
التناص وإنتاج الدلالة في الشعر المعاصر: “فواكه فاس السبع ” لمحمد السرغيني نموذجا
Intertextuality and the production of significance in the contemporary poetry. «Fawakeh Fes Assabaa». by Mohammed Assarghini as a model.
د.عادل بوحوت ـ الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الدار البيضاء- سطات ـ المغرب
Adil Bouhout ـ Regional Academy for Education and Training in Casablanca – Morocco
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 54 الصفحة 121.
ملخص:تسعى هذه المقالة إلى البرهنة على استعصاء بعض النصوص المنتسبة لقصيدة النثر عن جميع أشكال القراءات الخطية التي تكتفي عادة بمد يدها لاقتطاف ثمرة المعنى، اعتقادا بأنها “مُجتنىً مُدَّنٍ” اكتمل نضجه في ذهن الشاعر، قبل أن تحضنه القصيدة.. وإذا وضعنا نصب أعيننا التعدّد الهائل في مصادر المعرفة الإنسانية التي ينهل منها الشاعر العربي المعاصر، فإنّ نظرية التناص تبدو آلية مسعفة لإثبات أنّ بعض التجارب الشعرية العربية المعاصرة هي مجال خصب لبوليفونية لا نهائية، بحيث تنصهر الأصوات (النصوص) القادمة من مشارب شتى (القرآن الكريم، المثل، الشعر، التاريخ، الأسطورة…) في بوتقة النص الحاضن وتندمج مع صوت القارئ المطّلع (الحامل لـ “ذخيرة” النص حسب اصطلاح إيزر)، لتتيح إمكان إنتاج الدلالة (التي تتجلى في شكل سمفونية بالغة التنسيق والتعقيد) كلما تحقق التفاعل المنتج بين مختلف الأصوات المشار إليها… وهذا ما حاولنا إثباته من خلال قراءتنا لقصيدة “فواكه فاس السبع” للشاعر المغربي محمد السرغيني.
الكلمات المفتاحية: التناص، تعدّد الأصوات، إنتاج الدلالة، تفاعل، انكتاب.Abstract
This article seeks to demonstrate the inability of the linear readings to deal with some texts belonging to the prose poem as they generally tend only to explore the accessible meaning. If we keep in mind that the contemporary Arab poet build on the enormous diversity in sources of human knowledge , the theory of intertextuality seems to be the perfect mechanism to prove that some of the experiences of contemporary Arab poetry is fertile ground for limitless polypohny which can be considered as the principal source in the construction of meaning. This is what the article between hand is trying to demonsrate through an analysis of the poem of the Moroccan poet Mohammed Assarghini « Fawakeh Fes Assabaa ».
توطئةتعدّ فكرة الإنتاجية ثمرة مجموعة من الدراسات النقدية احتضنتها منذ الستينات من القرن العشرين مجلة تيل كيل Tel Quel الفرنسية(*)، والواقع أن الناقد الروسي ميخائيل باختينMikhaïl Mikhaïlovitch Bakhtine، كان سباقا إلى إثارة هذه الفكرة حين نظر إلى الرواية باعتبارها “مهيأة مسبقا ببنيتها الخاصة لدمج عدد كبير من المكونات اللسانية والأسلوبية والثقافية المختلفة على شكل تعدد الأصوات”([1]). إن لغة الرواية، من منظور حوارية باختين، نظام من اللغات التي تتضح معالمها بالمشاركة والتعاون أثناء الحوار. يبدو النص من هذا المنظور، مجالا خصبا لتعطيل خاصية القراءة الأحادية الاتجاه وتحريك فعالية التوليد، من خلال إشراك القارئ في الحوارية الداخلية للأصوات واللغات والثقافات والإيديولوجيات.
وللدلالة على ما يقارب الحوارية الباختينية، اجترحت الناقدة البلغارية جوليا كريستيفا Julia Kristeva مصطلح “التناص” intertextualité، وما لبث هذا المصطلح أن تنوول، من قبل عدد كبير من النقاد، بالإضافة والتعديل.. وهي تنظر إليه -متأثرة بتحويلية تشومسكي- بوصفه عملية استحضار وتمثّل وتحويل من نص حاضر لنصوص غائبة؛ إنه يعيد قراءة النصوص التي دخلت في تكوينه ويقوم بتحويلها لفائدته الخاصة، “وما أن نفكر في معنى النص باعتباره معتمدا على النصوص التي استوعبها وتمثلها فإننا نستبدل بمفهوم تفاعل الذوات مفهوم التناص”([2]).
ويسمي تودوروف Tzvetan Todorov النص أو الخطاب الذي يتأسس على استحضار خطابات سابقة خطابا “متعدّد القيم”، بينما يسمي الخطاب الذي يخلو من عملية الاستحضار هاته خطابا “أحادي القيمة”([3])، وهو (أي تودوروف) يؤكّد أنّ للشكلانيين الروس السبق في إقرار القيمة الأسلوبية لظاهرة التناص، فـ”قد كتب شكلوفسكي يقول: «إنّ العمل الفني يدرَك في علاقته بالأعمال الفنية الأخرى، وبالاستناد إلى الترابطات التي نقيمها فيما بينها، [وإن كان باختين] هو أوّل من صاغ نظرية بأتم معنى الكلمة في تعدّد القيم النصية المتداخلة”([4]).
وإذا كانت بعض الدراسات النقدية -الغربية والعربية على السواء- تختزل التناص في مجرد تقاطع لعدد من النصوص والأساليب داخل نص واحد، وتعمل على إرجاع النص إلى مصادره (مبحث السرقات في النقد العربي مثلا)، فإنّ اهتمام ريفاتير Michel Riffaterre انصب على فكرة أن الدراسات المهتمة بالمؤثرات الأدبية، لا/لم تأخذ بعين الاعتبار الآثار المترتبة عن هذا التقاطع.. من هنا فقد دعا إلى التمييز بين:
- تقاطع النصوص Intertexte: وهو جزء من العمليات المألوفة في النقد التاريخي، في إطار ما يصطلح عليه بالبحث عن المنابع.
- التناص Intertextualité: وهو ظاهرة توجه قراءة النص وتتحكم في إنتاج القدرة على التدليل. وطريقة لإدراك أن الكلمات داخل النتاج الأدبي، لا تكون دالة باعتبار علاقاتها المرجعية الخارج – نصية، وإنما باعتبار علاقات نصية داخلية.([5])
يترتب عن هذا التمييز أنّ التناص لم يعد فقط استراتيجية نصية (كما عند كريستيفا)، بقدر ما أصبح آلية للقراءة، تلعب دورا مهما في تمويه المعنى وتحويله نحو قابلية النص لإنتاج الدلالات، تبعا لنوعية القراءة واختلاف القراء.
تقدّم لنا مدوّنة الشعر العربي المعاصر نماذج جديرة بالتأمل والدراسة من هذا المنظور، خصوصا إذا استحضرنا أن بعض هذه التجارب من توقيع شعراء ينهلون من شتى مصادر المعرفة الإنسانية، مما يجعل نصوصهم ملتبسة وعصية عن جميع أشكال القراءة الخطية، التي تسعى إلى اقتطاف ثمار المعنى الناضجة الموجودة هناك مسبقا.. وهذا ما سوف تكشف عنه قراءتنا لقصيدة “فواكه فاس السبع”([6]) للشاعر المغربي محمد السرغيني([7]).
التناص آليةً لإنتاج الدلالة: (“فواكه فاس السبع” للسرغيني نموذجا)
تُطلُّ علينا “فواكه فاس السبع” من شرفة الحداثة الشعرية العربية المعاصرة، لتعلن عن تمرُّدها في وجه المتعارف عليه، شعريا وثقافيا.
شعريا؛ لاندراجها ضمن خانة منجز شعري عربي، رفع شعار التحرر من قيود العروض الخليلي، وهو تحرر محكوم بقيود نظَّر لها الرعيل الأول لما سمي بمدرسة الشعر الحرّ، وفي مقدمته نازك الملائكة، إلا أن تحولات جذرية مسّت المشهد الشعري العربي، في العقود الأخيرة من القرن العشرين غيرت الكثير من ملامحه، وترتب عنها بروز ثلة من الشعراء، وجدت في التفعيلة نفسِها قيدا ينبغي تكسيره والانعتاق من ربقته، سعيا إلى صناعة شعرية تتخذ من نفسها نموذجها، في نفي شبه تام لما يمكن عدُّه نموذجا سابقا يتم النسج على منواله، وهو الجيل الذي وُسم بمصطلح أثار من الجدل الشيء الكثير، هو مصطلح قصيدة النثر. ولا شك أن الشاعر المغربي محمد السرغيني طبع قصيدة النثر هذه بطابع خاص، يبيح لنا في غير ما تردد وضعه في قائمة رعاة هذا الفن الشعري المتمرد على الأعراف الشعرية المتولدة عما بعد النكبة الفلسطينية.
وثقافيا؛ لتحول القصيدة بين يدي الشاعر من فعل كتابة إلى فعل انكتاب، من خلال الفيض الروحي، والوجداني، والثقافي، الذي تعلن عنه مقاطعها؛ فيضٌ يميط اللثام عن الأشياء، وهي تضطلع بفعل كتابة الشعر، وكتابة نفسها، من خلال رؤيا الشاعر، التي تدمج الماضي في الحاضر، فلا تغدو للحاضر أية إمكانية للحضور، إلا من خلال الماضي البعيد، الذي تحكي سمفونيته فواكه/ أزقة المدينة العتيقة، وهي تدخل مع الشاعر في حوارية يمتزج فيها الغزل والرثاء والحكي، ويتناغم فيها التاريخ والخيال والأسطورة. هكذا تغدو الكتابة في هذا المستوى صرخة مدوية -بصيغة المتعدّد- تعلن عن انفلات خيط الانتظام، الذي عودتنا عليه أنماط القول، التي كان من الممكن اعتبارها ثقافية.
إن التمرد على الثقافي هنا، ليس إلا ثورة على نظام الأقانيم، الذي لطالما عمل -في نظر الشاعر المعاصر- على تقييد فعل الإبداع، وخنق صوت الحرية، الذي ما فتئ يمثل جوهر الشعر، وحبره الذي يكتب به في وجدان الإنسانية وضميرها.
إنّ قصيدة فواكه فاس السبع، بهذه المعاني، منجز شعري يتأبى عن التحديد، يتمنع عن التنعم بفيء اسم من الأسماء يظلله، ويحجبُ عنه أشعة اللاّتحديد الحارقة؛ منجز شعري يُسمِعك، من تآلف مكوناته، ترنيمة حزينة، تحكي ملابسات إحدى رحلات الشاعر في غياهب الزمان والمكان، مزودا بذاكرة تعمل على التلاعب بأدق التفاصيل، سعيا إلى تحقيق فعل إعادة البعث، إعادة بعث الأشياء لا كما كانت، ولكن كما كان ينبغي لها أن تكون، وكما يراد لها أن تصير. ولا يفلح الشاعر هنا في إخفاء عشقه الدفين لأزقة فاس، التي يبدو أنها تجاوزت هي الأخرى ضيقها المشاع -في شبه تواطؤ تفاعلي- لتُقاسِم الشاعر، برحابة صدر، فيضا وجدانيا متضاربا على خليج الماضي، ضاق به صدره وعجز عن احتوائه في حضورها المتناقض، وتقدم نفسها -بعد أن اتخذت أسماء في عالم الفاكهة- موصوفة بعدد أسطوري (سبعة)، ما انفك يلقي بروحانيته وسحره على رؤية الإنسان للعالم وللوجود من حوله.
تبدو فاس، في المشهد الشعري الذي يتصدره العنوان، شجرة أسطورية ضمت في أحضانها/أغصانها الضاربة في جذور الزمان والمكان، سبعة من ألذ صنوف الفاكهة (الرّمان، الزبيب، المشمش، التّوت، الخوخ، الزيتون، البرقوق)، لتحيل إلى علاقة الاشتهاء/الحب، التي تحكم علاقة الشاعر بالشجرة/المدينة، وهي علاقة يمكن قراءتها -إذا ما جردنا العنصر الأول من العنوان من صيغة الجمع- باعتبارها منطوية على الرغبة في القطف وارتكاب الخطيئة، ترسيخا للانتماء وتمجيدا لفعل الهبوط والنزول إلى أزقة فاس، التي تمكث بانحناءتها الأزلية في سفحها القديم.
وفي هذه المقاطع (الأزقة) السبعة، التي يصر الشاعر نفسه على وسمها بالمرثيات، تنبعث من رمادها -على مرأى من القارئ المُلحّ، مثل طائر الفينيق- تلك الأصنام التي أعلن الشاعر المعاصر عن أفولها، بل وتخرج إلى الضوء، لتعلن عن عودة مقنعة للموروث الشعري المتمثّل أساسا في الوقوف على الطلل، فالشاعر يرثي واقفا أزقة- أجسادا، لم يتبقّ لها إلا أن تتخلّى عن ذراعها الأول (زقاق، درب، باب)، وتستجدي في المقابل بذراعها الثاني (الرمان، مشماشة، الخوخة…) الذي أبقى على جماله وسحره بقاءُ الفاكهة- التي جعلت عنوانا له- رمزا من رموز الخصب والاشتهاء والتلذذ… من هنا يبدو الوقوف على الطلل- حسبما علمنا النموذج الأصلي للشاعر([8]) -باصطلاح جابر عصفور- طقسا من طقوس الإكبار للمكان من جهة، في مقابل الحسرة على عوادي الزمان من جهة ثانية؛ فحب المكان راسخ، لارتباطه بالمنبت الأول، والنشأة، والذكرى الجميلة، والسخط على الزّمان/الدهر ثابت، لاتصاله بعنصر التبدّل إلى ما هو أسوأ.
إنّ التناص، باعتباره شكلا من أشكال تعددية الأصوات داخل النص الواحد، يحضر بقوة في معظم مقاطع القصيدة؛ وهو حضور من شأنه أن يسبغ على النص –أيّ نصّ- سحرا لا يكاد يقاوم، خصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار تنوع مشارب هذه الأصوات، بين القرآن، والأسطورة، والتاريخ، والفلسفة، والشعر، والمَثل… ينضاف إلى هذا الحضور المتميز للإشارات التناصية، قدرة فائقة على الجمع بين المتباعدات، في سياق تجربة تخييلية لا تكتفي بعملية الجمع، بل تتعداها إلى إلباس العناصر –بعد امتصاصها– لباسا حربائيا، يتلون بلون التجربة القرائية، التي تعلن هي الأخرى عن نفسها، باعتبارها نصا/ صوتا آخر يحضر ليغيب، ويغيب ليقدم نفسه طرفا زئبقيا، في عملية التحاور والتفاعل مع النصوص/الأصوات المنبعثة من المقروء.
تبدو المقابلة بين: فوقية الموقع، الذي اختارت رمانة فاس نشر عروشها فوقه (وهو السور)؛ “عرشت فوق سور الزقاق المشاغب”، وبين نكران الذات الذي تعلن عنه، في ردها التحية -والتحية هنا رشق بالحجارة- بأحسن منها (وهو تناص اقتباسي([9]))؛ “ترد بأحسن منها التحية إن رشقتها الحجارة…”، أقرب إلى المقابلة -التي سبق إليها الشاعر القديم- بين: ترفُّع النخيل (ودعوة الإنسان إلى اعتناقه تشبّها)، وبين إكرامه لصاحب التحية (الراشق بالحجر)، في قوله:
كُن كالنَّخيل عن الأحقاد مُرتَفِعًا بالطوب يُرمى فيرمي أطيبَ الثمر([10])
ويتصل فعل الرمي بالحجارة هنا، اتصالا وثيقا بنتيجته، وهي السقوط على الأرض، إذ إن هذه الثمرة/ المدينة المحببة إلى النفس سقطت، غير أن السقوط أبقى على اللُّبِّ سليما، بعدما شوّه القشر. غير أن ما يهم الشاعر هو عناصر اللب، التي بقيت في تلاحمها، وكثرة عددها شاهدة على تعدد أسامي من وقعوا في هوى هذه المدينة؛ “…أو فاجأتني على حافة القشر واللبّ أحصي أسامي من وقعوا في حبائلها”.
يحضر النخيل في المقطع الثاني تصريحا؛ “تشكو من عسر الطلق ومن بيوض النخل”، ليغيب عن الأنظار، بعد صدور الأمر بالاجتثاث، وهو الأمر الصادر عن هيئة اتخذت صفات فاكهة الزبيب، الذي يتصدر المجالس بمذاقه الحلو، وانكماشته المغرية، وهو لم يبلغ بعد سن الرشد؛ “وأشكو من عنب مزّ لم يبلغ سن الرشد”، وهنا يظهر في الخلفية المثل العربي: “تزبب قبل أن يتحصرم”؛ محمَّلا بمختلف الدّلالات التي تُحيل في النهاية إلى السرعة في اتّخاذ القرار، وإلى الفجاجة، وإلى كل ما من شأنه أن يكون سببا في إثارة الفتنة، وهي فتنة اختار لها الشاعر مكانا تاريخيا، هو مدينة أفسوس([11])؛ يقول محمد السرغيني: “وفي جلسة أنس ضمّت قرائين صغارا، أوكلت التجفيف إلى جمر الميلاد المفتوح، وكلّفت العراف الإغريقي بإيقاد الفتنة في أفسوس”.
وبصيغة المفرد هذه المرة، يوقظ الشاعر واحدة من بنات المشمش من سباتها العميق، بعد أن نضجت واستوت على سوقها، لتدرك –وهي على مشارف النهايات- أن الاكتمال مرادف للفناء، وأن النهاية ليست سوى عود على بدء؛ يقول: “فاجأها أن اسمها المائي مبتور الذّراعين، وأن أرذل العمر وعنفوانه علامة على دخول الشيء في الشيء”.
وبهذه المعاني، التي لا تكاد تخلو من عمق فلسفي في رؤية الوجود وتمثله، تتكشف أمامنا الخلفية الفلسفية والفكرية التي ينطلق منها الشاعر، في مناولته للفعل الإبداعي، وهو يعود ليؤكد مرة أخرى أن الذي يعنيه هو اللّبّ والجوهر، وكل ما هو ثابت وراسخ وعريق…إلخ. أما القشر، والنواة، ومخلفات الريق… فلا حاجة له بها، لأنه لا يكترث لما يمكن أن يغير شكل هذه المدينة، مادام الجوهر ثابتا لا تنال منه تقلبات الدهر؛ “أيقظتها من عشبها بقدر ما وسعني تجاوز النواة واللزج من مخلفات ريقها”.
وفي زحمة من الحصار المضروب عليه من قبل توتة ضاق بها الدرب، وأخذت ترشقه (أي الشاعر) بحصى التّرمس تارة وببذور الملح أخرى (“حاصرتني –ومعي برعمها الأخضر– من كلّ الزوايا، ورمتني بحصى الترمس جبرا، واختيار ببذور الملح”)، يبحث الشاعر عن إمكانية لإثبات الوجود، من خلال تسويغ الملكية، موظفا لهذا الغرض أسلوب النداء الموجّه –على غير العادة- إلى لام الملكية، معززة بياء النسبة: (يا لي!)، وتاركا المجال واسعا لافتراض هذا المنادى، الذي تربطه به علاقة تملك وحيازة. وهنا يمكن أن تطفو على السطح “فـاس” باعتبارها تيمة بؤرية، تتعدّد تجلياتها في مختلف أركان النص وزواياه، طولا وعرضا.
يواصل الشاعر في باقي مقاطع القصيدة خوض مغامراته اللغوية والتخييلية، التي لا تنفك تتخذ من إحدى فواكه فاس المتبقية عنصر إثارة واستفزاز، واستحضار لشعوب غيبها التاريخ (“بنى شخصٌ من الهكسوس([12]) قصراً في مكان ما من التاريخ…”)، وتاريخ تلاعبت باتّساقه تناقضات الحاضر. ويستفحل أمر الغور، بعد أن استفحل أمر السطح، لكون الدود الذي في الدود عضويا؛ “أوصاني ببث العطر مزكوما، لأن الشمّ معصوم من الأخطاء، والدود الذي في الدود عضوي”، ولتحول الزيتونة (رمز السلام المعهود) إلى ضحية من ضحايا حرب ضروس أعلنها -بفأسه غير الموهوب- حطاب مجهول الاسم؛ “ففي ثراها ينحت الحطاب قصته مع النار التي علقت بفأس غير موهوب يوقع باسمه الشخصي فوق لحائها المعطوب”.
هكذا يعلن الشاعر –وقد اختار الخروج متسللا من أزقة فاس ودروبها وأبوابها ممتطيا ظهر أفعى؛ “كان لي الحقّ في الأولوية عند دخولي على متن تفاحة وخروجي على ظهر أفعى”– عن نهاية رحلته المكوكية، التي قادته إلى الكشف عن أسرار التكوّن، وتفاصيل ما قبل البداية، وطقوس النشأة والتحول والفناء في سجل هذه المدينة، التي أبت إلا أن تتلبس بالرمز، إخفاء لسرها وسحرها، الذي اختزنته فاكهتها بين القشر واللب، وأخذت تمرر تعاليمها –عبر جذور البرقوق هذه المرة– إلى الماء والطين، معلنة عن حلول صيفها، مهدى إلى الجرادة بعدما نفخت فيه عشتار([13]) من روحها؛ “رأيت الجذور تنقل بعضاً من تعاليمها إلى الماء والطين، لذا أسلمت إلى الريح ساقيها وأهدت إلى الجرادة صيفاً مجهرياً، وروح عشتار فيه”.
نافلة القول
إن البحث في التناص استَبْدَل بالسؤال التقليدي للنقد التاريخي: كيف تكونت النصوص الأدبية؟ سؤالا آخر مزدوجا، هو: كيف ينبني النص؟ وكيف ينشط التفاعل بين النصوص المضمومة فعل التدليل.. إن ما يُهِمُّ هنا ليس تحديد المرجعيات الأصلية للنصوص المنصهرة في بوثقة النص -كما كان يحدث في إطار النقد التاريخي- بقدر ما يهم معرفة الأدوار التي أصبحت لها في وضعها الجديد من جهة، وردود أفعال القراء إزاءها من جهة أخرى. بهذا التحديد يصبح التناص مبحثا آنيا، يتعامل مع النص باعتباره ظاهرة معطاة، ويقصي من مجال اهتمامه كل الأسئلة المتعلقة بما قبل التشكُّل.
مـلحـق
فواكه فاس السبع
زقاق الرمان
عرشت فوق سور الزقاق المشاغب، طعم التقمص فيها ورائحة الزغب المتمرد والأرجوان، ترد بأحسن منها التحية إن رشقتها الحجارة أو فاجأتني على حافة القشر واللبّ أحصي أسامي من وقعوا في حبائلها.
رحبة الزبيب
تشكو من عسر الطلق ومن بيوض النخل، وأشكو من عنب مزّ لم يبلغ سن الرشد. وفي جلسة أنس ضمت قرائين صغارا، أوكلت التجفيف إلى جمر الميلاد المفتوح، وكلّفت العراف الإغريقي بإيقاد الفتنة في أفسوس.
درب مشماشة
فاجأها أن اسمها المائي مبتور الذراعين، وأن أرذل العمر وعنفوانه علامة على دخول الشيء في الشيء ـ وأن العيب في الشم الثنائي. لذا أيقظتها من عشبها بقدر ما وسعني تجاوز النواة واللزج من مخلفات ريقها.
درب التوتة
حاصرتني –ومعي برعمها الأخضر– من كل الزوايا، ورمتني بحصى الترمس جبرا، واختيار ببذور الملح. يا لي! إن تعرّت وأنا ملء الجهات الست معنى لبست جثتة ست جهات، وعرت لعراء الورقات السبع. يا لي!
باب الخوخة
بنى شخص من الهكسوس قصراً في مكان ما من التاريخ. أوصاني ببث العطر مزكوما، لأن الشمّ معصوم من الأخطاء، والدود الذي في الدود عضوي. تخلّى القصر عن تقليده الألفي واستغنى عن الأبواب بالحجاب.
باب الزيتونة
من هذه الأشجار واحدة تقول بزيتها لي: أن تريث حين تشعر بانحسار الضوء عن زيت الفتيل، ففي ثراها ينحت الحطاب قصته مع النار التي علقت بفأس غير موهوب يوقع باسمه الشخصي فوق لحائها المعطوب.
أجزام برقوقة
باحثاً عن مساحة هجرتها دودة ضخمة تجاوزها الركب، رأيت الجذور تنقل بعضاً من تعاليمها إلى الماء والطين، لذا أسلمت إلى الريح ساقيها وأهدت إلى الجرادة صيفاً مجهرياً، وروح عشتار فيه.
كان لي
الحقّ في
الأولوية
عند
دخولي
على متن
تفاحة
وخروجي
على ظهر
أفعى.
قائمة المراجع
- القرآن الكريم برواية ورش.
- البغدادي الخطيب، تاريخ مدينة السلام، تحقيق: بشار عواد معروف، المجلد 13، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 2001.
- حافظ صبري، التناص وإشاريات العمل الأدبي، مجلة ألف، عدد 4، 1984.
- دوبيازي ب.م، نظرية التناص، تعريب المختار حسني، مجلة فكر ونقد، العدد الثامن والعشرون، 2000.
- السرغيني محمد: من فعل هذا بجماجمكم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز- فاس، 1994.
- طودوروف تزفيطان: الشعرية، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر، (ط 2)، 1990.
- عصفور جابر: غواية التراث، سلسلة كتاب العربي، وزارة الإعلام- الكويت، العدد:62، 2005.
- موسوعة ويكيبيدياhttps://ar.wikipedia.org/wiki.
- Riffaterre L’Intertexte inconnu- In Littérature N° 41. Septembre 1981.
*– تأسست سنة 1960 بإدارة فيليب سوليرس.
[1]– ب.م دوبيازي، نظرية التناص، تعريب المختار حسني، مجلة فكر ونقد، العدد الثامن والعشرون، 2000، صص. 113-114.
[2]– صبري حافظ، التناص وإشاريات العمل الأدبي، مجلة ألف، عدد 4، 1984، ص. 93.
[3]– تزفيطان طودوروف، الشعرية، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر، (ط 2)، 1990، ص. 40.
[4]– المرجع نفسه، ص. 41.
[5]– M. Riffaterre: L’Intertexte inconnu- In Littérature N°: 41. Septembre. 1981. P 4.
[6]– ضمن ديوان: “من فعل هذا بجماجمكم” الصادر عن منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية/ ظهر المهراز- فاس، 1994.
[7]– شاعر وأكاديمي مغربي معاصر من مواليد مدينة فاس سنة 1930، يعد من الشعراء المغاربة الرواد الذين انفتحوا على تجربة الشعر الحر. من إصداراته الشعرية: -ويكون إحراق أسمائه الآتية (1987) –بحار جبل قاف- الدار البيضاء، إفريقيا الشرق (1991)… ورواية بعنوان: وجدتك في هذا الأرخبيل، إلى جانب إسهاماته في مجالي النقد والترجمة.
[8]– هذا هو عنوان المحور الأوّل من كتيب “غواية التراث” للناقد المصري جابر عصفور، ويقصد عصفور بالنموذج الأصلي للشاعر، ذلك النموذج “الأقدم الذي بدأ به الوعي بالشّعر والشاعر عند العرب، وظلّ يعود إليه كلّ تفكير في الشعر والشاعر في متواليات تعدّد الآراء، وتغيّر الاتّجاهات، واختلاف العصور… هو نموذج الشّاعر العارف بكلّ شيء، القادر على كلّ شيء” (جابر عصفور، غواية التراث، سلسلة كتاب العربي، العدد:62، 2005، ص:14).
[9]– مع قوله تعالى: “وإذا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَن مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّه كَانَ عَلَى كُلّ شَيْء حَسِيبًا” (النساء/ 86)
7– ينسب هذا البيت إلى الشاعر العباسي علي بن الجهم، وهو أبو الحسن علي بن الجهم بن بدر القرشي السامي، يقول عنه الخطيب البغدادي: «له ديوان مشهور، وكان جيد الشعر، عالما بفنونه، وله اختصاص بجعفر المتوكل، وكان متديناً فاضلاً» (الخطيب البغدادي، تاريخ مدينة السلام، تحقيق: بشار عواد معروف، المجلد 13، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 2001، ص 290).
5– من أعظم المٌدن الاغريقية القديمة في الأناضول، وتقع في منطقة ليديا (Lydia) – منطقة تاريخية في غرب الاناضول- عند نهر كيستر (Cayster River) الذي يصب في بحر ايجة (في تركيا الحالية). كانت ثروتها يضرب بها المثل. بعدما ضمها الفرس إلى إمبراطوريتهم زادت أهميتها واتسع نطاق تجارتها. استمر ازدهارها فى العصر الهيلينتسى، ولما خضعت لروما سنة 133 قبل الميلاد كانت فى صدارة مدن ولاية آسيا. كان معبد ارتيمس (معبد ديانا) من أهم معالمها وكان عجيبة من عجائب الدنيا السبع. فى العصر المسيحى غدت أفسس مركزا من المراكز المسيحية المهمة وزارها القديس بولس. استولى عليها السلاجقه (1071-1100) وغزاها الأتراك العثمانيون سنة 1304. (عن موقع ويكيبيديا).
6– في المصرية القديمة: هكا سوس “الملوك الرعاة”، شعب سامي بدوي غزا أرض شمال مصر، في القرن الثامن عشرِ قبل الميلاد، وحكمها لأكثر من 250 سنة. (عن موقع ويكيبيديا).
7– عشتار، أو أشتار، أو إشتار، أو عشروت، أو عشتروت، هي إلهة الحب والإنجاب والحرب عند البابليين والكنعانيين ومنهم الفينيقيين. ترمز بشكل عام إلى الإلهة الأم الأولى منجبة الحياة، وكان أحد رموزها الأسد. ومعبدها الرئيسي كان في نينوى قرب مدينة الموصل. وكان السومريون يطلقون عليها عناة والعرب يسمونها عثتر والإغريق يسمونها أفروديت. ظهرت أول مرة في بلاد سومر في جنوب بلاد الرافدين، قبل أكثر من ستة آلاف عام، إما بشخصها المرسوم على الأختام الأسطوانية وبعض المنحوتات، وإما بالرمز الذي يدلّ عليها في الخطّ المسماريّ وهو النجمة الخماسية التي تشير إلى كوكب الزهرة، ألمع الكواكب. وقد سمّاها السومريون إنانا.