
الحب كمعبر إلى الانعتاق.. قصيدة “ريتا والبندقية” لمحمود درويش نموذجا
د.عزيز بويغف– كلية الآداب والعلوم الإنسانية / الرباط – المغرب
Love as a passage to liberation Rita and the rifle poem as a model by Mahmoud Darwich
Aziz Bouyghf – phd in medern literature.
Regional Academy for Training and Education of Ouarzazate – Morocco
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 50 الصفحة 61.
ملخص:
يعد المنجز الشعري للشاعر الفلسطيني محمود درويش منجزا زاخرا بالمعاني والدِّلالات العميقة، إنه منجز مُتجدِّد لا يأفل ولا يخفت، وكلما ظن المتلقي أنه تمكن من ضبط عوالم هذا المنجز إلا وانفلت ليفصح عن مكنونات أخرى دفينة. وقد شكلت قصيدة “ريتا والبندقية” ضمن هذا المنجز لمحة فارقة عكست آفاق الانعتاق والكشف والولادة الجديدة، كما شكَّلَت وثيقة ملحمية أماطت اللثام عن معاناة الإنسان الفلسطيني في سبيل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، لقد احتفت بالحب في أسمى تجلياته، احتفت بهذا الإحساس النبيل، واتخذته سبيلا إلى إماطة اللثام عن قلق وجودي يعيش الشاعر في خضمه، خاصة حين ووجه إخلاصه ووفاؤه لـــ “ريتا” بالجحود.
الكلمات المفتاحية: شعر، انعتاق، حب، أمل، ألم، انكسار، احتراق، تجدد، قيم إنسانية
Abstract:
The poetic work of the Palestinian poet Mahmoud Darwish is rich in meaning and signification. This work is renewed and does not fade away or die down. The more readers think they can grasp the worlds of this work, the more it escapes them, showing other implicit ideas.
The poem”Rita and the rifle” is considered, in the work of the poet, a unique instance reflecting horizons for liberation, uncovering and a new birth. It is also the document in an odyssey to uncover the sufferings of Palestinians so as to regain their dignity, freedom and social injustice.
The poem celebrates love in its noblest manifestations. It celebrates this noble feeling and uses it as a means to uncover an existential unease the poet goes through especially when his loyalty and faithfulness to “Rita” is faced with ungratefulness.
تقديم:
ثمة عوامل تجعلنا نقف مليا عند التجربة الشعرية للشاعر الفلسطيني محمود درويش، منها ما يتصل بمكوناتها الإبداعية وتشكُّلاتها، ومنها ما يتصل بتيماتها وبالقضايا التي تحمل بين دفتيها، ما يجعلها علامة مائزة ضمن المنجز الشعري العربي الحديث والمعاصر. إننا إزاء تجربة متفاعلة مع سياقات مختلفة، تاريخية واجتماعية وسياسية، تجربة تحاول استحضار الذات في علاقتها بالآخر، فتمتح من عوالم الرؤيا لتميط اللثام عن الواقع الكائن، ثم لتنفتح على الممكن والمأمول، فتضعنا أمام متن كله كشف واستشراف.
والمتأمل في مُنجز الشاعر يلفِيه منجز قضيةٍ، منجز أدب ملتزم لطالما عبر عن آهات الإنسان، ولطالما عكس عذاباته في صور امتاحت من معين التراجيديا والحزن الدفين، إنه متن يُمَسْرِحُ الحياة فيضفي عليها مُسَحًا ملحمية تتغنى بالوطن والذات والجمال، متن ينبش في وجودية الإنسان وما يعتمل في وجدانه من إحساسات وخلجات.
ومن الجدير بالذكر أن تجربة الشاعر انفتحت على قضايا الإنسان الفلسطيني إن في الوطن أو في الشتات، فأضحى متنه وثيقة حملت بين طياتها قضايا مصيرية عادلة، وقيما إنسانية نبيلة، فتحت منجزه على الأدب الإنساني الكوني، إذ يتحول الإنسان في شعره إلى بؤرة وجود، فيصدح صوت المظلومين، ويرتفع لواء النضال والكفاح.
زاوج الشاعر في متنه بين عدة تيمات جعلت قصيدته معبرا إلى اليقين أحيانا، وإلى الحيرة في أحايين أخرى، حيث الشك والتأمل قِوام التجربة، فتستحيل القصيدة عنده جلبة كلها إيحاء وترميز نُشدَانًا للتسامي، ورغبةً في الغوص في عوالم الرؤيا، فيلهج بالانعتاق النداء، ويتماهى المرئي في اللامرئي، فتَتوَحَّدُ العاطفة والخيال واللغة معلنة ولادة جديدة، وخلاصا من قيود ثقافة متجاوزة.
وضمن هذا المنجز الغزير للشاعر، نجد قصيدة “ريتا والبندقية”، والتي يمكن عدُّها قصيدة كشف وتجدُّد، قصيدة تحرُّر وانعتاق من كل القيود والمواضعات الاجتماعية التقليدية، لقد انفتحت على قيم إنسانية خالدة، واحتفت بالحب رغم اليأس والانكسار. إنها وَمْضَةٌ تجاوز فيها محمود درويش كل المحرمات، وقرر أن يخوض مغامرة مختلفة، قَرَّرَ أن يحب في زمن الحظر، أن يعانق حبه بعيدا عن واقعه المأساوي، أحبَّ “ريتا” الفتاة اليهودية الفاتنة، أحبها رغم القهر والظلم، رغم اغتصاب الأرض وسرقة الأحلام، أحلام الفلسطينيين التواقين إلى الحرية واستعادة الأرض، وصون المقدسات. إن حب درويش لريتا هو خط انعتاق، انعتاق أولا من كل التقاليد التي كانت ترى في الارتباط بفتاة يهودية خيانة للقضية، ثم ثانيا انعتاق تمثل في خوض الشاعر لتجربة الحب الصادق، وتشبثه بهذا الحب حتى آخر رمق، رغم الهجران والجحود، ورغم تخلي “ريتا” عنه لتنخرط في صفوف الجيش الإسرائيلي، لقد استجابت لنداء الانتماء إلى الصهيونية عوض أن تستجيب لنداء الحب الصحيح، استجابت لنداء الحرب والبندقية عوض أن تستجيب لنداء الأمل والحياة.
لا غرو إذن، أن الشاعر خاض تجربة الحياة (حبه لريتا) والتي استحالت في الأخير تجربة موت (البندقية)، إنه موت رمزي فلسفي، اتخذه الشاعر سبيلا للانبعاث والانعتاق، سلك الشاعر سبيل العشق والهيام، سبيل الحُلم، ليكتشف أن كل آماله تحوَّلت إلى أوهام. لقد انهدم كلّ ما بناه أمامه في رمشة عين، ليصدح فؤاده بالآهات والأنَّات، إنها آهات الولادة الجديدة، حيث ينفض الشاعر عنه غبار الواقع المر، ويتحول إلى طائر فينيق يحرق نفسه ليبعث الربيع، يختار الشاعر خط النضال والمقاومة ويكرس جهده ومنجزه الشعري لخدمة قضيته الأولى، قضية الوطن والأرض، كما يكرس منجزه ليدافع عن كل المهمشين والمحرومين في كل مكان.
وسنحاول في هذا المقال الغوص في ثنايا قصيدة “ريتا والبندقية” بما تحمله هذه الأخيرة من دِلالات ومعانٍ لا تنضب، جسَّدت بحق تيمة الحب كقيمة إنسانية وجودية خالصة للذات، وكنسق مستحيل التحقق أحيانا، ثم كمسلك إلى الانعتاق والتحرر والتشبث بالأرض والوطن.
ريتا والبندقية/ من الحب إلى ألم الخذلان
لا غرو أن قصيدة “ريتا والبندقية” لمحمود درويش، قصيدة زاخرة بالإيحاءات والرموز والدِّلالات العميقة، إن عوالمها كُوة تفتح عيون المتلقي على قيم إنسانية مقدسة، لقد عكست صراعا فارقا بين الحب والخذلان، وبين الوفاء والجفاء، فأعلنت ميلاد ذات اكتوت بنار الجحود، وظلت رغم ذلك تبحث عن ملاذها متوسلة تارة بالعزلة، وتارة بالتأمل في أعماق الذات، وتارة أخرى باستحضار الماضي وذكرياته الوردية. إننا بصدد قصيدة عمل فيها الشاعر على “تعميق لمحةٍ من اللَّمحات، أو تقديم نظرة شاملة وموقف من الحياة يفسر الماضي ويشمل المستقبل”[1].
اتسمت قصيدة الشاعر بمنحنيات عدة، وخطوط متشابكة، ما أضفى على النص حركية ودينامية ضَمَّها بين دفتيه، فعكس معاني الانعتاق والتجدُّد، كما عكس أيضا معاني الاغتراب والضياع والتمزق والاضطراب الداخلي.
إنّ درويش يرجو من أشعاره أن تتحول إلى وسيلة للرفض والمقاومة، وأنْ تكون منجلا في يد كادح، وبندقية في يد مقاتِل، يرجو الشاعر أن تكون كلماته فخرا لوطنه، وأن تكون صوت غضب ينشده المناضلون، لقد حَوَّلَ قصيدته إلى جَدَلِيَّةٍ “تحمل رؤى مكثفة ذات دِلالات متعددة ومنفتحة على تأويلات مختلفة”[2]، إن الشاعر في قصيدته يحملنا إلى عوالم بعيدة حين يُفلسف المعاني، وحين يتوسل بشعرية الجملة حتى يبني آفاق قصيدته. يقول:
بين ريتا وعيوني.. بندقيهْ
والذي يعرف ريتا ، ينحني
ويصلي
لإلهٍ في العيون العسليّهْ!
.. وأنا قبّلت ريتا
عندما كانت صغيره
وأنا أذكر كيف التصقتْ
بي، وغطّت ساعدي أحلى ضفيره
وأنا أذكر ريتا
مثلما يذكر عصفورٌ غديره[3]
وضعنا “درويش” في هذا المقطع أمام ثنائية لها دِلالات عميقة، هي ثنائية الحب والحرب، ثنائية الأمل والألم، لقد صَوَّرَ لنا في المقطع أحلامه، ماضيه مع “ريتا”، هيامه بها، وعشقه الأسطوري لها. لقد أماط اللثام عن جراحات لا تندمل، عن آهات أراد لها الانعتاق، أراد لها الانفلات من ربقة الحصار لتطل بعمقها إلى العلن، إنها جراحاته وعبرها جراحات الإنسان الفلسطيني في كل مكان. رأى الشاعر في “ريتا” الأنثى الحلم، رأى فيها الحب النقي الصافي الذي جعله يبني في قصيدته عوالم مُتجدِّدة بعيدا عن كل انتماء عرقي أو ديني، لقد هام الشاعر بـمحبوبته هياما إنسانيا قيميا.
هكذا أعلن الشاعر انطلاق سفره الوجودي بحثا عن ولادة جديدة، وبحثا عن لحظات بوح يعلن فيها من خلال القصيدة عشقه الفلسفي وروحانيته المفعمة بالأمل، وهُيامه بمحبوبة أَسَرَتْهُ وهَزَّت كِيانه، قبل أن تأخذ القصيدة منحى آخر بظهور البندقية في المقطع، بما تحمله من دِلالات تنحو منحى الحرب والموت والدمار.
جعل الشاعر القصيدة تأخذ زخما جديدا كله مآسٍ وآلام، صوَّر لنا الشاعر كيف انكتم صوت الحب، وكيف استحال ذاك الإحساس النبيل أَلَمًا تراجيديا، وكيف تحول المشهد خوفا ورهبة بعد أن كان لحظة هيام وحب، واللافت أن البندقية جاءت نكرة في المتن عكس العنوان (بين ريتا وعيوني.. بندقية)، كما أن الخبر في السطر تقدم ليتأخر المبتدأ ولتفصل بينهما نقاط تنهي الحلم بالحقيقة، وتعلن تفجير ما اعتمل في دواخل الشاعر من إحساسات، إنَّ النَّفَسَ الشعري لمحمود درويش “يموج بالسطور التي تنقل المعاناة ونتائج المأساة الأليمة بكل أبعادها، فهذه المأساة حلقة من صراع الإنسان المسحوق، ليأخذ دوره الذي يستحق في الحياة وفي نشاطه البشري. إنه لا يصمت، وشعره ليس معزولا عن الناس، لأنه يعتقد بأن الصمت المفروض من جانب العدو يساوي الموت، وهو كالسيف الذي يجرحه”[4].
لا شك إذن أن “ريتا” التي هام بها الشاعر، لم تكن أبدا أنثى عادية، إنها محراب يقف عنده درويش، ينحني ليغترف من حياض كلها غنج ودلال، يدنو لينهل من عيون عسلية آسرة، هي كُوة وواسطة بينه وبين إلهه المعبود. إننا إزاء لحظة تسامٍ حيث يرتفع النداء، ويعلو الصدى في الميادين معلنا ولادة تجربة بهية، تجربة انفتحت على الوجدان والذات في حيرتها وقلقها، لتسدل الستار عن نبوءة الشاعر في اختلافها وتفرُّدِها.
أضحت قصيدة درويش صفحة تعكس حقيقة الفلسطيني العاشق للحرية، المُؤمن بقيم الحب والخير. لقد كشف في قصيدته عن علاقته بــــــ”ريتا” الصغيرة الحالمة، “ريتا” التي عشقها عشقا أسطوريا، ريتا التي قَبَّلَ وَحَضَن وهو يحضن فيها الإنسانية والإخاء والتسامح، لقد أحبَّ فيها الإنسان بعيدا عن كل انتماء ديني أو عرقي، لقد شَكَّل الشاعر ريتا تَشْكِيلًا جديدا مفتوحا على تأويلات عدة، فريتا صغيرة، وعيناها عسليتان، وضفيرتها عنوان جمال، إنها غضة بهية بريئة، هي رمز عنفوان ونقاء وصفاء، هي تلك الأنثى الحلم التي آمن الشاعر بها، وقرأ في ارتباطه بها وجودية مائزة تقوم على الثقافي والجمالي، إنها في غنجها ودلالها بؤرة انعتاق وكشف، لذلك يستحيل الشاعر أمامها عصفورا حالما ملتصقا بغديره الذي يعني له الحياة، كل الحياة.
إن الغدير في المقطع – بكل حمولاته الدلالية – يرمز إلى السكينة والطمأنينة، إنه ملجأ العصفور، عمقه الذي لا يعي وجوده إلا بين عوالمه، هو مُستقره بعد رحلة السفر والمغامرة بحثا عن معان أخرى للحياة. تضعنا بذلك القصيدة أمام صورتين تمتح كل منهما من الأخرى، فالعصفور صورة الشاعر، والغدير صورة “ريتا” الأنثى الحلم التي أثارت في وجدان الشاعر بؤر توتر قيمي وجمالي.
إننا إزاء بلاغة مائزة نهلت من جماليات المشابهة أسسها، فأضحى السفر عبر آفاق القصيدة سفرا أنيقا بلا شط ولا ضفاف، أضحت “ريتا” “درويش” آية رقي جمالي، أحبها الشاعر بعيدا عن كل المواضعات الاجتماعية، بعيدا عن كل وثوقيات الشرق التقليدية، وبعيدا عن كل انتماء أيديولوجي، فاستحال الشاعر صورة لانعتاق الشرقي من أتون الأصولية المتزمتة.
لكن ريتا ورغم عشق البدايات، فضَّلت ركوب أهوائها، والانسياق وراء انتمائها الديني والعرقي، والذي لا يعني إلا الوفاء للمرتكزات التي قامت عليها إسرائيل، ما حَطَّمَ أماني الشاعر وهيامه بها، لتأخذ القصيدة بعد ذلك منحى آخر، منحى عكس فيه الشاعر آلامه وعذاباته، يقول:
آه .. ريتا
بيننا مليون عصفور وصوره
ومواعيد كثيره
أطلقتْ ناراً عليها.. بندقيّهْ[5]
هكذا حَوَّلَ الشاعر فضاء القصيدة إلى آهات، هي آهات شوق وعشق، وحسرة وألم وحزن، هي آهات الضياع والاغتراب والتمزق. إننا إزاء ثنائيات تبرز القلق الوجودي الذي يعيشه الشاعر، وهو قلق عرَّى الكائن واحتفى بالممكن المأمول، بَيَّنَ الحقيقة ورصد خفوت الحلم.
إن العصفور والصور والمواعيد هي بُؤر تجدُّد، هي أمارات أمل وانعتاق، بينما النار والبندقية هي ومضات انكسار الشاعر واستفاقته من حلم أضحى في نهاية المطاف وَهْمًا، إن “الشاعر باستدعائه الذكريات الماضية، وتجليات المكان بصوره الغائرة في النفس يبعث الحياة في أرض موات، انقطعت صلته المباشرة بها بعد أن أصبحت أسيرة في أيدي المحتل. إنه يريد أن يقلب دورة الزمن ليرى الأحداث من جديد ويبدأ الحياة كما يرغب ويشتهي، بعد رحلة التجريب المريرة التي عاشها بعيدا عن المكان/ الوطن”[6].
لقد رسم “درويش” في قصيدته خرائط هيام فلسفي، وتوسل بالاسترجاع (كان عيدا/ كان عرسا) حتى يبرز قيمة تلك اللحظات العميقة التي جمعته وريتا، وحتى يبين كيف تَرَفَّعَ عن كل انتماء ضيق رغم الجراحات والفظاعات، ليقدم نموذجا لعشق أسطوري أبى أن يخبو، فاستحال قصيدة رائقة حاولت النبش في اللامرئي، وفي حقيقة الإنسان، وفي القيم الخالدة التي يجب أن يعكسها الأدب، مادام أن مهمته طرح الأسئلة، واستنهاض الهمم، ورصد الجماليات. يقول:
إسمُ ريتا كان عيداً في فمي
جسم ريتا كان عرساً في دمي
وأنا ضعت بريتا .. سنتينِ.
وهي نامت فوق زندي سنتين
وتعاهدنا على أجمل كأس ، واحترقنا
في نبيذ الشفتين
وولدنا مرتين!
آه .. ريتا
أي شيء ردّ عن عينيك عينيَّ
سوى إغفائتين
وغيوم عسليّهْ
قبل هذي البندقيهْ![7]
كان اسم ريتا عيدا في فم الشاعر، بما يعنيه ذلك من حب وتقدير، لقد سكنت وجدانه، عانقته في لحظات حزنه وألمه، احتضنته في كل لحظات الضياع، فأضحت الملاذ والمهرب، أضحت العمق الذي يبحث عنه الشاعر حتى يعيش أمانه الروحي. لقد استحالت عرسا في دم الشاعر، لذلك يرى أنها تستحق كل التضحيات، تستحق أن يحترق من أجلها آلاف المرات، وهو في احتراقه يعلن ولادة جديدة، يظهر ذلك في قوله : (وَوُلِدنا مرتين..). إنها ولادة من عمق المخاض، من عمق الكشف والتأمل والمغامرة (ضعت بريتا سنتين..) لتأتي لحظة التماهي التام، حيث يَتَوَحَّدُ جسد الشاعر وريتا ويبلغ كل منهما كُنه الآخر (تعاهدنا على أجمل كأس، واحترقنا في نبيذ الشفتين، وولدنا مرتين) . إننا إزاء مسحة فلسفية صوفية فيها ما فيها من الحيرة والقلق، فيها ما فيها من صور التضحية ونكران الذات، فيها نفحات طائر الفينيق في احتراقه بحثا عن وجودية مختلفة، فيها شاعر يحاول أن يفصح عن آهاته وحرقاته في زمن كله جحود، وهو ما يفسر استحضاره لعبارة : (آه ريتا…) وهي صرخة أفصحت عن خلجات الشاعر في لحظات إحباطه وانكساره.
إنها آهات النداء حين يخترق المدى، حين يصدح بالقلق والحيرة، وحين يستحيل الوجود دُجى، لا أمل فيه ولا تجدد. لقد بنى الشاعر هذه العوالم حين توسل باستفهام بلاغي يحمل دلالات الأسى والألم (أَيُّ شيء رد عن عينيك عيني) في إشارة إلى رحيل “ريتا” وتشبث الشاعر بوصالها حتى آخر رمق، فلولا إطلالة البندقية بحمولاتها الرمزية الدالة على الحرب والظلم والقهر لما انقطع الوصال، ولما استحال التآلف والعشق الأسطوري وَهْمًا وألما وكمدا.
وليضعنا الشاعر في لحظة النهاية فإنه يلجأ إلى الزمن اللانهائي، زمن يقوم على الاسترجاع إلا أنه يحمل بين طياته نفحات التحسر والحزن الدفين، يقول:
كان يا ما كان
يا صمت العشيّهْ
قمري هاجر في الصبح بعيداً
في العيون العسليّهْ
والمدينة
كنست كل المغنين ، وريتا
بين ريتا وعيوني . بندقيّهْ[8]
إن المقطع كما هو بادٍ، يزخر كغيره من المقاطع بحمولات رمزية لا يمكن استكناه دلالاتها إلا من خلال إعمال التأويل، فالصمت لحظة اغتراب، لحظة قلق وحيرة وشك، وقد يكون أيضا إشارة إلى امتلاء ذاكرة الشاعر وجوارحه، إذ لم يعد هناك مجال للركض وراء الوهم، ونشير إلى أن هذا الصمت سبقته صيغة النداء بما تحمله من زخم تعبيري ينم عن تردد يتراوح بين الرغبة في البوح والرغبة في الكتمان. إن الشاعر وبمجرد أن يكون “عبّر بصدق وعمق وابتكار عن حالة معيّنة حتّى يتيح للقارئ، أيّ قارئ، إمكان أن يتماهى وهذه الحالة ويجد نفسه فيها. إن أغلب شعر درويش مكرّس لتشخيص حالة حصار طويلة يعيشها الفلسطينيّ في الداخل والخارج، على مستوى كلّ من الجسد والرّوح. حالة كهذه يمكن أن يعيشها كل متلقٍّ، ولها من الرّصيد الكوني ما يجعلها قابلة للتأثير فوراً، ما إن تضطلع بالتعبير عنها لغة تتّسم بما يكفي من النفاذ والانتظام والتنوّع والموسيقية”.[9]
لقد فتح الشاعر قصيدته على زمن غير محدد الملامح (كان يا مكان..)، زمن بعيد ممدود لكن حضوره في ذهنية وجوارح الشاعر حضور عميق، حضور يعكس أمارات زمن جميل كان لكنه خَبَا وانطفئ، فلم يترك للشاعر إلا الآلام والآهات. قَمَرُ الشاعر ضاع في الأفق البعيد، ذاب في اللانهائي، تاهت وجودية الشاعر وانكتم صوت الأمل، تاه الصبح بما يحمله من أمارات التجدد والانعتاق ليستحيل ديجورا دامسا. إننا بذلك إزاء هاجس ملحمي حاول الشاعر أن ينقل لنا صوره، هاجس أضحت فيه المدينة حزينة مأساوية فارغة من كل معاني الحياة، إنها مدينة تكنس كل المغنين لتعلن انتهاء الفرح وانطلاق موكب كله سواد ونحيب.
خاتمة:
لاغرو أن الشاعر الفلسطيني محمود درويش قامة من قامات الشعر العربي الحديث والمعاصر، منجزه باكورة تجدد وتصوره للشعر تصور مختلف، ظلت تجربته مفعمة بالحياة والإنسانية والقيم الخالدة، ولأنها كذلك فإنها تبقى نابضة بالأمل، سابرة لأغوار الألم، زاخرة بتيمات هي رؤيًا للعالم، ونزوعا نحو إشكالات وجودية لطالما أرقت الإنسان، وهَدَّتْ كِيانه، فكانت مسلكه إلى القلق والحيرة والشك، كانت سبيله إلى الذوبان في كوة اللانهائي حيث تتناسل آفاق التأويل، ويستحيل الشاعر نبيا يخط للإنسانية صفحات الانعتاق والتحرر من أتون الوثوقيات التقليدية المتجاوزة.
لقد خط درويش في قصيدته “ريتا والبندقية” منحيات ارتكزت على الذات، الذات الشاعرة المتأمِّلة، الذات الحائرة في علاقتها بالآخر، فأرسى بذلك أسس جماليات عَبَرَتْ بالمتلقي من الحدث إلى فلسفة الحياة المليئة بالمتناقضات، جاءت القصيدة لتعكس عمق تجربة الشاعر وانفتاحها على الإشكالات الوجودية، إشكالات الهوية والانتماء، إشكالات الاغتراب والضياع في الزمان والمكان، انتصرت القصيدة للحس الإنساني في أبعاده اللامتناهية، تجاوزت كل انتماء عرقي وديني فعكست قيم الفلسطيني المناضل المقاوم، قِيَمَهُ العميقة حين يقرر التضحية بالذات في سبيل الآخرين، حين يتحول إلى عنوان فداء حتى لو تعرض للخيانة والخذلان من أقرب المقربين.
إن “ريتا” درويش نافذة إلى حقيقة الإنسان في الأرض، حقيقته في علاقته بذاته وفي علاقته بالآخرين، وكيف يكون مُحَتَّمًا عليه أن يُحَوِّلَ لحظات انكساره إلى لحظات نهوض وَتَجَدُّدٍ، كيف يكون لزاما عليه أن يرى في الحب الصادق العميق حتى وإن وُوجِهَ بالخذلان والجحود لحظة تسامٍ وتطهير، حتى يجعل هذا الإحساس النبيل معبرا إلى الانعتاق، انعتاقا من الجمود والتقوقع على الذات، ومن كل انتماء ضيق أساسه العرق أو الدين أو غيرهما من الانتماءات الإقصائية.
المصادر والمراجع:
– الأعمال الشعرية الكاملة، ( الأعمال الأولى 1)، محمود درويش، منشورات رياض الريس للكتب والنشر، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، يونيو 2005م.
– تحولات الرؤيا في شعر محمود درويش، رسالة لنيل شهادة الدكتوراه، إعداد الطالب أنور محمد الطورة، إشراف الأستاذ الدكتور سامح عبد العزيز الرواشدة، جامعة مؤتة الأردن، 2016م.
– جماليات المكان في ديوان “لا تعتذر عما فعلت” للشاعر محمود درويش، محمد صلاح أبو حميدة، مجلة جامعة النجاح للأبحاث الإنسانية غزة فلسطين، مجلد 22/ فبراير 2008م.
– الخصائص الفنية لمضامين شعر محمود درويش، حسن مجيدي، مجلة إضاءات نقدية (فصلية محكّمة) السنة الأولى – العدد الرابع – شتاء 1390 ش/كانون الأول 2011م.
– صبحي محي الدين، الرؤيا في شعر البياتي، دار الشؤون الثقافية، بغداد ، ط 1، 1988م.
– عزلة الشاهد، محمود درويش في مجموعاته الشعرية الأولى وقصائده الأخيرة، كاظم جهاد، مجلة الكرمل، عدد 90، مايو 2009م.
[1] – صبحي محي الدين، الرؤيا في شعر البياتي، 1988 ، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط 1 ص: 22.
[2] – تحولات الرؤيا في شعر محمود درويش، رسالة لنيل شهادة الدكتوراه، إعداد الطالب أنور محمد الطورة، إشراف الأستاذ الدكتور سامح عبد العزيز الرواشدة، جامعة مؤتة الأردن، 2016، ص: 11.
[3] – محمود درويش، الأعمال الشعرية الكاملة، ( الأعمال الأولى 1)، منشورات رياض الريس للكتب والنشر، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، يونيو 2005م، ص: 200.
[4] – الخصائص الفنية لمضامين شعر محمود درويش، حسن مجيدي، مجلة إضاءات نقدية (فصلية محكّمة) السنة الأولى – العدد الرابع – شتاء 1390 ش/كانون الأول 2011 م، ص: 9.
[5] – محمود درويش، الأعمال الشعرية الكاملة، مصدر سابق، ص: 201.
[6] – جماليات المكان في ديوان “لا تعتذر عما فعلت” للشاعر محمود درويش، محمد صلاح أبو حميدة، مجلة جامعة النجاح للأبحاث الإنسانية غزة فلسطين، مجلد 22/ فبراير 2008 ، ص: 468.
[7] – محمود درويش، الأعمال الشعرية الكاملة، مصدر سابق، ص: 201.
[8] – المصدر نفسه، ص: 202.
[9] – عزلة الشاهد – محمود درويش في مجموعاته الشعرية الأولى وقصائده الأخيرة، كاظم جهاد، مجلة الكرمل، عدد 90، مايو 2009، ص: 83