
مداخلة ألقيت خلال المؤتمر العلمي الدولي السابع لكلية التربية/ جامعة واسط بالعراق آذار/ مارس 2014
تعددت المراجعات الفكرية للتراث العربي في العصر الحديث والمعاصر،حيث تمت معها زعزعة المسلمات التي ظهرت بوصفها تحكمية سلطوية توجه الوعي العام ،أو باعتبارها أنساقا مضمرة تستخدم آليات خطابية لترسيخ قيم التبعية والنمطية والمعيارية الثابتة،ومع هذه المراجعات أعيد الاعتبار للخطابات الهامشية التي أقصاها المركز حفاظا على تموضعاته ،لكونها تقدم حقائق مغيبة هي ما تتسمى بمسمى الأصيلة،ومن هذه المراجعات القراءة الفكرية لطه عبد الرحمن والتي رامت استنطاق ما سكت عنه الخطاب المركزي وجعله في طي النسيان والتجاهل،ولربما التنوع الموضوعاتي في المنجزات الطاهوية تدل على الحرص في التقصي والاستنطاق،فمع فضح الحداثة الغربية وكشف تناقضاتها تم الاجتهاد من أجل تحصيل حداثة إسلامية مؤسسة على القيم الأخلاقية بعكس مرجعيات الحداثة الغربية المنتهكة للقيم،ومع السؤال المسؤول تتحدد رؤية الكاتب نحو خلق وعي مغاير يحترم حدود الاختلاف ،وينهي كل أشكال الوصاية الفكرية ،ومع الحفر في المصطلحات تنكشف الرغبة في فضح التحيزات الأيديولوجية الكامنة في سبيل تحريرها وخلق اعتباراتنا الاصطلاحية ،ومع التعددية القيمية تتحدد الرؤية نحو نبذ التصادم من أجل خلق حضور قيمي تعددي متصادف،ومع مراجعة الخطابات الفكرية التي اهتمت بالتراث يظهر الاهتمام بفضح الأوهام الأيديولوجية التي انبنت عليها الرؤى الفكرية العربية المعاصرة….
انطلاقا مما قلناه نحاول الإجابة عن الإشكاليات المقدمة:
ـ ماهي مرتكزات السؤال الفلسفي حول موضعية القيم عند طه عبد الرحمن؟.
ـ كيف يمكن اجتناب آفة التطبيق الغربي لما سماه طه عبد الرحمن بروح الحداثة من منظوره الخاص؟
ـ ما الاعتبارات المعتمدة في خطاب التطبيق المضاد؟.
ـ ما نتائج هذا التطبيق؟وهل استطاع الباحث التحرر من المرجعيات الغربية في بناء حداثة إسلامية؟.
كانت دوافعنا في اختيار هذا الموضوع تنحو نحو منحنين:
منحى موضوعي:حيث يكتسي مشروع طه عبد الرحمن أهمية كبيرة،بالنظر إلى جدة الطرح وأصالته واعتماده مرجعية فكرية متعددة،ومحاولة تخطيه للمرجعية الغربية أو المرجعيات المستعارة على حد تعبير عبد الله إبراهيم في تقديم قراءات مغايرة للتراث العربي الإسلامي.
منحى ذاتي:يتمثل في الرغبة الموجهة،إذ النصوص الفكرية تتماشى وتوجهاتي ،حيث السعي إلى إيجاد قراءة تراثية محايدة تبتعد عن حدود المطابقة والتماثل.
وإجابة عن الإشكاليات المطروحة قسمنا البحث إلى عدة نقاط:
1ـ المشروع الفكري لطه عبد الرحمن:ملمح عام
2ـ الإطار المرجعي لفكر طه عبد الرحمن:المنهج والأسس
3ـ خطاب الحداثة بين مركزية الحضور الأنوي والكونية التعددية
4ـ الحلول والمقترحات كما هي في ذهن المفكر.
خاتمة:عرضنا فيها أهم النتائج.
وقد قدمنا قراءة تحليلية مستفيدين من بعض معطيات التفكيكية،وإذ فعلنا ذلك فإننا نروم تقديم إضاءة ولو بسيطة عن مشروع المفكر كونه يقدم جديدا ويؤصل لمنظور مغاير لا يتجاهل المرجعيات الدينية والأخلاقية ولا يقصيها.
1ـ المشروع الفكري لطه عبد الرحمن:ملمح عام
سعى “طه عبد الرحمن” في مشروعه الفكري إلى إحياء الاجتهاد في الفكر العربي الإسلامي ،إذ حفر في مختلف الخطابات التراثية والدينية والسياسية لافتا الانتباه إلى الاعتبارات الخطابية التي تم تغييبها وإقصاؤها بكل حمولاتها الفكرية لأسباب أيديولوجية كالخطاب الصوفي والقول الكلامي…،و اعتبر أن هذه الخطابات الهامشية منبع للتجديد والمغايرة ،كما اهتم بمراجعة الخطابات الفكرية السائدة والتي قدمت قراءات متباينة للتراث العربي كخطاب الجابري ـ الخضيري ـ نجيب بلدي …ساعيا إلى خلخلة التصورات السائدة وقلب كثير من المفاهيم والمقولات التي سيجت مدة طويلة من الزمن الاختلاقات الخطابية وظهرت بوصفها اعتبارات سلطوية أثبتت تحكميتها مدة طويلة من الزمن في الفكر العربي الإسلامي المعاصر،إذ تم التعامل معها بجاهزية مطلقة دون إخضاعها للاستنطاق وكشف زيف ادعائها أو خطر استبدادها بالمخيلة والإدراك العقلي ،مما ساعد على إنتاج عقلية التطابق والتبعية لدى فئة من الباحثين المتقدمين والمتأخرين ،ومن هذه الاختلاقات أو المقولات الجاهزة”العقلانية والبرهانية والعرفانية والحداثة والنقد والخطابة…. ،وهذا الاستنطاق هو ما رام البحث في المسكوت عنه أو اللامفكر فيه بلغة أهل التخصص،والذي”يعني أن المؤلف حين يفكر في شيء بعينه ويسجله حاضرا في الكتابة هو في الوقت نفسه ينسى أن يفكر في أشياء أخرى تكون بمثابة نص غائب مواز للنص الحاضر وهكذا يدرك القارئ هذا اللامفكر فيه”[1].
إذن سعى “طه عبد الرحمن في قراءته للتراث إلى تحرير الرؤية الفلسفية العربية من عوائق التبعية والتقليد والمطابقة،معتبرا أن النظر في كل القضايا والمسائل بشكل يجاوز كل ما هو سائد يعد أولى خطوات بعث الحياة في الفلسفة وذلك من خلال الترجمة والتأصيل.
طمح”طه عبد الرحمن” إلى تحقق فلسفة عربية متميزة تتمايز عما سواها في مختلف اعتباراتها،ولكون الفلسفة تتأسس على السؤال فقد دعا إلى ما أسماه “السؤال المسؤول” والذي يعتبر طورا ثالثا من أطوار السؤال الفلسفي،الذي مر بأطوار ثلاثة :الطور الأول “السؤال اليوناني القديم”والذي عد سؤال فحص،الطور الثاني”السؤال الأوربي الحديث “الذي عده سؤال نقد،في حين أن السؤال المسؤول يحاول مجاوزة أشكال السؤال الفلسفي القبلي”الفاحص والناقد معا”،باحثا في اعتباراته عن تموضعاته ناقدا وضعه وموضوعه في الوقت ذاته،أي أنه يحاول تحرير سائله من أجل خلق فيلسوف عربي جديد مهمته تحرير القول الفلسفي العربي،ويقول بهذا الصدد في مقدمة كتابه”الحق العربي في الاختلاف الفلسفي”:”السؤال الفلسفي الأحدث ليس سؤالا فاحصا لموضوعه،متوسلا بوضعه كسؤال كما نجد عند سقراط،ولا سؤالا ناقدا لموضوعه،مسلما بوضعه كسؤال كما نجد عند كانط ،وإنما سؤال يسأل عن وضعه كسؤال بقدر ما يسأل عن موضوعه،أو بلغة الفحص السقراطي سؤال يفحص وضعه كما يفحص موضوعه أو ـ بلغة النقد الكانطي ـ سؤال ينتقد وضعه كما ينتقد موضوعه”[2].
لكن ما نراه أن هذا التوصيف الذي يعتمد التجاوز ركيزة له فيه نوع من المبالغة،إذ السؤال الفلسفي يتشكل من الاعتبارين معا”الفحص والنقد”،كما أن مفهوم التجاوز لا يستقيم إلا مع الممارسة الفلسفية من خلال طرح الإشكاليات والخلق المفاهيمي أو الإضافة على ماهو سابق…،من هنا فالفلسفة بناء مفاهيمي قبل كل شيء .
إن الاشتغال بنقد المفاهيم يطرح أمامنا مفهوم الاختلاف الفلسفي،ومن هنا يتجاوز السؤال المسؤول إلى السؤال النقدي،خاصة مع سياق ما بعد الحداثة واضطلاع فلاسفة الاختلاف(نيتشه ـ فوكو ـ دولوز..) بتجسيده ،إلا أن دعوة طه عبد الرحمن إلى الحق في الاختلاف الفلسفي لا يجد رفضا أو اعتراضا إلا من قبل أصحاب الوصاية الفكرية والهيمنة الأحادية أصحاب الرسوخ واليقينيات الثابتة في شتى المجالات،إذ الفلسفة تتأسس على الاختلاف ولكل حقه في التفلسف ضمن دائرته الثقافية ،مع الاعتراف بأن للآخر الحق نفسه،إذ الآخرية ترد بوصفها”بنية لغوية رمزية ولا شعورية تساعد الذات على تحقيق وجودها ضمن علاقة جدلية بين الذات ومقابل لها هو من يطلق عليه الآخر”[3]،وهذا المفهوم يصنع تنوعا معرفيا فلسفيا بعيدا عن صفة التمركز والانغلاق المعرفي.والأمر يشبه ما طرحه”عبد الله إبراهيم” حينما طالب بالاختلاف،والذي عرفه بأنه”انفصال إجرائي عن الآخر،بما يمكن من رؤيته بوضوح كاف،وانفصال رمزي عن الذات بما يجعل مراقبة أفعالها ممكنة.والنقد هو الممارسة التي يمكن اعتبارها دعامة الاختلاف الشرعية”[4].
يستكشف الباحث الخلط المفاهيمي الواقع لدى المتأخرين والمتقدمين،وذلك بالفعل الإسقاطي المتجاهل لخصوصية المصطلحات،إذ فريق يسقط الشورى على الديمقراطية وآخر يسقط الحرب الدينية على الفتح.وهذا الأمر ينافي خصوصية المفاهيم،حيث المنقولة منها ترد على المأصولة والعكس.
يسعى طه إلى بناء حداثة تتأسس على الإبداع المرتكز على قاعدتين:
1ـ الاعتراض على كل أمر منقول حتى تثبت صحته بالدليل،ولن يتم ذلك إلا بممارسة النقد الإثباتي بوصفه إنتاجا وإعادة إنتاج ضمن الإطار التداولي ليتساوى المنقول والمأصول في درجة المثول.
2ـ التسليم بكل أمر مأصول حتى يثبت فساده واختلاله بالدليل،ويكون فعل الإبطال بممارسة النقد الإبطالي وذلك باختلاق مفاهيم ضدية في المجال التداولي،أو إعادة إنتاجها في مجال مغاير وإعادة الإنتاج هو إبداع جديد لكنه مخالف للإسقاط،لتكون الحداثة إبداعا مجاوزا لتقليد المتقدمين والمتأخرين على حد السواء.
ويمكن الحديث عن منحنين للمشروع الطاهوي:
1ـ محاولة التخلص من المماثلات والمطابقات سعيا إلى بناء فلسفة عربية أصيلة،وذلك من خلال مراجعة القول الفلسفي ومحاولة تخليصه من التقليد والتبعية.
2ـ تأسيس حداثة إسلامية تبني اعتباراتها انطلاقا من النقد الأخلاقي للحداثة الغربية،التي تقود إلى”سلسلة لا نهائية من التقليد المفتعل الذي تصطرع فيه التصورات،وهو يصطدم بالنماذج الموروثة التي ستبعث على أنها نظم رمزية تمثل رأسمال قابل للاستثمار الأيديولوجي عرقيا وثقافيا ودينيا”[5]،لتلي هذه العملية توضيح رؤية الإسلام لإشكالات العصر.
واعتبارا مما سبق نجد مشروعه يتأسس على محورين أساسيين: 1ـ المراجعة،2ـ التأسيس.
فأما المراجعة فتتجلى في نقاط هي:
ـ السعي إلى استيعاب الإسلام وإعادة النظر في حقيقته وفي كل الحقائق المغايرة التي تجاوره،سواء تعلق الأمر بالمفاهيم والتصورات الغربية التي بنيت عليها الحداثة أو بالتأصيل لمفهوم الحوار والاختلاف في سبيل بناء حداثة إسلامية تراهن على خصوصيتها.
ـ مراجعة كل الخطابات الفلسفية ومرجعياتها المتضاربة،إذ المصدرية تشي بانحراف الفكر الإنساني والذي امتدت نتائجه إلى العصور الحديثة.
ـ محاولة القضاء على الروح الانهزامية بتحرير العقل الإنساني من تأثير المرجعيات الغربية والمسلكية التماثلية في بناء الوعي الذاتي،سعيا إلى الاستقلال الفكري والاختلاف والتحلل من أوهام الحداثة الغربية.
وأما التأسيس فيتحدد في نقاط:
ـ تأسيس نظرية تكاملية للتراث تجاوز كل الاختلالات الآلية والموضوعاتية التي اتسمت بها الممارسات القرائية السائدة للتراث العربي،وذلك بالتعويل على رؤية مغايرة تصل التراث بمجاله التداولي.
ـ بناء منهجية تطبيقية مضاهية للفكر الغربي الحديث،إذ سعى الباحث إلى مساءلته ومراجعة مقولاته.
ـ تأسيس فلسفة أخلاقية إسلامية معاصرة.
ـ بناء حداثة أخلاقية إسلامية تسعى إلى تجاوز الخطاب الحداثي الغربي الساعي إلى تدمير الإنسان.
ومن هنا يتم الاعتماد على الذات في بناء اعتباراتها الهوياتية،”فالغرب الذي ارتضى ثقافة خاصة وتراثا خاصا ليس من المفترض أن نتبنى ما ارتضاه،وكما هو يبني شخصيته على أسس تناسب تراثه وتاريخه الروماني اللاتيني،فلنا أيضا طرقنا وأساليبنا في بناء شخصيتنا،وهذا البناء يبدأ بصياغة أسس جديدة لتدوين تاريخنا الحديث والمعاصر وثقافتنا العربية الإسلامية”[6].
سعى”طه عبد الرحمن” إلى نقد مبادئ التعددية القيمية (مبدأ التعارض بين العقل والدين ـ مبدأ التعارض بين السياسة والأخلاق ـ مبدأ التطابق بين الثقافة والأخلاق) معولا على الاستدلال المنطقي والتدرج الاستدلالي،مقدما بديلا واضحا وهو ما سماه بمعالم تعددية قيمية جديدة،فبعد أن وجد أن المبادئ التي تأسست عليها التعددية القيمية أنتجت تصادما بين القيم طرح مبادئ جديدة هي:مبدأ التوافق بين العقل والدين ـ مبدأ التوافق بين السياسة والأخلاق ـ مبدأ التفاوت بين الثقافة والأخلاق،ليطرح إشكال التعارض في الافتراض وماهو مؤسس قبلا بين التعدد في القيم وافتراض ثبوت وحدتها إذا أردنا القضاء على التصادم وإلا كيف يتم تحقيق تعددية قيمية.
أجاب طه عن هذا الإشكال بضرورة التفريق بين التعددية القيمية الناشئة في ظروف حداثية وإيديولوجية وإستراتيجية خاصة،وبين واقع التعدد الذي هو اعتبار وجودي لا يفارق حياة الأفراد ولا تاريخ المجتمعات،لذا فإبطال مرتكزات مذهب التعددية القيمية المعاصر لا يفترض تهديم أسس مبدأ التعدد القيمي ولا إقصاء حق التعدد ،من هنا فالنظرة المؤسسة انطلاقا من ذلك تفترض تعددا قيميا يعدم معه التصادم أو ما يسميه طه”تعددية القيم المتصادفة” التي تسعى إلى موضعية مركزية بالنظر إلى تهديم مرتكزات التصادم القيمي أو آفات التعددية المعاصرة،وهي:آفة التسيب العقلي الحداثي ـ آفة التسلط السياسي الإيديولوجي ـ آفة التطرف الثقافي الاستراتيجي.وتحقيقا لهذه الغاية يحدد الباحث الحلول الواجب اتباعها في نقاط:
1ـ تأسيس العقل على الإيمان:
يبين طه أن دفع التسيب العقلي الناتج عن الاعتماد على العقل وإقصاء الدين يكون بشيء متقدم على العقل،وذلك غير محقق إلا في الإيمان،”بدليل أن الأخذ بالعقل نفسه يحتاج إلى الإيمان به،حتى إن بعض الفلاسفة طمعوا في الحد من هذا التسيب بالرجوع إلى هذا الإيمان الأول بالعقل،والإيمان في مجال العقل كالإيمان في مجال الدين،فكلاهما لا يغني فيه الدليل المجرد”[7]،من هنا وجب تأسيس النظر العقلي على الإيمان حتى يقف على التعددية الصحيحة.
2ـ تأسيس السياسة على الخير:
يجد الباحث أن الاستبداد السياسي من إفرازات إقصاء الأخلاق والأخذ بالسياسة،لذلك وجب تأسيس النظرية السياسية ـ سواء تعلق موضوعها بالسلطة أو بالمصلحة أو بالعدل أو بالحق ـ على نظرية في الخير وإلا تحللت،بل وجب توجيه مدركاتنا نحو اعتبار السياسة ذاتها خير من الخيرات،”ومعلوم أن الخير ليس رتبة واحدة،وإنما مراتب متعددة،وكلما كان الخير الذي ننسبه إلى السياسة أعلى،كانت هي أبعد عن التسلط،فمابالك إذا كان هذا الخير هو الخير الأسمى”[8].
3ـ تأسيس الثقافة على الفطرة:
إن الوصاية الثقافية أنتجت تطرفا وغلوا ،وذلك بعد إقصاء الأخلاق الدينية،”ولا سبيل إلى دفع هذا التطرف إلا بتحصيل اليقين بأن الثقافة،مهما تقلبت أطوارها وتقوى عطاؤها ،تظل نتاجا نسبيا”[9]،وهذه النسبية تؤكد مصدرتها المختصة بقوم محددين في مجال تداولي معين،مهما امتد انتشارها فيما بعد إلى أمم مغايرة،بسبيل الطوع أو الكره،إذ الثقافة تفترض كسبيتها الموصولة بظروف خاصة،إلا أن الأمر لا يعدم وجود قيم مشتركة بين جميع الناس تتموضع أحوال الثقافة بالنظر إليها في ثلاثة أحوال:”إما أن تبني عليها مع إقرار بأصلها غير الكسبي،أو تبني عليها بغير إقرار بأصلها غير الكسبي،عن قصد أو غير قصد،وإما أن تحرفها وتعمل على قطع صلتها بها،مستبدلة مكانها قيما ثقافية لا حظ لها في أن تكون مشتركة بين الأمم”[10]،والقيم المشتركة غير الكسبية هي ما اندرج تحت مسمى”الفطرة” والتي يعرفها الباحث بقوله:”هي جملة القيم المثلى التي استمدها الإنسان من الخير الأسمى،لهذا،فعلى قدر استناد الثقافة إلى هذه الفطرة والاهتداء بها في إنشاء قيمها الخاصة،تكون أبعد عن التعصب لهذه القيم وأقرب إلى الانفتاح على غيرها والاشتراك معها”[11].
إذن فالتعددية المطلوبة حسب الباحث تنافي التسيب العقلي وتجافيه تحقيقا لمبدأ الإيمان،كما تلغي التسلط السياسي من خلال وصل السياسة بمبدأ الخير،وتقصي التطرف الثقافي وذلك بربط الثقافة بالفطرة.
التعددية القيمية المعاصرة مذهب فلسفي أخلاقي سياسي يتأسس على التصادم القيمي،إذ يفترض وجود قيم متعارضة ومتغايرة،وقد ظهر هذا المذهب في ظروف محددة أولها الحداثة التي تأسست على التعارض بين العقل والدين(محاربة الكنيسة)،والذي أضفى إلى تسيب عقلي بدل موضعته في إطاره الصحيح،وثانيها:الليبيرالية المؤسسة على مبدأ التطابق بين السياسة والأخلاق والذي أضفى إلى تسلط سياسي،وثالثها:صدام الحضارات القائم على مبدأ التطابق بين الثقافة والأخلاق والذي تسبب في تطرف ثقافي.
وهذا الأمر أوجد حلولا متباينة بين أهل الغرب من أجل القضاء على الصدام القيمي:أولها طريق التقرير الذي نادى به”فيبر”و”برلين” والذي يعتبر أن الفصل في القيم المتصادمة يقوم على تحكم الإرادة،ثانيها طريق التدليل الذي قال به”هابرماس” و”آبل” والذي يقر بأن الحل لهذا الإشكال يكون بالإثبات بالدليل ،وهو على ضربين:إثبات نسبي يخوض في المتعارف عليه اجتماعيا،وإثبات جذري يكون مطلقا،وثالثها:طريق التفريق الذي أقر به”رولز”،إذ يحصر مجال القيم المتصادمة في الحياة الخاصة للأفراد دون العامة منها التي لا يرى فيها صداما،ثم رابعها مع طريق التجميع مع “ولتزر” “وهو يجعل القيم الأخلاقية متصادمة من حيث اندماجها في الثقافة متوافقة من حيث اقترانها بالأحداث الإنسانية”[12].وعل هذا الأساس يطالب الباحث بتعدديةقيمية جديدة مؤسسة على مبدأ تصادف القيم،والتي يتم تحصيلها وإدراكها بإزالة أسباب التصادم المتمثلة في:آفة تسيب العقل،وآفة التسلط السياسي وآفة التطرف الثقافي،يقول:”ويمكن أن ندفع آفة التسيب بأن نبث في العقل قيمة الإيمان،وأن ندفع آفة التسلط بأن نبث في السياسة قيمة الخير،وأن ندفع آفة التطرف بأن نبث في الثقافة قيمة الفطرة،فإذن تعددية القيم المتصادفة،على عكس تعددية القيم المتصادمة المعاصرة،لا تسيب فيها ولا تسلط ولا تطرف”[13].
2ـ الإطار المرجعي لفكر طه عبد الرحمن:المنهج والأسس
حاول “طه عبد الرحمن” أن يقدم قراءة تراثية مغايرة للقراءات السائدة،فقد وجد أن هذه القراءات المعاصرة للتراث تفرقت بين نزعتين:نزعة مضمونية تهتم بالمضامين النصية مقصية الوسائل المنتجة لهذه المضامين،ونزعة تجزيئية تسعى إلى تقسيم هذه المضامين إلى قطاعات متغايرة لتشكل حولها موقفا تفاضليا،إذ حسب هذا الموقف هناك جزء من التراث يستحق التوجه إليه وربطه بأسباب الحياة،وهناك من لا يستحق الدرس كونه ميتا مما يجب معه التغييب والإقصاء،يقول في هذا الصدد:”ومتى سلمنا بأن الدراسات التراثية تأخذ بالمضامين من دون الوسائل التي أنتجتها إنتاجا،واقعة بذلك في الإخلال بحقيقة التلازم بين الطرحين التي تستفاد من مقدمة التركيب المزدوج للنص،وسلمنا بأنها تقسم هذه المضامين التراثية إلى أجزاء تفاضل بينها،فتنتقي ما حسن عندها،وجب حينذاك أن تقيم الدليل على أن النزعة المضمونية هي التي حملت المشتغلين بالتراث على اعتناق النزعة التجزيئية”[14].
إذن بين “طه عبد الرحمن” أن التراث جزء من تركيبتنا ،إذ يوجه رؤانا وتصوراتنا ويتحكم في حاضرنا ومستقبلنا،ومن هذا المنطلق طرح آليات التعامل معه ومختلف المبادئ النظرية التي وجب الانطلاق من خلالها في كتابه”تجديد المنهج في تقويم التراث”،حيث سعى فيه إلى التجديد في المنهاج الذي تم التعامل وفقه مع التراث من قبل مفكرين سابقين ومعاصرين،ولذلك وسعيا لتقويم التراث الإسلامي العربي جاوز طه مسلك مفكري الغرب والعرب،إذ اعتمد أدوات منهجية كامنة في التراث ذاته متحريا في استخراج الوسائل الملازمة للتراث في مختلف أطواره وأقسامه الوقوف على أحدث الآليات المعرفية المنهجية العلمية ،لذلك سعى في تقويمه للتراث إلى استنباط وسائل هذا التقويم باستخدام منهجية حديثة جدا تفوق كل الآليات والاعتبارات المنهجية المستنبطة من خارج هذا التراث قيمة وحضورا،وحجته في ذلك أن السياق المغاير الذي ظهرت فيه الآليات والمناهج الغربية تجعل من العمل بها في سياق البحث في التراث العربي الإسلامي فيه نوع من المغالاة والإقحام غير الممنهج وغير السليم،نظرا لتباين الأهداف والأوصاف،وهنا مكمن التجديد عند “طه عبد الرحمن”،فالباحث يرفض تبيئة المناهج بشكل تعسفي ،وذلك بفصلها عن سياقاتها،إذ يرى أن معظم الباحثين اعتمدوها بدعوى الموضوعية والسببية والإجرائية،من هنا استخدم في عمله التجديدي مفهوم الاجتهاد هادفا إلى بناء منهجية خاصة بعيدة عن صفة المطابقة.
في هذا الكتاب سعى الناقد إلى مراجعة القراءات التراثية السابقة،وتوضيح ما انبنت عليه من تلبيسات وأوهام أيديولوجية ـ خاصة محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي ـ،إذ نادى بالنظرة التكاملية لا التفاضلية التي يعتمدها غيره،وهذه نظرة كما قلنا سابقا تجديدية لكونها لا تفصل في التراث بين النظري والعملي،فمع حديثه عن المبادئ النظرية إشارة للجانب العملي الذي يتموضع ضمن إطاره العمل والسلوك وتتحدد وفقه خصوصيته.
من هنا فالمبادئ النظرية التي وجب الانطلاق منها في مقاربة التراث أجملها فيما يلي:
ـ التحرر من الجاهزية والاستباق في إطلاق الأحكام على التراث ،والتي غالبا ما تحمل نية مبيتة تبتعد عن حدود المعرفة الموضوعية ومحاولة الظفر بالحقيقة.
ـ الوصول إلى معرفة شاملة بمناهج علماء الإسلام المتقدمين ،وكذا علماء الغرب الحداثيين،هذه المعرفة تتوسل تجاوز المطابقة إلى الاجتهاد في وضع النظريات والمناهج.
ـ المعرفة الكلية بأقسام التراث وجزئياته،واستخدام أنسب الوسائل خلال وصف هذه الأقسام.
بينما تتحدد المبادئ العملية في النقاط الموالية:
ـ عدم الفصل في الحكم على التراث بين جانب المعرفة وجانب السلوك،إذ في الأمر تقرير لما لا يتم العمل به،فإن كان التراث الإسلامي قد سددت ركائزه اعتمادا على الشرع،فكيف يستقيم إدراك حقائقه ومن ثمة تقويمه لمن خالفه وترك العمل به.
ـ وجوب الاعتماد على أصول العمل في التراث من أجل تحصيل المعرفة مثل:المنفعة في العلم ـ الصلاح في العمل ـ الاشتراك في طلب الصواب،على اعتبار أن العلم النافع من تجاوز بمنفعته إلى الغير ،وأن الصواب المشترك ما تم تحصيله بمحاورة أهل العلم ومجالستهم.
ـ الاجتهاد في تجديد التكوين العقلي الخاضع للمقتضيات العملية للتراث من أجل الحصول على وحدة العلم والعمل والصواب.
وقد جدد طه اعتباراته النظرية والعملية بالاعتماد على طريقة أهل المناظرة التي تفترض الارتكاز إلى المنطق المنبثق من مبدأ الاشتراك مع الغير أثناء تحصيل العلم،وعلى القواعد الأخلاقية التي تشجع النفع لتجعله متجاوزا الذات إلى الغير،يقول بهذا الصدد:”ولما ألزمنا أنفسنا بهذه المبادئ النظرية والعملية،فقد حملنا ذلك على أن نأخذ في بحثنا بمنهجية تعتمد أساسا مسلكا حواريا موصولا بالطريقة التي اشتهرت بها الممارسة التراثية،وهي:طريقة أهل المناظرة.ومعلوم أن هذه الطريقة التي شملت جميع دوائر المعرفة الإسلامية العربية،تنبني على وظائف منطقية تأخذ بمبدأ الاشتراك مع الغير في طلب العلم وطلب العمل بالمعلوم،كما تنبني على قواعد أخلاقية تأخذ بمبدأ النفع المتعدي إلى الغير أو إلى الآجل”[15].
اعتبارا من هذا الأمر واعتمادا على المنهجية الحوارية المناظراتية عمد طه إلى نقد الأعمال الناقدة للتراث،والتي توسلت بمنهجية غير حوارية مستخدمة نظرة تجزيئية وانتقائية.
لقد تجاوز “طه عبد الرحمن” في قراءته النظرة التجزيئية والتفاضلية في سبيل تعميم النظرة الشمولية والتكاملية،حيث عول على استخدام أدوات مأصولة لا منقولة أو مستعارة،فحاول الانطلاق من اعتباراته المضمونية وعدته المفاهيمية ليتجاوز نقد المضمون التراثي دون الوسائل المسؤولة عن إنتاج هذا المضمون وتنميط صوره،إذ معظم القراءات التراثية المعاصرة نظرت إلى التراث نظرة جزئية تفاضلية،واستخدمت في معالجة مضامينه وسائل تجريدية وتسييسية منقولة متجاهلة الوسائل ذاتها المؤصلة لهذه المضامين.
إذن “طه عبد الرحمن” في مشروعه الشمولي التكاملي لقراءة التراث،سعى في تقويمه إلى استكشاف الآليات التي تفرعت بها المضامين التراثية لتكون وسيلة لنقد هذه المضامين،وهذا ما يسمى بـ”النظرة التكاملية”،وتحقيقا لرؤيته اشتغل الباحث على ثلاث اعتبارات:
أ ـ محاولة إبطال التقويم التفاضلي للتراث العربي الإسلامي(نقده الخطابات التجزيئية والتفاضلية):
سعى “طه عبد الرحمن” إلى الكشف عن مواضع التجزئ أو الاقتطاع التي عانى منها التراث في قراءته،من أجل الوقوف على خلفيات أو مسببات هذا الاقتطاع،إذ التقويم المضاميني للنص التراثي والذي يتم معه تجاهل النظر في الوسائل اللغوية والمنطقية التي تم إبلاغ هذه المضامين بها يوقعه في فخ التجزيء .
لاحظ الباحث أن النص يحمل تركيبا مزدوجا ،فهو يتشكل من مضامين مخصوصة تبنى بوسائل محددة،ويتم صياغتها بشكل معين،ومن هنا لا يمكن استيعاب هذا المضمون ـ سواء القريب منه أو البعيد ـ إلا إذا تم استيعاب الوسائل والكيفيات العامة والخاصة الداخلة في بناء هذه المضامين،فكل قراءة تراثية سابقة أخذت بالمضامين دون وسائل إنتاجها متجاهلة ضرورة التلازم بين المضمون والشكل(الآليات)،كما أن تقسيم المضامين التراثية إلى أجزاء ينظر إليها بشكل تفاضلي فيه تجزيء يتم معه تغييب النظر في الآليات التراثية الأصيلة،ناهيك عن استخدامها آليات مستعارة ومنقولة تأخذ صورتين:آليات عقلانية ـ آليات إيديولوجية فكرانية.
إذن فالقراءة المعاصرة للتراث ـ حسب الباحث ـ تفرقت بين نزعتين:نزعة مضمونية تكتفي بالمضمون دون الوسائل المنتجة له،ونزعة تجزيئية ترى إلى التراث بأنه عبارة عن تمايز قطاعي يتسأسس على رؤية تفاضلية ،لذلك يجد “أن الباحث في التراث مطالب بأن يطرح كل أساليب الانتقاء والتفضيل الناتجة عن استخدام آليات استهلاكية معينة:عقلانية أو فكرانية ،وبأن ينبذ كل ما من شأنه أن يفوت عليه إدراك أجزاء التراث في ترابطها وتماسكها”[16].
بـ ـ بناء القراءة التكاملية للتراث على آليات التداخل المعرفي:
يؤكد “طه عبد الرحمن” على دعوته لقراءة التراث بناء على الرؤية التكاملية بعيدا عن النظرة التجزيئية والتفاضلية،وذلك بالاعتماد على آليات التداخل المعرفي للتراث،وقد ميز في هذا التداخل بين درجتين أساسيتين:التراتب والتفاعل،فبالنسبة للدرجة الأولى سعى فلاسفة الإسلام وعلماؤه إلى خلق موضعية تراتبية للثقافة الإسلامية منذ بدايتها،لذلك صنفوا بناء على تقارب العلوم وتشابهها على اختلاف المعايير العلمية والأهداف الموجهة،وهذه الطريقة”توضح كامل التوضيح النزعة التكاملية التي كانت تطبع النظرية التراثية للمعرفة،فقد كانت هذه النظرية مبنية على الاقتناع التام بتقارب العلوم وتشابهها”[17].
في حين أنه مع درجة تفاعل العلوم التراثية”فلم يكتف علماء الإسلام بالقول بتدرج العلوم فيما بينها،بل أقروا بمشروعية تفاعل العلوم بعضها مع بعض،وتشابك العلاقات بينها”[18].وانطلاقا من هذا الأمر يحدث تفاعل للمباحث الكلامية مع المباحث اللغوية والفلسفية والبلاغية،وتفاعل للمباحث المنطقية مع المباحث اللغوية والأصولية..
إذن فالاقتناع بتراتبية وتفاعلية العلوم في الممارسة التراثية والتي تسمها بالتداخل،أدى إلى اتجاه التعليم والتكوين والتأليف إلى اعتماد الموسوعية.
جـ ـ الاعتماد على آليات التقريب التداولي في القراءة التكاملية للتراث:
اعترض طه على القراءة التجزيئية والتفاضلية للتراث وآلياتها،وذلك بسبب استعارتها من مجال تداولي مغاير ليتم نقلها للمجال التداولي الإسلامي،كما أن ناقليها لم يتعمقوا في معرفة أسرارها التقنية .إذن فطه يعتمد في قراءته التراثية على آليات التقريب التداولي بين الاعتبارات الأجنبية المستعارة والمجال التداولي الأصلي الذي يهدف إلى تقويم الممارسة التراثية ويمنع الإخلال بقواعده.
لكن ألا يعد اكتفاء طه عبد الرحمن بدراسة جزء من التراث الإنساني بأدوات تراثية مأصولة ومخصوصة مع خضوع جزء كبير منه إلى التراكمية بعد نقل معارفه من الفكر الغربي إلى العربي من خلال الترجمة سقوطا في الانتقائية أو في ذات النظرة التجزيئية التفاضلية؟
ألا تعد دعوته أصلا إلغاء ونفيا للتفاعل الإنساني وهذا ما يجعلها ذات منحى ذاتي مفرط في ذاتيته مما يخرجها عن دائرة الموضوعية والحياد العلمي؟.
3ـ خطاب الحداثة بين مركزية الحضور الأنوي والكونية التعددية.
زاوج”طه عبد الرحمن” بين النظرة التقويمية النقدية والتأسيس،إذ راجع مقولات الحداثة بعيدا عن سمة التنميط الثقافي وذلك بالتأصيل لمفهوم التعارف الثقافي والتكامل الثقافي.وهذا كله يتأسس على معاني مختلفة كالتحرر الثقافي من المطابقة والتماثل،والتكافؤ الثقافي مع إتقان الإعداد الثقافي منعا لكل تخريب ثقافي.وكل هذه القيم بحسب رؤية الباحث هي أساس النهضة الإسلامية التي تبني اعتباراتها على النظر المسلح بالآيات والعلل بعيدا عن حدود الظواهر،إذ القيم الغربية الحديثة تتميز بخاصيتها التي تنافي الكونية ونسبيتها التي تنافي الإطلاق.
عرف “محمد سبيلا” الحداثة بقوله:”الحداثة هي ظهور ملامح المجتمع الحديث المتميز بدرجة معينة من التقنية والعقلانية والتعدد والتفتح.والحداثة كونيا هي ظهور المجتمع البرجوازي الغربي الحديث في إطار ما يسمى بالنهضة الغربية أو الأوربية،هذه النهضة التي جعلت المجتمعات المتطورة صناعيا تحقق مستوى عاليا من التطور مكنها ودفعها إلى غزو وترويض المجتمعات الأخرى”[19]،وأما الدكتور عبد المعطي سويد فيرى أن الحداثة”في مضمونها امتداد لعصر التنوير،وخاصة في تركيزها على التقدم معيار التقدم الإنساني وفي العلوم والفكر والآداب،وانطلاقا من العقل ذاته،لتنمية الحياة في مختلف جوانبها،وتحديث طرق العيش،وآليات التفكير في الحياة..وبكلمة مختصرة الحداثة في الفكر،والوجود هي:الحداثة العقلية،والمادية”[20].
الحقيقة أننا لا نريد الإكثار من حصر تعريفات الحداثة،نظرا لتجاوزها حدود الذات ولما تتضمنه من تحيزات كامنة،حيث الحداثة من منظور غربي منجز ذاتي لا يعترف بما يقدمه الآخر،وأما من منظور عربي فالانسياق واضح وراء هذه الاستعارات المفاهيمية ،ولربما الأمر له مبرراته لكوننا كعرب لم نحقق حداثة ولا منجزا أصيلا يسمح لنا بأن نقر بتعريفات خاصة لا تجاوز الذات ومنجزاتها.
إذن سعى طه إلى بناء حداثة إسلامية أخلاقية تهدف إلى ترسيخ القيم على عكس الحداثة الغربية التي تبني رؤيتها على تجاوز الأخلاق وفصل العلم عنها،وإبعاد الغيب عن اعتمالات العقل،لذلك فرغم ادعاءاتها للكونية بحجة وحدة العقل الإنساني والتاريخ فإن طه لم يقع في فخ التطابق واعتبر الأمر مجرد خلط بين روح الحداثة وواقع الحداثة،إذ الأول ـ أي روح الحداثة ـ صنع غربي خالص ،حيث يظهر أنه أسسها من عدم،في حين أنها صنع إنساني في أطواره المختلفة،فبعض اعتباراتها متحققة في مجتمعات سابقة كما تحققت في المجتمع الغربي الحاضر،وقد تتحقق في مجتمعات مستقبلية بأوجه مغايرة.
أما واقع الحداثة فهو اعتماد تطبيق واحد من الإمكانات التطبيقية لروحها،والتي تتخذ سمة التعدد والاختلاف ،وهذا التطبيق الخاص للحداثة هو ما تموضع في أشكال مختلفة بالمجتمعات الغربية لتكون لكل مجتمع حداثة خاصة به تقريبا.
إذن يدعو طه إلى حداثة إسلامية تحتفي بالعقل المؤسس على الإيمان،وبالسياسة المؤسسة على الخير،وبالثقافة المؤسسة على الفطرة،وهذه النظرة تغاير في اعتباراتها ومفاهيمها الحداثة الغربية التي تؤسس العقل السياسي على المصلحة والسلطة،وتعتبر الثقافة صدام بين القيم والمبادئ.
يؤسس الباحث الحداثة الإسلامية على النظر الاعتباري الذي أثبت فعاليته في تذليل الصعوبات وحل المشكلات الإنسانية والإسلامية خاصة،لذا فالعمل التعارفي والجهاد الأخلاقي ناهيك عن الجهد الارتقائي الكلي ،تسهم جميعا في تجاوز الآفات الأخلاقية والفكرية،ويمكن تدارك الطريق الاعتباري من خلال الأخبار أو القصص ولا يحتاج في ذلك إلى أي استدلال برهاني أو بناء علمي ،وانطلاقا من هذه الدعوة إلى حداثة إسلامية يؤكد على ضرورة الجمع بين أخلاق الروح وأخلاق الجوارح ،وأخلاق القلب وأخلاق الظاهر.
ويوضح طه أن حادثة تحويل القبلة مؤشرا حقيقيا على التحول في المسار الإنساني الديني،إذ حمل مضمونا إيحائيا على تكامل أخلاقي(أخلاق إشارة مع أخلاق انفتاحية+أخلاق اجتماعية).ومن هنا يكون الاستجماع الكلي لعناصر أخلاقية تجاوز حدود الإلغاء لأي اعتبار أخلاقي ،فأخلاق الروح تتآلف مع أخلاق الجوارح،وأخلاق القلب تتحد مع أخلاق الظاهر،ليكون التجديد الأخلاقي الإسلامي الأصيل مركزا على التفاعل مع الذات والتفاعل مع العالم الخارجي بطريقة أخلاقية.إن الباحث يؤكد أن الحداثة الإسلامية يمكن بناؤها من خلال تقويم القيم السائدة وإعادة بنائها من جديد،مع رفض كل دعاوي فصل العلم عن الأخلاق وكذا دعاوي اعتراض التلازمية القائمة بين الغيب والعقل ،وذلك بدفع عبثية المرجعيات والأهداف وتعويضها بالتأكيد على المعنى.ولن يتم بلوغ هذه الغاية إلا بتجاوز كل العوائق والموانع ببذل جهد في سبيل ذلك،وينقسم هذا الجهد ـ حسب الباحث ـ إلى :جهد ارتقائي جزئي وجهد ارتقائي كلي،إذ يتشكل الأول من خلال تحقيق القيمة واستحضار النية واقتحام العقبة وتقبل الكلفة،حيث يتأسس هذا الجهد على القوة الروحية والإيمانية فتبلغ به مراتب عليا من الارتقاء.
وأما الجهد الارتقائي الكلي فيتأسس على أفعال مخصوصة بتحقيق قيم الدين الخاتم وابتغاء التقرب إلى الله وعمل الصالحات وحمل الأمانة
ويتسم بسمات الإيمان الملكوتي الذي يضفي إلى أرفع درجات الاعتقاد وأكثرها يقينا وأرفعها عملا..،إذ تكون بمثابة طاقة حيوية تزود المسلم بالقوة الأنطولوجية أو الكيانية،من هذا المنطلق يكون تواصل المسلم دائما بالعوالم المعنوية والروحية ليحقق معنى “التواجد” أو للوصول إلى ما يمكن تسميته بالإنسان الملكوتي،الذي يختلف عن الإنسان الملكي صاحب الكينونة المنفصلة انفصالا تاما وكليا.كما أن الأمة الإسلامية تجعل مفهوم المصلحة متجاوزا للذاتية ،حيث تهدف إلى بسط الخير والفضيلة على كل الأمم والمجاهدة في سبيل تحقيق ذلك.
ويعتبر طه أن “مبدأ الرشد” أهم مبادئ الحداثة الإسلامية،إذ يفترض خروج الإنسان من حالة القصور إلى حالة الرشد،ويتأسس على ركنين:الاستقلال والإبداع،ويعني الأول عدم الخضوع لأي إكراه أو وصاية،وذلك تحقيقا لاكتمال الذاتية الإنسانية من خلال النظر والتأمل والتفكير،وأما الإبداع هو اختلاق الجديد والمغاير من الأفكار والأفعال مؤسسة على قيم جديدة أو على قيم متوارثة يعيد صياغتها حتى تبدو جديدة.
ومن مظاهر تطبيق مبدأ الرشد عند “طه عبد الرحمن” إقدامه على مراجعة ما ساد من تصورات ترجمية عربية متوسلا ترجمة حداثية متحررة من فعل التبعية أو ساعية إلى الاستقلال المسؤول،لذلك بين أوجه الاختلاف بين الترجمة التي سادت عهد المأمون والتي حركتها الإرادة وحرية الاختيار وحاولت إثبات الذات،وبين الترجمة السائدة في عهد النهضة العربية الحديثة التي تحققت اضطرارا بسبب صدمة الحداثة،لذلك فالاستقلال المسؤول لن يتحقق إلا بتمام الوعي باعتبارات الترجمة وأدوارها وكل مناحيها حتى تتجاوز مقصدية المترجم التي تتحدد في تجديد الهوية على شاكلة الأصول التراثية الإسلامية الأصيلة،بعيدا عن مطابقة الآخر .إن التقليد لا يضفي إلا إلى مزيد ظلمة ،من هنا لابد أن يؤكد المترجم تحرره من وصاية النص الأصلي فلا يستنسخ النص ،وإنما يعتمد الترجمة الاستكشافية ،وهنا تتحقق الترجمة الحداثية التي تنتج مفاهيمها وتبدع في تصوراتها مغايرة كل التصورات الغربية التي لا تنتج إلا حداثة واهمة.
هذا وتتأسس روح الحداثة على مبدأ النقد أيضا ،والذي يعني التحرر من الاعتقاد اليقيني والجزم والحسم النهائي،وممارسة النقد الذي يتأسس على ركنين:التعقيل والتفصيل.
فالتعقيل المبدع الذي من أهم شروطه التوسيع بدل التضييق والتنوع بدل الأحادية،يبني اعتباراته بعيدا عن التماثل ويشترط الوعي بضرورة التأسيس على المغايرة والإبداع والجهد الارتقائي الكلي الذي يتصل بعالم الحداثة المبدعة،لذلك لابد من تجاوز القراءات الحداثية التي تتجاهل اختلاف السياق وغيره،كما في قراءات نصر حامد أبو زيد وأركون ..والتي تغفل عن الفروق الجوهرية بين القرآن الكريم والنصوص الدينية المغايرة كالتوراة والإنجيل المحرفان،لتنتج لنا قراءات اتباعية تنقل مقولات الغرب ومناهجه دون نقد وتمحيص،وهذا ما يفرز إفراطا في التوسل بالعقل والعقلانية في مقابل تجاهل التعلق بالوحي والآخرة..يقول:”وإذا نحن تأملنا هذه القراءات في ضوء هذه الحقيقة،تبين لنا أن أصحابها لم يمارسوا فيها الفعل الحداثي في إبداعيته كما حصل في تاريخ غيرهم،مقلدين أطواره وأدواره،ويتجلى في كون خططهم الثلاث المذكورة مستمدة من واقع الصراع الذي خاضه الأنواريون في أوربا مع رجال الكنيسة”[21].وهذا ـ حسب الباحث ـ أضفى إلى إنزال ثلاثة مبادئ منزلة قوام الواقع الحداثي الغربي:
ـ عدم الاشتغال بالإله وتعويضه بالإنسان،ليؤدي الأمر إلى التحلل من الوصاية الروحية للكنيسة.
ـ الاحتفاء بمركزية العقل في مقابل الوحي،لينتج عن هذا المبدأ التحلل من الوصاية الثقافية للكنيسة.
ـ التعلق بالدنيا لا بالآخرة ،وهذا معناه التحلل من الوصاية السياسية للكنيسة.
إذن يمكن القول أن أهم سمات هذه القراءات:
ـ عدم القدرة على النقد
ـ ضعف استعمال الآليات المنقولة.
ـ الإصرار على العمل بالآليات المتجاوزة .
ـ تهويل النتائج المتوصل إليها.
ـ قلب ترتيب الحقائق الخاصة بالقرآن.
ـ تعميم الشك على مستويات النص القرآني.
ويقدم الباحث خلاصة استنتاجه بعد شرح هذه السمات بقوله:”ومما تقدم يظهر أن قراءة الآيات القرآنية كما ممارسها هؤلاء هي تقليد صريح لما أنتجه واقع الحداثة في المجتمع الغربي ،متعرضة بذلك لآفات منهجية مختلفة ،ولا ينفع أن يقال إن إبداع هؤلاء القراء يتجلى في كونهم قاموا بتطبيق منهجيات ونظريات لم تطبق على القرآن من قبل،لأننا نقول إن هذا التطبيق لا يعدو كونه إسقاطا آليا ،والإسقاط لا إبداع معه،بل إن هذا التقليد جعل قراءتهم ترجع إلى زمن ما قبل الحداثة،وهو زمن الوقوع تحت الوصاية الذي ثارت عليه بالذات الحداثة …”[22].
4ـ الحلول والمقترحات كما هي في ذهن المفكر.
يستعمل طه عدة مفاهيمية مميزة،حيث تتراص المصطلحات الفلسفية وتتموضع في شكل تجاوري يرهق أحيانا قارئه،إذ تثقل نصوصه بهذا البناء أو العتاد الاصطلاحي حتى يحس القارئ أنه بصدد فك الشفرات ولم الاعتبارات المفاهيمية أو الأركان التعرفية لكل مصطلح.
راجع عبد الرحمن التحيزات الأيديولوجية التي أثقلت المصطلح الفلسفي العربي منذ تشكله،حيث وقف على عمليات المطابقة الاستنساخية للنماذج الاصطلاحية اليونانية حال نقل المعاني،والتي يتم معها تغييب الخصائص والتمايزات وكذا تجاهل الفرق بين ما هو لغوي يكون اللسان اليوناني مرجعيته الأساسية وماهو اصطلاحي تحدده المعرفة الفلسفية،إذ النقل رجح الاعتبارات اللسانية اليونانية بكل مكوناته حال التنزيل على ألفاظ عربية،فكانت الصياغة اليونانية مقحمة بشكل قسري على اللغة العربية دون مراعاة الفروق والخصائص(خاصة عند المتمنطقة العرب).
إذن فنقل النصوص بكل حمولاتها الأيديولوجية ومرجعياته وسياقه الحضاري ووضعه في سياق حضاري مغاير،أفقدت النص خصائصه النوعية بل وجعلته نتيجة هذا الإكراه الموضعي يتحول إلى نص يتضاد مع القيميات السائدة ويناهض مقوماتها،إذ بان الأمر عن عجز فلسفي ولغوي بسبب انفلات التلازمية المفترضة أثناء التداول،وحتى الباحث العربي صار لا يفكر إلا في ضوء هذه المصطلحات ومرجعياتها الغربية المختلفة دون قدرة على تحييد المصطلح،وهذا الأمر حسب الباحث أضر اللغة العربية وقدرتها على نحت المفاهيم وصياغتها واستثمارها ،ومن ثمة تجميد آليات اشتغالها في إنتاج الفكر عامة.
وهنا يجد عبد الوهاب المسيري أنه لا وجود للغة دقيقة تتطابق فيها الدوال مع مدلولاتها وتتنافي فيها المسافات أو الثغرات التي تفسح المجال للتعدد ،ومن هنا فأي نص حسب ما يراه مجموعة من الدوال المشيرة إلى مجموعة من المدلولات والعلاقات الخارجية من خلال علاقاتها الداخلية.وانطلاقا من هذا الأمر يتراجع المفهوم التطابقي لتتشكل مسافة اختلاف تفصل بين هذا الدال والمدلول ،إذ تتشكل هذه المسافة من الأحلام والأوهام والرغبات والأهواء والأفكار والمصالح التي تعمل على الفصل بينهما ،وهذا التعدد يضفي إلى الاختيار الذي يعني استبعاد احتمالات كثيرة،والتركيز على اختيار واحد،ومن هنا يخضع الاختيار إلى اجتهاد الذات وهذا ما يجعل الأمر متضمنا صفة التحيز أثناء الاختيار.ويوضح الناقد حقيقة هذا الأمر بقوله:”وقد أدمنا تماما عملية نقل المصطلحات دون إعمال فكر أو اجتهاد،ودون فحص أو تمحيص..،فقد الإنسان العربي الحديث القدرة على تسمية الأشياء،ومن لا يسمي الأشياء يفقد السيطرة على الواقع والمقدرة على التعامل معه بكفاءة.أما من يدرك الواقع حق الإدراك ثم يصنفه حسب مقولاته،ويسميه أسماء تتفق مع هذا الإدراك أمكنه الحركة فيه بقدر معقول من الحرية،إذ أنه سيراكم المعلومات داخل مقولاته وأطره هو،مما قد يزيد من مقدرته على التنبؤ بمسار هذا الواقع ويحسن من مقدرته على التعامل معه”[23].
اعتبارا من هذا الإشكال حاول طه إقامة صرح مفاهيمي يتماشى ونظريته في تداخلية المعرفة،إذ يبني المصطلح على أسس النظرية التكاملية في الدلالة ويشغله وفق أصول النظرية التداولية التي تحتفي بتعددية الدلالة بالنظر إلى تعدد استعمالاتها واختلاف أهداف التأثير والتغيير.من هنا فطه يبدع في الأنموذج الإصطلاحي بحفظ التناسب بين المدلول اللغوي والمدلول الاصطلاحي على مستوى الممارسة الاصطلاحية،ليجمع بعدها بين التحليل المنطقي والانشقاق اللغوي مع الاعتماد على المرجعية الصوفية حال تقديم مفاهيم وتصورات تتعلق بالتراث الإسلامي،هذا مع التعويل على بعض معطيات الفكر الغربي المعاصر حينما يتعلق الأمر بنظريات الخطاب وفلسفة الأخلاق..من هنا فالارتكاز على التداولي والأخلاقي هو ما يشكل خصوصية الطرح الطاهوي.
اعترض طه على آليات ووسائل القراءة التجزيئية التفاضلية للتراث،نظرا لاستعارتها من مجال تداولي مغاير للمجال التداولي الإسلامي،من هنا انتقل إلى التأسيس لقراءة تكاملية للتراث تعول على آليات التقريب التداولي بين المنقولات الأجنبية والمجال التداولي الأصلي الذي يعد نقطة انطلاق ،حيث يقول:الأصول التراثية التي يتم بمقتضاها تقريب المنقول المنطقي والأخلاقي،ليست سوى أصول ما دعوناه باسم مجال التداول الإسلامي العربي أو مجال التداول الأصلي،أو باختصار مجال التداول،ونحن ماضون الآن إلى بسط الكلام في هذا المفهوم الذي نعده بمنزلة الدعامة الأساسية التي تستند إليها نظريتنا في تكامل التراث..”[24].
بين الباحث ماهية القراءة الإبداعية للقرآن الكريم ومنطلقاتها،والتي ترى الإبداع مؤسسا على عنصر التفاعل مع الدين واعتباره مصدر كل شيء ،بعكس الحداثة التي تأخذ بسمة الانفصالية أو كما تسميه”الإبداع المفصول” الذي يراهن على التجديد والتغيير بسبب تصادمه مع مؤسسة الكنيسة المناهضة للعلم والتنوير وكل تقدم،من هذا المنطلق تختزل منطلقات القراءة الحداثية المبدعة لدى المفكر في شرطين:1ـ رعاية قوة التفاعل مع النص القرآني(ترشيد التفاعل الديني).
2ـ إعادة إبداع الفعل الحداثي المنقول (تجديد الفعل الحداثي).
ليتم التخلص من آفة التقليد بإنشاء مفاهيم جديدة تراعي الخصوصية الإسلامية،وقد قام طه بإبطال المفاعيل القرائية الغربية أو المتوسلة بالغرب،بتبيان خصوصية القراءة الإسلامية الحداثية باتباع خطط متدرجة في فعاليتها وهي:
1ـ خطة التأنيس المبدعة في مقابل التأنيس المقلد ،إذ تسعى إلى إبطال المماثلة اللغوية المفبركة بين النص القرآني والنصوص البشرية.
2ـ خطة التعقيل المبدعة:إذ تهدف إلى توسيع مدارك العقل ومساعدته على التفاعل مع الآيات ،وذلك من أجل إبطال المماثلة الدينية بين النظر القرآني والنصوص الدينية المغايرة.
3ـ خطة التأريخ المبدع:المكرس للأخلاق والقيم،حيث يسعى إلى إبطال المماثلة التاريخية المفترضة بين النص القرآني والنصوص التاريخية الأخرى.
ويتكون “مبدأ الشمول” الذي يعد من مبادئ روح الحداثة الإسلامية من ركنين:التوسيع والتعميم.وأما التوسيع المبدع فهو المجاوز للتوسيع المقلد ،حيث يتسنى للمسلم إبداع حداثة أخرى أو واقعا حداثيا أفضل من الواقع الحداثي الغربي،كما أن الواقع الحداثي يفترض استيعاب روح الإنسان،ومن هنا يخرج من دائرة التقليد إلى الإبداع في التوسيع لروح الحداثة.
وأما التعميم المبدع فيفترض تفكيرا متعديا خادما للمجتمع العالمي،وأن يلتزم المسلم بعقلانية الآيات لا بعقلانية الآلات،ومن هنا يتم تأسيس حداثة مبدعة بقدر ما هي كونية حتى تصبح تعميما وجوديا.
وخلاصة الأمر الحداثة الإسلامية في فكر طه عبد الرحمن حداثة أخلاقية،تهدف إلى ترسيخ القيم في المجتمع الإنساني،بعكس الحداثة الغربية التي تفصل العلم عن الأخلاق،لذلك فحداثة الإسلام تبني اعتباراتها من التجربة الروحية بكل حمولاتها:قيم ـ مبادئ ـ عبادة ـ مجاهدة..،ومن هنا يكون التلازم بين المعرفة العقلية والتجربة الصوفية والروحية ليتحقق التكامل بين النظر والعمل. ويعترف طه بأنه يجاوز النظرة الغربية المقلدة للغرب بقوله بأنه:”ثمرة اجتهاد وإبداع انطلاقا من خصوصية حاجتنا الفكرية،لا ثمرة تقليد لحداثة الغير وتشبها به ،على سبيل التبعية له”[25].من هنا فالعلم يرتكز على الوحي، والعقل لا تستقيم مداركه دون تأسسه على ركائز شرعية ،”فكل معرفة عقلية كاملة لابد لها من أن تنتقل من مستوى التمييز المجرد إلى مستوى التخلق السلوكي،حتى ولو كانت علما نظريا أو آليا كاللغة والمنطق والحساب،لأن التخلق بها سبب في نفوذ المعاني والقيم إليها،هذا النفوذ الذي يقيها مساوئ التنظير المجرد”[26].
إذن سعى طه إلى نقد الخطابات السائدة وبناء نقد أخلاقي للحداثة،وذلك بإعادة الاعتبار للأخلاق تصديا للنزعات المادية التي أنتجها العقل الحداثي المجرد.
خاتمة:
من خلال هذا البحث خلصنا إلى جملة نتائج أهمها:
ـ السعي إلى إحياء الاجتهاد ومراجعة الخطابات الفكرية السائدة وكذا الكثير من المفاهيم والتصورات التي بنيت على أسس أيديولوجية واهمة.
ـ السعي إلى بناء حداثة إسلامية أخلاقية تجاوز المرجعيات المتضاربة التي بنت الحداثة الغربية.
ـ تقديم قراءة تكاملية للتراث العربي الإسلامي تجاوز قصور القراءات التفاضلية والتجزيئية وتعول على آليات التداخل المعرفي ،بحيث تعول على مصدرية مأصولة غير مستعارة من سياق حضاري مغاير.
ـ التأكيد على الاختلاف الحضاري أو ما يمكن تسميته بتصادفية القيم رفضا للتصادم القيمي الذي افترضته الخطابات الفكرية المتطرفة .
ـ اعتماد الباحث على عدة مفاهيمية متنوعة مما يجعل بحثه نوعا من التراص المفاهيمي المربك للقارئ والمخلخل لاعتباراته .
[1] .مختار الفجاري:الفكر العربي الإسلامي:عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع،إربد،ط1،2009.ص4.
[2] .طه عبد الرحمن:الحق العربي في الاختلاف الفلسفي،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء/بيروت،ط2،2008.ص14.
[3] .سعد البازعي:الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء/بيروت،ط1،2008.ص34.
[4] .عبد الله إبراهيم:المطابقة والاختلاف،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط1،2004.ص87.
[5] .عبد الله إبراهيم:الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء/بيروت،ط1،1999.ص9.
[6] .حسن الباش:صدام الحضارات،دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع،دمشق/بيروت،ط1،2002.ص38.
[7] .طه عبد الرحمن:تعددية القيم،كلية الآداب والعلوم الإنسانية،مراكش،ط1،2001.ص49.
[8] .م.ن.ص50.
[9] .م.ن.ص50.
[10] .م.ن.ص50.
[11] .م.ن.ص51.
[12] .م.ن.ص52.
[13] .م.ن.ص52.
[14] .طه عبد الرحمن:تجديد المنهج في تقويم التراث،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء/بيروت،ط2.ص24.
[15] .طه عبد الرحمن:تجديد المنهج في تقويم التراث.ص20.
[16] .طه عبد الرحمن:تجديد المنهج في تقويم التراث.ص83.
[17] .م.ن.ص89.
[18] .م.ن.ص90.
[19] . محمد سبيلا:مدارات الحداثة،الشبكة العربية للأبحاث والنشر،بيروت،ط1،2009.ص123.
[20] . عبد المعطي سويد:هياكل التنوير والحداثة المبتورة في العالم العربي،مؤسسة الانتشار العالمي للطباعة والنشر والإعلان والتوزيع،القاهرة،ط1،2006.ص8.
[21] .طه عبد الرحمن:روح الحداثة،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء/بيروت،ط1،2006.ص188ـ189.
[22] .م.ن.ص192ـ193.
[23] .عبد الوهاب المسيري وآخرون:إشكالية التحيز،المعهد العالمي للفكر الإسلامي،ط3،1998.ص67.
[24] .تجديد المنهج في تقويم التراث.ص243.
[25] .طه عبد الرحمن:سؤال الأخلاق،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء/بيروت،ط1،2001.ص225.
[26] .طه عبد الرحمن:العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء/بيروت،ط2،1997.ص147.
قراءة متمعنة في طروحات المفكر المغربي طه عبدالرحمن التي تناولت تجديد المهج أو تأصيله بدل الأتباع والنقل ..ودراسة التراث من خلال المجال التداولي والآليات المنتجه له وهو بذلك يتعارض مع الفكرة الأساسية أو التي تمخضت عن دراسة مجموعة من الكتاب مثل أراكون والجابري وعلي حرب وابو زيد وغيرهم من الذين كان همهم ينصب على سؤال النهضة لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا ؟ ولذا كان مثلا تقاطعه مع الجابري يتلخص بتركيز الأخير على البرهان والبيان والعرفان وأن القطيعة الأبستمولوجية تحتم على أن البداية لابد أن تكون مع ابن الرشد وهو فتح باب كبير على الحضارة الغربية ، وعاب عليه فهم التراث على شكل قطائع غير متصلة وبآليات منفصلة تارة بالرؤية التفكيكية وتارة بالرؤية الماركسية وبالرؤية الألسنية وبالرغم من أن لها تداول كبير في عالم الفكر إلا إنها تأتي ضمن مشكلة المفكرين الذين قرأوا التراث وحللوا المضامين بأليات أجنبية عنه..مبارك لكِ أستاذة غزلان هذا الجهد الخلاق الذي بالتأكيد سيساهم في أضاءة أهم الأسئلة التي تبناها عقل المفكر طه عبدالرحمن وأعادة الحوار والنقاش فيها .
الله يبارك فيك أستاذ عباس أشكر لك جميل التوضيح والمفاضلة الموضوعية بين مختلف المقاربات العربية التي تناولت مسألة التراث وحقيقة ما قلته يجدد البحث ويفتح على تساؤلات عدة ..دمت برقي