
جمالية الإيقاع في الخطاب القرآني عند ” عبد الملك مرتاض “
The aesthetic rhythm in the Qur’anic discourse at “Abdulmalek Mortadh” model
د.آمال شرفاوي، جامعة طاهري محمد- بشار – الجزائر
AMAL CHERFAOUI UNIVERCITY TAHRI MOHAMED –BECHAR-
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 55 الصفحة 57.
الملخص:
لقد اتجهت أنظار الباحثين و النقاد المعاصرين إلى دراسة الإيقاع في الخطاب القرآني من وجهة نظر أسلوبية و برؤية حداثية تتحرى الابتعاد قدر المستطاع عن كل ما يمس بقدسيته النص ، حيث انقسم الباحثون بين مؤيد و معارض لهذه الظاهرة ،و قد لفت انتباهنا الناقد ” عبد الملك مرتاض ” من خلال تناوله لهذا المصطلح ضمن كتابه الموسوم ب نظام الخطاب القرآني ” تحليل سيميائي مركب لسورة الرحمن . مطبقاً فيه آليات المنهج الأسلوبي بغية إبراز إعجازية الخطاب القرآني ، مركباً قراءته باصطناع الإجراء التأويلي و السيميائي و التفكيكي. فكان لجمالية التكرار دور مهما في تشكيل إيقاع سورة الرحمن ضمن الإجراء الأسلوبي . و يبدو أنّ النظام الإيقاعي لهذه السورة تتآزر في صنعه القواعد النحوية و الصرفية و الصوتية ضمن ما يسمى ب التحليل المستوياتي فشكّل الإيقاع مستوى لا يمكن الاستغناء عنه ضمن هذه القراءة . إنّ الناقد حاول أن يتجاوز العرب القدامى و ذلك من خلال توظيف أدوات أكثر حداثة و جدّة مع العلم أنّه عرف برؤيته التأصيلية في مسعاه القرائي فحاول الرجوع بمفهوم الإيقاع إلى العرب القدامى مع ابن خلدون و الجاحظ وغيره .
الكلمات المفتاحية : الإيقاع _ الخطاب القرآني _الجمالية _الأصالة _ التكرار.English Abstract :
Contemporary scholars and critics have turned to the study of the rhythm in the Qur’anic discourse from the point of view of stylistic and modernist views, as far away as possible from everything that affects the sanctity of the text. The researchers divided between supporters and opponents of this phenomenon. And drew attention to the critic, “Abdul-Malik Murtadh“ by addressing the term in his book is characterized by the system of the Koranic discourse “complex semantic analysis of the Surah Rahman, applying the mechanisms of the methodological method in order to highlight the miraculous Qur’anic discourse, compounded by the synthesis of the interpretive, semantic and deconstructive process. It seems that the rhythmic system of this surah is synergistic in making grammatical, grammatical, and grammatical rules within the so-called level analysis, and the rhythm form is an indispensable level within this reading The critic tried to surpass the old Arabs by employing More modern tools and novelty knowing that he knew his visionary root in his reading effort, tried to return the concept of rhythm to the old Arabs with Ibn Khaldun and Al-Jahez and others.
key words : Rhythm _ Quranic discourse _ aesthetic _ originality _ repetition.
اهتم الباحثون والمفكرون بالخطاب القرآني قديماً وحديثاً ، فتناولوه بالدراسة و التحليل خاصة من الجانب اللغوي و البياني ، فكانوا يربطون أسرار إعجازه باللغة و البلاغة .و لعل المسألة التي أثارت انتباه العرب نحو الخطاب القرآني هو الإيقاع الذي انبنى عليه هذا الخطاب الكريم فأذهل عقولهم و أطرب مسامعهم و حيّرهم حتى أنّهم لم يستطيعوا الإتيان و لو بآية من جنس القرآن .ولاشك أنّ هذه المسألة قد تحرّج منها البعض و نفي وجودها في القرآن الكريم بحكم أنّ الإيقاع يتنافي مع مقام النص القرآني ، لأنّ الإيقاع يصدر من النفس البشرية أو من الأدوات الموسيقية الخاصة بالإيقاع و الموسيقى.
و يرى محمد رشاد الحمزاوي أنّ الإيقاع يرتبط باللحن و الغناء ، و هو يرجع في أصله إلى الطبيعة الإنسانية التي تميل لهذا الإيقاع الذي يؤثر فيها كما يتواجد في الآلات الموسيقية ، و تظهر كذلك ملامحه في النص الشعري و النثري [1] . أمَّا الإيقاع في النص القرآني يصدر من مقام عال و قدسي ، فشتان بين الأمرين ،كذلك ما يتردد على أسماعنا ، أنه لا يمكن أن يستوي القرآن و الغناء في قلب المؤمن .
و لسنا هنا في مقام الرفض أو القبول لهذه الفكرة ، و لكن من أجل الكشف عن آراء بعض الباحثين حول هذه المسألة ، و قد أثار انتباهنا الناقد “عبد الملك مرتاض ” بكتابه نظام لخطاب القرآني تحليل سيميائي مركب لسورة الرحمن و هو يحلّل تحليلا أسلوبياً لسورة الرحمن من الجانب الإيقاعي مركبا هذه الدراسة بأدوات إجرائية حداثية كالتأويلية و السيميائية . لذا نتساءل في هذا المقام : ما الإيقاع ؟ و ما سر اهتمام الباحث ” مرتاض ” بخاصية الإيقاع في الخطاب القرآني ؟ لو رجعنا إلى المعاجم العربية و على رأسها لسان العرب لوجدنا الإيقاع لغة مأخوذ من مادة وقع في قول ابن منظور : ” و الإيقاع من إيقاع اللَّحْنِ والغِنَاءِ وهو أن يُوقع الألحان ويبينها وسمى الخليل -رحمه الله- كتابا من كتبه في ذلك المعنى كتاب لإيقاع ” [2].و الإيقاع يقابله في اللغة الفرنسية LE RYTHME و يعني ترداد ارتسامات سمعية متجانسة بعد فترات ، ذات مد متشابه [3] .و عليه فإنّ الإيقاع يتشكّل من أصوات و ألحان متجانسة و منسجمة تنبني على إيقاع جميل، و هذا الإيقاع مضبوط بلحن و نغم و زمن .
يعتمد الإيقاع بالدرجة الأولى على مجموعة من الأصوات المتشابهة و التي تخضع للتوازن الزمني ، قد تتجسد في لغة مكتوبة أو في آلات موسيقية . هناك علاقة وطيدة تجمع بين الإيقاع و الزمن حيث يرى آيزر أنَّ الإيقاع مرتبط بالزمن بصفته أبعد أفق ، و هو يحتاج لكي يكون حيويا ملموسا إلى قاعدة حسية تنتهي في الزمن ، واستقبال الإيقاع يقوم قبل كل شيء على السمع و الضغط الحسي و العضلات الحسية [4] . يُبنى الإيقاع وفق زمن يؤطّره و يسير وفقه من أجل تحقيق المتعة و التأثير في المتلقي ، حيث يأخذ الإيقاع صفة الطول و القصر بحسب المدة الزمنية المختارة لذلك الإيقاع خاصية أسلوبية جمالية وظيفتها هي ” إبراز مقومات الانسجام و التلاؤم بين الملفوظات و المسموعات المفضية بعد إذ تتحقق لها الغايات التركيبية الملتذة إلى ابتداع البلاغة و البيان “[5]. إنّ الإنسان مفطور على حب الإيقاع و قد ابتدأ هذا الهاجس مع الطبيعة التي كانت تمتعته بهذا الإيقاع الطبيعي و دفعته إلى استلهام هذا الأمر و البحث عنه في مخزون و تراث الأجداد من شعر ، نثر حكمة و مثل ليتوجَّه بعد ذلك إلى الكشف عنه في التراث الدينى الممثل في الخطاب القرآني.
1-الإيقاع في الخطاب القرآني بين الرفض و القبول :
لقد اتجهت أنظار الباحثين و النقاد إلى دراسة الإيقاع في الخطاب القرآني من وجهة نظر أسلوبية و برؤية حداثية تتحرى الابتعاد قدر المستطاع عن كل ما يمس بقدسية النص القرآني ، و عليه فقد انقسم الباحثون إلى مؤيد لهذه الدراسة ومنهم من عارض هذا الأمر لأنه يعد انتهاكا في حق الخطاب القرآني، و لا يمكننا أن نفصل بين الفريقين بجرة قلم و إنّما همّنا هو إضاءة جانب من هذه القراءة عند الناقد ” عبد الملك مرتاض .
يصطنع الناقد مرتاض الإجراء الأسلوبي من خلال قراءته لسورة الرحمن معتمدا في ذلك على خاصية الإيقاع و دورها في الكشف عن جمالية الخطاب القرآني و إعجازيته .و يؤكِّد ذلك الناقد مرتاض قائلا : ” و إذا كان القرآن ظاهرة أسلوبية ، لا ينكر ذلك لا المؤمن و لا الملحد ، فما أولى للأسلوبيين ، قبل سوائهم ، أن يعمدوا إلى هذا النص العجب ليلقوا على خصائصه الجمالية المدهشة شيئا من الضياء ” [6] .و لعل الناقد هنا يستثمر آليات المنهج الأسلوبي من أجل إبراز شعرية سورة الرحمن جنبا إلى جنب مع آليات القراءة الأخرى من تأويلية و سيميائية و تفكيكية . كما يذهب إلى القول بمسألة الإعجاز التي تتجسد في هذا الجبروت الخارق من النسج ، و الإيقاع الداخلي و الخارجي ، و الذي هو وارد في شكل إيقاع السورة من وجهة ، في شكل إيقاعات الســـــــــــــــــــــــور المتلاحقة المترابطة من القرآن من وجهة أخرى[7] . ينطلق القارئ مرتاض في رؤيته النقدية إلى الاحتفاء بخاصية الإيقاع بوصفه مستوى مهم في التحليل بالإجراء المستوياتي و ضمن ما يسمى ب” القراءة المستويــــــــــــــاتية ” ، معترفا بمسارعة الغرب لدراسته ، و تباطؤ العرب في الاستفادة من ذلك حيث يقول : ” إنَّا نجد الغربيين يتحدثون عن الإيقاع على خلو آدابهم منه إلا قليلاً أو تكلفاً ؛ ثم لا نلفي النقـاد العرب يتحدثون عن هذا الإيقاع إلّا في معرض السخط عليه ، و الاشمئزاز منه ، الازورار عنه و الضجرية . فهل يعود بعض ذلك إلى العجــز عن إدراك خصائصه الجمــالية الرائعة ، أو إلى علل أخراه ؟ ” [8] .
من هذا المنطلق يتضح أنّ الإيقاع قابل للرفض و القبول من قبل المفكرين العرب ، و يبدو أنَّ الأمر الرافض للإيقاع قد يقع إذا توجّه صوب الخطاب القرآني ، و يحاول نعيم اليافي توضيح هذا الأمر قائلاً : ” عندما نتحدث عن الإيقاع في النص القرآني، فهو أمر يرفضه البعض ويتحرج من ذكره آخرون ، يرفضه أولئك الذين يزاوجون بين الموسيقى والوزن الشعري قافية و روياً و تفاعيل فينزهون القرآن عن هذا الوزن قافية و رويا و تفاعيل و يتحرَّج منه هؤلاء الذين يحسون فيه نغما و جرساً و إيقاعاً ولكنَّهم يجــدون في المصطلح مــادة غريبة و نابية عنه و عن مستلزماته من ورع و تقى “[9]. ويعلّل مصطفي صادق الرافعي نفيه للموسيقى عن القرآن ،كونه يتمتع بخاصية متفردة تسمو عن الإيقاع حيث يقول : ” يعلو القرآن على الموسيـــقى أنَّه مع هذه الخاصية العجيبة ليس من الموسيقى ” [10] . لعل اقتران كلمة إيقاع بالخطاب القرآني يجعلها تطهِّر هذه الكلمة التي اختصت بخطاب بشري من جميع العيوب وتجمع لها المزايا الحسنة التي تجعل من هذا المصطلح حاضراً هنا ، كما ينفي العقل قياس أدوات النص البشري بالنص الإلهي لأنّه يؤدي إلى الضلال و التهلكة ، و هذا ينّم عن عجز الإنسان أمام صنع الخالق .
لقد كان الإيقاع حاضراً في الخطاب القرآني و ما يعزِّز ذلك هو اهتمام البحاثة العرب بهذه المسألة منهم : عبد الملك مرتاض ، سيد قطب ، شارف مزاري ،و غيرهم ممن استشعروا دور الإيقــاع في الخطاب الكريم ، حيث ينوِّه شارف مزاري بوجود الإيقاع في الخطاب القرآني قائلاً : ” غير أنّ الإيقاع القرآني –في تمظهره –يتخذ بعداً إعجازيا ، الأمر الذي يعطيه شرعية الحضور بوصفه مصطلحا فنيا كرسه المتن القرآني و أدى إلى ميلاده بهذه الصفة الإعجازية الذي هو عليها ، و أوجده كحلية فنية اضطلع بها وحده ومن ثمة فإنه يكتسي مظــهراً من مظــاهر موسوعية القــرآن في أسمى غاياته ، التي هي معجزة القرآن ” [11] .
و يبدو أنًّه يلتقي مع الباحث مرتاض في عدم رفضه الجمع بين الإيقاع و القرآن ، بل حاول جاهداً الكشف عن جماليته في سورة الرحمن .و يظن أنَّ النص القرآني يسير وفق نظام إيقاعي متفرد عن النثر و الشعـر معاُ ،و ما يؤكد ذلك هو حضور “… بنية نظمية عامة ، في مجال الإيقاع الآياتي ، لا يلفي إلا في القرآن الذي يتخذ لها إيقاعاً لا تصادفه في نثر الناثرين من المبدعين ، ولا في أشعار الشّعراء المفلقين الذين لا يجاوز عدد أطر إيقاعاتهم الستة عشر بحراً “[12].
أما سيّد قطب فقد جعل الإيقاع عنصراً مهماً في تشكيل نظرية التصوير الفني في القرآن الكريم ، حيث يرى أنّ : ” التصوير هو أداة المفضلة في أسلوب القرآن .فهو يعبِّر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني ، و الحالة النفسية ، و عن الحادث المحسوس و المشهد المنظور ، و عن النموذج الإنساني و الطبيعة البشرية ، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة ، و الحركة المتجددة ” [13] .فالإيقاع عند سيّد قطب يخدم جمالية الصورة الأدبية في الخطاب القرآني لأنه كان من ينادي بالمنهج الفني . فكان نهجه انطباعيا تأثرياً إلى حدٍّ كبير حين يتناول أثراً أو عملا أدبيا بالنقد و التحليل ، حين يسجِّل خواطره التي أحسَّ بها و قد تأتى ذلك للناقد قطب بفعل ذوقه المرهف ، و إحساسه الشاعري الذي يظهر في كتابته النقدية ، أو في تحليله للنصوص القرآنية و هو يكاد يتجسد في كتابه التصوير الفني في القرآن الكريم [14] .
و يستثمر سيّد قطب خاصية الإيقاع في صنع التصوير الفني في أسلوب القرآن الكريم قائلا : ” يجب أن ندرك آفاق التصوير الفني في القرآن الكريم ، ، كما أنّه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل . و كثيرا ما يشترك الوصف و الحوار ، و جرس الكلمات ، و نغم العبارات ، و موسيقى السياق ، في إبراز صورة من الصور ، تتملاها العين و الأذن ، و الحس و الخيال ، و الفكر و الوجدان ” [15] فهو تصوير باللون و الحركة ، و تصوير بالتخييل و الإيقاع فالذي صنع الجمال هو اللغة بتراكيبها العجيبة المدهشة التي أثرت في وجدان المتلقي .كما يرى من جهة أخرى دور الإيقاع في تشكيل التناسق الفني في أسلوب القرآن الكريم و دليله ” …ذلك الإيقاع الموسيقي الناشئ من تخير الألفاظ و نظمها في نسق خاص ، ومع أنّ هذه الظاهرة واضحة جد الوضوح في القـــرآن ، و عميقة كل العمق في بنائه الفني ، فإنّ حديثهم عنها لم يتجاوز ذلك الإيقاع الظاهري ، و لم يرتق إلى إدراك التعدد في الأساليب الموسيقية ،تناسق ذلك كله مع الذي تطلق فيه هذه الموسيقى ، و وظيفتها التي تؤديها في كل سياق ” [16]. و لعل الناقد قطب يستشعر جمال السور في القرآن الكريم من خلال ترابط هذه الخصائص ضمن نظام موحّد و هي الخيال ،الصورة ، المشهد ، الإيقاع ، اللفظ ، النغمة ، الحركة …الخ .
2_ الإيقاع في سورة الرحمن :
الإيقاع في سورة الرحمن يتَّسم بالجلال و القدسية ، و الناقد مرتاض في هذا الخطاب حذر جداً في دراسته لنص سورة الرحمن كونه قد طبَّق آليات حداثية ممثلة في التأويلية و السيميائية و الأسلوبية على هذا الخطاب الكريم ، كما يؤسِّس لهذه القراءة بالرجوع إلى التحليل اللساني الذي يعتمد على نظام المستويات الممثلة في المستوى الصرفي و النحوي و الدلالي و الصوتي . ينبني الإيقاع حسب مرتاض في هذه السورة الكريمة على نظام الوحدات أو الآيات فيقول : ” إنَّ تحليلنا لإيقاع سورة الرحمن و وصفه لا ينبغي له أن يجعلنا نحجم عن إشارات دالة إلى إيقاعية القرآن بعامَّة حيث إنّنا نحسب أنّ تعريف الآية القرآنية نفسها ، يقوم في تصوُّرنا ، على الإيقاع أساساً كما كنَّا رأينا في النموذج الذي استشهدنا به من سورة مريم ، فقد يقتضي شأن الإيقاع أن تكون الآية طويلة جداً ، فتتألَّف من جملة من الجمل .كما يقتضي أن تأتلف من مجرد لفظ واحد كما رأينا في شأن : (الرّحمن) ،( مدهمتان ) “[17] .و لعل النظام الإيقاعي لهذه السورة تتآزر في صنعه القواعد النحوية و الصرفية و الصوتية ،لأنّ تحليله لهذه السورة يعتمد فيه على التحليل بالإجراء المستوياتي فيكمّل الإيقاع المستويات الأخرى .
3_جمالية التكرار :
تقوم سورة الرحمن على خاصية التكرار و هي خاصية أسلوبية استشعرها الناقد مرتاض ليبرز جمالية الخطاب القرآني من جهة ، و من جهة أخرى لبيان إعجاز هذه السورة من جهة أخرى ، و الشاهد هنا أنّه تنبّه إلى تكرار بنية التثنية التي صنعت إيقاع ” آن ” في سورة الرحمن ، كما أنه لم يغفل عن أسبقية العرب القدامى في شرحهم لهذه الظاهرة الأسلوبية من خلال “… إجراء الخطاب بمخاطبة المفرد على اعتبار المثنى ، حتى ازدانت بذلك فواصل القرآن الكـريم حتى كاد البناء على التثنية يستغرق سورة الرحمن بجملتها ” [18]. ولعل ناقدنا قد تجاوز العرب القدامى و ذلك من خلال توظيف أدوات أكثر حداثة و جدّة مع العلم أنّه عرف برؤيته التأصيلية* في مسعاه القرائي .
إنّ الإيقاع القرآني في هذه السورة يبتدأ بصفة من صفات الله و هي الرحمن و ينتهي بالتنويه بصفة الجلال و الإكرام ، فنشاهد و نستمتع بتعاقب الآيات الدالة على نعمه الكثيرة ، فقد “… كثر في القرآن الكريم ختم كلمة المقطع من الفاصلة بحروف المد واللين وإلحاق النون وحكمته وجود التمكن من التطريب بذلك ” [19]. فتتمتع سورة الــرحمن بهذه الدلالة النغمية التي تؤثِّر في المتلقي و تجعله يستشعر معاني هذه الآيات .و هذا الأمر يجعل من الإيقــاع القرآني أقوى و أسمى من الإيقاع الأدبي من حيث التأثير في المتلقي ” …ذلك أنَّك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتَّحد الأوزان فيها بيتاً بيتاً ، وشطراً شطراً ، و تسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها و تذهب مذهباً متقارباً .فلا يلبث سمعك أن يمجها ، و طبعك أن يملَّها ، إذا أعيدت و كُرِّرت عليك بتوقيع واحد .بينما أنت من القرآن أبداً في لحن متنوع متجدد ، تنتقل فيه بين أسباب و أوتاد و فواصل على أوضع مختلفة يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء .فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة و لا سأم ، بل تفتأ تطلب منه المزيد ” [20] .
إنّ الشيء الذي لاشك فيه هو أنّ الناقد الذي يحكم على عمل ما يحتاج دائما لإدراك خاص ، يمتاز بأنّه قادر على أن يكشف التعبير ، من هنا فإنّ الإدراك ، هو إدراك جمالي ، يعمل على أن يصرفنا عن ذاتنا إلى الاهتمام بالموضوع ، غير أنّ هذا العمل من شأنه أن يزيد خصوبة الذات لأنه عادة ما ينمي لديه ملكـــــــــــــــــــة الذوق [21] . فالذوق و الجمال كأنهما شيئان مترابطان ، فالذوق هو الذي يدل على الجميل و القبيح ، و لا يمكننا أن نحكم على شيء بالجمال إلا إذا تذوقناه أو قادتنا ملكة الذوق إلى ذلك .
و يرى أحمد كمال زكي : ” أنّ الذوق هو دائما مادة الشعور بكل ما نبصره أو نسمعه ، أو نتخيله ، و هو يصدر حكمه بالرضى ، و بعدم الرضى على موضوع ما مبتعدا ما وسعه عن الهوى “[22] . هذا الذوق الذي يسعى من خلاله الناقد مرتاض إلى تسليط الضوء على جمالية التكرار من خلال تكرار الحروف و الأصوات داخليا و خــارجياً في سورة الرحمن ، حيث يؤكِّد”… تجد حبلاً صوتياً سمعياً من أوَّل سورة ” الرحمن ” إلى آخرها .و بالتركيز على قوله تعالى : ” فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانْ ” تعتمد عليه ليكمِّل الإيقاع العام للسورة وفائدته أنَّه يأخذ بلبِّ الإنسـان ليشده للانتباه و للتأمل فيما ينفذ للأذن و تترجمه العين فينفذ عفوياً بما يلائم الفطرة لجهر الحق فوق كل شيء ” [23]
فيتجلى الجمال الناطق في هذه الآية الكريمة من خلال تذوق هذا التكرار الموجود في الحروف و الألفاظ و العبارات و الذي أحكم تناسق سورة الرحمن في إيقاعها ، لأنه مبدأ من مبادئ انسجام آياتها نسجياً و إيقاعيًا و تشاكلياً و يستثمر خاصية التأويل للكشف عن هذا الجمال في البناء اللغوي لسورة الرحمن استنطاق حروفها الكريمة ، فهو يرى أنّ الإيقاع بهذه الآية هو تأكيد الحجة على الناكرين المكذبين من الجن و الإنس و الحروف بإيقاعها الطبيعي السموي المعجز فإذا تأمَّل القارئ لفظ “آلاء” يحس سمعـاً أنّ الحروف بإيقاعها المجزَّأ صاعدة نحو السماء هابطة تلامس عقول البشر على الأرض بتنوين الهمزة “ء ” خطاب موجه للثقلين بقوله تعالى : “ربِّكما ” ، فربُّكما بالمد في آخرها لتثبت سيطرة الخالق على الكون .و ما فيه و كذلك قوله : ” ُتَكِذِّبَان ” ف “الباء ” بمدها نحو الأعلى ، و النون نزول طبيعي للأرض بخطاب للبشر و الجان أي رد ظنِّهما الباطل الذي لا يغني عنهما شيئاً [24] . فتكرار الآية السابقة هو تكرار نفس الحروف و الأصـوات فكأنها الميزان الصوتي لسورة الرحمن ، و تردادها إيقاعياً هو استرسال في الكلام ، و جعل المتلقي يشعر بوجود نوع من و الانسجام الإيقاعي نظراً لانسجام الحروف و الأصوات المكوِّنة لهذا الإيقاع وعليه يتم الهدف الجمالي للخطاب .
يُقسم القارئ “عبد الملك مرتاض ” البنية الإيقاعية الخارجية لسورة الرحمن إلى ثلاث بُنى إيقاعية و هي :
1-البنية الإيقاعية على نغم : ” آنْ ” كالرّحمن –الإنسان –البيان .
2-البنية الإيقاعية على نغم : “آمْ ” كالأكمام .
3-البنية الإيقاعية على تنغيمات مختلفة : “ آرْ” كالفخار -” ـون ” كالمجرمون-“ ـين ” كالمغربين [25] . فالقراءة الإيقاعية لا تتوقف على إبراز جماليات الإيقاع الخارجي ( الفواصل ) ، أو بيان نظام الإيقاع الداخلي في الخطاب القرآني ، بل تتعداه لتمزج بين الإيقاعين في نمط واحد و هو التشاكل الإيقاعي .
إنّ التشاكل الإيقاعي عند الناقد مرتاض هو خاصية سيميائة أسلوبية بحكم أنّ التشاكل إجراء سيميائي و قد طبَّقه على النصين القرآني و الأدبي ، فعندما يستشعر جمالية الإيقاع الداخلي فهو يستند على خاصية التشاكل بين الحروف و الأصوات و الكلمات و حتى الجمل ، لأنّ “… كل ما يثير في المتلقي من أصوات و تشاكلات صوتية تنتج عن تلك القوانين المعــروفة من تكرار و تراكم و تقابل ، وما تنسجه التشاكلات من مستويات موسيقية و نغمية ، وتشكِّل هذه العناصر مجتمعة بنية فضائية يحكمها النظام و التناظر و التوازي ” [26].
و بالتالي ينشأ التشاكل الإيقاعي من خلال امتزاج الإيقاع الداخلي مع الإيقاع الخارجي ليكون نظاماً إيقاعيا فريدا من نوعه داخل الخطاب القرآني . و عليه تتحقق جمالية الإيقاع في أي خطاب من خلال عملية التلقي و التأثير ففيه ، فسورة الرحمن هي خطاب ربّاني موجَّه إلى النَّاس كافة و هو يؤثِّر في المتلقي روحيا و فكريا و جماليا من أجل تحقيق الإيمان و التوحيد بالرسالة المحمدية ،لأنّ الإيقاع الأدبي يخاطب كل الوجدان و المشاعر ، فتلين النفوس بهذا الإيقاع ، و تسحر به ، أما الإيقاع القرآني يناجي الروح للهداية و الإيمـان .
يظهر أثر الخطاب الأدبي على المتلقي من خلال التغني و الإنشاد للشعر ، أمَّا في الخطاب القرآني فهو يستند على : التغني و الترتيل و التجويد . و” التغنّي هو هيئة خاصة بالقرآن الكريم ، فهو مرتبة أعلى من الترتيل ، ففيه تنغيم للصوت على القواعد المتلقاة ، فلا يرد عليه الغناء المعروف عند البشر ” [27] . و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به “[28].أمّا ” الترتيل : وهو هيئة خاصة بالقرآن الكريم ، فهو مرتبة أعلى من القراءة ، وعلى هذا فإنّ الترتيل يحتوي مراتب القراءة الثلاثة الشهيرة : التحقيق ، والحدر ، والتدوير بحسب تفاوت درجات الترتيل ليكون أحدها ” [29]. أما ّ” التجويد : لغة هو التحسين و الإتقان و الإحكام . و اصطلاحا : هو إعطاء كل حرف حقه و مستحقه في النطق و إخراج كل حرف مخرجه الصحيح والمراد به ترتيل القرآن على النحو الذي طلبه الله في قوله تعالى : “و رَتِّلْ القُرْآنَ تَرْتِيلَا “[30] .و على هذا الأساس يتَّضح أنَّ الإيقاع “…يتميّز بالطابع الشفهي و السمعي بعيداً عن المؤثرات الخطية ، لأنّ الشعر تأسّس منذ البداية على غايتي التغنِّي الذّاتي المقصود به تطريب الذات و تشنيف السَّمع ، والتّفنّن في إطلاق الصوت و تبعيده جهارة و خطاب و فصاحة و هي وســـــــــــــــــــــائل تهدي إلى تحريك التّخييلات و تفعيل المتصوَّر” [31] .
و إذا كان التغني في الشعر يبعث على الإحساس بالمتعة و الجمال ، فإنّ التغني بالقرآن الكريم يسحر ألباب الناس و يبعث فيهم الغبطة و الفرح و النشوة و كأنّهم قد دخلوا الجنة في لحظات شعورهم بهذا التأثير ، فتسعد قلوبهم بملاقاة الله عز و جل لا يحدث التأثير إلا من خلال التغني و الإنشاد و هو انطلاق صوت من المرسل باستخدام جهاز النطق و آلته اللسان نحو المتلقي الذي يستقبل هذا الصوت بالاستماع إليه. و لكن هل يعتمد الإحساس بالتأثر الإيقاعي من خلال فن الاستمــاع و الإصغاء على شروط معينة ؟ . يقوم الإحساس الجمالي لإيقاع النص على المكونات و هي : أولها : النظام و هو واضح في ترتيب الحروف سقياً ، وثانيها :التساوي الممثل في تساوي الحروف وزنا و عدداً ، وثـالثها : التوازي و هو تعادل وتوازن اللوحات فيما إذ يجب مراعاة الأصول اللسانية التي ينهض عليها قوام إيقاع التلفيظ الشعري الذي يحتاج إلى مميزات إيقاعية تمنحه أبعاده الإبداعية و هي مرجعية جمالية تستند إلى علم اللسان الكلي [32] .
إنّ الخطاب القرآني في نسجه يسير وفق نظام إيقاعي و بناء محكم في آياته بعضها يشد بعضا ، بل إنّ المكونات الثلاثة : النظام –التساوي –التوازي تجعل النص يتمتع بجمالية النسج الإيقاعي و التي تدل على إحكام الناص لنصه . و تلقي القرآن الكريم يتجلى في حسن الإصغاء لجمال ألفاظه ، والتدبر في معانيه ، شرط توفر روح تفيض بالإيمان وأذن سليمة لدى المتلقي ، حتى يستطيع الانسجام مع المقروء و المسموع .
و ما يستدعي انتباه المتلقي نحو أسلوب القرآن الكريم هو خاصية تأليفه الصوتي في شكله و جوهره . فلو قام القارئ المجود بترتيل القرآن حق ترتيله نازلاً بنفسه على هوى القرآن ، وليس نازلاً بالقرآن على هوى نفسه . لا يسمع فيه المتلقي جرس حروفه ، ولكن يسمع حركـــاته و سكناته ، ومدَّاته و غناته ، واتصالاته و سكنـاته لا يجده في كلام آخر و لو جرِّد هذا التجــريد ، وجوِّد هذا التجويد [33]. و كأنّ سورة الرحمن عند ترتيلها تقذف نورا في قلب المؤمن و هكذا يقف المتلقي لسورة الرحمن مندهشاً بهذا الترتيل فيشعر بالرحمة وباللين القابع في فونيم ” آن ” ، و يتحسَّس جمال الجنة فكأنه يعيش فيها بفضل حسن التلقي و الإنصات ، و يتجوَّل بصوت المجوّد بين النعم الحاضرة و الغائبة و يستشعر عظمة هذا الخطاب القرآني من خلال توحيده لله عز و جل .
4-أصالة الإيقاع عند العرب :
إنَّ الإيقاع كان حاضراً عند العرب قديماً ، و الذي يعوّل عليه الناقد عبد الملك مرتاض هو الرجوع بهذا المفهوم إلى منابته الأولى و هي محاولة لإظهار أصالة هذا المفهوم عند العرب القدامى ، و هي حقيقة لا يمكن إنكارها ، حيث ” … عمد الإنسان إلى السيرة الذاتية فأذابها في معتقداته ، و وظفها في طقوسه الروحية ؛ فكانت الأسجاع العجيبة لدى الكهان العرب ، و كان ترتيل القرآن و تجويده و الاستمتاع الرّوحي بسماعه لدى المسلمين .و كان الإنشاد لدى المسيحيين و كان السَّماع لدى المتصوفين …و نحن نعتقد أنَّ القرآن الكريم قام جزء من إعجازه على الإيقاع الكريم في نظمه المعجز ؛ فتحدى العرب الفصحاء الأبيناء ، و الخطباء البلغاء ، فأفحمهم إفحاماً ، و بكَّتهم حتَّى بكَّأهم “[34].
و لعل في هذا المسار توجيه للمتلقي نحو أصالة مصطلح الإيقاع ، لأنّ ” الأصالة هي تلك الزهرة اليانعة التي لا شبيه لها و لا مثيلا لها لكونها انبثقت من تربتها الخاصة بعد أن ترامت لها جذور فيها ، و لكونها أيضاً نمت و تفتحت في مناخ خاص بها فريد .بل إنها تلك الزهرة الفريدة ذات الجذور فأمعن الكتاب أصالة ” [35]. فالناقد يؤصِّل لهذا المصطلح من خلال الرجوع به إلى أحضان التراث العربي لأن جذوره عربية قديمة ظهرت مع القافية و السجع ، وحتى مع تراتيل و إنشاد النصوص الدينية . و عليه يبدو أنّ “… الحضور الإيقاعي موجود ، مهما اختلفت التسميات و لم ينته القدماء إلى أنَّ حس النغم ليس إلاّ خصيصة لغوية ترتبط بالقدرة على استخدام البعد الصوتي للغة استخداماً خاصاً في تناغم مع قوانين اللغة التي حصروا الفصاحة فيها. و لم يتنبهوا كذلك إلى أنّ الإيقاع من سمات النصوص الممتازة في الثقافة لا تختلف كثيرا في النثر عن الشعر “[36]. و الإيقاع من هذا المنطلق لا يتقيًّد بجنس معين فقد يتواجد في كل النصوص بأشكالها المختلفة . و لعل مصطلح الإيقاع كان حاضراً عند أئمة اللغة الذين اهتموا بالأصوات من خلال اهتمامهم باللغة لذلك يقول ابن جني : ” أصوات يعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم “[37]. و يذهب أيضا أ دونيس إلى نفس وجهة االناقد مرتاض ليرجع بهذا المفهوم إلى العرب القدامى الذين عرفوه تحت ما يسمى بالسجع حيث يؤكِّد ذلك قائلا : ” بدأ الإيقاع ، في الجاهلية ، سجعاً كما يرجِّح بعض الباحثين . فالسجع هو الشكل الأول للشفوية الشعرية الجاهلية أي الكلام الشعري المستوي على نسق واحد . وتلاه الرجز الذي كان يقال إما بشطر واحد كالسجع ، لكن بوزن ذي وحدات إيقاعية منتظمة وإما بشطرين . و القصيد هو اكتمال التطور الإيقاعي ، و هو شطران متـــــــــــــــــــــــــــــوازنان موزونا حلّا محل سجعتين متوازنتين” [38] .
وبهذا يحاول كل من أدونيس و مرتاض التنظير لهذا المفهوم برؤية مؤصّلة ، كما يسعى الناقد ” عبد الملك” إلى ضرب الأمثلة و إعطاء بعض النماذج حول هذه الفكرة قائلاً : ” فلنؤب إذن إلى الحديث عن الإيقاع من حيث هو لنقرر بأنَّه عالم قديم إذا راعينا أنّ العروضيين العرب كانوا أعنتوا أنفسهم في تقفي آثاره و تعداد أضربه . ثمَّ إذا راعينا أنّ النقاد القدامى كانوا حاولوا ، بوجه عام ، أن يبحثوا في شأن الإيقاع في أحاديث الأعراب ، وخطب البلغاء دون أن ينظِّروا أصول ذلك تنظيراً ، وتبيَّن لنا أنَّ الفن قديم قدم العربية و أدبها و نقدها . وقد كان شذَّ عن أولئك الأقدمين الجاحظ الذي توقف طويلاً لدى هذه القضية الألسنية في نظر الباحث حتَّى كاد يضع حولها نظرية جمالية “ [39] .
يمثّل الجاحظ نموذجاً حياً على اهتمام العرب بالإيقاع قديما ، فهو يشكِّل تراثاً عند الناقد مرتاض سعى لتأصيله و ربطه بالحداثة .و هذا يدل على الذهاب و الإيَّاب بين التراث و الحداثة و هو مطلب حاول مرتاض تجسيده في مسعاه القرائي . كما أنّ العلامة أبرز ابن خلدون احتفاؤه بمفهوم الإيقاع و وعيه بهذا المصطلح في عصره و زمانه ، و قد عبّر عن ذلك الناقد مرتاض قائلاً : “…لاحظ ابن خلدون *بفضل فكره الثاقب ، و ذكائه الحاد ، أنَّ الكُتَّاب على عهده ، كانوا شرعوا في اصطناع ضروب من العناصر الفنّية الجديدة التي كانت قبل ذلك خالصة للشعر وحده : مثل الأسجاع ، و التقفية ( و هو ما يمكن أن نطلق عليه اليوم مصطلح ” الإيقاع ” حيث أنّ هذا الإيقاع لم تؤثر به سماء الشّعر وحده ؛ و إنّما هو زينة أسلوبية يجب أن تفيد منها الكتابة الأدبية من حيث هي ، على أن يوظف بجمالية و براعة ، وذلك بالعـــــــــــــــــــــــــــــــزوف عن التزامها التزاماً مطلقاً…)” . [40] .
و يبدو أنّ الإيقاع عند العرب لم يكن حكراً على السجع و القافية ، و إنما يدخل في تركـيبه كل ما يزيِّن الأسلوب و يجمِّله ، و لاشك أنّ البلاغة تقوم بهذا الأمر انطلاقاً من علم البديع الذي يحتوي على محسنات لفظية و معنوية ، و على أساسها ينشأ جمال الإيقاع عند العرب القدامى .
و صفوة القول : فالقارئ مرتاض حاول أن يقدّم مقاربة للخطاب القرآني برؤية جديدة تعبّر عن تجربته النقدية التي تلونت بحضور المناهج النقدية الحداثية من أسلوبية ، سيميائية ، تأويلية و تفكيكية ، كما تعكس هذه القراءة عن اهتمام الناقد بالتراث الديني الذي يستحق منّا الدراسة و الكشف عن خباياه و أسراره أكثر من الغرب ، و تعبّر عن محاولته لتجاوز العرب في طرائق تفكيرهم و قراءتهم لهذا التراث الأصيل .كما يؤكّد من جهة أخرى على البعد التأصيلي لمصطلح الإيقاع و الذي لا يمكن إنكاره في مؤلفات العرب القدامى ، و هو بهذه الوجهة يحاول أن يعطي للنظام الإيقاعي الشرعية في جواز تطبيقه على النص القرآني، بما في ذلك النص الأدبي بدعوى أنّ الإيقاع خاصية عربية متأصّلة عند العرب حتّى و إن لم يظهر باسمه المعروف آنذاك.
قائمة المصادر و المراجع :
إعجاز القرآن و البلاغة النبوية ، مصطفي صادق الرافعي ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، ط3 ،1928 . -1
-2أنوار الرحمن في مختصر أحكام تجويد القرآن ، أحمد إبراهيم عبد الرحمن ، مراجعة : الشيخ محمود أمين طنطاوي و د.رمضان عبد التواب ،دار السلام ن،القاهرة ، ط1، 2001.
-3البرهان في علوم القرآن ، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعرفة ، بيروت ،1391ه ، ج1 .
بنية الخطاب الشعري ، دراسة تشريحية لقصيدة أشجان يمنية ، عبد الملك مرتاض ، دار بيروت ،ط1 ، 1986. -4
5-التصوير الفني في القرآن الكريم ، سيد قطب ، ، دار الشروق ، القاهرة ، ط17، 1425 /2004.
6-جمالية الإيقاع في القرآن ( قراءة في البنية و فاعلية التلقي ) ، شارف مزاري ، مخطوط دكتوراه ، (د ط) ، (2001 /2002).
-7الحداثة في النقد الأدبي المعاصر ، عبد المجيد زراقط ، دار الحرف العربي ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 1991
8_الخصائص ، أبي الفتح عثمان بن جني (322 ه- 392 ه)، تح : محمد علي النجار ، عالم الكتب ، بيروت ،(د ط) ،ج1 .
-9خصائص الإيقاع الشعري: (بحث في الكشف عن آليات تركيب اللغة) ، العربي عميش ، دار الأديب للنشر و التوزيع ، وهران ، 2005 .
-10رياض الصالحين ، النووي ( محي الدين أبي زكريا يحي بن شرف ) ، تقديم وتعليق: محمد علي قطب ،المكتبة العصرية ، ط 2 ، 2000 .
11-سيد قطب الأديب الناقد ، عبد الله عوض الخباص ، مكتبة المنار ( الزرقاء ) ، الأردن ، شركة الشهاب للنشر و التوزيع .
-12الشعرية العربية ، أدونيس : علي محمد سعيد ،، دار الآداب ، بيروت ، ط1 ، 1985.
-13العمل الفني اللغوي : (مدخل إلى علم الأدب ) ، تر : أبو العيد دودو ، دار الحكمة ، 2000 ، ج2 .
14-عودة إلى موسيقى القرآن ، نعيم اليافي ، مجلة التراث العربي ، إتحاد الكتاب العرب ،دمشق ، عدد (25-26) ، السنة السابعة، أكتوبر –يناير 1986-1987/صفر و جمادى الأولى 1407.موقع : trath/ 25-26/turath 25-26.003 ,htm. http://www.awu-dam.org
-15قراءة معاصرة في إعجاز القرآن ، إبراهيم محمود ، دار الحوار للنشر و التوزيع ، سوريا ، ط1 ،2002 .
-16الكتابة من موقع العدم ( مساءلات حول نظرية الكتابة ) ، عبد الملك مرتاض ، دار الغرب للنشر و التوزيع ، وهران ، (د ط) ،2003.
_17المصطلحات اللغوية الحديثة في اللغة العربية (معجم عربي-أعجمي /أعجمي-عربي) ، محمد رشاد الحمزاوي ، المؤسسة الوطنية للكتاب ،الجزائر ،1987 .
18-معجزة حروف القرآن ، حليمة مدرس بوداود ، ، دار الغرب للنشر و التوزيع ، وهران ، 2003 ، (د ط) .
19-المقدمة، ابن خلدون ( عبد الرحمن بن محمد 674 ه-741 ه) ، دار القلم ، بيروت ، ط5 ، 1984 ، ج1 .
-20النبأ العظيم ، محمد عبد الله درّاز ، نظرات جديدة في القرآن ، دار القلم ، الكويت ، (د ط) ، 1984 .
21-النص و تفاعل المتلقي في الخطاب الأدبي عند المعري ، حميد سمير ، منشورات إتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، 2005، (الفصل الثاني : المتلقي الانفعالي و لذة النص ) .موقع: http://www.awu-dam.org/book/05/study05/258-A-S/book05-sd007.htm
22-نظام الخطاب القرآني ، تحليل سيميائي مركب لسورة الرحمن ، عبد الملك مرتاض ، ، دار هومه ،الجزائر، (د ط) ،2001.
23-نظرية القراءة 🙁 تأسيس للنظرية العامة للقراءة الأدبية ) عبد الملك مرتاض ، ،دار الغرب للنشر و التوزيع ،(د ط) ،2003
24-النقد الأدبي أصوله و اتجاهاته ، أحمد كمال زكي ، دار النهضة العربية للطباعة و النشر ، بيروت ، ط2، 1981 .
_[1]ينظر : المصطلحات اللغوية الحديثة في اللغة العربية (معجم عربي-أعجمي /أعجمي-عربي) ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، محمد رشاد الحمزاوي ، ، الجزائر ،1987 . ص: 204.
-[2]ينظر : المرجع نفسه ، ص: 204.
-[3]ينظر : العمل الفني اللغوي : (مدخل إلى علم الأدب ) ، فولفغانغ آيزر ، تر : أبو العيد دودو ، دار الحكمة ، 2000 ، ج2 ،ص : 379.
[4]-ينظر :المرجع نفسه ، ج2 ، ص : 379.
[5]-خصائص الإيقاع الشعري: (بحث في الكشف عن آليات تركيب اللغة )، العربي عميش ، دار الأديب للنشر و التوزيع ، وهران ، 2005 ،ص: 13.
[6]-نظام الخطاب القرآني ، عبد الملك مرتاض ، تحليل سيميائي مركب لسورة الرحمن ، دار هومه ،الجزائر، (د ط) ،2001. ص:16.
-[7]ينظر : المرجع نفسه ، ص:16.
[8]-بنية الخطاب الشعري ، عبد الملك مرتاض ، دراسة تشريحية لقصيدة أشجان يمنية ، دار بيروت ،ط1 ، 1986 ،ص : 191.
[9]-عودة إلى موسيقى القرآن ، نعيم اليافي ، مجلة التراث العربي ، إتحاد الكتاب العرب ،دمشق ، عدد (25-26) ، السنة السابعة، أكتوبر –يناير 1986-1987/صفر و جمادى الأولى 1407 ، ص : 3 .
موقع : trath/ 25-26/turath 25-26.003 ,htm. http://www.awu-dam.org
[10]-إعجاز القرآن و البلاغة النبوية ، مصطفى صادق الرافعي ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، ط3 ،1928 ،ص : 214 .(مثبت في الهامش)
[11]-جمالية الإيقاع في القرآن ( قراءة في البنية و فاعلية التلقي ) ، شارف مزاري ، مخطوط دكتوراه ، (د ط) ، (2001 /2002) ،ص: 32.
[12]-نظام الخطاب القرآني ، ص : 267.
[13]-التصوير الفني في القرآن الكريم ،سيد قطب ، دار الشروق ، القاهرة ، ط17، 1425 / 2004 ، ص:36.
[14]-ينظر : سيد قطب الأديب الناقد ، عبد الله عوض الخباص ، مكتبة المنار ( الزرقاء ) ، الأردن ، شركة الشهاب للنشر و التوزيع ، (دت) ص: 249.
[15]-التصوير الفني في القرآن الكريم ، ص: 33.
[16]-المرجع نفسه ، ص: 72.
[17]-نظام الخطاب القرآني، ص: 272.
[18]-خصائص الإيقاع الشعري ،ص : 87.
*فكان يؤصل للمصطلح النقدي من خلال الانطلاق من الحداثة ليرجع به إلى التراث النقدي تحت ما يسمى بالمزاوجة بين التراث و الحداثة .
[19]– البرهان في علوم القرآن ، الزركشي (أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله) ،(745 ه-794ه) ، ، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعرفة ، بيروت ،1391ه ، ج1 . البرهان في علوم القرآن ، ج 1 ، ص: 68 .
[20]-ينظر : النبأ العظيم ، محمد عبد الله درّاز ، نظرات جديدة في القرآن ، دار القلم ، الكويت ، (د ط) ، 1984 ،ص: 102.
[21]-ينظر : النقد الأدبي أصوله و اتجاهاته ، أحمد كمال زكي ، دار النهضة العربية للطباعة و النشر ، بيروت ، ط2، 1981 ، ص: 75.
[22]– المرجع نفسه ، ص: 97_98.
[23]_معجزة حروف القرآن ، حليمة مدرس بوداود ، دار الغرب للنشر و التوزيع ، وهران ، 2003 ، ص: 146 .
-[25]ينظر : نظام الخطاب القرآني : 274.
-[26]النص و تفاعل المتلقي في الخطاب الأدبي عند المعري ، حميد سمير ، منشورات إتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، 2005، (الفصل الثاني : المتلقي الإنفعالي و لذة النص ) ، ص : 1 .موقع: http://www.awu-dam.org/book/05/study05/258-A-S/book05-sd007.htm _
-[27]ينظر : دراسة تأصيلية لكيفية تلقي النبي صلى الله عليه و سلم ألفاظ القرآن الكريم عن جبريل عليه ، عبد السلام مقبل المجيدي ، مؤسسسة الرسالة ، بيروت ، ط1، 2000 ،ص : 166.
-[28]ينظر : رياض الصالحين ، النووي ( محي الدين أبي زكريا يحي بن شرف ) ، تقديم وتعليق: محمد علي قطب ،المكتبة العصرية ، ط 2 ، 2000 ، ص: (246-247) . (متفق عليه)
-[29]ينظر : تلقي النبي ألفاظ القرآن الكريم ، عبد السلام مقبل المجيدي ،ص : 166 .
-[30]أنوار الرحمن في مختصر أحكام تجويد القرآن ، أحمد إبراهيم عبد الرحمن ، مراجعة : الشيخ محمود أمين طنطاوي و د.رمضان عبد التواب ،دار السلام ن،القاهرة ، ط1، 2001 ، ص : (17-18).
-[31]خصائص الإيقاع الشعري : 24 .
[32]– ينظر : النص و تفاعل المتلقي في الخطاب الأدبي عند المعري ، ف2 ، ص: 1.
-[33] ينظر : النبأ العظيم : 102.
-[34]نظرية القراءة 🙁 تأسيس للنظرية العامة للقراءة الأدبية ) ، عبد الملك مرتاض ، ،دار الغرب للنشر و التوزيع ،(د ط) ،2003 ، ص:(229-230).
-[35]الحداثة في النقد الأدبي المعاصر ، عبد المجيد زراقط ، ، دار الحرف العربي ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 1991 ، ص: 107.
-[36]قراءة معاصرة في إعجاز القرآن ، إبراهيم محمود ، دار الحوار للنشر و التوزيع ، سوريا ، ط1 ،2002 ،ص : 140-141.
[37]_الخصائص ، أبي الفتح عثمان بن جني (322 ه- 392 ه)، تح : محمد علي النجار ، عالم الكتب ، بيروت ،(د ط) ،ج1 ، ص : 33 .
-[38]ينظر : الشعرية العربية ، أدونيس : علي محمد سعيد ،، دار الآداب ، بيروت ، ط1 ، 1985، ص:10.
-[39] بنية الخطاب الشعري ، ص: 193.
* ” وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية وفرعوا له ألقابا وعددوا أبوابا ونوّعوا أنواعا وزعموا أنهم أحصوها من لسان العرب وإنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ وأن علم البديع سهل المآخذ وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما ” ينظر : المقدمة، ابن خلدون ( عبد الرحمن بن محمد 674 ه-741 ه) ، دار القلم ، بيروت ، ط5 ، 1984 ، ج1 / 552.
-[40] الكتابة من موقع العدم ( مساءلات حول نظرية الكتابة ) ، عبد الملك مرتاض ، دار الغرب للنشر و التوزيع ، وهران ، (د ط) ،2003، ،ص: 162.