب حوادث حرب التحرير ووقائعها ، هكذا يعي المراهق أمورا كثيرة من خلال تراكم تفاهات وتفاصيل الحياة المنزلية ويختبر ويترصد لتصرفات الكبار وخلفياتها، من منظوره الخاص المتسم بالعفوية الثاقبة. فيصبح التاريخ البعيد والقريب آنذاك، مجرد تعلة للغوص في غمار الواقع وزخامة الحياة وحساسية الناس والأشياء والمبهمات؛ أي تعلة للكتابة وخرق الفضاء الإبداعي المحدث . [17]
محمد طيبي مجلة اللغة والادب ، جامعة الجزائر ابريل 2001 ، العدد 15 ص 130.عن رولان بارت الكتابة في درجة الصفر .[18]
طاهر جاعوط أو جاووت (1954-1993) شاعر وروائي وصحفي جزائري أُغتيل إبان العشرية السوداء في الجزائر..[19]
L’Invention du désert1 février 1987[20]
ينظر محمد طيبي ، مجلة اللغة والادب ، م ، سابق ص 131[21]
محمد بن عبد الله بن وجليد بن يامصال المشهور بابن تومرت المهدي (471 أو 474هـ[1] – توفي 13 رمضان 524 هـ مؤسس الدولة الموحدية [22]
انظر طاهر جاووت في المقدمة كلام مع الناشر .[23]
يستدعي الطاهر جاووت التاريخ للتأصيل لأمازيغية المكان (بجاية ،بسكرة،اهقار ،مراكش ..) انظر محمد طيبي السابق ص 166 نقلا عن طاهر جاووت الرواية ص13 .والطاهر جاووت كانه هو صاحب الرحلة سواء عند رامبو او ابن تومرت ( لانه امازيغي )..[24]
ينظر : طانية جطاب ، جدلية التاريخ والمتخيل في رواية الامير لواسيني الاعرج ، مجلة تاريخ العلوم ص 03[25]