
نظرية التأثير، نحو تعددية تأويلية عند وولفغانغ أيزر
Theory of effect, toward a pluralistic interpretation at W.ISER
عمار أيت عيسى: طالب دكتورا ـــ جامعة عبد الرحمان ميرة ـــ بجاية ـــ الجزائر
Ammar AIT AISSA: PH D student-Université of Abd Raman MIRA-Bejaia-Algeria
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 50 الصفحة 131.
ملخص:تسعى هذه الدراسة إلى إماطة اللثام عن الأهداف الخفية التي تسعى إليها نظرية التأثير، التي يمثّلها وولفغانغ أيزر، وهي المهام الثانية لجمالية التلقي التي انفرد بها أيزر، بعد أن انفرد زميله ياوس بالمهام الأولى المتمثّلة في التلقي. وستعمل هذه الدراسة على كشف تلك النقلة النوعية التي سعى أيزر إلى ترسيخها في مجال تأويل الأعمال الأدبية، إذ سعى إلى نقل التأويل من الأحادية إلى التعددية، وذلك بتجاوز التوجّه النسقي الذي استأسد فيه النص الأدبي ومجّد لأحادية التأويل حين اعتبر المعنى مكنونا في النص نفسه وهذا الأخير يحقق اكتفاءه الذاتي، وعرض أيزر البديل بالتوجّه نحو تجسيد تعددية تأويلية انطلاقا من اعتبار المتلقي شريك للنص في بناء المعنى، متأثرا بذلك بالخلفية الفينومينولوجية التي بنا عليها نظريته.
الكلمات المفتاحية: التأويل، التلقي، التأثير، التعددية، المتلقي، أيزر.
Abstract :
This study seeks to uncover hidden goal sought by effect theory, presented by W.ISER, these are the second tasks of aesthetic reception, which was interested, after his colleague H.R.JAUSS was interested to the first tasks, which is receive.
This study will reveal also the qualitative shift that ISER sought to establish in the field of interpreting literary. He sought to move the interpret ion from unilateralism to pluralism, by bypassing the structural approach, which the text was solidified when he call for unilateralism. ISER was based in his goal to the philosophy of phenomenology, because he was influenced by it.
Keys words: Interpretation, Receive, Effect, Pluralistic, Receiver, ISER.
ـــ تمهيد:
انفرد أيزر بالمهام الثانية التي تحويها جمالية التلقي، حيث اتجه نحو الاهتمام بعنصر التأثير، بعد أن رأى زميله ياوس قد اهتم بالاستقبال أو التلقي، وفي هذا الصدد قال هولب أنّ ياوس اهتم بالكون الأكبر ويقصد به التلقي، في حين اهتم أيزر بالكون الأصغر المتمثّل في الأثر.
إنّ كل من ياوس وأيزر اتجها مبدئيا نحو تجاوز ما أسست له الدراسات النقدية السالفة، والتي كانت قد اهتمت إما بالمؤلف في مرحلتها الأولى ثم بالنص في المرحلة الثانية، ليأتي الثنائي بتوجّه جديد، يعيد الاعتبار للمتلقي الذي ظلّ منسيا طيلة عقود في الدراسات النقدية وكان ينظر إليه نظرة سلبية، ويهتم بتلك العلاقة التي تجمع النص بالمتلقي.
إلا أنّ هذا التوجّه المبدئي الذي سار عليه كل من ياوس وأيزر، سرعان ما أخذ ينحو نحو التشعّب، وذلك حين اختار كل واحد منهما مهاما واحدة يركّز جهوده عليها، «فبينما انتقل ياوس كباحث رومانسي بشكل أساسي نحو نظرية الاستقبال عبر اهتمامه بالتاريخ الأدبي، فإنّ أيزر كباحث في الأدب الإنجليزي، جاء من زاوية التفسيرية الموجهة للنقد الجديد ونظرية السرد»([1])، في خطوة نحو تحديد التخصص والالتزام بمهام واحدة فقط.
إنّ اللافت للانتباه في منهج كل واحد من الباحثين، أنّ أيزر ـــ وعلى خلاف زميله ياوس الذي أخذ يتحوّل في فكره ويجري تعديلات في مشروعه ـــ سعى إلى أن يتبنى توجها يخضع لنوع من التطور التدريجي، وذلك بتقديم متقن لمبادئه وآليات نظريته، بهدف بناء نظرية تحقق نوعا من التماسك، وبالتالي يصل في نهاية المطاف إلى بث مصداقية أكبر على نظريته.
لقد سعى أيزر إلى بناء نظرية التأثير، مؤكّدا بذلك العلاقة التفاعلية بين النص والقارئ كخطوة أولى، وذلك بالاهتمام «بسيرورة التفاعل القائم بين النص والقارئ من جهة، والتركيز من الجهة الأخرى على التمييز بين ما يعود إلى النص في هذه العملية وما يعود إلى أفعال التحقيق التي يمارسها القارئ»([2])، مؤكدا بذلك البعد الظاهراتي لنظريته، وما تفرزه من إعادة الاعتبار للذات التي تحقق الموضوع، متأثرا بذلك بصفة خاصة بأستاذه رومان إنجاردن.
أضف إلى هذا تأكيده لقضية أخرى، انبثقت من توجهه الظاهراتي، والمتمثّلة في تركيزه على دور فعل القراءة في تحقيق العمل الأدبي، والذي يناط بالقارئ، مؤكّدا بذلك ما أقرّه أنصار الظاهراتية حول دور الذات تحويل الأشياء إلى ظواهر، وكذلك ما ذهب إليه جون بول سارتر حين أقر بأنّ القارئ هو مصدر تحقيق النص وبدونه يبقى هذا الأخير مجرد خطوط سوداء.
كانت بداية التأسيس لنظرية أيزر بمقال نشره بعنوان، “بنية الجاذبية”، حيث بدأت أفكاره الثورية تتجلى فيه، وبدأ بذلك يضع أساس نظريا لنظرية التأثير، أين شدّد على نقطتين مركزيتين، وهما على التوالي، «اعتباره أن النص لا يحتوي على المعنى، بل الأحرى أنّ المعنى يتولّد من خلال عملية القراءة، ما يعني أنّ القارئ هو الذي ينتجه، أي أنّه طرف أو شريك فعّال فيه، أضف إلى ذلك موقفه من النصوص الأدبية، حيث رأى أنّها تبنى وفق شكل يتيح قدرا من الحرية للقارئ، وهو ما يسمح إلى حد ما بقدر ما بحرية التعدد في الإدراك»([3])، وفي هذا التوجّه أوّل خطوة نحو الاهتمام بالنص في حالة انفراد ضمن العلاقة التي يعقدها مع القراء، انطلاقا من ذلك التأثير الذي يمارسه عليهم، ولذلك نجد أيزر في إطار حديثه عن هذه الاستجابة، يفصل بين ما هو للنص نفسه وتدخلات القارئ، أي بين النص كبنية أنطولوجية ودور القارئ في تحقيق هذه البنية عبر ما يقوم به من إجراءات خلال القراءة.
إنّ هذا التوجّه الظاهراتي لنظرية أيزر، دفعه إلى أن يميل أكثر إلى تبني النظريات النصية، نظرا لما في هذه الأخيرة من قدرة على تشريح بنية النص، إلاّ أنّه يستثمرها دائما في إطار مشروع نظريته العام، أي أنّه لا يكتفي بها، بل يدمجها مع دور القارئ، لأنّ نظريته بالأساس مبنية على عنصر التفاعل، الذي يؤسس لعلاقة حوار بناء بين النص والمتلقي.
وفيما يلي مجموعة من القضايا، التي يمكن أن نتبيّن من خلالها حدود نظرية التأثير عند وولفغانغ أيزر، والتعددية التأويلية التي سعى إلى التأسيس لها:
1ـــ تجاوز التأويل الكلاسيكي:
اتضح لأيزر منذ بداياته الأولى، أنّ بناء نظرية نقدية تقوم على أساس جديد، أمر صعب، ذلك أنّ الأمر يستدعي كخطوة أولى، تجاوز بعض المسلمات التي أرستها النظريات النقدية التي سبقته، وبالتالي كان عليه أن يقيم الحجّة عليها، إذا أراد أن يتجاوز ذلك المنطق الذي يؤسس لها.
تمحور نقطة الخلاف بين نظرية أيزر والنظريات النقدية السابقة له، في نظرة كل واحدة منهما إلى قضية التأويل، حيث يبدوا أنّ أيزر يعارض طبيعة التأويل الكلاسيكي الذي قامت عليه النظريات النقدية التي سبقته، لذلك سعى إلى تجاوزه، من خلال تقديم اقتراح بديل، يرى أنّه الأجدر بالاهتمام، لأنّه سيفضي إلى نتائج أكثر دقة.
يرى أيزر أنّ نموذج التأويل الذي سبقه، يميل أكثر إلى تبني التفسير، وذلك لأنّ النظريات التي مثّلته لم تدرج الذات المتلقية ضمن اهتماماتها واعتبرتها ذات سلبية تكتفي بالقراءة فقط، في حين نظرت إلى النص بعين التقديس. وجاء هذا التوجّه من قبل أيزر وليدا للأثر الذي تركته الفلسفة الظاهراتية فيه، والتي دفعته إلى تبني فكرتها المركزية، قوامها أنّ الأشياء لا تصبح ظواهر إلاّ بفعل تدخل الذات، وكذلك النصوص لا تصبح أعمالا أدبية إلا بعد تدخل القارئ.
إنّ استبعاد هذه النظريات النقدية التي تعتمد التفسير، جاء وليد تأثرها بالفلسفة التي فصلت الذات عن الموضوع وأهملتها، لذلك رأت أنّ النص «مكتمل في ذاته وتحكمه قوانين داخلية، فهو إذن ظاهرة مستقلة عن الذات، ولا توجد قوى سابقة عليها في تشكيلها. وعلى وفق هذا، أصبح شكل الظاهرة هو معنى الظاهرة، لأنّ العلّة موجودة فيها، ويتحدد معنى هذا الشكل بواسطة الكيفيات التي يظهر بها»([4])، فيصبح معنى النص وفق هذا المنظور محمولا في ثناياه، أي كامنا فيه، لأنّ النص يحقق اكتفاءه الذاتي، ليقتصر دور الذات على استخراج هذا المعنى مباشرة.
إنّ أيزر لم يقتنع بهذا الطرح، بحكم توجهه الظاهراتي، حيث اعترض على إهمال الذات أولا، ثم على الحال الذي يصبح عليه النص بعد التوصّل إلى المعنى الذي يكتنزه، حيث سيصبح بلا قيمة، ولذلك بنا نظريته على أساس إعادة الاعتبار للذات كونها عنصرا فاعلا لا تقلّ أهميتها عن أهمية النص نفسه، لأنّ المعنى يتجلى بفعل التفاعل الذي يجمع النص بالمتلقي.
سار أيزر إذن على توجه جديد في التأويل، يقوم على تبني «مقاربة تعتمد على خبرات الذات في التعامل مع النص. إنّ دخول الذات طرفا في المعنى يعنى أنّ المعنى غير مكتمل داخل النص وإنّه ناتج عن الحوار الحاصل بين القارئ والنص»([5])، ليصبح هذا التحول الانتقالي عند أيزر، لا يقلّ أهمية عن ذلك الذي أحدثه ياوس متحديا النظرية الأدبية، عندما سعى إلى إعادة الاعتبار للمتلقي، في إطار بناء مشروعه الهادف إلى التأسيس لتاريخ أدبي جديد، يؤرخ للقراءات.
من أجل أن يدعم أيزر مسعاه هذا، استعان بمضمون إحدى الأعمال القصصية، التي تسير على نهج نظريته، وتتمثّل في قصة “الصورة في البساط” أو “الصورة في السجادة” للروائي هنري جيمس، والتي صدرت سنة 1896، حيث جعل أيزر مضمونها بمثابة مقدمة لكتابه “فعل القراءة (نظرية في الاستجابة الجمالية)”، أين سعى من خلالها إلى توضيح الانتقال الذي يسعى إليه في مجال التأويل، بعد أن وجد فيها مثالا جيدا، يمكن أن يؤيّد به طرحه حول التأويل، ويعترض بها أيضا على الطرح الكلاسيكي للتأويل الذي ذهبت إليه النظريات السابقة.
يقوم فحوى هذه القصة على معالجة قضية تجلي المعنى في النص الأدبي، وذلك انطلاقا من «مهام تكلّف بها الشخصية الرئيسية في القصة المتمثّلة في ناقد شاب، وتتمثّل هذه المهام في كتابة تقرير عن رواية ألّفها فريكير، إلى أن يحدث ويلتقي هذا الناقد الشاب مع المؤلف فريكير، فيقول له هذا الأخير أنّ نقده كان لطيفا، إلاّ أنّه يشبه عمل سابقيه من النقاد، فيتبين للناقد الشاب أنّ هناك خدعة في النص هي مفتاح القصة، وينبغي عليه أن يبحث عنها، فيسعى في ذلك رفقة صديقه كورفيك وخطيبة الأخير غويندولن. ومع مرور الزمن لا يتوصلون إلى نتيجة، فيسافر كورفيك للعمل في الهند، ومن هناك يراسل خطيبته عبر برقية يخبرها فيها أنّه توصّل إلى اكتشاف الخديعة وأنّه سيكشف عنها بعد الزواج، فيحول دون ذلك حادث سيارة يودي بحياته، كما ترفض غويندولن الإفصاح للناقد الشاب عن السر، فيسأل زوجها الثاني، فيجيبه أيضا بالرفض لأنّ زوجته رأت أنّه ليس من المناسب إخباره…»([6]).
اعتمد أيزر على هذه القصة، من أجل أن يدعّم وجهة نظره، ويبطل بها النموذج القديم للتأويل، وهذا الأخير ممثّل في هذه القصة بمذهب الناقد الشاب الذي بقي يتطلّع إلى اكتشاف المعنى، الذي يظنّه كامنا في النص، في حين أنّ المؤلف فيريكر نفسه نبهه عبر إشارات ضمنية حين قال له أنّ نقده لطيف إلاّ أنّه لا يختلف عن نقد سابقه من النقاد، إلى أنّ مسعاه يجعل من العمل الأدبي بعيدا من العملية التواصلية، أي أنّه يخرج العمل الأدبي من إطار التواصل.
إنّ هنري جيمس، بهذا الطرح الذي سجّله في قصته، كان بمثابة دعوة إلى مشروع جديد للتأويل، وذلك بالسعي إلى تجاوز الطرح الذي ذهب إليه أنصار التأويل القديم الذي يمثّلهم في القصة الناقد الشاب، والقائم بالأساس على النظر إلى النص باعتباره حاملا لمعناه في ثناياه، حيث يكون في هذه الحالة على الناقد أن يكتشف هذا المعنى فقط لينهي عمله. في حين رأى هنري جيمس أنّ هذا الطرح الأخير لم يعد يؤتي أكله، وينبغي تجاوزه وذلك بالسعي نحو تأسيس تأويل جديد.
لقد هدف أيزر من خلال استحضار قصة هنري جيمس “الصورة في البساط”، من جهة إلى الدفاع عن وجهة نظره التي يؤيّدها هنري جيمس، ومن جهة أخرى إلى استيضاح طبيعة الخلاف القائم بين التأويل القديم الذي يمثّله الناقد الشاب في القصة والتأويل الجديد الذي يدعوا إليه والذي حمل إشارات تلميحية من فيريكير، والذي تبناه أيزر هو الآخر.
وعلى هذا الأساس، عمل أيزر بداية على دحض توجّه الناقد الشاب الذي يمثّل التأويل في نسخته القديمة، القائم على جعل المعنى تصوري، وجاء مذهب أيزر هذا بعد أن أدرك خطورة التأويل القديم ومزالقه، على النقد الأدبي وعلى النص الأدبي نفسه، حيث لو أننا سلمنا سلفا أنّ المعنى مكنون في النص، فإنّ الناقد بمجرد ما يتوصّل إليه فلن يعود له دور، ومن جهة أخرى فإنّ النص يصبح خال من أي استقطاب للقارئ ما دام قد أفصح عن معناه.
بينما ينصب البديل الذي اقترحه أيزر والذي دعّمه بموقف هنري جيمس، على رد الاعتبار للمتلقي، وذلك حين يصبح المعني مع هذا التأويل الجديد، «حصيلة تفاعل بين تلميحات النص وفهم القارئ لها، حين يندمج النص والقارئ بهذه الطريقة في موقف واحد فإنّ الفصل بين الذات والموضوع يصبح غير ذي صلة، وبالتالي فإنّ المعنى لا يصبح موضوعا يتمّ تعريفه، بل تأثيرا يتمّ الخضوع له»([7])، وهذا الانتقال من نموذج تأويلي إلى آخر قائم بالأساس على رد الاعتبار لدور المتلقي الذي طالما بقي في الهامش مع النموذج التأويلي القديم.
إنّ قصة هنري جيمس “الصورة في البساط”، التي اعتمدها أيزر لتدعيم طرحه، تفتح الباب أيضا على قضية في غاية الأهمية برزت أيضا عند أيزر نفسه، ويتعلق الأمر بأحادية المعنى وتعدده، فهل للنص معنى واحد أو له عدة معاني؟
لقد مثّل الناقد الشاب التأويل القديم وفكرة أحادية المعنى، أي أنّ النص عند أنصار هذا التوجّه لا يتضمن إلاّ معنى واحد، يجب على القارئ أو الناقد الاجتهاد من أجل اكتشافه ما دام محمولا في النص، في حين يوجد توجه آخر ينادي بالتعددية، وهو الذي تبناه أيزر، وهو أيضا ما عمل فيريكير في القصة على التلميح إليه، بحيث ينظر إلى النص على أنّه يحمل إمكانيات متعددة للمعنى، حيث يعتبر المعنى بهذا المنظور نسبيا، إذ إنّ «قدرة المؤول على صناعة المعنى لا اكتشافه تعد مصدر حرية وقوة، لا بدّ من الاحتفال بها لا إنكارها»([8])، وذلك لما لها من فضل على الذات أولا، بحيث تجعلها عنصرا لا يقل أهمية عن النص، ولما لها من فضل على النص نفسه أيضا، وذلك حين تجعله حيا على الدوام، لا يمكن استنفاذ معناه، ما يعني أنّ القارئ يمكنه الرجوع إليه على الدوام.
2ـــ العمل الأدبي بين القطب الفني والقطب الجمالي:
إنّ تأثّر أيزر بالفينومينولوجيا، دفعه إلى تبني فكرتها القائمة على إعادة الاعتبار للذات، وجعل هذه الأخيرة عنصرا يؤطّر به مشروعه التأويلي، فحرص على الاهتمام بفعل الإدراك الذي يناط به المتلقي، بالقدر نفسه الذي يجب أن يهتم بالنص، ولذلك ذهب إلى تبني فكرة الثنائية القطبية، حيث قسم العمل الأدبي إلى قطب فني artistique وقطب جمالي esthétique، أما القطب الفني فهو يشير «إلى النص الذي أبدعه المؤلف، ويشير القطب الجمالي إلى الإدراك الذي ينجزه القارئ، وينتج عن هذه الثنائية القطبية أنّ العمل الأدبي لا يمكن أن يتطابق مع النص تماما أو مع إدراك النص، إنّما هو يشغل منزلة وسطا بين القطبين»([9])، فيكون العمل الأدبي بهذا المنظور أكبر من أن يكون نصا، ذلك أنّ هذا النص نفسه لا يتحقق إلى بفعل تدخل القارئ، كما لا يمكن أن يكون هذا العمل الأدبي أيضا إدراكا فقط، لأنّ الإدراك نفسه يستدعي وجود النص، ما يعني أنّ العمل الأدبي ينزل منزلة الوسط بين القطب الفني والقطب الجمالي، أي بين النص وإدراك القارئ.
إنّ هذه العلاقة التي تنشأ بين النص والمتلقي، أي بين القطب الفني والقطب الجمالي، هي النقطة التي تقع في الوسط بينهما، وهي بالتالي المكان الذي ينشأ فيه العمل الأدبي، حيث يكون هذا الأخير بمثابة نتيجة للقاء القطبين، لأنّ لكل قطب دور معين أو نشاط فاعل، يساهم به في تكوين هذا العمل، «فلا حقائق في النص، إنّما هناك أنماط وهياكل تثير القارئ حتى تصبح حقائق. وهذه الهياكل تهيئ مظاهر الحقيقية الخافية المخفية، ومن ثمة يقوم القارئ بتوحيد هذه المظاهر وتأليفها، ويعيد باستمرار بؤرة اهتمامه حتى يستطيع أن يكوّن فكرة شاملة. ومن سمات الأنماط والهياكل أنّها أشكال فارغة يصبّ فيها القارئ مخزونه»([10])، ليصبح المتلقي على هذا الأساس العنصر المفعّل للهياكل التي يحتويها القطب الفني المتمثّل في النص، بحيث يضع عناصره في إطار الحركة، كما يجد نفسه هو الآخر في حركة، عندما يستحضر مخزونه المعرفي ليواجه بها هياكل النص.
ليتجلى العمل الأدبي في نهاية الأمر، كنتيجة حتمية لهذا اللقاء الذي يجمع القطب الفني والقطب الجمالي، أين يدفع القطب الفني بكلّ ما يحمله من مظاهر تخطيطية ّالمتلقي للدخول معه في حوار، إذ يثير فيه قوى التخيّل، وعندما يشرع المتلقي في الاستجابة للنص، يبدأ العمل الأدبي بالخروج إلى الوجود، بوصفه نتيجة للقاء القطبين.
3ـــ اللاتحديد بين إنجاردن وأيزر:
لقد تأثّر أيزر أيّما تأثير بأستاذه رومان إنجاردن، ولذلك نرى أنّه غالبا ما اشترك الاثنان في الأطروحات نفسها، وغالبا ما كانت أفكار أيزر ما هي إلاّ امتداد لأفكار إنجاردن، وإن كان أيرز في العادة لا يترك ما يستمدّه من أستاذه على ما هو عليه، إذ يعمل غالبا على إثرائه وتطويره وفق ما يتماشى مع الأساس العام الذي يحكم نظرية التأثير الذي سعى إلى بنائها على أسس متينة.
يلتقي أيزر مع إنجاردن في الكثير من النقاط، ومن بين أبرزها قضية اللاتحديد، التي كان فيها لإنجاردن السبق، وذلك حين جعلها هذا الأخير عاملا أساسا في حديثه عن العمل الأدبي باعتباره عملا قصديا، وذلك طبعا في ظلّ التوجّه الفينومينولوجي الذي سار عليه، إلا أنّ أيزر هو الآخر وضع بين عينيه عنصر اللاتحديد وجعله قضية أساسية يدعم بها طرحه.
كي يوضّح إنجاردن قضية اللاتحديد في الأعمال الأدبية والتي تبناها، يبدأ أولا في التمييز بين طبيعة المواضيع، إذ يجعلها إما مثالية أو واقعية، إلاّ أنّه يستثني منها الموضوعات الفنية، والأدبية ما دامت جزءا من هذه الأخيرة، إذ يجعلها خارج هذا التصنيف الثنائي، حيث «يختلف العمل الفني عن هاذين النموذجين، وذلك لأنّه ليس محدد بشكل عام ولا مستقل، بل هو قصدي»([11])، وكون الأعمال الأدبية قصدية هو ما يجعل أماكن اللاتحديد تتخللها، وهذا اللاتحديد بدوره الذي يسم الأعمال الأدبية، هو ما يتيح لها أن تكون منفتحة من جهة، ومستعصية عن التحديد النهائي، مهما كان الجهد المبذول من أجل بلوغ هذه الغاية.
إنّ طرح إنجاردن يبدو أقل تعقيدا من طرح تلميذه أيزر، إذ يرى أن الأعمال الأدبية عادة ما تتخللها أماكن اللاتحديد، وهذه الأخيرة تعتبر عنده إحدى العوامل الأكثر تسببا في إحداث عنصر التفاعل بين النص والقارئ، إذ إنّ غياب التحديد يدفع القارئ إلى التدخّل، وذلك من أجل تحقيق العمل الأدبي، وهذا لا يحصل إلاّ بعدما يقوم المتلقي بملئ هذا اللاتحديد، بهدف إحداث اتساق في النص كان غائبا قبل أن يلج المتلقي عالمه ويتصرف إلى حد ما فيه.
إنّ الطرح الذي ذهب إليه إنجاردن يعيد الاعتبار للقارئ، بحيث يجعله شريكا في تكون معنى النص، إلاّ أنّه يجعل «من عملية اللقاء بين القارئ والنص تسير في اتجاه واحد، أي من النص إلى القارئ فحسب»([12])، ما يعني أنّ إنجاردن من جهة يشيد بضرورة تدخل القارئ، وذلك لكون اللاتحديد محفزا لذلك، إلاّ أنّ هذا التفاعل قصير المدى، ما دام يجعل القراءة تسير في اتجاه واحد، أي من النص إلى المتلقي، مما يعني تقليل فاعلية المتلقي.
لا ينكر أيزر فضل إنجاردن عليه، خاصة في مسألة اعتبار الأخير الأعمال الأدبية موضوعات قصدية، وجعل اللاتحديد من مميزات هذه الأخييرة، وهي بالتالي تفسح المجال لإشراك القارئ في تحقيق هذه الأعمال الأدبية، وذلك انطلاقا من تدخلاته من أجل استكمال هذا اللاتحديد.
إلاّ أن أيزر يعيب على أستاذه طريقة فهمه للاتحديد الذي يتخلل الأعمال الأدبية، وجعله عملية القراءة تسير في اتجاه واحد من النص إلى القارئ، وهذا في نظر أيزر تقليل من أهمية القارئ نفسه، أي «لم يكن التحقيق بالنسبة لإنجاردن تفاعلا بين النص والقارئ، بل كان مجرد تحيين للعناصر الكامنة في العمل. ولهذا السبب لا تؤدي مواقع اللاتحديد عنده إلاّ إلى إتمام غير دينامي في مقابل عملية دينامية»([13])، وهذا الذي ذهب إليه إنجاردن حول دور اللاتحديد في التفاعل، ينفي أن يكون اللاتحديد مرتبطا بمفهومه التواصلي الشامل حسب أيزر.
اتجه أيزر إلى تجاوز الزلة التي وقع فيها أستاذه إنجاردن، الذي جعل من عملية القراءة تسير في اتجاه واحد، أين جعل دور القارئ مقصورا على ملئ الفجوات التي تتخلل الأعمال الأدبية، بحيث عمل أيزر على التأسيس لفعل التواصل بمفهومه الشامل والحقيقي، والذي يجمع القارئ والنص من خلال مفهوم اللاتحديد، حيث ستصبح عملية القراءة معه تأخذ مسارا حواريا تبادليا، أي تصبح تسير من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص.
يصبح اللاتحديد مع أيزر، عائقا أمام القارئ، وفي الآن نفسه يكون عاملا للربط بين أجزاء النص، إذ إنّ «أجزاء النص المختلفة ونماذجه ينبغي أن تكون مترابطة حتى إذا لم يقل النص نفسه ذلك. فهي المفاصل اللامنظورة للنص، مثلما أنّها تفصل المخططات والمنظورات النصية بعضها عن بعض، وهي التي تحثّ على نحو متزامن على أفعال التخيّل من ناحية القارئ»([14])، فينتقل بالتالي اللاتحديد إلى أن يصبح وفق هذا المنظور يشيّد مفهوما جديدا للتواصل والتفاعل بين النص والقارئ، وبالتالي تسير القراءة من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص، أي تأخذ مسارا مزدوجا من حيث الاتجاه.
بالإضافة إلى هذه النقلة النوعية التي أحدثها أيزر في مجال حديثه عن اللاتحديث من حيث تفعيله أكثر لدور القارئ، يعتبر أيضا أن اللاتحديد عاملا أساسا في اختلاف التأويلات، ذلك أنّ القراء لا يتعاملون بالطريقة نفسها مع الفراغات وهم بصدد ملئها، وذلك لكون «المدرك يتسم بالفعالية وليس السلب في فعل الإدراك، وآية ذلك أحجية البطة ـــ الأرنب الشهيرة، حيث المدرك وحده هو الذي يقوم بتوجيه تشكل الخطوط ليحدد ما إذا كانت بطة تنظر صوب اليسار أو أرنبا يتطلّع صوب اليمين»([15])، في إشارة واضحة إلى مكانة القارئ في ظل نظرة أيزر إلى مواقع اللاتحديد، ودوره في تفعيلها وفق منظوره ورؤيته الخاصة، التي يبقى فيها مرتبطا بمخططات النص، لذلك مع أيزر يبقى للمتلقي دور لا يقل أهمية عن دور النص، إذ إنّه سيؤثر بالضرورة في تحقيق النص، وبالتالي في الشكل الذي سيتّخذه معناه.
4ـــ بناء الذات:
إنّ التوجّه الفينومينولوجي الذي بنا عليه أيزر نظريته، دفعه إلى الاهتمام بالذات القارئة بالقدر نفسه الذي اهتم فيه بالنص، حيث نظر إلى ثنائية الذات والموضوع في إطار مشروع القراءة، فجعل الذات ممثّلة بالقارئ في حين جعل الموضوع ممثلا بالنص، ورأى أنّ تجلي الظاهرة باعتبارها هنا العمل الأدبي يقتضي تفاعل القارئ بالنص، وذلك من أجل تحقيق هذا الأخير، وهذا ما دفعه في نهاية الأمر كما أسلفنا القول إلى جعل العمل الأدبي يتموقع بين القطب الفني المتمثّل في النص والقطب الجمالي المتمثّل في عملية الإدراك التي يقوم بها القارئ.
انطلاقا من هذا التوجّه الذي تبناه أيزر، راح «يركّز على تشريح القراءة ذاتها كفعل وخاصة علاقة النص بالقارئ أي بالذات القارئة»([16])، حيث فصل بين ما هو للنص من جهة وما هو للقارئ من جهة أخرى، مع النظر في تلك العلاقة التي تنتج عن لقاء الطرفين، وذلك باعتبار عنصر المعنى في نهاية الأمر ما هو إلاّ نتيجة لهذا اللقاء، وبالتالي يعتبر بناء يُشيد.
أما بالنسبة للقطب الفني المتمثّل في النص، فإنّه يبقى على الحال نفسه أي أنّه يحتفظ بالبنية نفسها، مع أنّ دلالات هذه البنية تتغير بمرور الزمن، في حين أنّ الذات القارئة، فبالإضافة إلى ما تفرضه أثناء عملية القراءة، أي توجيهها لعملية القراءة انطلاقا من خصوصياتها، فإنّ عملية القراءة أيضا لها أثر على هذه الذات القراءة، بمعنى أنّ لقاء القارئ مع ما يمليه النص من مظاهر تخطيطية، إذ إنّ هذه العملية التفاعلية التي تجمع القارئ بالنص، والتي تهدف في النهاية إلى «بناء الموضوع الجمالي لن تكون بدون تأثير على الذات القارئة»([17])، وهذا التأثير الذي يمارس على الذات القارئة، يحصل في الوقت نفسه الذي يبنى فيه المعنى.
ويمكن القول أنّ أثر صيرورة القراءة على القارئ يأخذ مجريين أساسين حسب أيزر، فمن جهة يتمكن القارئ من معرفة ذاته أكثر ويكشف عن ثناياها، ومن جهة أخرى يتمكّن القارئ من تعديل بعض الرؤى التي ترسّخت عنده من قبل. أما فيما يخصّ الأثر الأوّل، فإنّها الغاية القصوى من القراءة على حد قول أيزر، وتتمثّل في كونها تقودنا إلى وعي أعمق بذاتنا، أضف إلى ذلك تشكيل رؤية لهوياتنا، وهذا لأنّ تعرّض الذات القارئة إلى تجارب جديدة التي تخوضها مع النصوص، يمكّنها من التعرّف أكثر على إمكاناتها وطبيعة الوعي الكائن في أعماقها، وذلك بفعل اللقاء بينها وبين العناصر التي تحملها هذه التجارب والتي لم تكن قد تعوّدت عليها.
في حين يكون الأثر الثاني، متمثّلا في التعديل الذي تحتّمه القراءة على القارئ، حيث إنّه «حين يعدّل القارئ النص بواسطة إستراتيجيته في القراءة، فإنّ النص ـــ بالمقابل ـــ يعدّل القارئ في الوقت نفسه، فيرد على أسئلة القارئ بجواب لم يكن يتوقعه»([18])، حيث تدفع تجربة اللقاء هذه القارئ إلى تبنى رؤى نقدية جديدة تجاه وعيه، وهو ما يسمح له بمناقشة بعض المسلمات، التي ظلّت راسخة عند.
يصبح في نهاية الأمر، فعل بناء معنى النص الذي يكون حصيلة للتفاعل الذي يجمع القارئ بالنص، يحدث في الآن نفسه الذي تحدث فيه عملية بناء الذات القارئة، فأثناء صيرورة القراءة يبنى المعنى وتبنى الذات أيضا.
5ـــ الرواية جنسا أنموذجيا للتطبيق:
إن أيزر عندما أخذ يروّج لنظريته، وجد في الجنس الروائي دعامة أساسية لتشييد نظريته، وذلك من خلال التطبيق على الرواية باعتبارها جنسا أدبيا الذي يتناسب مع أطروحاته، وذلك من أجل تفعيل أطروحاته ونقلها من حيز التنظير إلى مجال التطبيق، ولا شك أنّ المُطلع على منجزاته النقدية، يجد أنّه في غالب الأحيان لما يتحدث على الأدب يقصد بصيغة غير مباشرة الأعمال السردية وبصفة خاصة الرواية.
لجأ أيزر في الغالب الأعم للتمثيل بالرواية، وعيا منه بما تتيحه هذه الأخيرة، بالنظر لكونها عملا سرديا يعتمد على الحكي أو القص بالدرجة الأولى، وهذا الأخير يفسح المجال لتحقيق عنصر التفاعل بين القارئ والنص، باعتبار عنصر التفاعل الأساس الذي احتفت به نظرية التأثير.
ليؤكّد أيزر فاعلية الجنس الروائي، وتماشيه أكثر من غيره من الأجناس الأدبية الأخرى، مع الطرح الذي يذهب إليه والأطروحات التي طورها، يقيم مقارنة بسيطة بين الرواية باعتبارها عملا فنيا إبداعيا يتجلى عبر اللّغة والفيلم باعتباره عملا فنيا يجمع بين الصوت والصورة، وذلك في سبيل الحديث عن دور الرواية في تفعيل عنصر الخيال لدى القارئ وبالتالي التفاعل معه.
ولكي يزيد من فاعلية مثاله، يختار أيزر رواية “توم جونز” التي حوّلت إلى فيلم، ويحاول التوصّل إلى طبيعة تفاعل المتلقي مع كلا النموذجين، ويركّز بصفة خاصة على إحدى الجزئيات، ويتعلّق الأمر بإدراك المتلقي لصورة البطل في كل من الرواية والفيلم، فيجد أنّ القراء عندما «يقرؤون رواية “توم جونز” قد لا يكون لديهم تصور واضح عن حقيقة البطل، لكن عند مشاهدة الفيلم الذي يصور هذه الرواية، فربما يقول بعضهم: “إنّ االبطل يبدوا على غير ما تخيّلته”. والنقطة الأساسية هنا هي أنّ قارئ رواية “توم جونز” قادر على تصور البطل بالقياس إلى نفسه، وبذلك يشتمل خياله على عدد كبير من الإمكانيات، وفي اللّحظة التي يتم فيها تضييق الإمكانيات إلى صورة واحدة كاملة وثابتة، فإنّ الخيال ينطفئ ونشعر بأننا كنّا مخدوعين»([19])، إنّ هذا المثال يوضح بصفة جليّة دور القارئ عندما يتعلّق الأمر بالرواية في تكوين صورة عن البطل عبر تفعيل خياله والأخذ بعين الاعتبار ما ورد في المتن من معلومات، وهذا بدوره يوسّع من عدد الإمكانيات التي يمكن أن تختلف على أساسها صورة هذا البطل بين قارئ وآخر، في حين عندما يتعلّق الأمر بالأنموذج الثاني المتمثّل في الفيلم، فإنّ المتلقي يجد نفسه أمام صورة للبطل مكتملة يتبناها مباشرة، أي أن هذه الصورة تأتيه مفروضة عليه، فيجد بذلك نفسه بعيدا عن إعمال خياله ليشكّل هذه الصورة كما كان الحال عندما قرأ الرواية.
يتضح الآن أكثر من خلال المثال السالف، المجال الذي تفسحه الرواية للقارئ كي يتفاعل مع مظاهرها التخطيطية ويفعّل خياله من أجل أن يكوّن صورة غائبة. بالإضافة إلى هذا الدور المنوط بالقارئ المجسد في المثال، يبقى «فعل تكوين الصورة الذي ينجزه خيالنا هو فعالية واحدة فقط من مجموع فعاليات نقوم من خلالها بتكوين صيغة كلّية لنص أدبي ما»([20])، أضف إلى ذلك كل ما يقوم به القارئ من إجراءات تخييلية، تنبع من طبيعة اللاتحديد التام الذي يسم الأعمال الأدبية وبصفة خاصة الرواية، وذلك بهدف تحقيق اتساق في النص، وهذه الفرصة التي تمنح للقارئ في الآن نفسه تفسح له المجال للاختلاف مع غيره من القراء، وهو ما ينتج في النهاية تعددية التأويل، على أساس الاختلاف في طبيعة العملية التخييلية من قارئ إلى آخر.
ـــ خاتمة:
يتبيّن لنا في النهاية أنّ جمالية التلقي، التي كانت وليدة مدرسة كونستانس الألمانية، حملت في طياتها مجموعة من الأطروحات التي تبناها روادها، والتي كانت عاملا حاسما في تطور النظرية الأدبية، حيث عملت على إعادة الاعتبار للقارئ الذي ظلّ منسيا طيلة عقود مع النظريات والمناهج النقدية التي سبقتها، ولقد حوت جمالية التلقي اتجاهين، اتجاه مثّله هانس روبرت ياوس وآخر مثّله وولف غانغ أيزر، إلاّ أنّ الأمر لا يتعلّق بفصل الأوّل عن الثاني فكلاهما يهتم بالتلقي، بل يتعلّق الأمر فقط بتوزيع المهام فيما بينهما.
اهتمت نظرية التلقي التي مثّلها ياوس بالتلقي الأكبر، في حين اهتمت نظرية التأثير بالتلقي الأصغر، حيث راح هذا الأخير يبحث في المهام الثانية لجمالية التلقي والمتمثّل في الأثر، فجعل من المعنى بناء يكون حصيلة لتفاعل القارئ مع النص، ولذلك نراه نقل التأويل من مرحلة كان ينظر فيها إلى المعنى باعتبارها كامنا في النص إلى مرحلة جديدة يصبح فيها المعنى حدثا يقع موقعا وسطا بين القطب الفني المتمثّل في النص والقطب الجمالي المتمثّل في عنصر الإدراك المنوط بالقارئ، على هذا الأساس كان قارئه افتراضيا ضمنيا أي كان بنية نصية، ليفتح أيزر بهذا العملية التأويلية على تعدديتها، حيث تنبع هذه الأخيرة من تفرد كل قارئ على آخر، وتفرد كل قراءة على أخرى.
ـــ المصادر والمراجع: حرى مستمدّة من نننننننن
1ـــ بول ب أمسترونغ: القراءات المتصارعة (التنوع والمصداقية في التأويل)، ترجمة وتقديم فلاح رحيم، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، لبنان، ط1، 2009.
2ـــ جاسم حميد جودة: جمالية العلامة الروائية، دار الرضوان للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1، 2014، ص33.
3ـــ رامان سلدان: النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط1، 1998.
4ـــ روبرت سي هولب: نظرية الاستقبال (مقدمة نقدية)، ترجمة رعد عبد الجليل جواد، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سورية، ط1، 2004.
5ـــ عبد الكريم شرفي: من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة (دراسة تحليلية نقدية في النظريات الغربية الحديثة)، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، الجزائر، ط1، 2007، ص181.
6ـــ عبد الله أبو هيف: النص المترجم والمنهج (نظرية التلقي أنموذجا)، مجلة الآداب العالمية، عدد 142، سورية، 01 أفريل 2010.
7ـــ مجموعة من المؤلفين: القارئ في النص (مقالات في الجمهور والتأويل)، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، تحرير سوزان روبين سليمان وإنجي كروسمان، دار الكتب الجديدة، بيروت، لبنان، ط1، 2007.
8ـــ مجموعة من المؤلفين: ضمن كتاب نظرية التلقي (إشكالات وتطبيقات)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الرباط، المغرب، ط1، 1993.
9ـــ مجموعة من المؤلفين: ضمن كتاب نقد استجابة القارئ (من الشكلانية إلى ما بعد الحداثة)، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، ط1، 1999.
10ـــ مجموعة من المؤلفين: ضمن موسوعة كومبريدج في النقد الأدبي، (من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية)، الجزء 08، ترجمة مجموعة من المؤلفين، تحرير رمان سلدان، المشرف العام جابر عصفور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، ط1، 2005، ص489 ص490.
11ـــ محمد عزام: نظرية التلقي مجلة البيان الكويتية، عدد 330، الكويت، 01 يناير 1998، ص43.
12ـــ وليام راي: المعنى الأدبي (من الظاهراتية إلى التفكيك)، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، دار المامون للترجمة والنشر، بغداد، العراق، ط1، 1987.
13ـــ وولف غانغ أيزر: فعل القراءة (نظرية جمالية التجاوب في الأدب)، ترجمة حميد لحمداني والجيلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، فاس، المغرب، ط1، 1995، ص12.
14ـــ وولف غانغ أيزر، فعل القراءة (نظرية في الاستجابة الجمالية)، ترجمة عبد الوهاب علوب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، ط1، 2000.
[1] ـــ روبرت سي هولب: نظرية الاستقبال (مقدمة نقدية)، ترجمة رعد عبد الجليل جواد، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سورية، ط1، 2004، ص143 ص144.
[2] ـــ عبد الكريم شرفي: من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة (دراسة تحليلية نقدية في النظريات الغربية الحديثة)، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، الجزائر، ط1، 2007، ص181.
[3] ـــ روبرت سي هولب: مدرسة كونستانس، ترجمة محمد بريري، ضمن موسوعة كومبريدج في النقد الأدبي، (من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية)، الجزء 08 ، تحرير رمان سلدان، المشرف العام جابر عصفور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، ط1، 2005، ص489 ص490.
[4] ـــ جاسم حميد جودة: جمالية العلامة الروائية، دار الرضوان للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1، 2014، ص33.
[5] ـــ جاسم حميد جودة: جمالية العلامة الروائية، ص34.
[6] ـــ ينظر: فولفجانج إيسّر، فعل القراءة (نظرية في الاستجابة الجمالية)، ترجمة عبد الوهاب علوب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، ط1، 2000 من ص 09 إلى ص15.
[7] ـــ فولفجانج أيسر: فعل القراءة (نظرية في الاستجابة الجمالية)، ترجمة عبد الوهاب علوب، ص15.
[8] ـــ بول ب أمسترونغ: القراءات المتصارعة (التنوع والمصداقية في التأويل)، ترجمة وتقديم فلاح رحيم، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، لبنان، ط1، 2009، ص09.
[9] ـــ فولفجانج أيزر: عملية القراءة (مقترب ظاهراتي)، ضمن كتاب نقد استجابة القارئ (من الشكلانية إلى ما بعد الحداثة)، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، ط1، 1999، ص113.
[10] ـــ عبد الله أبو هيف: النص المترجم والمنهج (نظرية التلقي أنموذجا)، مجلة الآداب العالمية، عدد 142، 01 أفريل 2010، سورية، ص38.
[11] ـــ وولف غانغ أيزر: فعل القراءة (نظرية جمالية التجاوب في الأدب)، ترجمة حميد لحمداني والجيلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، فاس، المغرب، ط1، 1995، ص12.
[12] ـــ ينظر: وليام راي: المعنى الأدبي (من الظاهراتية إلى التفكيك)، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، دار المامون للترجمة والنشر، بغداد، العراق، ط1، 1987، ص43.
[13] ـــ فولفغانغ أيزر: فعل القراءة (نظرية جمالية التجاوب في الأدب)، ترجمة حميد لحميداني والجيلالي الكدية، ص112 ص113.
[14] ـــ وولف غانغ أيزر: التفاعل بين النص والقارئ، ضمن كتاب القارئ في النص (مقالات في الجمهور والتأويل)، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، تحرير سوزان روبين سليمان وإنجي كروسمان، دار الكتب الجديدة، بيروت، لبنان، ط1، 2007، ص135.
[15] ـــ رامان سلدان: النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط1، 1998، ص165.
[16] ـــ عبد العزيز طليمات: فعل القراءة بناء المعنى وبناء الذات (قراءة في بعض أطروحات ولفغانغ أيزر)، ضمن كتاب نظرية التلقي (إشكالات وتطبيقات)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الرباط، المغرب، ط1، 1993، ص159.
[17] ـــ عبد الكريم شرفي: من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة (دراسة تحليلية نقدية في النظريات الغربية الحديثة)، ص216.
[18] ـــ محمد عزام: نظرية التلقي مجلة البيان الكويتية، عدد 330، الكويت، 01 يناير 1998، ص43.
[19] ـــ وولفغانغ أيزر: عملية القراءة (بعد ظاهراتي)، ضمن كتاب نقد استجابة القارئ من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية)، ص124 ص125.
[20] ـــ المرجع نفسه، ص125.