
اتجاهات شعر الغربة في عصر دولة الموحدين بالأندلس
Trends of poetry of alienation in the era of the Almohad state in Andalusia.
د/ الشيماء سامي محمد ـ كلية الآداب جامعة حلوان، مصر.
Dr. Shaimaa Sami Mohammedـ Faculty of Arts, Helwan University
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 52 الصفحة 69.
الملخص:
استطاع الأسبان توجيه عدة ضربات قوية ومتتالية لدولة الموحدين بالأندلس،الأمر الذي أفضى إلى سقوط معظم المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى في قبضتهم خلال سنوات قليلة،وأدى هذا الأمر إلى موجات من الهجرة والنزوح،إما داخل الأندلس،أوخارجها في بلاد المغرب أو المشرق،مما نتج عنه شعور كثير من الأدباء والشعراء بالغربة،فبعد أن كانوا ينعمون بالعيش داخل بلادهم،اضطروا إلى الهجرة بعيدًا عن أوطانهم مكرهين بعد استيلاء الأسبان عليها،وبعد ما حلَّ بها من دمار وخراب،وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا الشعور بالغربة على نتاجهم الفكري والأدبي،وهذا ما سيرصده هذا البحث.
الكلمات المفتاحية : اتجاهات- شعر -الغربة – دولة الموحدين– الأندلس .
Abstract
The Spaniards directed several powerful and successive blows to State of the Almohads in Andalusia, which led to the fall of most Andalusian cities one after the other in their grip in a few years, and this led to waves of migration and displacement, either inside Andalusia, or abroad in Morocco or the Orient, Many of the poets and writers felt alienated. After living in their country, they were forced to migrate away from their homeland after the Spanish takeover. After this destruction, it was natural that this feeling of alienation would be reflected in their intellectual and literary output. What this research will monitor.
المقدمة :قامت دولة الموحدين في الأندلس عام ( 524ه – 1129م)عقب انهيار دولة المرابطين،ويرجع الفضل في نشأة هذه الدولة إلى رجل يرجع نسبه إلى آل البيت،ويُدعى( محمد بن تومرت)،وهو مصلح ديني مغربي زار المشرق ودرس على يد الأشاعرة،ثم عاد إلى المغرب،وأعدَّ ثورة واسعة ضد الحكم المرابطي،وتبعه خلقٌ كثير،كما أعد جيشًا كبيرًا استطاع من خلاله إسقاط دولة المرابطين،وعندما توفي خلفه( عبد المؤمن بن علي) وهو المؤسس الحقيقي لدولة الموحدين،الذي استطاع القضاء نهائيًا على الحُكم المرابطي،وأحكم قبضته على معظم الأندلس،توفي (عبد المؤمن بن علي)عام 558ه،فخلفه ابنه يوسف بن عبد المؤمن وكان مثقفًا واسع العلم وشجاعًا عبر إلى الأندلس عام 566ه لجهاد الأسبان،خلفه في الحكم بعد وفاته عام 580ه ابنه (يعقوب المنصور )الذي عبر إلى الأندلس عام 591ه،والتقى(ألفونس الثامن) ملك قشتالة عند حصن الأرك – حصن يقع وسط الطريق بين قرطبة وطليطلة –ومُنِـــــــى ألفونس بهزيمة ساحقة،وفرَّ إلى طليطلة([1])؛لكن الخليفة يعقوب المنصور لم يستثمر هذا الانتصار،وقام بعقد معاهدة مع ألفونس بعدم الاعتداء لمدة عشر سنوات،وتوفي الخليفة (يعقوب المنصور) عام 595ه، وكان من أعظم ملوك الدولة الموحدية،وقدوصفه لسان الدين بن الخطيب قائلًا عنه:”نجم بني عبد المؤمن”،وخلفه ابنه ( محمد الناصر)الذي شُغِل ببعض الفتن الداخلية في بلاد المغرب،ولم يهتم بشؤون الأندلس الجوهرية،أو يعبر إليها بنفسه لمدة استطالت زهاء اثنى عشر عامًا،فأدرك الأسبان أن الفرصة قد سنحت لاستئناف غزواتهم ضد الأراضي الإسلامية،فلما اقترب أجل انتهاء الهدنة بين الأسبان والموحدين أخذ ألفونس يتأهب لغزو الأندلس،فقد كان يتوق للانتقام من هزيمة الأرك([2])،وقام ألفونس بالتحالف مع (بدرو)ملك أرجوان،و(شانجه)ملك نبره،وبالفعل التقى الجيشان عام 609ه في حصن (العقاب)وهُزِم الناصر وجيشه هزيمة مُرة،لم تقم للمسلمين قائمة في الأندلس بعدها،وأصبحت الأندلس قاب قوسين أو أدنى من السقوط([3])،وتوفى الخليفة( محمد الناصر ) بعد هذه المعركة بعام واحد،وتوالى عدة خلفاء ضعاف الشأن حكم الأندلس بعد ذلك .
ويمكن القول إن عصر الموحدين بالأندلس هو عصر المحنة الكبرى،فقد عاشت فيه الأندلس مرحلة حاسمة من مراحل الصراع بين المسلمين والأسبان،فقد وصلت حركة الاسترداد المسيحي إلى ذروتها،وأخذ المسلمون يواجهون حروبًا صليبية لم تكن أقل ضراوة من تلك الحروب الصليبية التي شهدها المشرق العربي،وقد بذل الموحدون جهودًا مضنية واستبسلوا في الدفاع عن الأندلس،إلا أنهم في آخر الأمر لم يستطيعوا الصمود أمام تلك الضربات المتوالية،فأخذت المدن الأندلسية تتساقط الواحدة تلو الأخرى في أيدي الأسبان،ففي عام (633ه)سقطت قرطبة،وفي سنة(636ه)سقطت بلنسية،وسقطت جزيرة شقر عام(639ه)ومدينة دانية سقطت عام(641ه)،أما شاطبة فسقطت عام(644ه)،وحاصر الأسبان مدينة إشبيلية برًّا وبحرًا،وضيقوا عليها غاية التضييق إلى أن سقطت عام(646ه)بعد أن هلك خلقٌ كثير بالجوع وتفشي الأمراض،وبذلك استطاع الأسبان السيطرة على معظم المدن الأندلسية في فترة وجيزة،إلى أن سقطت دولة الموحدين نهائيا عام( 667ه –1268م)،ولم يتبق من الأندلس سوى مملكة غرناطة.
أهداف البحث:
يهدف البحث إلى تعريف مفهوم الغربة،والسعي وراء معرفة سبب نشأة هذا اللون الشعري،وأهم شعراء الغربة في عصر الموحدين بالأندلس،وأهم اتجاهاته .
هيكلة البحث:
المبحث الأول: تعريف الغربة في اللغة والاصطلاح .
المبحث الثاني :شعر الغربة في الأندلس قبل عصر الموحدين.
المبحث الثالث:اتجاهات شعر الغربة في عصر الموحدين .
خاتمة:تضم أهم نتائج البحث وقائمة بالمصادر والمراجع.
منهج البحث:
اعتمد البحث على المنهج الوصفي التحليلي،وذلك من خلال قراءة دواوين شعراء عصر الموحدين،ودراسة أشعارهم،وتصنيفها،وتحليلها،واستخراج شعر الغربة منها،لذلك فهو الأنسب لهذه الدراسة .
المبحث الأول : تعريف الغربة في اللغة والاصطلاح .
في اللغة: ارتبط مفهوم الغربة في المعاجم بالمكان والبُعد عنه، فيقال الغرب أي الذهاب والتنحي،ويقال أغربته وغربته أي نحيته،والغرب أيضا هو الابتعاد عن الوطن.
ويشير الجوهري إلى المعنى بقوله:” الاغتراب هو النفي عن البلاد،وأيضا غرب بَعُد،وأغرب عني أي تباعد”.([4]).
وهذا ما أكده ابن منظور في تحديده لمفهوم الغربة فقال:”الغربة والغرب النوى والبُعد،ويقال أغربته وغربته أي نحيته وأبعدته،والتغريب النفي عن البلد”،واغترب الرجل أي تزوج من غير أقاربه.([5])
ومما سبق يتبين لنا أن المعنى اللغوي للغربة لا يتعدى مفهوم النزوح والابتعاد عن الوطن .
أما في الاصطلاح: فيوجد خلط كبير بين مصطلحي الغربة والاغتراب،وقد تعامل الكثير معهما كأنهما مصطلح واحد،لأن الجذر اللغوي لمفهوم الغربة والاغتراب واحد؛لكن ثمة فروق واضحة بين المفهومين في الاصطلاح،إذ أن الغربة تولِّد الحنين،فالإنسان عندما يشعر بغربته يحن إلى أهله وأحبابه،أما الاغتراب فلا يرتبط بالحنين،ولا يرتبط بالمكان،فقد يشعر الإنسان بالاغتراب وهو وسط أهله وداخل وطنه .([6])
فالغربة تعني النزوح والابتعاد عن الوطن،أما الاغتراب نزوح كذلك؛لكنه نزوح نفسي داخل مواطن الإنسان والفرد،كوَّنه الرفض،والتمرد،وربما العجز؛لكنه نزوح لا يتحدد بوقت أومكان،وهذا ما أكده التوحيدي في قوله:” أغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه”،فهو بذلك يعيش غربة ذاتية تدعو للانفصال عن المجتمع.([7])
إذن؛مفهوم الاغتراب أشمل،وأوسع من مفهوم الغربة،لأنه يعني كل مستويات الغربة،من غربة نفسية، ومكانية،وزمانية، وذاتية، وعاطفية، وروحية، وجسدية .
وقد عدَّ أغلب الباحثين ظاهرة الاغتراب،ظاهرة إنسانية،وُجدت في مختلف أنماط الحياة الاجتماعية،وفي كل الثقافات،ولكن بدرجات متفاوتة،ذلك أن الاغتراب قد يعني الانفصال وعدم الانتماء،ويُعرف بأنه” وعي الفرد بالصراع القائم بين ذاته والبيئة المحيطة به،وبصورة تتجسد في الشعور بعدم الانتماء،والسخط،والقلق” ([8]).
لكن على الرغم مما كُتب عن ظاهرة الاغتراب،فإن المصطلح مازال يكتنفه بعض الغموض والتباين، ومع هذا التباين،وذلك الغموض، وتلك الاختلافات في الرؤى،فإن أغلب تلك الجهود نجدها تلتف حول أشياء معينة بالذات،وتدور حولها،وتشير أغلبها إلى دخول عناصر معينة في مفهوم الاغتراب مثل: الانعزال، والوحدة، والغربة، والانفصال، والانخلاع، والتخلي، والانتقال، والتجنب، والابتعاد، والانسلاخ عن المجتمع،والعجز عن التلاؤم،والاخفاق في التكيف مع الأوضاع السائدة في المجتمع، واللامبالاة، وعدم الشعور بالانتماء، بل عدم الشعور بمغزى الحياة”([9]).
وعُرف كذلك الاغتراب بأنه :” الانفصال،والانتقال،والتخلي،وانعدام المغزى والقدرة والسلطة،وتلاشي المعايير،والعزلة “.([10]).
وقيل الاغتراب هو:”النزوح عن الوطن،والانفصال عن الآخرين،وهذا الانفصال لا يتم دون مشاعر نفسية كالخوف والقلق”.([11])
وفي محاولة استقراء البُنى السطحية أو العميقة لتلك المعاني نجد أنها تدل على جوانب مادية ملموسة تتمثل بالبُعد الحقيقي عن الوطن والأهل بمحض الإرادة،أوبعدمها،من خلال النفي أو التغريب،وجوانب معنوية محسوسة تتعلق بالأثر النفسي والروحي،وتتمثل في عدم الانسجام والتلاؤم مع الوسط أو المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان.
نشأة شعر الغربة :
لــمَّا كان الشعر هو التعبير عما يجول في نفس وذهن وقلب الشعراء من مشاعر وتأملات في واقعهم وحياتهم،فقد أخذ موضوع الابتعاد عن المكان بشكل عام والوطن بشكل خاص حيزًا كبيرًا في الشعر العربي على مر العصور،ومن الملاحظ ظهور هذا اللون الشعري في الشعر العربي القديم منذ العصر الجاهلي،فالعربي بطبيعة الحال كان دائم التنقل والرحيل سعيًا وراء الماء والكلأ،وجسَّد كثير من الشعراء هذا الشعور بالغربة،وكان امرؤ القيس من أوائل الشعراء الذين استخدموا هذا المصطلح في شعرهم فقال([12]):
أَجَارتنا إنَّ الخُطُوبَ تنوبُ | وإنِّي مقيمٌ مــــــــــا أقــــام عسيبُ([13]) |
أَجارتنا إنَّـــــــــــا غريبان هَهُنـا | وكلُّ غريبٍ للغـــــــــــريبِ نسيـــــبُ |
فإن تصـلينا فالقرابةُ بـــــــــيننا | وإن تصرمينا فـالقريبُ غريــــــــــبُ |
أنشأ امرؤ القيس هذه الأبيات عندما أحس بدنو أجله،وذلك حينما رأى امرأة تُدفن في سفح جبل عسيب،وهو الجبل الذي مات عنده،والمراد من الأبيات أنه والمرأة صاحبة القبر غريبان في تلك البلاد،وأن الغريب نسيب للغريب،لأن الغربة تجمع بينهما كما يجمع النسب بين المتباعدين في القرابة.
وعانى كثيرٌ من الشعراء كذلك من الغربة أمثال أبي تمام،وأبي فراس الحمداني،والشريف الرضي،والمتنبي الذي عبّر عن شعوره بالغربة قائلًا([14]) :
ما مــــقامــــــــي بــــأرض نَخْـــــلـــــــة إلا | كمقام المسيح بــين اليهــــــود |
أنـــــا فــــــــــــي أمــــةٍ تــــــداركــــهــــــا اللهُ | غريـــــبٌ كصالــحٍ فى ثمــــــــــود |
لقد عانى المتنبي من تجربة الغربة،وقام بتشبيه غربته بغربة الأنبياء مع قومهم،فهو تارة يشبه غربته بغربة المسيح مع اليهود،وتارة أخرى يشبه غربته بغربة النبي صالح مع قوم ثمود.
أسباب ذيوع شعر الغربة في بلاد الأندلس :
إن المتأمل في شعر الغربة يجد أن هناك عدة عوامل وأسبابًا مختلفة ساهمت في نشأة وتطور هذا اللون الشعري في الأدب الأندلسي منها :
1- الرحلة في طلب العلم، سواء أكانت هذه الرحلة داخل الأندلس أو خارجها في بلاد المشرق العربي،حيث كان الأندلسيون يرغبون في الدراسة بالمشرق العربي،ومجالسة الفقهاء وعلماء الحديث،وغيرهم من العلماء.
2- الرغبة في أداء فريضة الحج،والتوجه لزيارة مكة،وقبر الرسول–صلى الله عليه وسلم- .
3- العمل في قصور المرابطين أو الموحدين في مراكش ( بلاد العدوة)،وذلك بانتقال العلماء والشعراء إلى مراكش عندما غدت عاصمة المغرب والأندلس معًا.
4- الفرار من وجه الأسبان عقب سقوط المدن الأندلسية في أيديهم،وما تبعه من تدفق الهجرات إلى بلاد المغرب والمشرق العربي .([15])
المبحث الثاني: شعر الغربة قبل عصر الموحدين .
إن شعر الغربة قد أخذت حيزًا كبيرًا في الشعر الأندلسي،فقد أصبح موضوع الابتعاد عن الوطن غرضًا مستقلًا من أغراض الشعر،لما مرَّ من أحداث في بلاد الأندلس،ومن هنا ليس غريبًا أن يتوجه الشعراء للتعبير عن آلامهم وشعورهم بالغربة والضياع في شعرهم .
شعر الغربة في عصر الخلافة الأموية:
دخل العرب الأندلس فاتحين وناشرين للإسلام على يد القائدين (طارق بن زياد) و(موسى بن نصير)؛لكنهم سرعان ما شعروا بالغربة،وعلى الرغم من طبيعة الأندلس الخلابة فإن الأندلسيين ظلوا يعبرون عن رغبتهم في العودة إلى وطنهم الأم في المشرق العربي،وأول من جسَّد هذا الشعور هو الأمير عبد الرحمن الداخل الذي دخل الأندلس هاربًا من ملاحقة العباسيين له،فقام بتأسيس الدولة الأموية هناك،واستقرت له الأمور،وعاش بالأندلس حياة كريمة؛لكن الشوق إلى وطنه قد أخذ منه مأخذًا عظيمًا،فنراه يقول عندما رأى راكبًا يهم بالرحيل إلى المشرق([16]) :
أيهــــــــا الــــــراكـــــــبُ المــــيمـــــمُ أرْضــــــي | أقـــــــــر من بعْضــــى الســـــــلام لبعْــــــضِ |
إن جسمي كما علـــــمت بـــــــــــأرضٍ | وفـــــــــــــــؤادي ومــــــــالـــــكـــــــيــــــــــه بــــــــأرضِ |
قُــــــــــــــدِّر البيـــــــنُ بيـــــــــننا فـــــافـــتــرقــــــــنا | وطـــــــوى البيــــنُ عن جفونى غمـضي |
قـــــــــــد قضــــــــى اللــــهُ بالفراقِ عـــلينـــــا | فعــــسى باجــــتماعـنا ســـوف يقضــــي |
كتب عبد الرحمن الداخل هذه الأبيات لأخته بالشام،ويصور عبد الرحمن الداخل فيها المعاناة التي يشعر بها،والمأساة التي يعيشها،فجسده بالأندلس،أما روحه فهى بدمشق،وأخيرا يدعو الله أن يجمع شمله بأهله ووطنه وإن بات الأمر مستحيلًا.
وأنشأ عندما رأى نـخلة بأرض الرصافة وشعر أنها تشبهه في الغربة والبُعد عن الوطن([17]):
تبدَّت لنا وســـــــــط الرصافةِ نــخلـــــــةٌ | تناءت بأرضِ الغربِ عن بلد النخْـــلِ |
فقلتُ:شبيهي في التغرب والنــــــــوى | وطـول اكتـــــــئابي عــــن بَنِىَّ وعـن أهـلي |
نشأتِ بأرضٍ أنت فيها غــــــــــــــريبـــةٌ | فمثْلُكِ في الاقـــصاءِ والمنتـــــأى مثلــــــي |
يشعر عبد الرحمن الداخل بالاكتئاب والمعاناة في بلاد الأندلس،بسبب بعده عن أهله في المشرق العربي،حتى بعد الإنجازات الكبيرة التي حققها هناك،فهو يشبَّه حاله بحال النخلة الغريبة في أرض الأندلس.
وفي الغربة يقول ابن دراج القسطلي([18]):
شــــــــــــدَّ الجــــــــلاءُ رحالهـــــــــم فتَحَمَّلت | أفلاذ قــــــــــــلب بالهـــــــــــموم مـــــــبــــــدد |
وحـــــــــــدت بهم صقعات روع شردت | أوطانـــهم في الأرض كــــــل مـــشــــــرد |
عاذوا بلــــــمح الآل في مدِّ الضحــــــى | مـــــــن بعد ظلٍّ في القصور مــمـــــدود |
في الأبيات السابقة يقرر ابن دراج القسطلي الرحيل عن قرطبة بسبب الفتنة التي أصابتها في نهاية عصر الدولة الأموية،فقرر أن يتجه صوب مدينة سبتة المغربية،ولعلها كانت أول رحلاته خارج الأندلس وآخرها،وكان الرجل قد ناهز الستين من عمره،فالشكوى واضحة من تشرده،وضياع وطنه،ومن تتابع الهموم عليه هو وجميع أفراد أسرته،فلا مستقر ولا مستودع إلا في العراء من بعد ظلال القصور .
وقال يحيى بن الحكم الغزال([19]):
وكمْ ظاعنٍ قد ظـــن أن ليـس آيبًا | فآبَ،وأودى حاضرون كــــثيرُ! |
وإنَّ الــذي أعـــظمــته مِنْ تَـــغَــرُّبـــي | عليَّ وإن أعظمتِ ذاك يسيرُ |
رأيتُ المنايا يُدركُ العُصمُ عَدْوُهــا | فيـــنـــزلــها والـــطيرَ مــنه تـــطــيـــرُ |
كان الشاعر يحيى الغزال كثير السفر والترحال،فقد أوفده السلطان عبد الرحمن الثاني إلى بلاد المجوس سفيرًا،بعد عدة معارك نشبت بين المجوس وجيوش عبد الرحمن الثاني في مدينة إشبيلية،ويبدوا أنهم أرادوا الصلح بعد هذه المعارك،فانتدب الغزال ليذهب إلى بلادهم ليكمل الصلح([20])،والمراد من تلك الأبيات أن الإنسان عليه ألا يرهب الغربة،فقد أودى الموت بحياة كثير من الأشخاص دون سفر أومعاناة أوغربة.
شعر الغربة في عصر ملوك الطوائف:
كان عصر ملوك الطوائف من أكثر العصور الأندلسية اضطرابًا؛بسبب كثرة الحروب بين ملوك الطوائف بعضهم ببعض من جهة،ومع ملوك الأسبان من جهة أخرى؛لذلك فقد شهد هذا العصر عددًا كبيرًا لا بأس به من أشعار الغربة،فقال الشاعر ابن زيدون في غربته([21]):
خليلىَّ لا فطرٌ يَسُرُّ ولا أضحى | فما حال من أمسى مشوقا كما أضحى |
ألا هل إلى الــــزهراءِ أوْبةُ نــــــازحٍ | تَـــقَــضّـى تنــــائيـها مَــــــــدَامِــــعُــــــــــهُ نــَـــــزْحَـــــا |
يخاطب ابن زيدون صديقيه،ويوضح لهما أنه لم يعد يشعر بسعادة في عيدي الفطر والأضحى؛لأنه بعيد عن وطنه،وكيف حال مَنْ يعتصره الشوق كل صباح ومساء؟وإنه يتمنى العودة إلى مدينة الزهراء التي بكى على فراقها أشدَّ البكاء،وقد نظم ابن زيدون هذه القصيدة بعد فراره من سجنه والتجائه إلى بني عباد بإشبيلية .
وقال ابن زيدون أيضا([22]):
غريبٌ بأقصي الشرقِ يشكرُ للصبا | تَحَمُّلَهَا مــــــنـــــه الــســـلامَ إلــى الغــــــــربِ |
وما ضرَّ أنفاس الصبا في احْتِمَالـِهَا | ســـــــــلام هـــوى يهديه جسمٌ إلى قلبِ؟ |
قال ابن زيدون هذين البيتين وهو في مدينة طرطوشة،وهى مدينة تقع في أقصى الشرق الأندلسي،ويشكر فيها ريح الصبا التي حملت سلامه إلى الغرب حيث بلاده ووطنه،وما يضرُّها لو حملت سلام الشاعر إلى قلب حبيبته التي يبعد عنها آلاف الأميال؟
إن محنة الغربة لم تقف على الشعراء أو عامة الناس،بل امتدت لتشمل الملوك والأمراء الذين تعرضوا للسجن أو النفي من بلادهم،ومن بين هؤلاء الملوك المعتمد بن عباد،وقد انعكست ظاهرة الغربة على شعره نتيجة تعرضه للنفي والسجن على يد المرابطين فقال([23]):
غريبٌ بأرض المغربين أســـــــــــيرُ | سيبكى عليه منبرٌ وسريرُ | |
وتندُبه البيضُ الصوارمُ والقنـــــا | وينهل دمــــعٌ بــيـــنهن غزيرُ |
إن المعتمد بن عباد كانت مصيبته أكبر،ومعاناته أشد في الغربة،فقد حلَّ ببلد غير بلده،وهى مدينة إغمات المغربية التي سجن بها حتى وفاته،وكان مأسورًا مُكبلًا في القيود والأغلال،وقد شُرِّد أولاده،أما بناته فكنَّ يتعيشن بالغَزْل نظير دراهم معدودات،وتحولت حياته من النعيم إلى الذل.
وقال ابن حمديس الصقلي في غربته عن وطنه ([24]):
ألفتُ اغـــــــــترابي عنه حتى تكاثرت | لـــــــــــه عُقَدُ الأيـــــــام في كـــفِّ حاســبِ |
ولـــــــــــو أن أرضــــــــي حُرَّة لأتَيْتـــُهــــا | بــــــــعزْمٍ يعُد الــــــســــــيرَ ضــــــربــــــــةَ لازب |
ولكنّ أرضـــــي كيـــف لي بفكاكهــا | من الأســرِ في أيـدي العلوج الغواصب |
يقول الشاعر إنه ألف الغربة حتى أصبحت شيئًا معتادًا له،ويؤكد أن وطنه لو كان ينعم بالحرية لذهب إليه وأقام فيه،ولكن للأسف احتل الأسبان وطنه واغتصبوه؛ولم يعد في مقدوره العيش هناك؛ لذلك فهو يعيش مغتربًا بعيدًا عن أرضه.
شعر الغربة في عصر دولة المرابطين (الملثمين):
امتدت النزاعات السياسية لتشمل عصر المرابطين الذي لم يدم طويلًا،فقد أنهكت قواه تلك الحروب الدائمة والمستمرة من الأسبان،وانفراد النساء بالسلطة،ففي ذلك العصر وضحت سيادة المرأة وامتد نفوذها بعيدًا في الحياة الاجتماعية والسياسية،الأمر الذي أدى إلى عدم صمود هذه الدولة أكثر من نصف قرن تقريبًا،ومن أكثر الشعراء الذين عانوا من الغربة في هذا العصر الشاعر ابن خفاجة الذي هاجر من مدينته بلنسية لما لحقها من خراب ودمار على يد الأسبان فقال ([25]):
أَجَبْتُ وقد نادى الغرامُ فأسْمَــــعـــا | عَــــــشِيَّةَ غـــــــــنَّانِي الحَمـامُ فـــــرجَّــــعــا |
فقلت ولي دمعٌ ترقرقَ فانْهَمـــــــى | يسيلُ وصبرٌ قد وَهَى فتضعضـــــعا |
ألا هل إلى أرضِ الجزيرة أوبــــــــــــةٌ | فأسْكُنَ أنفاســــــا وأهدأ مَضجَعـــــا |
إن عاطفة الحزن والأسى تسيطر على الشاعر،فدموعه تسيل،وقد ضعف ووهن صبره من شدة الجزع لفراق الوطن والبُعد عنه،ثم يتساءل ويحدث نفسه هل يمكن أن يعود إلى الجزيرة – الأندلس – مرة أخرى كى تهدأ نفسه،وتقر عينه،ويستريح مما يعانيه من آلام الغربة ؟
ويقول في موضع آخر([26]):
كفى حزنًا أنَّ الديارَ قــــصــــــــيَّةٌ | فلا زورَ إلا أن يــــــكون خَيــــــــــــــالا |
ولا الرسلُ إلا للرياح عــــــشـــــــيةً | تَكــــــــُّر جنــــــــوبا بينـــــــنا وشَــــــــــمالا |
فأستودع الريحَ الشمالَ تحيـــــــــةً | وأستنشق الـــــريحَ الجــــنوبَ سُـــؤالا |
يوضح الشاعر أن وطنه أصبح بعيدًا،فهو يشعر بغربة مكانية،فلا يوجد من يقوم بزيارته والسؤال عنه،وعندما يرى أن أحدًا جاء لزيارته يكتشف أنه خيال وسراب،ولا يجد من يستودعه التحية لوطنه سوى الرياح التي تهب عليه،والتي يسألها عن أحوال دياره ووطنه؛لعله يرجع منها بأخبار .
ويشتكي ابن الزقاق من الغربة قائلًا([27]):
لي سَكَـــنٌ شطَّتْ به غُـــرْبــةٌ | جادتْ لها عيناىَ بالـــمُــزْنِ |
ما حَسُنَ الصبحُ ولا راقنـي | بياضُــه مذ بــانَ في الظــعْــنِ |
كأنــما الصُــبْـــحُ لــنا بــعــــدهُ | عينٌ قد ابيضَّت من الحــزنِ |
يوضح الشاعر ما يكابده في الغربة،فهو يسكن بعيدًا عن وطنه،وعيناه تجود بالبكاء المستمر الذي لا ينقطع ولايتوقف مثل المزن والمطر،وأصبح لا يشعر بجمال بياض الصبح منذ ارتحاله وسفره عن وطنه،حتى ابيضت عيناه من شدة الحزن.
المبحث الثالث:( اتجاهات شعر الغربة في عصر الموحدين) :
لقد تنوعت اتجاهات شعر الغربة خلال عصر دولة الموحدين،وأخذت تتبلور بين تذكر الوطن،والشكوى من الابتعاد عنه وعن الأهل والأحباب،وتوجيه العتاب للذات على اختيار الغربة، وتصوير ذكريات الصبا وتفاصيل أيامهم وعهودهم السعيدة في أوطانهم،وتصوير الحسرات التي عانى منها الشعراء في المجتمعات الجديدة،وتمني عودتهم إلى بلادهم مرة أخرى؛لذلك جاء شعر الغربة في عصر الموحدين على ثلاثة اتجاهات،سوف يرصدها البحث بالتفصيل.
اتجاهات شعر الغربة في عصر الموحدين
تذكر الوطن والندم على فراقه معاناة الشعراء في المجتمعات الجديدة تمني العودة للوطن
أولا:تذكر الوطن والندم على فراقه.
قد يضطر المرء لمغادرة وطنه لكثير من الأسباب،وفي بعض الأحيان يندم ويتحسر على فراقه لوطنه،وقد يوجه الشاعر العتاب لنفسه على اختيار الغربة،ولِمَ لا؟ فالوطن هو المكان الذي وُلد ونشأ فيه الإنسان،وقضى فيه أيام صباه وشبابه،وفي هذا المعنى يقول ابن سعيد المغريى:
هذِهِ مصرُ فأين المــــغربُ ؟ | مُذْ نَأى عنِّي دموعِي تسكُبُ |
فارَقَتْهُ النفسُ جهلاً إنـمــــا | يُعرفُ الشىءُ إذا ما يَذْهـــبُ([28]) |
عبَّر ابن سعيد في الأبيات السابقة عن شعوره بالغربة وفراق وطنه الأندلس،ويذكر أنه في بكاء مستمر منذ مغادرته للمغرب،فقال عن بداية شعوره بالغربة:” لما قَدِمْتُ مصر أدركتني فيها وحشة،وأثار لي تذكر ما كنتُ أعهده بجزيرة الأندلس من المواضع المهمة التي قطعتُ بها العيش غضًّا خصيبًا،وصبحتُ الزمان غلامًا،ولبست الشباب قشيبًا”([29])،ففي العبارات السابقة يوضح ابن سعيد ما يعانيه من شعور بالغربة في مصر،ويوضح أنه لم يُقدر قيمة وطنه إلا بعد فراقه له.
وقال ابن جبير نادمًا في غربته([30]):
طولُ اغـــترابٍ وبرحُ وشــــــوقٍ | لا صـــــــبرَ والله لــي عــليهِ |
إليك أشــــــكو الذي أُلاقــــي | يا خيرَ مَنْ يُشْتَكى إليهِ |
ولــــــي بغـــرنــــاطـــــــةٍ حـــبيــــبٌ | قد غَلِقَ الرهن في يـــــديهِ |
كتب ابن جبير هذ الأبيات لجارية يبدو أنه كان يهواها في غرناطة،ويظهر الندم واضحًا جليًا في شعره على تركه لوطنه وحبيبته التي يشتكي إليها تبدل الأحوال عما كان معهودًا في بلاده.
وقال أبو البقاء الرُّندي([31]):
غــــريبٌ كُلُّمــــــا يَلْقَى غريــــــبٌ | فلا وطنٌ لديــــــــــــه ولا حبيــــــــــــــبُ |
تَذَكرَ أصْـــــلَهُ فبـــــكى اشْتياقًـــــا | وليـــــــــس غريبًا أن يبـــــــكي غريبُ |
وممَّا هــــاج أشــــواقي حـــــديـــثٌ | جرى فجرى له الدمع السكــوبُ |
ذكرتُ به الشبابَ فشقَّ قلـــبي | ألم تـــر كيـــــــــف تنشقُ القــــــــــلوبُ |
تفيض الأبيات بالحزن على ما يعانيه الشاعر من غربة وألم على فراق مدينته رُندة،فبكى أبو البقاء الرُّندي عندما تذكر أيام شبابه التي قضاها في وطنه،وذلك عندما بدأ في الحديث مع أحد أصدقائه فتذكر وطنه الذي تركه فأصبح بلا وطن ولا أصدقاء ولا أحباب،وهذا الحوار شقّ قلبه،وهيَّج أشواقه،وأجرى دموعه،ويرى الشاعر أن الهمَّ هو أمر طبيعي لكل مغترب بعيد عن أرضه.
وقال ابن جبير([32]):
غـــــريبُ تذكـــر أوطـــانه | فهيَّج بالذكرِ أشْجانه |
يحل عُرا صبره بالأسى | ويعقدُ بالنجمِ أجـــفانه |
يتذكر الشاعر في البيتين السابقين وطنه وهو في أرض الغربة،فتختلج أنفاسه،وتهيج مشاعره،فلا يملك إلا أن يتحلى بالصبر والأمل؛لعله يعود إليه قريبًا .
وقال ابن الأبار في معاناته وغربته عن وطنه([33]):
يـــــــــا أهــــــــــلَ وِدِّي لم أرُومُ تَــــــــدَانيًـــا | منكـــــــــم ودَارُكُـــــــم تَبيـــــنُ وتَنْزَحُ |
إن كان جسمي شَطَّ عن مثوَاكُــــــمُ | فالقــــلبُ ثــــــاوٍ بينكم لا يبـــــرحُ |
هـــــذي الجــــــــــوانحُ بالجوى مملـــــــــــوءةُ | مما أميــــلُ لكـــــم ومما أجْنـــــــــــــــــحُ |
لا تحـــسبوا الريح السَّموم هى الــــــتي | هبت عليكم في الهواجر تلفحُ |
أَنْفاسي الصعـداء تلـــــكم هــــاجهـــــا | شَوْقٌ إليـــــــــكم بالفـــــــؤادِ مُبــــــرحُ |
يفارق ابن الأبار بلنسية بعد أن احتلها الأسبان ليستقر في تونس،واستخدم الشاعر في هذه الأبيات أسلوب النداء للتعبير عما يعانيه من غربة ووحشة،حيث فرّقت نوائب الدهر بينه وبين أحبابه وخلانه،فأخذ يؤكد لهم أنه يذكرهم دائمًا على الرغم من البعد المكاني بينه وبينهم،ويوضح أنه رحل بجسده؛ولكن خلَّف قلبه في وطنه،ثم بيَّن لهم أن الرياح التي هبت عليهم ما هى إلا أنفاسه الصعداء التي حركها شوقه إليهم .
وقال الرصافي كذلك :
يا صاحــبيَّ على النَّوى ولأنْتُـــمـا | أَخَوَا هَوَايَ وحَبَّـــــــــــذَا الإخوانِ |
خُوْضا إلى الوطنِ البعيدِ جوانحي | إنَّ القلوبَ مواطنُ الأوطانِ([34]) |
يؤكد الرصافي في الأبيات السابقة مكانة أصدقائه في قلبه، فهما بمثابة الإخوان،ويطلب منهما أن يأخذا قلبه وجوانحه إلى وطنه البعيد،فالقلوب هى مواطن الأوطان.
وقال ابن جبير فى مقطوعة قصيرة يوضح فيها قيمة الوطن([35]) :
لا تــــغترب عن وطنٍ | واذكر تصاريف النَّـــــوى |
أما ترى الغــــصن إذا | ما فارق الأصل ذوى([36]) |
يوضح ابن جبير أهمية الانتماء للوطن وقيمته،وينصح غيره بالبعد عن الغربة،ويوضح مساوئ فراق الأهل والوطن،ويرُوى عنه أنه ” دخل بغداد فاقتطع منها غصنًا نضيرًا من أحد بساتينها،فذوى في يده فأنشد هذه الأبيات.
أما أبو المطرف بن عميرة فقد رحل عن وطنه لطلب العلم،إلا أنه لم يستطع الرجوع إليه مرة أخرى لاستيلاء الأسبان عليه فقال([37]):
زِدْنَا على النائـــــــــــين عن أوْطانـــــــِهم | وإن اشتــــــــركنــا في الصـــــبابة والجــــــوى |
إنا وجدناهم قد اســـــــــتسقوا لــــــــــها | من بعد أن شطت بــــهم عنها النـوى |
ويَصُدُّنــــــــــــا عن ذاك في أوطـــــــــــــانِنَا | مع حُبِّـــــــها الشـــــــــركُ الذي فيها ثوى |
حسناء طاعتها استــــقامــت بعْدنــــــا | لعـــدوِّنا أفيــــــــــســتقــــــــيم لــــــها الهــــــوى |
لاشك أن أبا مطرف يشعر بالغربة بعيدًا عن وطنه الذى لم يعد بمقدوره العودة إليه بعد أن سقط فى يد النصارى،فلم تعد له إلا الذكريات في هذا الوطن.
وقال ابن جبير([38]):
شهدنا صلاة العيد في أرض غربة | بأحواز مصر والأحبة قد بانوا |
فقلت لخلـِّي في النَّوى جُدْ بمدمعٍ | فلـــــيس لنا إلا المـــــدامع قُرْبـــــان |
في البيتين السابقين يعبر ابن جبير عن شعوره بالغربة وشوقه لأهله وأحبابه،شاكيًا لأحد أصدقائه تلك الوحشة التي ألمت به في ديار الغربة،متذكرًا المواسم التي كان يعيشها بالأندلس،فيروى أنه شهد صلاة العيد في إحدى قرى مصر،ففاضت دموعه لبعده عن وطنه.
ويقول ابن الجنان الأنصاري:
دنا العيدُ ليت العيد لم يـــدن وقتــه | فقـــــــــــد هــــاج لي وجدا وزاد غراما |
وذكــــــــرني إقــــــــــبالــــــــه بـمــــــــواســـــمٍ | مضت كن بالشملِ النظيم كرامــا |
أرى الناس في شأنٍ وشأني أن أرى | شؤوني تهمى بالدمــــــوع سجامـــا([39]) |
أرسل الشاعر المقطوعة السابقة إلى أحد أصدقائه،وقد اقترب موسم العيد،وهو في أرض الغربة بعيدًا عن وطنه وأحبابه،وقد تمنى عدم دنو وقت العيد؛لأنه يزيد من حزنه،ويذكره بأيامه السابقة في وطنه،ويرى الناس تستعد للعيد بينما هو في بكاء دائم ومستمر .
وفي هذه الأبيات يرفض الشاعر ابن هشام القرطبي مغادرة الأندلس ويُصر على البقاء قائلًا([40]):
يا آمري أن أحثَ العيسَ عن وطــني | لما رأى الــــــــرزق فيه ليس يرضيني |
نصـــــــــــحت لكنَ لي قلـــــــــــبًا ينازعني | فلـــــو ترحـــــلت عـــــــــنه حله دوني |
لألـــــــــزمن وطني طـــــــــــورا تطــــــاوعـــني | قــــود الأمانى وطورا فيه تعـــصيــني |
مـــــدللا بين عــــــــــــرفاني وأضـرب عن | سير لأرض بها من ليس يــدريــني |
هــــــــذا يقـــــــولُ غـــــريب ساقه طــــمع | وذاك حــــــين أريه الـــبرَ يجــــفـــــونــي |
في الأبيات السابقة يرفض الشاعر نصيحة أحد أصدقائه الذي نصحه فيها بمغادرة وطنه،وأخذ ابن هشام في تصوير نظرة الناس للنازح الغريب،وعدم ترحيبهم به،فهو يتمسك بالبقاء في وطنه،ويرفض النزوح والغربة عنه لأي سبب من الأسباب سواء للرزق أولسوء الأحوال السياسية وغيرها،فهو يرى أنه مدلل في وطنه،لا يكدر صفوه أحد،ولا يرميه أحد بالطمع عندما يتكسب رزقه،ولا يدير أحد ظهره إليه جفاءً له،وأخيرا يقرر البقاء راضيا بما كتبه الله له .
وقال حازم القرطاجني :
إن ثــــــــــــــــواءَ المــــــــــرءِ في أوطــــــــــانـــــــه | عزٌّ ومــــــــا الغــــــربــــــــةُ إلا كالتَّـــــوى |
وقلَّمــــــــا بـــــــان امـــــرؤ عـــــن أرضــــــــه | إلا وبــــــــــــان الصـــــبر عنه ونـــــأى |
فقد تشكَّى ابن مضاضٍ([41])مضضًا | من شوقه إلى الحجون والصفا([42]) |
يظهر في الأبيات شوق حازم القرطاجني إلى وطنه،ويظهر ألم الفراق،ويرى أن بقاء المرء عزيزًا في وطنه أشرف من أن يهاجر عنه ويتركه للأعداء،فنادرًا ما يفارق المرء الوطن ولا يندم ويتحسر على فراقه،ثم ضرب حازم القرطاجنى مثلًا لقوم رحلوا عن أوطانهم ثم ذاقوا مرارة الفراق والغربة بعد ذلك.
ثانيًا:معاناة الشعراء في المجتمعات الجديدة.
هناك لون آخر من شعر الغربة يصور أحوال الأندلسيين في مواطنهم الجديدة التي هاجروا إليها،ويعبرون في هذا اللون الشعري عن تبرمهم وضيقهم بالحياة الجديدة التي لم يعتادوا عليها،ولم يجدوا فيها عوضًا عن حياتهم التي عاشوها في بلادهم الأصلية،وقد عبر أحد الكتاب عن حالة البؤس والتذمر التي صار إليها معظم المهاجرين الأندلسيين فقال :”إن قومًا من الأندلسيين الذين هاجروا من الأندلس وتركوا الدور والجنات والكرمات ،….،ندموا على الهجرة بعد وصولهم إلى مواطن هجرتهم”([43])،إذلم يأخذ الشعراء الأندلسيون نفس المكانة والحظوة التي تمتعوا بها في بلادهم في تلك المجتمعات الجديدة التي هاجروا إليها.
ونلمس ذلك الشعور في قول الشاعر أبي المعالى الإشبيلى ([44]):
أنا في الغــــــــربة أبـــكــــي | ما بكت عين غريب |
لم أكن يوم خروجـــــي | من بلادي بمصــــيب |
عـــجـــبًا لـي ولتـركــــــــــي | وطــــنـــًا فــــيـــه حـــبيبي |
والشاعر يوضح أنه كان مخطئًا،وغير صائب الرأى عندما قرر مغادرة وطنه والنزوح عنه،والأبيات السابقة تعبر عن الشعور العام الذى انتاب معظم المهاجرين الأندلسيين فقد عاشوا حياة مغايرة لحياتهم،لأن المجتمع الجديدلم يفتح لهم ذراعيه،لذلك فقد شعروا بالازدراء والتصاغر في عيون الآخرين،فأعلنوا تذمرهم وسخطهم على هذه الحياة الجديدة،وندموا على الخروج من أوطانهم بالرغم من أنهم اضطروا إلى ذلك.
وقال ابن عتبة الإشبيلي([45]):
أصبحت في مصر مستضامًــــا | أرقص في دولة اليـــهـــود |
واضــــيعــــة العـــــمـــر فـــي أخــــيرٍ | مع النصارى أو اليــهود |
بالــــجـــــــد رزق الأنــــامِ فيــــهـــم | لا بـــذواتٍ ولا جـــــــدود |
يعبر الشاعر عن حالة الاستياء التي يعيشها في مصر،فيقول أنه أصبح دائم الهم والحزن والضيم،ثم أخذ يشبه أهل مصر باليهود في سوء معاملتهم له،وأخذ يندب عمره الذي قضاه معهم،فهو بالكاد يحصل على رزقه،لذلك لم ينسجم ابن عتبة الإشبيلى في الحياة مع المجتمع المصري،ويبدو أن الوضع في إشبيلية كان أخف حدة ووطأة من مصر بالنسبة له.
وفقال ابن سعيد المغربي عن أحواله بمصر ([46]):
هذه حــــــــالي وأما حالـــــتي | في ذرا مصـــــــرَ ففكرٌ متعــبُ |
ها أنا فيــــها فـــــــريدٌ مهملٌ | وكــــــــــــلامي ولساني مـــــغربُ |
وأرى الألحاظ تنبو عـــندما | أكتب الطرسَ أفيه عـــــقربُ؟ |
يتحدث ابن سعيد عن المتاعب التي عانى منها بمصر،فالمعاملة السيئة تركت آثارها على نفسه،فالمشارقة يعاملونه بإهمال وعدم اهتمام،فأخذ يشكو من أنه أصبح خاملًا مُهمَلًا،وقد أخذت تنبو عنه الألحاظ،وتزدريه الأعين،حتى أن الناس بمصر لا يفهمون لهجته المغربية،وذلك بعد الشهرة والمكانة العلمية والأدبية والسياسية التي كان يحظى بها في الأندلس.
ومن نفس القصيدة قال كذلك ([47]):
وأُنـــادَى مغــــــــــربيًّــا لَيْــــــــــتَنِي | لم أكن للغرب ِيوماً أُنســبُ |
نَسَبٌ يشـــــــــترك فيه خاملٌ | ونبيهٌ أين منه الـمَهْــــــــــربُ ؟ |
أَتُراني ليـــــس لي جــــــدٌ لــــــــه | شهرةٌ أو ليس يُدرى لي أبُ |
يشكو ابن سعيد في هذه الأبيات من جفوة المعاملة،فالمصريون يصفوه(بالمغربي)،وكانت هذه الصفة تقترن بالخشونة وجفوة الطبع،ويتعجب لماذا لا يناديه الناس باسمه أو اسم أبيه؟ويطلقون عليه “المغربي”،وهو المنحدر من أسرة عظيمة في مجالي الأدب والسياسة،وصاحب الشهرة والمكانة الأدبية الرفيعة في بلاد الأندلس.
وقال ابن سعيد في التبرم من السفر إلى القاهرة ([48]):
يقولون سافِر إلى القاهرة | وما لي بها راحةٌ ظاهـــره |
زحامٌ وضيقٌ وكربٌ ومـــــا | تثيرُ فيــــها أرجلٌ ســـــائره |
نصحه أحد الأصدقاء في السفر للقاهرة،فأنشد هذه الأبيات التي توضح عدم رغبته في السفر إليها،فالشاعر لا يشعر بالراحة بها بسبب شدة الزحام الذي يعتبر من أهم سمات هذه المدينة،فهو يشعر دائما بالضيق والكرب هناك.
وقال في مصر عندما رأى وجوهًا لا يعرفها وألسنًا على غير ما عهد([49]):
أصبحتُ أعترضُ الوجـــوهَ ولا أرى | ما بيْنـــــــــها وجْهًـــا لـِمَــــنْ أدْريــهِ |
عَوْدي على بَدْئي ضلالا بينهــــــم | حتـــى كأني من بقــــــايا الـــــــتيـــهِ |
وَيْحَ الغريبِ توحشتْ ألحــــــــــاظـُـــــهُ | في عـــــــالمٍ ليـــــــس لـــــــهُ بشبــــــيهِ |
إن عـــــــــــادَ لى وطني اعترفتُ بحـــقهِ | إنَّ التغـــــــــربَ ضاعَ عمري فيه |
يصرخ ابن سعيد المغربي في الأبيات السابقة من الغربة التي اكتوى بنارها،ولم يتكيف مع المجتمع الجديد الذي هاجر إليه،فهو من أبرز الشعراء الذين تعمقت لديهم تجربة الغربة،وتغلغلت في نفوسهم،فنراه يشكو من أنه أصبح يعترض الوجوه فلا يعرف منها أحدًا من الناس،ولا يعرفه أحد منهم، فشبه نفسه باليهود الذين تاهوا في صحراء سيناء،كما أصبح وحيدًا غريبًا في عالم يتنكر للغرباء،وفي النهاية يدرك مكانة وطنه ويعترف بحقه،ويوضح مرارة وألم تجربة الغربة التي ضيَّع فيها عمره .
وفي تلك الأبيات لجأ ابن سعيد في تصوير حالته ولكن بشىء من السخرية فقال([50]):
لقيتُ بمصــــــرَ أشـــــدَّ البـــــــــــوار | ركوبَ الحـــــمارِ وكحــلَ الـغبـــــار |
وخلْفــي مكارٍ يــفوقُ الــــــرياح | لا يعرف الرفقَ مهما استطـــــار |
أناديه مهـــــلا فلا يــرْعـــــــــــــــوي | إلى أن سجدتُ سجود الــعثار |
وقــــــد مُــــدَّ فــوقي رواق الـــثرى | وألْــــحــدَ فـــــــــيه ضــيـــــــاءُ النهــــار |
أنشأ ابن سعيد هذه الأبيات حين اضطر إلى ركوب الحمار للانتقال من القاهرة إلى الفسطاط،ويرى أن ركوب الحمار يقلل من شأنه،ويحط من قدره،ثم وصف ما تعرض له أثناء الركوب من تطاير للغبار،وقد طلب من مالك الحمار أن يخفف من سرعته؛لكنه لم يستمع إليه،فكانت النتيجة سقوط ابن سعيد عن ظهر الحمار،ثم أخذ يقارن بين هذه الحالة المهينة في مصر وبين حاله في الأندلس حيث كان يتنقل على ظهر زورق في إشبيلية قائلا([51]):
أين حُسن النيل من نهرٍ بها | كلُّ نغماتٍ لديه تُطرب |
كـــــــــم به من زورقٍ قـد حَلّهُ | قمرٌ ساقٍ وعودٌ يضرب |
يقارن ابن سعيد في هذه الأبيات بين ما عاناه في مصر من ركوب الحمار كوسيلة للتنقل،وبين الحال في إشبيلية حيث ركب زورقًا وقضى فيه وقتًا ممتعًا من خلال وجود بعض الآلات الموسيقية عليه كالعود،ثم وضح أن نهر إشبيلية يفوق نهر النيل جمالًا من خلال صوت مياهه التي تبعث على الطرب.
وقال في الغربة([52]):
فـــــــــإن كنــت ُ في أرض التــــغربِ غــــاربًا | فســــــوف ترانى طالعًا فوق غاربِ |
فصمصامُ([53]) عمروٍ([54]) حين فارق كفَّه | رمـــــــــــوهُ ولا ذنبُ لعجزِ المضاربِ |
ومــــــا عِــــــزةُ الــضـــرغـــــامِ إلا عــــــــريــــنُـــــــــه | ومن مكة سادت لؤى بن غالبِ |
بالرغم مما كان يعانيه ويكابده ابن سعيد من الغربة،فلاتزال نغمة الفخر والاعتزاز بالنفس واضحة في قصائده،فيتظاهر بالصبر والجلد،وهو يواجه الإحساس بالضآلة والخمول،الذي كان يشعر به أحيانا بسبب عدم تقدير المجتمع المشرقي لكفاءته،فيقول إنه ذو مكانة مرتفعة،ويؤكد أن الإنسان لن يشعر بالعزة إلا في وطنه فقط .
ثالثًا:تمنى العودة إلى الوطن.
بعد أن اكتوى الشعراء بنار الغربة وفارقوا أوطانهم وشعروا بالحسرة والندم على هذا الفراق،ثم إنهم لم يجدوا ضالتهم في المجتمعات الجديدة، أدى ذلك إلى الإكثار من أسلوب التمني في شعرهم؛بغية التعبير عن الرغبة في العودة إلى الوطن،وبالفعل قرر بعضهم العودة.
فقال ابن الأبار متمنيًا العودة إلى الوطن([55]):
فكم أبكي الديار وساكنيها | بطـــــــرْفٍ مسعدٍ ودمٍ هموعِ([56]) |
وكم أرجو الإيابَ لها سَفَاهًا | وتَرْكُس([57]) بالإياب وبالرجوعِ |
فيبكي ابن الأبار على دياره التي حُرم منها،والتي كانت عامرة بأهلها،وفي النهاية يتمنى العودة إلى دياره ووطنه مرة أخرى.
وقال ابن سعيد وهو يتمنى العودة إلى وطنه([58]):
فياليتَ ما ولَّى مُعادٌ نعيمُهُ | وأىُّ نعيم عند مَنْ يتغربُ |
ابن سعيد يتمنى عودة تلك الأيام الماضية التي قضاها في وطنه وبلاده،لأن أي غريب لا يشعر بسعادة ولا نعيم وهو بعيد عن وطنه وأهله.
ويقول الرُّندي داعيًا الله أن يعود إلى رُندة،وإن ويجمع شمله بأهله وأصدقائه([59]):
جَمَعَ اللهُ قريبًا شَـمـَلنا | بتلاقِينَا على أفضلِ حالِ |
يدعو الرندي الله في الأبيات السابقة أن يجمع شمله بأهله وأصدقائه في مدينة رُندة،فهو على أمل أن يعود إليها قريبًا، ويلتقيهم مرة أخرى .
وقال الرُّندي كذلك([60]):
لا والله مــــا قلــــــــــبي بـــــــقــــــــاسٍ | لكم أبـــدًا ولا عنكم بفصالِ |
وبالخضراءِ في روحي وجسمي | برُنــــــــــــدة بين حـــــــــلٍّ وارتحـالِ |
فَسِرْ بى للجــزيرة حيث سِـــرْبي | ومُرَّ علـــــــــــى ديـــــــــــارٍ في بلال |
ينفي الرُّندي أن يكون قد نسى أهله وأصحابه أو انفصل عنهم،ويؤكد لهم أنه لم يفارقهم ويتذكرهم دائمًا،فكيف ينساهم وجسده وروحه معهم؟ ويطلب من أحد خلانه أن يسير به عائدًا إلى الجزيرة الخضراء حيث بلده ووطنه،وأن يمر به على ديار أحبابه .
وقال ابن عتبة الإشبيلي الذي رحل إلى المشرق متمنيًا العودة للأندلس([61]):
أصبحتُ في مصر مستضامًـــا | أرقــــصُ في دولـــــة اليهود |
أود مــــــن لــــــؤمـــهم رجــــــــوعًــــا | للغرب في دولة ابن هود |
رحل الشاعر ابن عتبة الإشبيلى من إشبيلية إلى المشرق بعد أن اشتعلت نار الفتنة في الأندلس،ولكنه يبدو أنه لم يتلاءم مع الأوضاع في مصر،ولم تكن الأمور مواتية له،لذلك تمنى العودة إلى الأندلس مرة أخرى بالرغم ما فيها من أحداث جسام .
وقال ابن الأبار ([62]):
يـــــــا سَقَـــــــــــــى اللــهُ للــــــرصافـةِ عَـــــهَــــــدًا | كنــــــــــــسيــــــــــم الصَبَا يَرِقُّ ويَنْدى |
لَيْتَ شعرى هل يرجعُ الدهرُ عَيْشَــــــــــــا | يَشْهَدُ الطيبُ أنه كان شُهــــــــــــدا |
يتشوق الشاعر لوطنه مدينة الرصافة حيث مسقط رأسه،ويتذكر أيامه بها،وجمال طبيعتها ونسيمها العليل،ويتمنى العودة إليها والعيش بها مرة أخرى،ويتساءل هل يمكن ذلك بعد أن احتلها الأسبان وأصبحت في قبضتهم؟
وقال ابن سعيد ([63]):
إن عـــــــــــادَ لي وطني اعترفتُ بحقهِ | إنَّ التغـــــــــربَ ضاعَ عمري فيه |
يؤكد ابن سعيد على أهمية الاعتراف بفضل الوطن في حياة الإنسان،فهو المكان الذي وُلد ونشأ وتعلم به،ويوضح أن تجربة الغربة كانت مريرة عليه،وإنه قد ضيّع عمره بعيدًا عن وطنه وأهله .
وفي النهاية يقرر ابن سعيد العودة إلى وطنه قائلًا ([64]) :
سوف أثني راجعًا لا غَرَّني | بعد ما جَرَّبْتُ بَرْقٌ خُلَّــــــــبُ |
يبدو أن ابن سعيد شعر بأن غربته لم تثمر ولم تأت بجديد،فالغربة ما هى إلا برق كاذب،وسراب خادع،تظهر فيها المعاناة أكثر مما يجنيه الإنسان من منافع.
الخاتمة:
أهم نتائج البحث:
أولاً:إن شعر الغربة فن شعرى أصيل يرتبط بالحالة السياسية والاقتصادية للبلد؛لأن الحياة السياسية والاقتصادية تؤثران بشكل مباشر أو غير مباشر في بقاء الإنسان داخل وطنه أو خارجه؛مما يولد لديه نزعة الغربة.
ثانيًا:إن لشعر الغربة جذورًا مشرقية قديمة ممتدة منذ العصر الجاهلى وصولًا إلى العصر الأندلسي.
ثالثًا:عاشت الأندلس منذ فتحها حياة سياسية صاخبة،فكثرة الفتن الداخلية ،والحروب الخارجية،أدت إلى موجات من الهجرات والنزوح إما خارج الأندلس أو داخله،وجميع هذه العوامل أدت إلى نشأة وتطور هذا اللون من الشعر .
رابعًا:الرحلة في طلب العلم،ومجالسة علماء المشرق،والأخذ عنهم،والرغبة في زيارة الأماكن المقدسة للحج،وزيارة قبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أدت كذلك لظهور شعر الغربة.
خامسًا:اتجه شعر الغربة في عصر الموحدين إلى عدة اتجاهات:تذكر الوطن والندم على فراقه،ومعاناة الشعراء في المجتمعات الجديدة،والرغبة في العودة إلى الوطن.
سادسًا:لم يتكسب الشعراء من وراء شعر الغربة؛لذلك فقد تميز بصدق التجربة الشعرية،وصدق العاطفة،وبشعور مرهف،فهو نتاج نفوس معذبة ذاقت مرارة الغربة.
سابعًا:تميز شعر الغربة بسهولة الألفاظ،وسلامة الأسلوب،وعمق المعانى،وروعة التصوير.
قائمة المصادر والمراجع:
- الأدب الأندلسي،ماريا خسيوس روبيترامتى،ترجمة د.أشرف دعدور،المجلس الأعلى للثقافة،1999م
- الاغتراب سيرة مصطلح،محمود رجب،دار المعارف،الطبعة الثالثة،1988.
- الاغتراب في الشعر العربي خلال القرن السابع الهجري،دراسة اجتماعية نفسية،أحمد الفلاحي،دار غيداء للنشر والتوزيع،الطبعة الأولى ،الأردن ،2013م.
- تاريخ الأدب الأندلسي عصر سيادة قرطبة،د. إحسان عباس،دار الثقافة،بيروت،الطبعة السابعة،1985م.
- خلاصة تاريخ الأندلس،شكيب أرسلان،مكتبة الحياة،بيروت،1983م.
- دولة الإسلام في الأندلس- عصر الموحدين-الهيئة العامة المصرية للكتاب،2001م.
- ديوان ابن الأبار،تحقيق د. عبد السلام الهراس،مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية،المملكة المغربية،1999م.
- ديوان ابن الجنان الأنصاري،تحقيق ودراسة د. منجد مصطفى بهجت،بغداد،1990م.
- ديوان ابن حمديس الصقلي،تحقيق د. إحسان عباس،دار صادر ،بيروت،1960م.
- ديوان ابن خفاجة الأندلسي،تحقيق عمر الطباع،دار القلم،1994م.
- ديوان ابن الزقاق البلنسي،تحقيق عفيفة محمود ديراني،دار الثقافة،بيروت،1964
- ديوان ابن زيدون،تحقيق يوسف فرحات،دار الكتاب العربي،الطبعة الثانية،1994م.
- ديوان أبى البقاء الرُّندي،تحقيق د. حياة قارة،مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية،ط1، 2010 م .
- ديوان حازم القرطاجني،تحقيق عثمان الكعاك،دار الثقافة بيروت،1964م.
- ديوان الرصافي الأندلسي،تحقيق د.إحسان عباس،دار الشروق،الطبعة الثانية،1983م.
- ديوان الغزال،تحقيق . محمد رضوان الداية،دار الفكر،دمشق،الطبعة الأولى،1993م.
- ديوان المتنبي،شرح أبى البقاء العكبري، تحقيق مصطفى السقا،وإبراهيم الإبياري،دار المعرفة،بيروت،1978م.
- ديوان المعتمد بن عباد،تحقيق د/ حامد عبد المجيد،ود.أحمد أحمد بدوي،دار الكتب والوثائق القومية،القسم الأدبي،الطبعة الثالثة،2000م.
- شرح ديوان امرئ القيس،صلاح منينمه،دار إحياء العلوم ،بيروت،1990م.
- شعر ابن سعيد المغربي،د. هالة عمر الهواري،مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية،ط1، 2012 م.
- الشعر الأندلسي في عصر الموحدين،د. فوزي عيسى،دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر،الطبعة الأولى،2007م.
- الصحاح ،الجوهري،تحقيق أحمد عبد الغفور،دار العلم للملايين.
- في الأدب الأندلسي،د/محمد رضوان الداية،دار الفكر،دمشق،سوريا،2000م
- لسان العرب،ابن منظور،دار صادر،الطبعة الرابعة،2005م .
- معجم البلدان،ياقوت الحموي،دار صادر،1977م.
- مقصورة حازم القرطاجني،تحقيق د. مهدى علام،حوليات كلية الآداب جامعة عين شمس، مايو 1953 ـ المجلد 2.
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب،شهاب الدين أحمد المقري،تحقيق إحسان عباس،دار صادر،بيروت،1968م.
المجلات :
- مجلة عالم الفكر ،بحث بعنوان:الاغتراب إصطلاحًا،ومفهومًا،وواقعًا،د/ قيس النوري،المجلد العاشر،عدد أبريل،1979.
[1] – أرسلان،شكيب،خلاصة تاريخ الأندلس،مكتبة الحياة،بيروت،1983م،ص:45-50
[2]– عنان،محمد عبد الله،دولة الإسلام في الأندلس،عصر الموحدين،الهيئة العامة المصرية للكتاب،2001م،ج5،ص283-285
[3] – خسيوس روبيرا متى،ماريا،الأدب الأندلسي،ترجمة أشرف دعدور،المجلس الأعلى للثقافة،1999م،ص:31-32
[4]– الجوهري،إسماعيل بن حماد،الصحاح،تحقيق أحمد عبد الغفور،دار العلم للملايين،1990م،مادة غَرب.
[5]– ابن منظور،جمال الدين،لسان العرب،دار صادر،ط4،2005م،مادة غرب .
[6] – الفلاحي،أحمد،الاغتراب في الشعر العربي ،ص:15
[7] – المصدر السابق:15
[8] – الفلاحي،أحمد،الاغتراب في الشعر العربى،ص:11
[9] – المصدر السابق : ص:14
[10] – النوري،قيس،الاغتراب اصطلاحًا ومفهومًا وواقعًا،مجلة عالم الفكر،المجلد العاشر،1979م،ص:14-16
[11] – رجب، محمود،الاغتراب سيرة مصطلح ،دار المعارف،الطبعة الثالثة،1988،ص:41
[12]– امرؤ القيس،شرح الديوان،صلاح الدين منيمنه،دار إحياء العلوم،بيروت،1990م،ص:88-89
[13]– عسيب:اسم جبل فى عالية نجد،وقد ذُكر كذلك فى أنقرة .
الحموي،ياقوت،معجم البلدان،دار صادر،1977م،ج4/124-125
[14]– المتنبي،أبو الطيب،الديوان،شرح العكبري،تحقيق مصطفى السقا،دار بيروت،1983،ص:21-22
[15]– الداية،محمد رضوان،في الأدب الأندلسي،ص:132
[16]– المقري،شهاب الدين أحمد،نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب،ج3،ص:38
[17]– المقري،شهاب الدين أحمد،نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب،ج3،ص:54
[18]– القسطلي،ابن دراج، الديوان،تحقيق محمود علي مكي،منشورات المكتب الإسلامي،دمشق،ص:66-76
[19] – الغزال،يحيى بن الحكم،الديوان،تحقيق محمد رضوان الداية،دار الفكر،الطبعة الأولى،1993،ص:53
[20] – عباس ، إحسان ، تاريخ الأدب الأندلسي عصر سيادة قرطبة،دار الثقافة،بيروت،ص:161-162
[21]– ابن زيدون،أحمد بن عبد الله،الديوان،تحقيق يوسف فرحات،دار الكتاب العربي،الطبعة الثانية، 1994م،ص:56
[22] – المصدر السابق،ص:28
[23]– ابن عباد،المعتمد،الديوان،تحقيق د. حامد عبد المجيد،دار الكتب والوثائق القومية القسم الأدبي،الطبعة الثالثة،2000م،ص:98
[24]– الصقلي،ابن حمديس،الديوان،تحقيق إحسان عباس،دار صادر،ص:30-31
[25]-ابن خفاجة،أبو إسحاق بن إبراهيم،الديوان،تحقيق عمر الطباع،دار القلم،1994م،ص:145
[26]– ابن خفاجة،أبو إسحاق بن إبراهيم،الديوان،تحقيق عمر الطباع،دار القلم،1994م ،ص:179
[27] – البلنسي،ابن الزقاق،الديوان،تحقيق عفيفة محمود ديراني،دار الثقافة،بيروت،1964،ص:271
[28]– المغربي،ابن سعيد،تحقيق هالة الهواري،مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية ،ص:49
[29] – المقري،شهاب الدين أحمد،نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب،ج:2/281
[30] – المصدر السابق:ج 2/386
[31] – الرُّندي،أبو البقاء،الديوان،تحقيق د. حياة قارة،مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية،ص:109
[32]– المقري،شهاب الدين أحمد،نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب،ج2/384
[33]– ابن الأبار،أبو عبد الله محمد القضاعي،الديوان،تحقيق د. عبد السلام الهراس،مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية،المملكة المغربية،ص: 138
[34]– الرصافي،أبو عبد الله محمد بن غالب،الديوان،تحقيق إحسان عباس،دار الشروق،1983م،ص: 131-132
[35]– المقري،شهاب الدين أحمد،نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب،ج2/382
[36]– ذوى: أى ذبل،ابن منظور،جمال الدين ،لسان العرب،دار صادر،مادة ذوى .
[37]– المقري،شهاب الدين أحمد،نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب،ج 1/310
[38] – المصدر السابق،ج3/492
[39]– الأنصاري، ابن الجنان،الديوان،تحقيق منجد مصطفى بهجت،بغداد،1990م،ص :148
[40]– المقري،شهاب الدين أحمد،نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب،ج 1/543
[41]– ابن مضاض:هو أحد المعمرين القدماء،واسمه عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو بن غالب الجرهمي،وهو من أهل مكة،وفارقها،ثم حنَّ إليها وتشوقها.
[42]– مقصورة حازم القرطاجني،تحقيق مهدي علام،ص: 96-97
[43]– عيسى،فوزي،الشعر في عصر الموحدين،دار الوفاء،2007م،ط1،ص:158
[44]– المقري،شهاب الدين أحمد،نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب،ج 4/113 – 114
[45]– المقري،شهاب الدين أحمد،نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب،ج 2/664
[46] – المغربي، ابن سعيد ،تحقيق د. هالة الهواري،مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية ،ص : 52
[47]– المصدر السابق:53
[48]– المغربي، ابن سعيد ،تحقيق د. هالة الهواري،مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية،ص:124
[49]– المصدر السابق،ص:176
[50]– المغربي، ابن سعيد ،تحقيق د. هالة الهواري،مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية،ص:127-128
[51]– المصدر السابق:50
[52] – المصدر السابق:68
[53]– الصمصام : السيف الصارم القاطع الذي لا ينثني.
انظر: ابن منظور،جمال الدين أحمد،لسان العرب، مادة :صمم.
[54]– هو عمرو بن معد يكرب،وقد سمى سيفه الصمصامة ،وقال عندما وهبه لأحد الخلان :
خليلٌ لم أخنه ولم يخني على الصمصامة السيف السلام
[55] – ابن الأبار،أبو عبد الله محمد القضاعي،الديوان،تحقيق د. عبد السلام الهراس،مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية،المملكة المغربية،ص:380
[56] – هموع :همع الدمع والماء أى سال،ابن منظور،جمال الدين،لسان العرب،دار صادر،مادة همع .
[57]– تركس : من الارتكاس أي الارتداد،ويقال ركست الشىء أي رددته.
انظر : ابن منظور،جمال الدين أحمد،لسان العرب،دار صادر،مادة ركس.
[58]– المغربي، ابن سعيد،تحقيق د. هالة الهواري،مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية،ص:56
[59]– الرُّندي،أبو البقاء،الديوان،تحقيق د. حياة قارة،مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية،ص: 205
[60] – المصدر السابق :202
[61]– المقري،شهاب الدين أحمد،نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب،ج :2/664
[62]– ابن الأبار،أبو عبد الله محمد القضاعي،الديوان،تحقيق د. عبد السلام الهراس،مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية،المملكة المغربية،ص:186
[63]– المغربي،ابن سعيد ،تحقيق د. هالة الهواري،مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية ،ص:176
[64] – المصدر السابق،ص:53