
التّناص الدينيّ في شعر عمر بن أبي ربيعة
Religious Intertextuality in the Poetry of Omar Ibn Abi Rabia
هاني يوسف أبو غليون، باحث دكتوراه فلسفة اللغة العربية آدابها , جامعة آل البيت, الأردن
Hani Yousef Salameh Abu Ghalyoun, – PhD, Arabic Language and Philosophy
Department of Arabic Language, Al al-Bayt University, Jordan
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 52 الصفحة 105.
المُلخّصهذه دراسة نقدية تحليلية لظاهرة التناص الديني في شعر عمر بن أبي ربيعة , التي ظهرت في ديوانه , فحاول هذا البحث أن يتلمس مواطن التناص الديني في شعره , ويبين التقنيات التي استخدمها الشاعر في توظيف التناص في شعره , وكشف إبداع الشاعر في استلهام الآليات التناصية من الامتصاص والاجترار والتضمين في أعماله الإبداعية , وإظهار قدرته الفنية على إعادة تشكيل النصوص الغائبة في نصوصه الجديدة , وبيان موهبته الشعرية في جعل نصوصه الغزلية تتعالق مع السياقات القرآنية , وتتناسب مع أغراضه الشعرية , محافظا على السياق القرآني ضمن تناصه , ووجد الباحث اتكاء الشاعر على النصوص المرجعية في حديثه عن علاقته بمحبوبته وعلاقته بالحاقدين عليه , كما خدمت هذه تقنية التناص ظاهرة النرجسية الغزلية التي اتصف بها الشاعر , واتخذ الباحث المنهج الوصفي التحليلي منهجا علميا للدراسة .
الكلمات المفتاحية : التناص الدينيّ / الإذابة والامتصاص / الاجترار / التعالق النصي / التضمين
Abstract
This is a critical analytical study of the phenomenon of religious intermarriage in the poetry of Omar Ibn Abi Rabia, which appeared in his office. This research attempts to discern a citizen of religion in his poetry, and shows the techniques used by the poet in the recruitment of poetry in his poetry and in the inspiration of the mechanisms of absorption And to reflect on his artistic ability to reconstruct the missing texts in his new texts, and to show his poetic talent in making his metaphysical texts compatible with the Qur’anic contexts and in keeping with his poetic purposes, while preserving the Qur’anic context. A reference in his speech about his relationship with his love and its relationship to The hateful him, served as the phenomenon of narcissism that was characterized by spinning poet, and we have taken the descriptive analysis of a scientific approach to the study.
Keywords : Religious Intertextuality/ Dissolution and Absorption / Quotation / Textual Relation / Inclusion
المقدمة :
تُعَدُّ الأعمال الإبداعية حصيلة علاقات متشابكة بين الأنواع الأدبية, ويُعتبر التّناص من الآليات التي يوظفها المُبدع في إنتاج أعماله الإبداعية , ذلك أن النَّصَّ الأدبيَّ كما وصفه بارت ما هو إلا ” نسيجٌ من الاقتباسات والإحالات والأصداء من اللغات الثقافيّة السابقة أو المعاصرة التي تخترقه “([1]) , فالنَّص عنده جيولوجيا كتابات , أمّا التّناص فهو مصطلح نقديّ حديث الظهور عند نقاد الغرب, دخل للخطاب النقديّ العربيّ تحت مُسمى ” التَّداخل النصّيّ ” , ثُمّ فُضِّلَتْ ترجمة المُصطلح بـ ” التّناص ” الذي أصبح شائعا في الخطاب النقديّ العربيّ , وبالرغم من كون المصطلح غربيّ وحديث إلا أن الشعريّة العربيّة القديمة فَطِنت لعلاقة النصّ بالنصوص الأخرى, فأدركوا سُلطة النصوص الأخرى على النصّ الشخصي , ولكنهم أولوا مسألة التّداخل النصّيّ عناية بعيدة ذات استراتيجيات متعددة , منها الدفاع عن القدماء أو المُوازنة بين شاعرين أو المفاضلة أو الوساطة بين شاعر وخُصومه أو تناولهم لموضوع السرقات([2]).
والتّناص حسب تعريف جوليا كرستيفا هو : ” نصوص يتمّ صناعتها عبر امتصاص , وفي نفس الآن عبر هدم النّصوص الأخرى للفضاء المُتداخل نصّيا , فالنّصّ الشعري ينُتج داخل الحركة المعقدة لإثبات ونفي متزامنين لنصّ آخر”([3]) , فالتّناص فُسيفساءٌ من نصوص أخرى أدمجت فيه تقنيات مختلفة , وممتص لها يجعلها من عندياته ويصيرها منسجمة مع فضاء بنائه ومع مقاصده , ومحولا لها بتمطيطها أو تكثيفها بقصد مناقضة خصائصها ودلالتها أو بهدف تعضيدها , ومعنى هذا أن التّناص هو تعالق (الدخول في علاقة ) نصوص مع بعض حدث بكيفيات مختلفة ([4]) , ويحتاج التّناص من المُبدع إلى امتلاك أدوات فنية إبداعيّة بحيث يستطيع بها هدم وهضم وإذابة النص السابق داخل نصه الجديد , كما تفعل الأشجار عندما تمتص الغذاء والماء من التربة وتذيبه في بنائها , فيصبح جزءً منها يصعب عزله أو ملاحظته فيذاب داخل البناء الهيكلي للشجرة , مع ترك إشارات وعلامات تشير إلى وجوده , تحتاج إلى خبير لمعرفة مواطن هذه الإشارات في البناء الأصلي لتحديدها , هذا السبك المتقن يحتاج من المُبدع إلى قدرة على إذابة المأخوذ لينسجم مع نصه الجديد , هذا العمل الإبداعي وصفه تورينيه ” بنوع من الانتشاء المبرر بالصنيع الذي يمارسه هو على عمل الغير بأن تطور ما تسرق حتى ليبدو الآخر السابق لك كأنه هو من يسرقك “([5]) .
وتقوم آليه التّناص بكتابة نصّ على نصّ ، جملة على أخرى أو بيت شعر على آخر وقد يكون بصورة نصّ داخل نصّ أو نصوص أخرى , وأطلق جيرارد جينت على التناص” تسمية التعالي النصّي أو التداخل النصّي”([6]) , فالتّناص يتصل بعمليات الامتصاص والتحويل الجذري أو الجزئي لعديد من النصوص الممتدة بالقبول أو الرفض في نسيج النصّ الأدبي المحدد, وبهذا فإن النصّ الأدبي يندرج في فضاء نصّي يتسرب خلاله , ممّا يجعل البحث المستوعب لا يكتفي أن يلتزم حرفيا بمستوى نصّ واحد مؤثرا عليها المقاربة التي نرى في النصوص حوارا فنيا لممارسات متنوعة([7]), والنصوص الجديدة مصنوعة من النصوص الدينية أو الثقافية أو الاجتماعية ” وحسب هذا المعنى فإن النص ليس كيانا معزولا ومنفصلا ولكنه تجمع لنصوص ثقافية , ويمكن صنع النص المنفرد والنص الثقافي من المواد النصية نفسها “([8]) , ويطلق محمد بنيس على النصّ المرجعي تسمية النصّ الغائب , مؤكدا أن الحضور الفاعل في العمل الإبداعي يكون للنص الجديد ” لا شك أننا لمسنا للنصّ الغائب من خلال التداخل النصّي وهجرة النصّ محدودة للغاية من حيث استقصاء التحليل , ونشير إلى أن هناك طرائق نصية عديدة يمكن قراءتها ضمن التداخل النصي “([9]).
ويساعد التناص على تحقيق تفاعل المتلقي مع النص , ويمنحه دوراً ” في التعامل مع النصوص , وقدرة على فك شيفرتها بما لديه من مخزون ثقافي ومعرفي ؛ لأن المبدع أشركه في عمله الفني بما تركه من مؤشرات مرجعية إلى النصوص الغائبة , ويكون بصنيعه هذا قد أنعش مخيلته ونشط ذاكرته “([10]) , وهذا يساعد على تعدد القراءات للنص المتناص من خلال الانفتاح النصي الذي يوفر للقارئ بيئة خصبة ليقيم العلائق ويبحث عن الغائب ويملأ الفراغات , وكأن المبدع ابتكر نصا مفتوحا تتجدد فيه المعاني مع كل قراءة ” وهذا يعني أن العملية التناصية في فضاءات ( زمتور ) يتولى مهامها المؤلف بوصفه دالا والنص بوصفه مدلولا والمتلقي بوصفه مؤولا.. والنص ينمو في الفضاء الأول (المؤلف) ويتوالد في الفضاء الثاني(المتلقي ) ويتناسل في الفضاء الثالث(النص).. كونه الفضاء الذي يضم مجموعة من النصوص المتحاورة “([11]) , ولهذا يتوقع من القارئ أن يهتدي إلى كشف المعنى العميق للنص المتناص , والذي يأخذ بيده للوصول إلى المكون الدلالي للنص من خلال إلتقاء ذات القارئ مع ذات النص , التي تحتاج إلى فهم عميق لأن كشف التناص لا يتحقق من خلال القراءة السطحية للنص , بل تتحقق من خلال كشف القرائن المبثوثة في التركيب لتشكل معينا برهانيا لتلك الدلالات التي يقصدها النص ” وبهذه المعطيات سيمارس المتلقي عمليات متعددة لتحليل الدال , وعملية تحليل الدال ستتم من خلال رؤية المدلول التي ستقود إلى كشف المعطيات الخارجية عن النص المكونة له , وهذه المعطيات هي المرجعيات النصية التي أعانت المبدع على إبداع نصه من خلال إنتاجها معا “([12]), وكأن التناص أقام علاقة حوارية بين القارئ والنص الجديد .
التّناص الدينيّ :
يُقصد بالتّناص الدينيّ ” تداخل نصوص دينية مُختارة عن طريق الاقتباس أو التضمين مع القرآن الكريم أو الحديث الشريف , أو الخُطب , أو الأخبار الدينيّة , مع النصّ الأصلي بحيث تنسجم هذه النصوص مع السياق وتؤدي غرضا فكريا أو فنيا أو كليهما معا “([13]) , وفي التّناص الدينيّ ” تتجلى المتفاعلات النصّية من خلال إشارات إلى أسماء دينية لها بُعد تاريخي مثل موسى ويوسف ــ عليهما السلام ـــ أو آيات ومقتطفات مأخوذة من القرآن الكريم أو الكتاب المقدس أو إشارات إلى بعض القصص أو الوقائع فيها مثل قصة الخلق , أو الإشارات الدينية العديدة , أو بعض الممارسات الدينية أو بعض الشعائر والأحاديث النبوية أو الصوفية “([14]) , وهوما يمكن أن يُطلق عليه ( النص المقرءن ) ذلك النص الذي يتعالق في بنائه الفني مع نص قرآني موظفا ألفاظا قرآنية مقدسة تكون مرجعيات يستطيع المتلقي أن يُرجعها إلى موطنها في الآية القرآنية التي تشكل النص السابق فيكون النص القرآني نصا غائبا استند عليه المُبدع في إنتاج عمله الإبداعي بما تحمله من فكر يخدم البناء الجمالي والدلالي للنص الجديد , فهذا التناص يضفي على النصوص الشعرية تفاعلا وقدرة على التواصل , وتقوي النصّ وتصور أفكاره , ويزيد من قيمة النصوص في وجدان القارئ , والتّناص الدينيّ في شعر عمر بن أبي ربيعة متناثر في مجموع شعره , ومن خلال استقراء ديوان عمر بن أبي ربيعة استطعنا تحديد أنماط التّناص الدينيّ التي تمثلت بالإذابة أو الامتصاص , والاجترار , والتضمين , وهذا ما سنعرضه بالتفصيل في هذا البحث.
الإذابة والامتصاص للقصص الدينية
تقوم آلية هذا التناص بامتصاص المبدع نصوصا سابقة في عملة الإبداعي , مكتفيا بذكر مرجعيات ومؤشرات سريعة دالة على النص الغائب , فلا يذكر ملفوظا حرفيا من النص السابق في نصه الجديد, وإنما يحيل الذاكرة القرائية عليه من خلال بث دال من دواله أو إشارات مرجعية له, فيتعامل ” النص اللاحق مع النصوص الأخرى بوعي حركي , ويعتمد هذا التعامل على التشرب والتحوير “([15]) , فالامتصاص هو ” القانون الذي ينطلق أساسا من الإقرار بأهمية هذا النص وقداسته , فيتعامل مع النص القديم كحركة , وتحويل “([16]) , ويتجلى هذا النوع مع القصص القرآني بتناص مع مضمون قصة قرآنية , وإعادته إلى صناعة جديدة بتشرب فكرتها ومغزاها .
لقد استوحى عمر بن أبي ربيعة قصة سيدنا يوسف مع زليخا زوجة عزيز مصر لتعبير عن حالة النرجسية التي سيطرت على الشاعر في حالاته الغزلية عندما ابتدع نوعاً غير مألوف من الغزل أصبح فيه المتغزل به , والمرأة أضحت هي من تتغزل بعمر وتطارده , وأمام هذه الحالة الطارئة على المجتمع أراد الشاعر أن يثبت جذورا لها لينطلق بمشروعيتها , فوجد في قصة سيدنا يوسف مع زليخا ما يدعمه خاصة وأنَّها قصة قرآنية وردت في أعلى النماذج الفكرية , فعمل ابن أبي ربيعة على امتصاص فكرة هذه القصة وإذابتها في نصه الإبداعي , وتشرّب مغزاها مع وجود إشارات مرجعية لها في النص الجديد , فتكوّنت رؤيته التعبيرية ؛ لتخدم مقصديته , بما فيها من أبعاد دلالية وحسن سبك وجودة صياغة , متجاوزا بها فكرة التَّوظيف السطحية إلى وظائف إيحائية في البنية العميقة للخطاب , فظهرت أهمية التّناص مع قصة سيدنا يوسف في هندسة النصّ الأدبيّ في محاولة لاستلهام النصّ المتناص , فاختار قصة سيدنا يوسف نصا غائبا ؛ ليعبر الشاعر عن جماله وحسنه الذي بهر النساء حتى أصبح مطلبهن وغايتهن , فيقول([17]) :
مــرحــبــا ثُمّ مــرحــبــــا بــالــتــــي قـــــا لـت غـداة الــوداع يــوم الـرحـيـل
للـثــريــــا : قولــي له أنــت هـمـي ومـنــى الـنـفــس خالـيا والـجـلـيــل
فـالـتــقــيــــا فـــرحـبــــت ثُمّ قــالـــــــت عـمـــرك الله إتينا فـــي الـمــقــيـــــل
فــي خلاء كيما يرينك عـندي فـيــصــدقــــن فــــداك قــبــيـــلــــــــــــــــــــي
لــــم يـــرعــهـــن عــنـــد ذاك وقــــــــد جـئت لميـعـادهـــن إلا دخــولــي
قــلـــن هـــذا الـــذي نــلــومك فـيـه لا تــحـجـي مـــن قــولــنــا بــفـتـيــل
فــصــلـــيـــــــه فـلـــن تــلامــــي عـــليـــه وهـــــو أهـــــل الــصــفـــا والـتـنـويــل
قـالت انصّتـن واستمعـن مقالي لسـت أرضى مــن خـلتي بقـليـل
قد صفا العيش والمغيري عندي حـبـذا هــو مـن صـاحـب وخليل
لقد أسرت هذه المرأة لصديقتها الثريا أن عمر بن أبي ربيعة هو من تفكر فيه من دون العالمين , وأنه أمنيتها التي ترجو تحققها , فقد دعته وقت القيلولة إلى خدرها, وأخرجته على صويحباتها اللواتي لُمْنَها في حبه ليظهر لهن مقدار الجمال التي يتمتع به , فصُدمن من جماله , واعترفن لها بجهلهن , وأنها على حق في أمره , ووصينها أن تتمسك به , ولا تفرط فيه , فهذه الأبيات تتناص مع قصة سيدنا يوسف وزليخا , فهذه الأبيات تتضمن معنى قوله تعالى([18]) : ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (30) لَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) ﴾ , كل هذا الأحداث تقع من صاحبة عمر وصديقاتها دون أن يتكلم أو يبدي رأيا , لتتقاطع مع مجريات قصة سيدنا يوسف الذي كان دوره الخروج للنسوة فقط , وكذلك عمر خرج للنسوة , وزليخا راودته عن نفسه وأكدت أنها لن تتراجع عن مشروعها , وكذلك صاحبة عمر راودته عن نفسه وأكدت لصاحباتها أنها لن تتراجع عن رغبتها , وموقف النسوة متشابه في اللوم في البداية , ثُمّ الانبهار عند رؤية جماله , والتحول إلى تأييد استمرار محاولة الإيقاع به , لقد وجد ابن أبي ربيعة في قصة سيدنا يوسف ثراءً وعمقا يحققان لنصّه الشعري المقصدية العميقة التي ينشدها , فمواطن التّناص المكونة للنصّ الشعري أظهرت الغاية العميقة التي سعى لتحقيقها من هذا التّناص , ماثلة في رغبة الشاعر إظهار نرجسيته الغزلية, وأنه معشوق ومطلوب من النساء, وأنه في غاية الحسن والجمال , وما كان لها أن تتحقق لولا هذا التّناص العميق مع القصة القرآنية , فوفّر النص الغائب للشاعر ما احتاجه لعرض أفكاره .
وظهرت المتعالقات النصّية بين النصّ المرجعي ـــ قصة سيدنا يوسف مع زوجة العزيز ــــ والنصّ الإبداعي , فهي علاقات ما وراء نصّية من خلال ما أطلقت عليه ( جينت ) النصّية المتفرعة ” وهي العلاقة التي من خلالها يمكن لنصّ ما أن يشتق من نصّ سابق عليه بواسطة التحويل البسيط “([19]) كما أظهر هذا التعالق النصّي حضور فرضية النصّ الغائب من خلال ” استحضار الرموز والدلالات والإشارات التي تستنبط من النصّ الحاضر ؛ لإعادة بنائه وتركيبه , وبالتالي فهمه على أفضل شكل ممكن “([20]) , فظهر التّناص بين شخصيتي زليخا وهند, وبرزت إشارات إيحائية للنسوة في القصة القرآنية , ولم يتوقف التّناص عند فكرة المراودة فقط بل ظهر التّناص في الأسلوب الحواري , وبناء مجريات أحداث القصة ونتائجها , واكتفى المبدع بذكر إشارات خاطفة نحو : ( قلن , يرينك , هذا الذي , نلومك , قالت ) لتكون مؤشرات مرجعية تساعد القارئ على إدراك الأبعاد الدلالية للنص الجديد , فأضافت استراتيجية التناص معاني ودلالات جديدة في النص الجديد من خلال تحويل المعنى الأصلي في النص الغائب المتمثل في محاولة إغواء سيدنا يوسف, والدعوة إلى ارتكاب الخيانة الزوجية معه بإجباره على خيانة سيده , إلى معنى ودلالة جديدة تتمثل في علاقة العشق الصادق العفيف, ومحاولة كسب حب ابن أبي ربيعة واهتمامه.
وتناص الشاعر مع بعض أحداث قصة سيدنا زكريا موظفا بعض تشبيهات القرآن الكريم , خاصة تلك الاستعارة الأشهر في القرآن الكريم التي تدارسها علماء البلاغة عند الحديث عن عزو الشيب للرأس والانتشار به كالاشتعال , فيقول([21])
أَمْسَى شَبَابُكَ عَنَّا الغَضُّ قَدْ رَحَلا وَلاَحَ في الرَّأْسِ شَيْبٌ، حَلَّ فَاشْتَعَلا
فالشاعر عندما أبدع نظم بيته كان مستحضرا قوله تعالى: ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾([22]) على لسان سيدنا زكريا عندما توسل لله بما فيه من ضعف وكبر بأن يرزقه طفلا , ففي السياق المرجعي جاء النص كناية عن التقدم في العمر , وجعل هذا التقدم وسيلة للتوسل لله للرأفة بحاله , لذلك شبه الله سبحانه الشيب في بياضه وإنارته بشواظ النار وانتشاره في الشعر باشتعاله ، وأسند الاشتعال إلى الرأس مكان الشيب للدلالة على المبالغة في الكِبَر , أمّا الشاعر فقد أشار من خلال التناص إلى حُزنه على رحيل الشباب واقتراب الشيب لذلك بدأ بالفعل ( لاح ) للإشارة إلى تدرج الشيب في الرأس , لكن هذا الشيب الذي لاح سرعان ما طاب له المقام في الرأس فحّل فيه منتشرا بسرعة انتشار النار , فأقام الشاعر علاقة مقابلة بين ثنائية ضدية بين الشباب والشيب , وبين الرحيل والإقامة , والتناص مَكَّن هذه العلاقة الضدية وصبغها بجمالية شعرية مؤثرة في نفس القارئ , تدفعه لاستحضار النص الغائب وحضوره في النص الجديد , مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة على ترتيب الألفاظ في الجملة , فقدّم ( في الرأس شيب ) على الفعل (اشتعل ) وأضاف الفعل (لاح) بمعنى (بدا وظهر ووضح) ليشير إلى أنه في بدايات مرحلة الشيب ولم يغزو الشيب رأسه فوقع الشيب فاعلا للفعل , وكان في النص المرجعي تمييزا , كما أن الفاعل في النص المرجعي (الرأس) أصبح مجرورا , وأضاف فعل ثان وهو ( حلّ ) ليشير إلى التدرج فبعد أن لاح الشيب وأعجبه المكان وحلّ فيه اشتعل انتشارا , ومع كُلِّ هذا التحوير يبقى النص الغائب حاضرا في ذاكرة القارئ فالتشبيه في النص الجديد متصل بالنص الغائب , فأدخل التناص معنى الحزن والأسى على رحيل الشباب إلى النص الجديد إضافة إلى معنى الكبر في النص القديم , فحوّل الدلالة من التعجب إلى الحزن .
كما انفتح على قصة سيدنا زكريا خاصة الجانب الذي يتحدث فيه عن ضعفه ووهن عظمه وعجزه الظاهر, كما في قوله تعالى : ﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّيْ ﴾([23]) , فقد أشار سيدنا زكريا إلى حالة الضعف التي أصابته وأن العظم قد وهن وهو عماد البدن , لكن سيدنا زكريا وهن عظمه بسبب الكِبَر ، أمّا الشاعر فقد وهن عظمه وضعف جسده وهزل لا لكبر اعتراه ولكن بسبب هجر محبوبته هند له , فيقول([24])
ربِّ، قد شفني وأوهنَ عظمي وَبَرَاني وَزَادَني فَوْقَ جَهْدي
ليعبر الشاعر عن مدى الضرر الذي وقع على جسده بسبب هجر محبوبته ( هند ) أَنَّ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى هَجْرِهَا وَبُعْدِهَا, فأحدث هذا الهجر فيه الوهن والنحول وعَجْز في قدرت التحمل, وقد ترك هذا التناص للقارئ حرية تخيل مدى الحالة الجسدية التي بات فيها , وعند دراسة البناء التناصي نجد الشاعر قد غَيَّرَ أسبابَ الوَهَنِ , ففي السَياق القرآني كان الكِبَر هو السبب الوحيد , أمّا في النص الجديد فقد أظهر الشاعر أسباباً جديدةً لا علاقة لها بالنص المرجعي وهي هَجْرُ هند له , وظهر في النص الجديد إشارات مرجعية تحيل القارئ إلى النص المرجعي وهي ( وهن عظمي ) فأضاف التناص معنىً دلالياً جديداً عندما ” انزاح الشاعر من كبر السن إلى وهن الحب ليعبر لنا عن شدة معاناته في حبِّ هند , فهو انتقل من التعجب إلى الشكوى , وهذا ما أسهم في وضوح المعنى “([25]).
ويوظف الشاعر قصة الرسول الكريم مع الأنصار في إظهار مدى حبه الأعمى لمحبوبته فيقول:([26])
وقلت لها لو يسلك الناس واديا وتنحين نحو الشرق عمّا تيمموا
لكلفنـي قـلبـي اتابعـكـي أنـنــــــي بذكراك أحرى الدهر صــب مـتـيـّــــم
أرى ما يلي نجدا إذا ما حللته جميـــلا وأهوى الغــور إن تتتهمّـوا
فهو يشبه حالته في اتباع محبوبته مكانيا , وأن أي مكان لا يطيب له العيش فيه ما دامت محبوبته ليست موجودة فيه , رابطا رغبته النفسية في حبّ أي مكان بوجودها , وفي ذات الوقت يؤكد تفضيله لها على باقي الناس لتعلق قلبه بحبها , وأنه اختار رفقتها , بحال الرسول الكريم عندما فضل رفقة الأنصار وأنه سيكون في فريقهم , متناصا مع حديث الرسول عليه السلام 🙁 ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصّار شعبا ، لسلكت شعب الأنصّار )([27]) , ونلاحظ أن الشاعر قد امتص قصة توزيع الغنائم بعد غزوة حنين , وحزن الأنصار عندما لم يعطهم الرسول الكريم نصيبا منها , فأدرك الرسول حزنهم وأراد أن يفرحهم ويعبر لهم عن مدى حبه لهم , وأنه قسم لهم ما هو أفضل من الغنائم , برجوعه معهم إلى المدينة المنورة , فاستوحى الشاعر من معنى الحديث في بيته من خلال آليه التّناص ؛ للدلالة على مدى حبه لمحبوبته وأنه سيكون معها أينما تكون , فالوطن عنده مكان وجودها , وظهر في النصّ الجديد إشارات مرجعية من النصّ الغائب , ويبرز ذلك من خلال الذاكرة الدينيّة للمتلقي ورجوعه إلى قصة الغنائم , مع وجود دال من دواله نابت عن إذابة الألفاظ بتوظيف ( لو يسلك الناس واديا) فقد تناص مع الرابط ( لو) , واستخدم المضارع في (يسلك) , وتناص مع ( الناس) , واستخدم مرادف ( شعبا) لتكون دال على قصة ذكر مناقب الأنصّار , معتمدا على قدرة القارئ على استدعاء مخزونه الثقافي ليتفاعل مع التناص , فالرسول الكريم يعلن في النصّ المرجعي أنَّه سيسلك شعب الأنصّار, وابن أبي ربيعة يعلن في النصّ الجديد أنه سيسلك طريق محبوبته أينما ذهبت , وأن المكان يرتبط بوجودها لا بأهميته للشاعر, وكأن الغاية من هذا البناء التناصي البرهنة على ربط علاقة المحبة بالأشخاص , وأنَّ حُبَّ المكان مرهون بمن يسكنه .
ولم يجد الشاعر أفضل من قصة محاولة قتل الرسول الكريم من قبل نفر من قريش ليلة الهجرة , ليعبر عن مدى المخاطر التي تعرض لها الشاعر في سبيل محبوبته , فيقول([28])
إنِّي سَمِعْتُ رِجالاً مِنْ ذَوِي رَحِمِي هُمُ العَدُوُّ بِظَهْرِ الغَيْبِ قَدْ نَذَرُوا
أنْ يَـقْـتُــلُوكَ وَقَـاكَ الـقَــتْــلَ قَــادِرُهُ واللهُ جَــــارُكَ مِــمَّا أجْـمَــعَ الـنَّـفَــرُ
فيشبه تربص الأعداء به بحالة تربص كفار قريش بالرسول الكريم , وإجماعهم على قتله في اجتماعهم السري في دار الندوة , واختيار رجلا من كل قبيلة للمشاركة في عملية الاغتيال , وكيف أنَّ الله سبحانه أخبره بأمرهم ووقاه من غدرهم , وسلمه من مكيدتهم , ليعبر بهذا التناص مع القصة عن محاولة أقربائه الغدر به وقتله , وأن الخطر يأتيه من الأقرباء ؛ بسبب الحسد والحقد الدفين في مكامن صدورهم , وأنهم اجمعوا أمرهم هذا في غيبته لخوفهم من مواجهته , ولكن الله تعالى حفظه وحماه من غدرهم , والشاعر في هذا التناص اكتفى بذكر ومضات لتكون إشارات مرجعية للقارئ للاتكاء عليها لإدراك الأبعاد الدلالية لهذا التناص , فالذاكرة أو المقروء الثقافي والحضور التاريخي شكلت مرتكزات للقارئ لفهم التناص , فالشاعر قارب بين موقف قريش من الرسول وموقف أهله منه , فامتص قصة محاولة الغدر بالرسول ليسقطها على حالته تاركا المجال للقارئ ليتخيل طريقة نصب شباك المؤامرة استنادا إلى النص الغائب فأكد التناص على حقيقة تجذر الحقد في نفوس ذوي القربى.
التناص الإجتراري
وفي هذا النوع من التناص يعمد المبدع إلى محاولة استحضار النص الديني في عمله الإبداعي , تاركا النص السابق كما هو أو مجريا عليه تحويرا طفيفا لا يمس جوهره , فنلمح حضور نصين في العمل الإبداعي , فالنص الغائب يطل علينا في النص الحاضر مندمجا معه حتى يغدوا كأنهما نص واحد , فهو قريب من فكرة الاقتباس , هادفا المبدع من هذا التناص تكثيف الفكرة الدلالية في ذهن المتلقي , ولا يكون استدعاء المبدع للنص المهاجر استدعاءً جامدا لا حياة فيه , لأنه عند ذلك لا يحقق أي صفة إبداعية , إنما تتشكل جماليات التناص الاجتراري عندما يحقق تكثيف للفكرة وبرهنة لطرح فكري معين تزيد من فاعلية النص , وتفاعل القارئ معه وتنشيط لذاكرته الدينية بتعالقها بنصوص مقدسة , ففي الاجترار يتعامل الشعراء مع ” النص الغائب بوعي سكوني , لا قدرة له على اعتبار النص إبداعا لا نهائيا , فعمّ بذلك تمجيد بعض المظاهر الشكلية الخارجية، في انفصالها عن البنية العامة للنص كحركة ، وسيرورة، وكانت النتيجة أن أصبح النص الغائب نموذجا جامدا، تضمحل حيويته مع كل إعادة كتابة له بوعي سكوني .”([29]) , فتنفصل نتيجة ذلك عناصر الإبداع السابقة واللاحقة , فيمجد السابق حتى لو كان قالبا فارغا , مما جعل هذا النوع أقل التناصات إثارة .
ووظف عمر بن أبي ربيعة هذا النوع من التناص في وصف حقد الوشاة عليه , متأثرا بما في الآيات القرآنية من ألفاظ ومعان ودلالات وتشبيهات للبرهنة على ما يطرح من أفكار, فيقول :([30])
لا تَرْجعيني إلَى مَنْ لَيْسَ يَرْحَمُني فَداكِ مَنْ تُبْغِضينَ الحَتْفَ والسَّقَما
إنَّ الــــوُشَاة َ كَــثِـيــرٌ إنْ أَطَـعْــتِـهِـــمُ لا يـَــرْقُــبـُـــون بـِـنـَــا إلاًّ، ولا ذِمَــمَــــــا
فالشطر الثاني من البيت الثاني متناص مع قوله تعالى: ﴿ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ﴾([31]), ويتقاطع سياق النصين في الحديث عن عدم الوفاء بالعهد , واحترام علاقة النسب والقرابة , وعدم حفظ حق الجوار, فقد جاءت الآية في سياق الحديث عن تحريض الله عز وجل للمؤمنين على قتل الأعداء ؛ لأنهم لا يتقون الله في قتل مؤمن لو قدروا عليه, حتى وإن كانت بينكم علاقة نسب وقربى أو عهود ومواثيق فهم لا يراعونها, في حين نجد الشاعر يدعو محبوبته لعدم تصديق الوشاة وأنهم يتظاهرون بالحرص على مصلحتها, ولكنهم في الحقيقة يسعون لتدمير حياتها ولا يهتمون لما بينهم من قرابة أو مواثيق , وأجرى الشاعر تحويراً طفيفاً في النص المرجعي بحذف شبه الجملة النكرة (في مؤمن) واستبدله بشبه جملة ضميرية (بنا) دالة على المعرفة ؛ ليجعل الحديث خاص به وبمحبوبته دون عموم اطلاق , كما أنَّ ( ذمة) في النص المرجعي جاءت مفردة , وفي النص الجديد جاءت جمعا للدلالة على كثرة نقض الوشاة للعهود , فالمعاني والدلالات التي اكتسبها النص المتناص من خلال استراتيجية التناص توسعت في المدلولات , فبعد أن كان عدم احترام العهود والمواثيق وعلاقة النسب والقرابة خاصة بالكفار , ومنفية حكما عن المسلمين , أضحت تنتهك من قبل فئة الوشاة من المسلمين الذين لا يحترمون العهود والمواثيق وعلاقة القرابة والنسب , فانزاح المعنى الدلالي فشبه الوشاة بالكفار في أعمالهم .
ووظف الشاعر التناص الاجتراري باستدعاء قوله تعالى: ﴿ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾([32]) , في سياق مغاير للنص القرآني عندما تحدث عن فرحه بأعمال السحر التي تقوم بها حبيبته فيقول:([33])
حدثونا أنها لي نفثت عقدا يا حبذا تلك العقد
فالشاعر ينظر إلى دعوة الله سبحانه وتعالى إلى التعوذ من شر النفاثات في العقد ؛ وهنَّ الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها , فتلك الفئة من النساء الساحرات يسحرن عن طريق ربط خيط والنفخ فيه بتحريك اللسان , زاعمين أن السحر يبقى ما دام العقد موجودة , ولكن الشاعر خالف النص القرآني المتناص معه في المعنى الدلالي والأخلاقي , باستخدام أسلوب المدح ( يا حبذا ) للتعبير عن مدى سعادته بممارسة محبوبته لطقوس السحر والنفث في العقد , فالشاعر استدعى النص الغائب النفث في العقد وحور معنى البيت في نصِّه الجديد باستخدام ( يا حبذا تلك العقد ) للتعبير عن نرجسيته الغزلية وليدلل على أنه أصبح مطلبا للنساء.
ومن حيث البناء التركيبي ففي النص القرآني استخدم النص القرآني ( النفّاثات ) جمع ( نفّاثة ) وهي صيغة مبالغة من اسم الفاعل تدل على الاستمرارية في العمل ودوامه , فالتعوذ واقع على كل من ينفث في العقد من نزول الآية حتى يرث الله الأرض ومن عليها , كما أن ( العقد ) جاءت معرفة لتدل على التخصيص في نوع معين من النفث بقصد السحر , أما في النص الجديد فإن الشاعر استخدم الماضي (نفثت) ليشير إلى أن العمل حدث له وانتهى , ونكّر ( عقدا ) لتوحي اللفظة أن محبوبته لا تتقن أعمال السحرة , إنما قامت بأعمال غير مألوفة تعتقد هي أنها تقربه منها , أو ذهبت لمن يقوم بأعمال السحر ليعمل لها حرزا يقربه منها , فالنص الغائب خدم غرض الشاعر الغزلي , وعزز الأنا النرجسية عنده عندما أصبح هدف النساء وغايتهن , فأنتج التناص دلالات جديدة في النص الجديد عندما انزاح بالمعنى , فبعد أن كان السحر أداة تهدم العلاقات وتفرقها في النص الغائب , حمَّل التناص السحر دلالة جديدة فأصبح أداة لتقريب العلاقات ووصلها وتقوية أواصرها.
ويعد التناص في أبسط تعريفاته تداخل النصوص فيما بينها , أو تعالق نصي من خلال اتكاء الشاعر على نصوص أخرى في بناء نصه الجديد , فالشاعر لجأ إلى آلية التناص لكشف الخصائص الفيسولوجية للنفس الإنسانية وإيجاد تفسير لبعض السلوك البشري , فأراد الشاعر أن يعبر عن حالة العجلة عند الإنسان وطلب الشيء قبل أوانه , فقد وصفته محبوبته بأنه خلق عجولا يطلب قرب لقائها قبل أوانه وأن هذا من طبائعه وخصاله , فيقول الشاعر([34])
فقلتُ: دعاني حبكم، فأجبتهُ إلَيْكِ، فَقَالَتْ: بَلْ خُلِقْتَ عَجُولا
وهذا المعنى مستوحى من عدد من الآيات القرآنية التي تعالج النفس الإنسانية , وتكشف طبائعها الفيسولوجية ومنها صفة ( العجلة ) كما في قوله تعالى : ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾([35]) , ونلاحظ أن النص القرآني استخدم شبه الجملة ( من عجل ) ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبين لنا النوع , فوظف ( من ) للدلالة على الجنس والنوع , أي أن الإنسان رُكِّب على العجلة فخُلِق عجولا , وذكر الإنسان للدلالة على أن هذه الصفة موجودة في كل الناس , أي أن طبع الإنسان العجلة ، فيستعجل كثيرا من الأمور حتى وإن كانت مضرة , كما كان حال سيدنا آدم , فظهر لنا جليا أن الشاعر استوحى معنى نصه الجديد من هذه الآية مجريا بعض التعديل ليتناسب الموقف الحواري بينه وبين محبوبته , فاستخدم في بداية نصه الجديد الحرف (بل) وهو هنا حرف ابتداء لأن بعده جملة , ويفيد الإضراب عما قبله , فالحرف ( بل ) عامل حجاجي يفيد الإضراب الإبطالي بالعدول عن القدوم بسبب حبه لها إلى أن من طبعه العجلة , وحذف كلمة ( الإنسان ) ووضع بدلا منها ( تاء المخاطب ) لتأكيد أن الكلام هنا خاص به , واستخدم المصدر ( عجولا ) للتأكيد على أن هذه الصفة من طبائعه فهو المحب الذي يستعجل القرب من معشوقته , أمّا النص القرآني الآخر الذي تعالق معه بيته فهو قوله تعالى ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً ﴾([36]) فقد أكد الله تعالى اتصاف الإنسان بالعجلة وأنها طبع فيه دون أن يذكر الفعل خلق , مستخدما المصدر عجولا , وعند تأمل بيت الشاعر تجد التعالق النصي بين البيت والنصين القرآنيين واضح فبُنِي البيت من تداخل النصوص مع بعضها لتشكل هذا النص الجديد .
وبرع الشاعر في رسم صورة ضعفه أمام محبوبته , وسيطرت مشاعرها عليه , عندما صور قدرتها على إقناعه في مواقف الجدل , مع أنه غلّاب الخصوم في المُجادلة , فالاقناع لا يعتمد على قوة حجتها بل على مكانتها العاطفية عنده , فاستوحى هذا المعنى من قوله تعالى: ﴿ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾([37]) فالشاعر لم يتناص مع قصة سيدنا داوود وقائد جيشه الذي قتل فتزوج امرأته , بل استدعى حادثة الخصمين اللذين دخلا عليه عند المحراب , يشكو احدهما أن أخاه ظلمه , وأداة ظلمه أنه كان أغلب منه في المخاطبة وأقدر على الإقناع فهو إن تكلم كان أبين منه , فاستحضر الشاعر هذا المعنى في بيته ([38])
عَاتَبَتْني ساعَة ً، وَهْيَ تَبْكي ثمّ عزتْ خلتي في الخطاب
فصور الشاعر من خلال النص المرجعي صورة ضعف المجادلة التي وقع فيها معلنا أن صاحبته غلبته في محاورتها له عن سبب امتناعه عن الحديث معها عندما إلتقيا , فقد رقَّ لها ولم يجادلها لهيئة البكاء التي كانت عليها , مع أن سبب ابتعاده عنها أنه كان يطوف فلم يكلمها , وهذا المعنى استوحاه الشاعر من النظير النصي في سياق بيته مساوقا للسياق الدلالي في الآية القرآنية , مجريا تحويرا طفيفا على النص المرجعي بإضافة مفردة ( خلتي ) وتغير موقع ياء المتكلم من الفعل (عزت ) إلى الاسم المضاف وأبقى الفعل في حالة الماضي ولم يغير في شبه الجملة , فالشاعر أعاد كتابة النص الغائب بوعي شعوري , بحيث تستطيع ذاكرة القارئ المعرفية تلمس موطن التناص بسهولة , وإدراك المغزى منه .
وأبدع الشاعر في تناصه مع القرآن الكريم من خلال جعل النص الغائب أداة قسم تدل على صدقه فيما يقسم به؛ لأنه أقسم بشيء من القرآن دون أنَّ يتناص مع المعنى الدلالي للنص الغائب, فلم يستدعِ النص الغائب بما حمله من أفكار أو أحداث بل أراد وجوده فقط , فتناص الشاعر في بيته([39])
والمسجدِ الأقصى المبارك حوله والطورِ، حلفة َ صادقٍ لم يأثم
فالشاعر تناص مع قوله تعالى:﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾([40]) وهو تناص واعٍ من الشاعر؛ لأنه يدرك أن مناسبة الآية لا تمت بصلة لموضوع قصيدته لكنه تناص معه لتوظيفه للقسم, فهو يقسم بحادثة خارقة لا يقدر عليها غير الله سبحانه وهي حادثة الإسراء , جاعلا من المكان بؤرة لمحور التناص مهتما بقدسية المسجد الأقصى , فالشاعر عند تناصه كان في حال وعي شعوري لتوظيف هذا التناص للقسم بهذا المكان لمعرفة الواعية بما له من خصوصية عند الله تعالى , فأجرى الشاعر تعديلا طفيفا بتوظيف ( واو القسم ) , وتوظيف النعت ( المبارك) من الفعل ( باركنا) مع محافظته على المعنى العام للنص الغائب , كما تناص في البيت عينه مع آية من سورة الطور في قوله تعالى : ﴿ وَالطُّورِ ﴾([41]) , وهدف الشاعر من استدعاء حضور هذه النصوص الغائبة التأكيد على صدق يمينه وأنه لم يكذب فيقع في الإثم .
كما أن الشاعر في بعض مواطن التناص لم يحافظ على موضوع السياق الذي وردت فيه الآية القرآنية , ومن خلال تتبعنا لتناصات الشاعر مع النص القرآني وجدناه قد تناص مع نص قرآني مغيرا المعنى الدلالي للآية القرآنية , بل أخذ المعنى المضاد لما نزلت من أجله الآية عندما تناص مع قوله تعالى:﴿ إِنَّ عَذَابهَا كَانَ غَرَامًا ﴾([42]) , فالسياق الجديد لا يمت بصلة إلى النص القرآني , فيقول([43])
كيف أسلو وكيف أصبر عنها يا لقومي وحبها كان غراما
فالنص القرآني يتحدث بلسان المؤمنين الذين يخافون الله تعالى , ويدعونه أن يصرف عنهم نار جهنم , ويرون أن عذابها شديد وملازم دائما غير مفارق , والغرام في النص المرجعي هو أشد أنواع العذاب , في حين نجد الشاعر يؤكد أنه لا يستطيع نسيان محبوبته وأن حبها ملازم له , وأنه تعلق بحبها تعلقا لا يستطيع التخلص منه , فهو متمسك بهذا الحب , وفرح لتعلقه به , فالنص القرآني أوحى للشاعر المقابلة بين الموقفين , وربطهما بعلاقة ضدية من حيث الشكل الخارجي بين ( عذابها , وحبها ) وظهور علاقة مطابقة داخلية تحمل معنى متساوقا بين النصين من خلال دلالة ( الملازمة ) , فعذاب جهنم ملازم لأهله , وحب الشاعر ملازم له , لا ينفك كل منهما عن الآخر , وأراد الشاعر من هذا التناص الواعي أن يجعل من ( غراما ) بؤرة نصية تعمل على توليد دلالة سامية في نفس الشاعر وهي الإخلاص لمحبوبته والتمسك بها , ودلل على هذا المعنى استخدام الاستفهام الدال على التعجب , متعجبا ممن يطلب منه أن يسلو عن حبها أو يصبر على بُعدها .
وعدّ الشاعر رمي الكلام على سبيل التخمين دون تحقق مظهرا من مظاهر فساد المجتمع ؛ لأنه يقوم على القذف بالظنون , والسعي للنميمة وإيقاع العداوة بين الناس , كما جاء في بيته ([44])
ليت شعري يا بكر هل كان هذا أم يراه الاله بالغيب رجما
وهذا المعنى مستوحى من قوله تعالى : ﴿ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ﴾([45]) , عندما وبخ الله تعالى من حاول تخمين عدد أهل الكهف , وفيه حثّ على عدم الظن ؛ لأنه قد يوقع صاحبه في الخطأ , والشاعر استفاد دلاليا من توظيف هذا السياق القرآني بحثِّ قومه على عدم الظن والتخمين ؛ لأن فيه قذفا لأعراض المسلمين , ونلاحظ أن الشاعر غير في مواقع المفردات في نصه الجديد مع النص الرجعي , ولكنه حافظ على المعنى السياقي للآية , وقد يكون هذا عائد للضرورة الشعرية خاصة أن ( الغيب ) بقيت محتفظة بعامل الجر فيها , ومهّد للتناص بعبارة ( يراه الاله) إشارة للقارئ لتعين النص المرجعي .
ووظف الشاعر التناص الديني لخدمة غرضه الغزلي من خلال تناصه مع قوله تعالى ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ﴾([46]) , فقد استخدم الشاعر ﴿ حَرَامًا وَحَلَالًا ﴾ باعتماده على
مرجعياته الدينية في قوله([47]) :
حدثيني عن هجركم ووصالي أحراما ترينه أم حلالا
فقد وظف النص القرآني ( حلال وحراما ) في موضوع الرزق , لكن الشاعر ربط الحلال والحرام بوصال المرأة فإن وصلته فهذا هو الحلال , وإن هجرته فذلك هو الحرام , وبالتالي فإن استعمال الشاعر لهذه الألفاظ الدينية في نصه الجديد هو ما أكسب صور الهجر والوصال معاني جديدة قد انزاح من البيان الديني الفقهي إلى عالم الحب والهوى من خلال المشهد الشعري الغزلي([48])
التناص التضميني
نقصد بهذا النوع من التناص ذلك التناص القائم على استدعاء لفظة أو لفظتين أو معنى محدد من نص مرجعي وتنسيقه داخل النص الجديد دون أن يكون هذا التناص دخيلا على النص أو تزيينا , فهو تناص قائم على علاقة التضمين ” والتضمين شكل من أشكال التناص يساهم في عملية إنتاجية النص وتوليد المعنى , بحيث يشكل بؤرة تنطلق منها مختلف أنساق النص الشعري “([49]) , ويرى بعض النقاد أن هذا النوع من التناص يوظف لغايات الاستشهاد , ” وأن المقطع التضميني هو الذي يتكلم في النص الجديد وهو الذي يشرح ويفسر”([50]) , وهو نمط من أنماط تداخل النصوص , فيصبح النص التضميني بُؤرة تتفاعَل فيها النُّصوص الجديدة مع السابِقة من خلال علاقة التأثير ” وتعمل تلك البؤرة ــ التي هي التضمين ـــ على ترابط الأجزاء المكونة للنص الشعري شكلا من خلال التراكيب وتداخل الأنساق , ومحتوى من خلال تناصر الأبيات بعضها مع بعض للإيحاء بالمعنى المقصود , وعلاقة التضمين تُوظف في النص وتغدو قطعة من قطعه , وتنتظم مع باقي العلاقات النصية لتشكل مجموعة علامات تُوحي بالمعنى المراد “([51]) , فتغدو هذه الألفاظ صوتا مسموعا ومسيطرا في النص الجديد.
ومن هذه المظاهر التناصية في شعر عمر بن أبي ربيعة تناصه مع قوله تعالى : ﴿ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾([52]) , فالتناص التضميني حدث عند استدعاء الشاعر لفظة (نارا) , وتضمينها بيته الشعري لتكون بؤرة يتفاعل من خلالها النص الجديد مع النص السابق , يقول الشاعر([53])
ليس كالعهد إذ عهدت ولكن أوقد الناس بالاحاديث نارا
فالشاعر ينظر إلى مخاطة الله تعالى لبني إسرائيل في تحقيره لهم وحديثه عن جبنهم وترصد الله لهم , وأنهم كلما
فكروا في إشعال معركة ضد الإسلام أفشلها الله تعالى , فالشاعر يقيم تشابه علاقة بين حال بني إسرائيل وبين قومه المتربصين به , الذين يسعون لإشعال الفتنة والنميمة بينه وبين محبوبته , فجعل الشاعر من كلمة ( نارا ) بؤرةً للحدث ومركزاً للاهتمام , مُنبها وعي القارئ ؛ لجعلها في بؤرة التلقي عنده في البناء الفنيّ للنّص الجديد , واكتسبت هذه المفردة قوتها التأثيريّة من خلال توظيفها الاستعاري , الذي أدى إلى توليد معنىً خاصاً يحمل نسقاً شعرياً مركزياً في الخطاب , فالتركيب القرآني ” تمثيل شُبه به حال التهيؤ للحرب والاستعداد لها والحزامة في أمرها , بحال من يوقد النار لحاجة بها فتنطفئ “([54]) , في المقابل نجد الشاعر شبه حال من يسعى للفتنة بينه وبين محبوبته بمن يوقد ناراً لحرق أملاك الأخرين , واستخدام الشاعر ( الأحاديث ) دلّت على الفتنة , وأراد الشاعر أن يؤكد لهذه الفئة أن نار الفتنة التي أشعلوها ستنطفئ , كما أطفأ الله تعالى نار الحرب التي حاول الكفار إشعالها ضد الرسول الكريم , فنجد أن ( نارا ) بمعناها الاستعاري هي محور الحديث , والمعنى الدلالي الذي أنتجه النص الجديد مُستمد من النص الغائب, الذي جعله الشاعر من خلال تناصه الواعي الشعوري نسقاً تناصياً, ساعد في إنتاج وتوليد المعنى الذي سعى لتأكيده دون أن يحضر النص الغائب في النص الجديد , بل تحقق ذلك للشاعر من خلال تضمين نصه كلمة شكلت بؤرة ساعدت على ترابط الأجزاء المكونة للنص .
واعتمد عمر بن أبي ربيعة في تصوير محبوبته على الصور القرآنية بما تحمل من معان وتشبيهات , فنجده في وصف جمال وجه محبوبته يقول ([55])
أرَى جَمَالِكِ فَوْقَ كُلُّ جَمِيلَةٍ وجَمَالَ وَجْهِكِ يَخْطِفُ الأَبْصارَا
فقد استوحى الشاعر هذا المعنى من قوله تعالى : ﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾([56]) , ويتقاطع سياق النصين في الحديث عن الأثر الذي يتركه المُتحدَّث عنه في الأبصار , فالآية القرآنية جاءت في سياق الحديث عن خوف الناس من أن يأخذ ضوء البرق أبصارهم بسرعة لقوة الشعاع فيه , وهذا ما أراد الشاعر الوصول إليه من التشبيه , فوضّح أن جمال وجه محبوبته مشع لنور قوي يخطف الأبصار , فاتفق السياقان على أثر النور الساطع في البصر , واختلفا في مُسبب هذا الشعاع الساطع , فالآية القرآنية تتحدث عن البرق الحقيقي, والشاعر يتحدث عن نور وجه محبوبة على التشبيه , فيختلف المعنى الدلالي لكلمة ( يخطف ) ففي الآية تعني ( الأخذ بسرعة ) وهذا ما نجده في قوله تعالى : ﴿ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾([57]) , بينما في البيت الشعري تعني ( تبهر ) , فالتناص التضميني وقع في لفظة (يخطف ) لتصبح بؤرة مركزية لها دور مهم في إنتاجية النص وتولد المعنى , منتظمة مع باقي العلاقات النصية , مشكلة مجموعة علامات تُوحي بالمعنى المراد من خلال تضمينها في النص الجديد .
واستوحى الشاعر من كنايات القرآن الكريم ما خدم غرضه الشعري , من خلال تضمين بيته الشعري لفظة وردت في السياق القرآني كناية عن شيء , ومن ذلك استخدام الشاعر لفظة ( نعجة ) كناية عن المرأة , أو الأنوثة , فيقول الشاعر في بيته ([58])
فإذا نعجة تراعي نعاجنا ومها بهج المناظر عينا
والنص القرآني يكني بالنعجة عن المرأة كما في قوله تعالى : ﴿ إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾([59]) , ونلحظ أن الشاعر لم يحاول في نصه أن يمتص قصة سيدنا داوود , بل قصد واعيا إلى تضمين نصه لفظة ( نعجة ) وما تحمله من طاقة كنائية , ليجعل منها بؤرة تناصية تساعد على إنتاج معنى سياقي جديد , هذا المعنى السياقي الجديد لا يمكن الوصول إليه سهولة , بل يحتاج من القارئ إلى بذل جهد باسترجاع مخزونه المعرفي لإدراك الفائدة التي تحققت للنص من خلال هذا التناص التضميني , لكن تأثير النص المرجعي بقي مؤثراً في نص الشاعر ولم يستطع مغادرة فلكه , فقد جعل النعاج مجموعتين , النعجة الوافدة التي تنماز عن نعاجه بجمالها , ونعاجهم القديمة , حتى غدت هذه النعجة الجديدة مطلب فؤاده , فحافظ الشاعر من خلال هذا التضمين على اللفظة القرآنية ضمن التركيب القرآني , موظفا المعنى الذي أنتجه من النص القرآني بما يخدم هدفه .
كما استلهم من النص القرآني دور الشيطان في غواية الناس , ولعبة المفارقة التي يقوم بها, فالشيطان في السياق القرآني يسعى إلى تزيين الكفر للإنسان , ويبقى مستمرا في محاولاته حتى إذا أوقع بالإنسان وكفر تبرأ منه , ويظهر هذا في قوله تعالى : ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ﴾([60]) , وهذا المعنى ضمنه الشاعر في بيته([61])
لا تَلُمْني وأنتَ زيَّنْتَها لي أنت مثلُ الشيطان للإِنسان
والشاعر يخاطب صديقه طالباً منه أن لا يسخر مما يراه من لوعته وصبابته بمحبوبته , وهو الذي كان يزينها في عينيه واصفاً محاسنها , وعندما وقع في غرامها تبرأ من عمله , وأخذ يلومه على الصبابة بها , فضمّن الشاعر بيته معنى الآية , وظهر اجترار الآية في النص الجديد , وإن كان قد حذف حرف التشبيه وتركيب (إذ قال) , فالتناص الاجتراري مع الآية بيّن , لكن الأهم هو تضمين الشاعر لفظة ( الشيطان) في بيته , وجعلها بؤرة تناصية توظف لغايات الاستشهاد والتوضيح , فشكلت بؤرة تنطلق منها أنساق النص الجديد , فالشيطان في النص الجديد مركز إنتاج العلاقات .
الخاتمة :
ويمكن لنا القول بعد هذه الدراسة النقديّة التحليليّة لنماذج متنوعة من شعر عمر بن أبي ربيعة أنّ التناص الديني شكل ركناً مهما من أركان بناء القصيدة الشعرية عنده , فظهر التناص الديني في مُجمل أغراضه الشعرية خاصّة في مجالي الغزل والألم والشكوى من الواشين , معتمدا على استدعاء ألفاظ قرآنية وتراكيب تشكل جزء من آية قرآنية استدعاءً صريحا , أو تضمين نصوصه الجديدة لأفكار ومضامين دينية يلمحها القارئ بعد إعمال الفكر للوصول إليها , ممّا يدل على امتلاكه لمخزون ديني وافر , استطاع بمهارته الإبداعية أن يُعيد تشكيل ما استوحاه من القرآن الكريم , وتقديمه في سياق جديد يحمل إيحاءات ودلالات جديدة , تدل على موهبته الفنية والإبداعية في التعامل مع النص القرآني , والمحافظة على قداسته وعلى سياقه العام , لتوظيفها فيما يخدم غرضه الشعري .
ولاحظ الباحث أن عمر بن أبي ربيعة كان يتصف بالوعي الشُعوري في أغلب تناصاته الدينية التي استوحاها من القرآن الكريم , هذا الوعي الشعوري جعله يحقق انسجاما بين النص الغائب ونصه الجديد , فكان لحضور النص الغائب واندماجه مع نص الشاعر دور في تحقيق الاتساق والانسجام والتماسك في لوحته الفنية , فكانت مترابطة البناء قوية السبك .
ولتحقيق غايته التناصية وظف الشاعر العديد من آليات التناص , فقد وظف الامتصاص والإذابة مع القصص القرآني والسيرة النبوية , من خلال تشرب النص المرجعي وإذابته في النص الجديد , كما وظف آليه الاجترار مع الآيات القرآنية من خلال استحضار النص الديني في نصه الإبداعي وإجراء التحويل فيه ؛ ليتناسب مع غايته الشعرية , ولم يهمل توظيف آليه التناص التضميني من خلال تضمين بيته الشعري لفظة قرآنية تكون بؤرة لتوليد وإنتاج معنى جديد .
المصادر و المراجع
ـــــ القرآن الكريم
ـــــ ألان , جراهام ,(2011) : نظرية التناص , ترجمة باسل المساله, دار التكوين , دمشق ـ سوريا, ط1
ـــــ البادي , حصة , (2009) : التناص في الشعر العربي الحديث البرغوثي نموذجا , دار كنوز المعرفة, الأردن , ط1
ـــــ بنيس , محمد (2001): الشعر العربي الحديث , بنياته وإبدالاتها, الشعر المعاصر, دار توبقال, ط3
ـــــ جهاد , كاظم , (1993) : أدونيس منتحلا , دراسة في الاستحواذ الأدبي وارتجالية الترجمة, يسبقها ما هو التناص, مكتبة مدبولي ــ مصر , ط 2
ـــــ الخوالدة , فتحي ,(2009) : الاتجاهات النقدية الحديثة في تلقي النص الشعري عند محمود درويش , أطروحة دكتوراه , جامعة مؤتة , غير منشورة
ـــــ الربيدي, عبد السلام ,(2012): النص الغائب في القصيدة العربية الحديثة , دار غيدا, عمان, ط1
ـــــ الزعبي , أحمد , (2000) : التناص نظريا وتطبيقيا , مؤسسة عمون للنشر , عمان , ط 2
ـــــ سعد الله , محمد سالم ,( 2007) : مملكة النص ـ التحليل السميائي للنقد البلاغي الجرجاني نموذجا, عالم الكتب الحديث, إربد , ط1
ــــ شهرزاد, صحوي (2016) : الانزياح الدلالي في النص الغزلي عمر بن أبي ربيعة أنموذجا, رسالة ماجستير, جامعة العربي بن مهيدي
ـــــ ابن عاشور , محمد الطاهر ,( 1984) : تفسير التحرير والتنوير , الدار التونسية للنشر
ـــــ عبد الحميد , محمد محي الدين , (1952) : شرح ديوان عمر بن أبي ربيعة , مطبعة السعادة , ط1
ـــــ فضل , صلاح , (1992) : بلاغة الخطاب وعلم النص , سلسة عالم المعرفة (164)
ـــــ كريستيفا , جوليا ,( 1997) : علم النص , ترجمة فريد الزاهي , دار توبقال , الدار البيضاء , ط 2
ـــــ مفتاح , محمد ,(1992): تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص), المركز الثقافي العربي , ط3
ـــــ ابن هشام , (1995) : السيرة النبوية , تحقيق مجدي السيد , دار الصحابة للنشر , طنطا , ط1
ـــــ يقطين , سعيد , (2001) : انفتاح النصّ الروائي ـ النصّ والسياق, المركز الثقافي العربي , ط 2
المجلات والدوريات :
ـــــ السلمان, علوان (2017) التناص ظاهرة اصطلاحية , مقال في جريدة الصباح الجديد, 26 نوفمبر
ـــــ عياش , تناء نجاتي ,( 2005) : التناص في شعر طلائع بن زريك, بحث منشور في مجلة دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية ,المجلد 32, العدد 2
ـــــ موزاي , ليلى بيرون , (2005): التناص النقدي , ترجمة سعيد بن الهابي , بحث منشور في مجلة نوافذ , (34) ذو القعدة 1426 , ديسمبر
ـــــ الموسى , ـخليل ، (1996) : التناص والأجناسية في النص الشعري ، بحث منشور في مجلة الموقف الأدبي، ع 205 ، أيلول ، السنة 26 ، دمشق .
————————
[1] ـ موزاي , ليلى بيرون ,( 2005): التناص النقدي , ترجمة سعيد بن الهابي , مجلة نوافذ , (34) ذو القعدة 1426 , ديسمبر, ص 55
[2] ـ بنيس , محمد , (2001) : الشعر العربي الحديث , بنياته وإبدالاتها , الشعر المعاصر, دار توبقال ,الدار البيضاء, ط3 , ص 183ــ 184
[3] ـ كريستيفا , جوليا , (1997) : علم النص , ترجمة فريد الزاهي , دار توبقال , الدار البيضاء , المغرب , ط 2 , ص 97
[4] ـ مفتاح , محمد , (1992) : تحليل الخطاب الشعري ( استراتيجية التناص ) , المركز الثقافي العربي , ط 3 , ص 121
[5] ـ جهاد ,كاظم (1993): أدونيس منتحلا,دراسة في الاستحواذ الأدبي وارتجالية الترجمة, يسبقها ما هو التناص,مكتبة مدبولي,ط2, ص41
[6] ـ البادي , حصة , (2009) : التناص في الشعر العربي الحديث البرغوثي نموذجا , دار كنوز المعرفة العلمية , عمان ــ الأردن , ط1, ص 20
[7] ـ فضل , صلاح , (1992) : بلاغة الخطاب وعلم النص , سلسة عالم المعرفة (164 ) , ص 222
[8] ـ ألان , جراهام , (2011) : نظرية التناص , ترجمة باسل المساله , دار التكوين , دمشق ـ سوريا , ط1 , ص 56
[9] ـ بنيس , محمد , الشعر العربي الحديث نياته وإبدالاتها , ص 210
[10] ـ عياش , تناء نجاتي,(2005): التناص في شعر طلائع بن زريك , مجلة دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية ,المجلد 32, العدد 2 , ص 248
[11] ـ السلمان , علوان , (2017) : التناص ظاهرة اصطلاحية , جريدة الصباح الجديد , 26 نوفمبر
[12] ـ سعد الله, محمد سالم (2007) : مملكة النص ـ التحليل السميائي للنقد البلاغي الجرجاني نموذجا, عالم الكتب الحديث, ط1, ص128
[13] ـ الزعبي , أحمد , (2000) : التناص نظريا وتطبيقيا , مؤسسة عمون للنشر , عمان , ط 2 , ص 37
[14] ـ يقطين , سعيد , (2001) : انفتاح النصّ الروائي ـ النصّ والسياق, المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء , ط 2 , ص 107
[15] ـ سعد الله , محمد سالم , مملكة النص ـ التحليل السميائي للنقد البلاغي الجرجاني نموذجا , ص 118
[16] ـ بنيس , محمد , الشعر العربي الحديث نياته وإبدالاتها , ص 253
[17] ـ ــــــ عبد الحميد , محمد محي الدين , (1952) : شرح ديوان عمر بن أبي ربيعة , مطبعة السعادة , مصر , ط1 , ص 334 ــ 335
[18] ـ سورة يوسف , الآيات : 30 ـــ31
[19] ـ الربيدي , عبد السلام , (2012) : النص الغائب في القصيدة العربية الحديثة , دار غيداء ـ عمان ,ط1 , ص 18
[20] ـ الخوالدة ,فتحي(2009): الاتجاهات النقدية الحديثة في تلقي النص الشعري عند محمود درويش, أطروحة دكتوراه, جامعة مؤتة , ص113
[21] ـ الديوان , ص 353
[22] ـ سورة مريم , الآية : 4
[23] ـ سورة مريم , الآية 4
[24] ـ الديوان ، 385
[25] ـ شهرزاد, صحوي (2016) : الانزياح الدلالي في النص الغزلي عمر بن أبي ربيعة أنموذجا, رسالة ماجستير, جامعة العربي بن مهيدي, ص64
[26] ـ الديوان , ص 208
[27] ـ ابن هشام , عبد الملك بن هشام الأنصاري (1995): السيرة النبوية , تحقيق مجدي السيد, دار الصحابة للنشر, طنطا, ط1 ,ج4 , ص161
[28] ـ الديوان , ص 105
[29] ـ بنيس , محمد , الشعر العربي الحديث نياته وإبدالاتها , ص 253
[30] ـ الديوان , ص 229
[31] ـ سورة التوبة , الآية 10
[32] ـ سورة الفلق , الآية : 4
[33] ـ الديوان , ص 314
[34] ـ الديوان , ,ص 348
[35] ـ سورة الأنبياء , الآية : 37
[36] ـ سورة الإسراء ,الآية : 11
[37] ـ سورة ص , الآية : 23
[38] ـ الديوان , ص 424
[39] ـ الديوان , ص 222
[40] ـ سورة الإسراء , الآية : 1
[41] ـ سورة الطور , الآية : 1
[42] ـ سورة الفرقان , الآية : 65
[43] ـ الديوان , ص 231
[44] ـ الديوان , ص 231
[45] ـ سورة الكهف , الآية : 22
[46] ـ سورة يونس , الآية : 59
[47] ـ الديوان , ص 290
[48] ـ شهرزاد, صحوي (2016) : الانزياح الدلالي في النص الغزلي عمر بن أبي ربيعة أنموذجا, , ص 66
[49] ـ سعد الله , محمد سالم , مملكة النص ـ التحليل السميائي للنقد البلاغي ـ الجرجاني نموذجا , ص 135
[50] ـالموسى , خليل (1996): التناص والأجناسية في النص الشعري ، مقال في مجلة الموقف الأدبي، ع205، أيلول، السنة 26، دمشق، ص82
[51] ـ سعد الله , محمد سالم , مملكة النص , ص 135
[52] ـ سورة المائدة , الآية : 64
[53] ـ الديوان , ص 132
[54] ـ ابن عاشور , محمد الطاهر , (1984) : تفسير التحرير والتنوير , الدار التونسية للنشر , , ج 6 , ص 251
[55] ـ الديوان , ص 120
[56] ـ سورة البقرة , الآية : 20
[57] ـ سورة النور ,الآية 43
[58] ـ الديوان , ص 292
[59] ـ سورة ص , الآية : 23
[60] ـ سورة الحشر , الآية : 16
[61] ـ الديوان , ص 283