
الخيال الشعري لدى الدكتور الوزير جنيد: دراسة جمالية
Poetic imagination by Dr. Waziri Junaidu; an Artistic research
الدكتور ناصر أحمد صكتو، قسم اللغة العربية، جامعة عثمان بن فودي ، صكتو – نيجيريا
Dr. Nasser Ahmed Sakto, Department of Arabic Language, Uthman Ben Foudi University, Sikto, Nigeria
بشر مالمي ساعي، طالب الماجستير ، قسم اللغة العربية، جامعة عثمان بن فودي ، صكتو – نيجيريا
Bisher Malmi Master student Department of Arabic Language, Uthman Ben Foudi University, Sikto, Nigeria
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 50 الصفحة 143.
المستلخص:
هذا المقال المعنون بــ “ الخيال الشعري لدى الدكتور الوزير جنيد: دراسة جمالية” يهدف إلى تقديم رؤية عن مقدرة الشاعر على استحضار الصّور الرائعة في شعره وروعة لغته التصويرية. تناول الشاعرَ من حيث النشأة والتعلم وعوامل تكوين شاعريته، وأوضح من خلال ذلك أنّ الشاعر ترعرع في بيت علم وثقافة إسلامية، كما عاش في بيئة مكتظة بالعلماء اللغويين والأدباء البارعين. وقد ترك ذلك كله أثرا إيجابيا في تكوين شخصية الشاعر. ثم سرد الحديث عن دراسة الخيال لغة واصطلاحا، كما تطرق إلى الدراسة التطبيقية للخيال في شعر الوزير جنيد. ويستنتج من الدراسة أنّ الشاعر استخدم الصور البيانية الحية مما يوحي إلى مدى مقدرته التعبيرية التي مكنته من التشخيص والتمثيل والتجسيد للمعاني المجردة، وتحويلها إلى أشخاص، وذوات الأجسام تحس وتتحرك، وتعي وتفهم وتدرك كل ما يدور حولها. وذلك ليسهل الصعب وليقرب البعيد إلى ذهن القارئ.
الكلمات المفتاحية: الأدب العربي النيجيري، الشاعر الوزير جنيد، جودة اللغة التصويرية.
Abstract
The paper entitled “poetic imagination by Dr. Waziri Junaidu; an Artistic research” is aiming to introduce the vision about the poets ability in bringing the exceptional imagination in his poem as well as his beauty in his visualized language. The research discussed the growth study and the factors that brought about the poetic development of the poet. The paper also explained that the poet raised in the house of Islamic education and densely populated environment with proficient lexicologists and writers. All these factors left behind a positive impact in the formation of poet’s personality, therefore, the paper deals with technical and literal meaning of fictitious study in Waziri Junaidu’s poem. The research concludes that the poet used a lively pictures revealing the extent of his expressional ability which enable him to personify, represent the abstract meanings and change them to people and other living things that feel, move and understand what goes around them, in a view of simplifying the complex and drawing the distant closer to the mind of the reader.
Key Words: Nigerian Arabic Literature, the Poet Waziri Junaidu, Quality of Imaginative language.
المقدمةالحمد لله أهل الحمد والثناء، والصلاة والسلام على النبي القائل: “إن من الشعر حكمة”([1]) ثم الرضا عن آله المشهود لهم بالسبق في حلبة الفصاحة، وأصحابه الفائقين في مناهج البيان مجازا وكناية وصراحة، ومن تبعهم بإحسان السلوك إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنّ الشعر العربي من أبلغ المؤثرات في إيقاظ الشعوب وبث روح الحياة والحركة فيها، لأنّ الشاعر ضمير الأمة المتكلم بلسانها والمعبّر عن آمالها وآلامها. وكان الخيال الخصب هو مصدر الصورة الرائعة ترسمها مخيلة الشاعر، والفضاء الأرحب من الواقع، وأشدّ وقعاً في نفس القارئ، لأنه كلما كانتْ داعية إلى التحليقِ في سماء الخيالِ كان وقعُها في النفسِ أشدّ، ومنزلتُها في البلاغة أعلَى. وهو يبرز مدى تمكّن الشاعر من صناعته الشعرية بما يمتلكه من قوة الملكة اللغوية التي تنفذ إلى معان جمالية رائعة.لذا اهتم النقاد بالخيال الأدبي اهتماما بالغا قديما وحديثا، حيث يمثل عنصرا مهما من العناصر الأدبية، وهو أكثرها قدرة على التعبير عن العواطف، يعتمد على قوة التذكر وتداعي المعاني على الذهن بسهولة، ويلوّنها ثم يبث فيها حياة وحركة، ويلقي عليها ظلا جميل المنظر ليجعل القارئ يتمثّل مشهدا منظورا كأنه يراه ويعاينه، والغاية من تشكيل هذه الصور؛ التأثير في الوجدان، وتنشيط القارئ، أو التخفيف من ألمه إن كان متألما، كما يسهّل الصعب ويقرّب البعيد ويكثّر القليل ويكبّر الصغير ويصغّر الكبير ويوضّح الغامض ويجسّد المعاني التي يريد الكاتب أن يقنع بها القارئ وتطرب لها نفسه.
لقد كان للشاعر الوزير جنيد ذكاء خارقا وقوة بيانية عالية وقدرة في اقناع القارئ بروعة خياله وسمو عاطفته وقيمة أفكاره، وهو من أشهر الشعراء تأثيرا على مجتمعه النيجيري، يتكلم بلسانهم ويعبّر عن آمالهم وآلامهم. وقد استطاع الشاعر أن يصوّر المعاني في ذهنه ويجسدها ثم يصوغها صياغة فنية رشيقة، فصبّ عليها خياله وعاطفته الحساسة ليعرضها للقارئ في ألوان مجنّحة من صنعة الخيال المتصرف في ملكات النفس والشعور، كي يخيل للقارئ أنه أمام منظر سينيمائي جذاب يشاهد ما يعبر عنه الشاعر أو يجسده من المعاني الخلابة خلال المجازات اللطيفة، مما يشهد على جودة اللغة التصويرية لدى الشاعر، لأنّ ما يبتكرهُ الشعراء من الصور الّتي تأخذُ بمجامع الأفئدة، وتملك على القارئ والسامع لبَّهما وعواطفهُما هو سرُّ الخيال.
انطلاقا من هذا، جاء هذا المقال ليقدّم رؤية عن مقدرة الشاعر الوزير جنيد على استحضار الصّور الرائعة في شعره وروعة لغته التصويرية، بعنوان: “الخيال الشعري لدى الدكتور الوزير جنيد: دراسة جمالية”. ذلك لأنّ الشاعر أنتج وأجاد، فأحسن الصياغة، وصور المعاني خلال تلك المجازات اللطيفة، فبرزت منها قوة الخيال، وسيتضح ذلك – إن شاء الله – من المقالة. وتتكوّن المقالة من العناصر الآتية:
- حياة الشاعر
- مفهوم الخيال الشعري
- الخيال الشعري لدى الشاعر
- الخاتمة
حياة الشاعر
هو العلامة الأديب الأريب المحرر المؤرخ أمير المصالح ووالي النصائح وزير صكتو الحاج الدكتور جنيد بن العالم الكبير والمصلح الشهير الوزير محمد البخاري بن أحمد بن الوزير عثمان غطاطو بن أبي بكر سمبو ليمن الفلاني رحم الله الجميع آمين. ([2])
ولد الدكتور الوزير جنيد في مدينة صكتو عام: 1906م، بعد سيطرة الاستدمار البريطاني على الدولة الصكتية الإسلامية بثلاث سنوات، توفي والده و هو طفل.([3]) نشأ الدكتور الوزير جنيد يتيما وكانت رعايته منتقلة من يد إلى أخرى كما سبق.([4]) وبدأ تعلمه في الكتاتيب بدأ بالمبادئ الإسلامية وتلقى القرآن من الإمام عبد القادر بن أبي بكر المدرس في مسجد أمير المؤمنين محمد بلو وختم عنده القرآن الكريم قبل الثانية عشر من عمره، وكذلك تعلم منه المبادئ في الفقه، والتوحيد. واستمر في تحصيل، وقرأ بعض الكتب المقررة في الدراسات الإسلامية. فكان ينتقل من عالم إلى عالم آخر ومن متخصص إلى متفنن.
ومن هؤلاء العلماء المعلم يحيى بن الوزير إبراهيم الخليل والقاضي يحيى بن عبد القادر، وأخذ من الوزير عبد القادر والعالم المشهور بمَالَمْ بُوبِى، والعالم الفلاني الذي هاجر من جمهورية مالي المسمى: الشيخ ألفا نوح، وتعلم على العالم عثمان المعروف بمَالَمْ شيخ نَلِيمَنْ، وقد اتصل الوزير جنيد بكثير من العلماء وحضر مجالسهم وأخذ العلم منهم. ([5])
وقد نشأت الاتجاهات العلمية والأدبية تنطوي على يد رجال ينتمون إلى المدرسة الفودية والدكتور الوزير جنيد من أكثرهم وأبرزهم في العلم صيتا وقد تميز هذا البطل بخصائص ومميزات بسبب تأثره بالأدب العربي وخاصة في عصريه الجاهلي والعباسي وبسبب التأثر بجانب من حياة علماء الجهاد أحيانا أخرى حتى أمكن اعتباره مدرسة مستقلة وإن كانت اتجاهاته لا تخرج من أصول الاتجاهات الفودية الكبرى. والوزير جنيد عميد الأدب العربي، والشاهد على ذلك أقواله في أشعاره، والجدير بالذكر هنا أن الوزير جنيد تعلم اللغة الفلاتية وأتقنها إتقانا جيدا وهذا ما أتاح له أن يؤلف كتبا في هذه اللغة وكما له اتجاه إلى إحياء التراث الإسلامي واهتم بإخراج المخطوطات من أعمال علماء الجهاد وهو أول من أسس مكتبة فائقة وهي فيما يحتاج الباحث إليها إذ جمعت كل مجهودات قام بها العلماء والأدباء في العصر الحديث لنشر التراث العربي والإسلامي القديم.([6]) وقد حصل الوزير جنيد على الجوائز والمنح كثيرة .
ولوزير جنيد طلاب كثيرون من حيث أنه يدرسهم العلوم العربية والثقافة العربية الإسلامية وكما كان ينفق أوقاته مع الطلاب والعلماء الوافدين إلى بلد صكتو وقراها والذين يأتون من نواحي شتى وغيرهم يدرسون الفنون والعلوم الإسلامية والثقافة العربية الإسلامية كما كان يفتي لهم الفتاوي، وقد أصبح الدكتور الوزير جنيد منقطع النظير في عصره، وقد استخرج من مدرسته أجلاء من جهابذة العلماء في مدينة صكتو وخارجها وكما استفاد من علومه عدد كبير من الطلاب والباحثين.
ومن هؤلاء الطلبة الذين أخذوا منه العلم محمد أكُورا إمام مسجد أمير المؤمنبن محمد بلو، ومالم بوصيري محمد بلو غِلْغِلْ قوفر مَركي صكتو، وحاكمي([7]) عباس غطاطو صكتو وكذلك مالم محمد الخرشي بن الشيخ غِلْغِلْ قوفر مركي صكتو، والشهيد عمر حمزة طَنْ مَيْشِيّا([8]) غطاطاوا صكتو والوزير الأستاذ الدكتور سمبو والي جنيد ومالم إبراهيم غندي وكلاهما من أبنائه، وكذلك من طلابه أيضا مالم عبد الله جَاتَوْ المعلم المشهور والمفسر في مسجد أمير المؤمنين محمد بلو صكتو وقد أخذ منه الدكتور إبراهيم الدسوقي أمير المؤمنين العلم.([9])
وفاته: توفي الوزير جنيد يوم الخميس صباحا1/9/1417م عن احدى وتسعين سنة قضاها في خدمة العلم ونشر الثقافة العربية الإسلامية.([10])
مفهوم الخيال الشعري
الخيال في اللغة مؤخوذ من “خالَ الشيءَ يَخالُ خَيْلاً وخِيلة وخَيْلة وخالاً وخِيَلاً وخَيَلاناً ومَخالة ومَخِيلة وخَيْلُولة إذا ظَنَّه”([11]) ويأتي لمعان كثيرة، منها تحرك وتلوّن، ومنه “السحاب الذي إِذا رأَيته حسبته ماطراً ولا مَطَر فيه”.([12]) والخَيال “خَشَبة عليها ثياب سود تُنْصب للطير والبهائم على المزروعات لتظنه إِنساناً”([13]) ومن ذلك “الشخص والطَّيْف”([14]) وأصله: “ما يتخيّله الإنسان في منامه لأنّه يتشبّه ويتلوّن”([15]) ومنه قوله تعالى”قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى”([16]) أي: يخيل للناظر- من شدة سحرهم- أن هذه الحبال والعصى حيات تسعى على بطونها باختيارها، مع أنّها حيلة،([17]) وتطلق اللفظة ويراد بها “صورة تمثال شيء في المرآة”.([18]) و”الخَيال لكل شيء تراه كالظِّل”([19])
والخيال عند النقاد هو “الصور التي يختلقها العقل ويؤلفها من إحساسات سابقة”([20]) وهو “قوة تتصرف في المعاني لتنتج منها صورا بديعية”([21]) وهذه القوة” إنّما تصوغ الصور من عناصر كانت النفس قد تلقتها من طريق الحس أو الوجدان”([22])
وتلتمس من السابق ما للمدلول اللغوي والاصطلاحي لكلمة الخيال من العلاقة الوطيدة، إذ يفهم من الأولى التشبه والتمثال والتصور مع شيء من التحرك والتلوّن، بينما يدرك من الثانية أنّه صور من المعاني الحيّة يختزنها العقل ثم يجسدها أمام القارئ حتى تثير مشاعره وأحاسيسه وتربط عالم الشعور بعالم الإدراك.
الخيال الشعري لدى الدكتور
ولمّا كان الكلام المشتمل على صور من المجازات الرائعة أروع مشهدا وأحسن موقعا في القلوب والأسماع، وأشد تأثيرا في النفوس فإنّ الشاعر الدكتور الوزير جنيد صاغ المعاني في شعره صياغة فنية رشيقة تهب المعنى المجرد شكلا حسيا يمكّن حواس الإنسان من التفاعل معها تفاعلا إيجابيا، فصبّ عليها خياله وعاطفته الحساسة ليعرضها للقارئ في ألوان مجنّحة من صنعة الخيال المتصرف في ملكات النفس والشعور. والغاية عنده من تشكيل هذه الصور الفنية المبدعة تقريب البعيد وتسهيل الصعب، وتوضيح الغامض من المعاني التي يريد أن يقنع بها القارئ وتطرب لها نفسه، مما يدل على تمكن الشاعر في فنهم الأدبي وسلامة لغته التصويرية ذلك لأنّ من أصل المجازات والتشبيهات والاستعارات والكنايات التوضيح.
ومن نماذج الخيال الشعري لدى الشاعر قوله يرثي أستاذه الشيخ أبا بكر بُوبِي، يقول الشاعر في بحر الطويل:
أَثَارَ هُمُومَ الْعَيْنِ بَعْدَ هُدُوِّهَا ** مَصَائِبُ كَادَتْ أَنْ تَحُلَّ عُرَى الصَّبْرِ
كانت هموم الشاعر وأحزانه كثيرة غاية من فقد أستاذه الشيخ أبي بكر بُوبِي، فخيّل أنّ المصائب نازلة عليه من كل جانب، فجسد هذه المصائب في صورة أناس ومنح لهم قوة منقطعة النظير ليصارعون بها الصبر ويقضون عليه. ثم جسد الصبر ومنح له قوة يقاوم بها تلك المصائب، تَصوّرْ هذا المشهد كيف تكون هذه المعركة في هذا الموقف؟!
يروّعك من سرد الشاعر هذه المعاني في شكل سينمائي جذاب، وكأنّ القارئ أمام شاشة تلفاز يشاهد هذه المقاومة الحزينة حيث عجز الصبر عن مقاومة تلك المصائب وانكسر قلبه وتخربت أركانه! ياتُرى!! هل من ناصر ينصره؟!!! وتظهر الحلاوة في النظم حيث اختار الشاعر صيغتي جمع الكثرة “هموم” و”مصائب” ليدل بالأولى على كثرة الخطب وشدته، وجمع التكسير في الثانية يدلّ على عظم ما أصابه وانكسار ركن صبره وإظهار ضعفه لأجل هذه المصائب المحيطة به من كل جانب.
استطاع الشاعر أن ينتقل بالقارئ إلى عالم التيه والحيرة الذي لم يعايشه من قبل، واستنّ له مشاركته في الشعور والوجدان، ثم أردف ما أصابه بما يلائمه بقوله:” كادت أن تحل عرى الصبر”دلالة على عظم ما أصابه وذعره! وإظهار ضعفه. ولِـمَ لاتضعف قوته وقد نزلت عليه هذه الداهية؟!! ألا وهي فقد شيخه الذي عايشه ليل نهار؟!!! وما أشبه حال الشاعر بقول محمد بن يسير:
وَلتُلْفَيَنَّ إذا رَمَتْكَ بسهمها أيدي المصائب منك غيرَ صبور([23])
ومما أجاد الشاعر الدكتور الوزير جنيد في هذه الظاهرة قوله في بحر الطويل يرثي أستاذه أبابكر بُوبِي رحمه الله:
وَلَا بُدَّ أَنْ تَعْشى الْعُيُونُ تَحَيّرًا ** لَقَدْ غَرُبَتْ شَمْسُ الْفَضَائِلِ بِالسّحرِ
وَلَابُدّ أَنْ تَسْوَدَّ أَقْطَارُ أُفْقِنَا ** لَقَدْ غَابَ بَدْرُ الْأُفْقِ يَاظَلْمَةَ الْقَمَرِ
وَلَابُدَّ أَنْ تَزْوَرَّ خَوْفًا قُلُوبُنَا ** لَقَدْ هُدَّ رُكْنُ الْحِصْنِ يَاخيفةَ الضَّيرِ
وكلمات:” غربت شمس الفضائل بالسحر” و ” غاب بدر الأفق” و ” هُدّ ركن الحصن”كلها استعارات، وقيمة هذه الاستعارات في إيجازها وقوة تصويرها، يصرح فيها الشاعر ما للمفقود من الخصال الحميدة، حيث شبهه بشمس الفضائل بجامع نفع الأمة في كل منهما، وهو بدر الأفق في ظلمة الليل بجامع الإشراق في كلٍّ، وكأنّ الشاعر متحير في ظلمات بعضها فوق بعض من فقد فقيد الإسلام والمسلمين بعد أن كانت آفاق الشعب مشرقة رائعة لما قام به المرثي عنه من نشر العلوم الدينية واللغوية قبل وفاته، لذلك كان الشاعر في تيه وخوف من هذه المصيبة التي تخفق بها القلوب وترتعد بنزولها المفاصيل وتخرب أركان الحصن من أجلها!
تظهر الجودة من هذه الصنعة، في تصوير الشاعر المصيبة من فقد هذا الشيخ باللون الأسود الممتدّ في الأقطار السماوات والأرض من الليل المليئة بالأهوال والمخايف وانسحاب الضياء الممتدّ من الشمس المليئة بالحركة والنشاط. وا حسرتاه! ويا طول بكائه!! كأنّ الشاعر في هذه الحالة يتمثّل بقول امرؤ القيس حيث يقول:
وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سدولهُ عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي ([24])
وكقول بشار
خليلى ما بال الدجى لا تزحزح وما لعمود الصبح لا يتوضح
أضل النهـــــــــــار المستنير طـــــــــــــريقه أم الدهر ليل كله ليس يبرح([25])
ومن صور الخيال الشعري الرائع لدى الشاعر استعماله التشبيهات الرائعة في مقامها، وتلمس هذا من قوله:
وطار عقول عن صدور كأنّها طيور أطارتها الصقور عن الوكر
أبدع الشاعر في تصوير المعنى، حيث عقد المماثلة بين العقول التي طارت من أصحابها ذعرا ولوعة من فقد شيخها وبين الطيور التي أزعجتها الصقور القاتلة وأطارتها عن منازلها خوفا من نفسها، ياترى! تصور جيدا هل تلمس صورة الخوف والتيه والدهشة في الموقف؟!!
ومن روائع الخيال عند الشاعر قوله:
وسالت دموع عن عيون كأنّها إلى النّحر ميزاب يصب على النّهر
والشاعر في تيه وحيرة يذرف الدموع ويصور ما ألّم به من الهموم والأحزان من فقد شيخه أبي بكر بوبى، وشبّه مجرى دموعه بميزاب الماء ثم شبه كثرة هذه الدموع بماء النهر الفياض، واستعمل صيغة جمع الكثرة في كلمتي”دموع” و”عيون” دلالة على كثرة سيلان هذه الدموع وشدة انهمارها، واستخدم الجملة المضارعية في كلمة “يصب” دلالة على استمرار سيلان الدموع والأحزان من فقد هذا الشيخ الكريم. وهل هناك فزع وحزن أشدّ من أن تتحول العيون نهرا من الدموع الدفّاقة؟
ومن جودة اللغة التصويرية لدى الشاعر قوله:
وذابت قلوب من لظى الهم والأسى كما ذاب من جمر اللظى قطعة التبر
فتصوير ذوب القلوب من تحرق الهم والأسى بذوب قطعة الذهب في جمرات اللظى تصوير في غاية الروعة والجمال، ذلك لأنّه دال على شدة ما يتألم به الشاعر من المصيبة التي ألمّت به، فشبّه حالة القلوب المحترقة من نيران الهم والأسى بحالة احتراق المعدن النفيس بنيران الحدادين، وعقد المماثلة بين الصورة المعنوية وهو احتراق القلب وبين الصورة الحسية وهو احتراق المعدن النفيس بنيران الحدادين عن طريق الخيال لينتقل بالقارئ من العالم المعنوي إلى العالم الحسي. ثم استعماله جمع الكثرة في قوله:”ذابت قلوب” دلّ على نجاح الشاعر في نقل المستمعين إليه خلال نغماته الحزينة إلى عالم الهم والحيرة فشاركهم في الأحاسيس والانفعالات.
ومن الخيال الخلاب لدى الشاعر استخدام الكناية للتعبير عن معنى لايريد الافصاح عنه، وتتمثل هذه الكناية في قول الشاعر:
ونوحي على مأى الضيوف رحيمهم وكهف اليتامى ذي السلامة في الصدر
وقوله: “مأى الضيوف” كناية عن الكرم وسعة الصدر، و”وكهف اليتامى” كناية عن السلامة واللطف والرحمة وحسن المعاشرة، لكنّ الشاعر عدل عن التصريح بهذه الصفات إلى الكناية عنها، ويريد الشاعر أن يبين كرم الممدوح في كثرة استعداد الطعام للضيوف، لأنه يستلزم من كثرة الضيوف كثرة القرى والكرم، كما أنّه يلزم من كون الممدوح كهفا لليتامى أن يكون كفيلهم وراحما لهم .
وهذه الكناية هنا كانت أبلغ من التصريح لأن في تشبيه الممدوح بمأوى الضيوف وكهف اليتامى من العظمة والإكرام ليس في تعيينه باسمه، إذ أنه قد يستصغره بعض الناس لكنه بهذه الكناية أضفى عليه شيئا من الوقار والهيبة.
ولما كان كل تركيب من هذين التركيبين قد كني به عن صفة لازمة لمعناه كان كل تركيب منهما كناية عن الصفة.
فالشاعر في البيت يبكي وينوح، ويذرف دولاب الدموع والدماء، يستعظم المصيبة التي ألمّت بهم من فقد هذا الركن العظيم، فهي داهية ألمّت على الشعب كله، من فقد مقري الضيوف وكفيل اليتامى والمساكين، وموصل الرحم مع ما عليه من أثقال الدعوة والتدريس.
الخاتمة
تلك جولة بسيطة عن “الخيال الشعري لدى الدكتور الوزير جنيد: دراسة جمالية”. حيث تناولت حياة الشاعر ثم عرضا سريعا عن مفهوم الخيال المعجمي والاصطلاحي ثم تطرقت إلى إبراز الصور الخيالية الفنية الرائعة لدى الشاعر، وتبين من خلالها أنّ الشاعر الدكتور الوزير جنيد صاغ المعاني في شعره صياغة فنية رشيقة تهب المعنى المجرد شكلا حسيا يمكّن حواس الإنسان من التفاعل معها تفاعلا إيجابيا، فصبّ عليها خياله وعاطفته الحساسة وعرضها للقارئ في ألوان مجنّحة من صنعة الخيال المتصرف في ملكات النفس والشعور. والغاية عنده من تشكيل هذه الصور الفنية المبدعة تقريب البعيد وتسهيل الصعب، وتوضيح الغامض من المعاني التي يريد أن يقنع بها القارئ وتطرب لها نفسه، مما يدل على تمكن الشاعر في فنهم الأدبي وسلامة لغته التصويرية. وأنّ الصور الخيالية في الانتاج الأدبي القيم بمثابة القلب في الجسد.
وقد سبق أنّ هدف المقالة إبراز الخيال الشعري لدى الدكتور الوزير جنيد، والرجاء أن يتحقق الأمل في السطور المتقدمة.
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
الأصفهان، أبو الفرج، الأغاني، دار الفكر-بيروت، ط2، ج14
الإربلي، بهاء الدين، التذكرة الفخرية، مصدره: المكتبة الشاملة، الإصدار الأخير.
البخاري، محمد بن إسماعيل الجعفي:الحافظ، الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، تحقيق:محمد زهير بن ناصر الناصر،ط1، نشر دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)سنة1422م، ج8.
التونسي، محمد خصّر حسين: الأستاذ، الخيال في الشعر العربي، المكتبة العربية في دمشق، سنة: 1922م.
سمبو ولي جنيد: الأستاذ الدكتور، من نبوابغ الشعر العربي النيجيري عبد القادر مشطو، مخطوط، بلا تاريخ.
سيد طنطاوي، محمد، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة – القاهرة، ط1، مصدره: المكتبة الشاملة، الاصدار الأخير، ج9.
شوقي ضيف: الدكتور، في الأدب والنقد، دار المعارف، بلا تاريخ.
عبد العزيز عتيق: الدكتور، في النقد الأدبي، دار النهضة العربية، سنة:1972م.
أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي، الأمالي في لغة العرب، الجزأ الأول.
ابن فارس، أحمد بن زكريا، مقاييس اللغة، بتحقيق: أنس محمد الشامي، دار الحديث، القاهرة، سنة:2008م.
مقابلة مع مالم بلو سوقي غِطَاطَاوا يوم الأحد التاسع من شهر الله الحرم 1436:الهجري, الساعة الثانية عشر نهارا.
ابن منظور الأفريقي، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار صادر-بيروت، الطبعة الأولى بلا تاريخ، ج11.
مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، دار الدعوة، ج1، باب الخاء، مادة: خيل
ناصر أحمد صكتو، القيم الروحية في شعر الدكتور الوزير جنيد، بحث مقدم إلى جامعة عثمان بن فودي صكتو، قسم اللغة العربية، لنيل درجة الماجستير في اللغة العربية، سنة 2002م.
الوزير جنيد: الدكتور، عرف الريحان في التبرك بذكر الشيخ عثمان ومن اشتهر من أولاده، بلا مطبعة ولا تاريخ.
[1] البخاري، محمد بن إسماعيل الجعفي:الحافظ،الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، تحقيق:محمد زهير بن ناصر الناصر،ط1، نشر دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)سنة1422م، ج8، ص:34، رقم الحديث:6145
[2] سمبو ولي جنيد: الأستاذ الدكتور، من نبوابغ الشعر العربي النيجيري عبد القادر مشطو، مخطوط، بلا تاريخ، : ص: 8
[3] سمبو ولي جنيد: الأستاذ الدكتور، من نبوابغ الشعر العربي النيجيري عبد القادر مشطو، المرجع نفسه، والصفحة ذاتها.
[4] الوزير جنيد: الدكتور، عرف الريحان في التبرك بذكر الشيخ عثمان ومن اشتهر من أولاده، بلا مطبعة ولا تاريخ، ص:7
[5] الوزير جنيد: الدكتور، عرف الريحان في التبرك بذكر الشيخ عثمان ومن اشتهر من أولاده، المرجع نفسه، ص: 11
[6] الوزير جنبد: الدكتور، عرف الريحان في التبرك بذكر الشيخ عثمان ومن اشتهر من أولاده المرجع نفسه، والصفحة ذاتها.
[7] هي كلمة هوسوية، تعني:”الرئيس” أو “القيل”
[8] كلمة هوسوية مركبة من كلمتين: “طن” بمعنى “ابن”، ثم “ميشيا” بمعنى :”رئيس الحارة”
[9] مقابلة مع مالم بلو سوقي غِطَاطَاوا يوم الأحد التاسع من شهر الله الحرم 1436:الهجري, الساعة الثانية عشر نهارا.
[10] ناصر أحمد صكتو، القيم الروحية في شعر الدكتور الوزير جنيد، بحث مقدم إلى جامعة عثمان بن فودي صكتو، قسم اللغة العربية، لنيل درجة الماجستير في اللغة العربية، سنة 2002م، صفحة:22
[11] ابن منظور الأفريقي، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار صادر-بيروت، الطبعة الأولى بلا تاريخ، ج11، ص:226
[12] ابن منظور الأفريقي، محمد بن مكرم، لسان العرب، المرجع نفسه، والصفحة ذاتها.
[13] ابن منظور الأفريقي، محمد بن مكرم، لسان العرب، المرجع نفسه، والصفحة ذاتها.
[14] ابن منظور الأفريقي، محمد بن مكرم، لسان العرب، المرجع نفسه، والصفحة ذاتها.
[15] ابن فارس، أحمد بن زكريا، مقاييس اللغة، بتحقيق: أنس محمد الشامي، دار الحديث، القاهرة، سنة:2008م، ص:276، مادة: خيل.
[17] سيد طنطاوي، محمد، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة – القاهرة، ط1، مصدره: المكتبة الشاملة، الاصدار الأخير، ج9، ص:124
[18] مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، دار الدعوة، ج1، ص:411، باب الخاء، مادة: خيل
[19] ابن منظور الأفريقي، محمد بن مكرم، لسان العرب، المرجع السابق، والصفحة ذاتها.
[20] شوقي ضيف: الدكتور، في الأدب والنقد، دار المعارف، بلا تاريخ، ص:19
[21] عبد العزيز عتيق: الدكتور، في النقد الأدبي، دار النهضة العربية، سنة:1972م، ص:119
[22] التونسي، محمد خصّر حسين: الأستاذ، الخيال في الشعر العربي، المكتبة العربية في دمشق، سنة: 1922م، ص: 13
الأصفهان، أبو الفرج، الأغاني، دار الفكر-بيروت، ط2، ج14، ص:39[23]
[24] الإربلي، بهاء الدين، التذكرة الفخرية، مصدره: المكتبة الشاملة، الإصدار الأخير، ص:43
[25] أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي، الأمالي في لغة العرب، الجزأ الأول، ص:100