
مفاهيم النظرية الخليلية الحديثة
د.فاطمة الزهراء بغداد ـ جامعة طاهري محمد بشار، الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 48 الصفحة 89.
الملخص باللغة العربية:
يجسد مقالنا منحى لسانيا مثله عبد الرحمن الحاج صالح في نظريته الخليلية، و التي شكل بها اتجاها قائما في الفكر العربي المغاربي، حيث انصبت دراسته على استقراء التراث اللغوي العربي الأصيل و بخاصة ما تركه الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت 170 هـ) و تلميذه سيبويه ( ت 180 هـ) و عبد القاهر الجرجاني ( ت 471 هـ) و السهيلي ( ت 581 هـ) و رضي الدين الاستربادي ( ت 686 هـ) و غيرهم قصد تقويم النظرية اللغوية العربية التي كانت أساسا لأغلب ما يقوله سيبويه و شيوخه و لاسيما الخليل بن أحمد الفراهيدي، و ما تركه المبدعون من علمائنا في العصور الأولى و كيفية مواصلة هذه الجهود الأصيلة في الوقت الراهن، و ذلك بالمقارنة بين المبادئ التي تأسست عليها اللسانيات الحديثة و خاصة البنيوية و النحو التوليدي التحويلي، و بين هذه النظرية.
نتعرض إلى مفهوم الاستقامة، و الباب، و المثال، و الانفصال و الابتداء، و الأصل و الفرع، و اللفظة و العامل، و ترتكز هذه النظرية على عدد من المفاهيم التي أحدثتها اللسانيات الغربية.
الكلمات المفتاحية: النظرية الخليلية، الباب، المثال، مثال الكلمة، التحويل، اللفظة، العامل ، النحاة العرب.
Abstract:
Our article reflects a linguistic orientation founded by Abdulrahman al-Haj Saleh in his theory Alkhaliliat, which formed a trend in the thinking of the Arab Maghreb,His study focused on the extrapolation of the original Arabic linguistic heritage, notably by Khalil ibn Ahmad al-Farahidi (170), his student Sibuya (180), Abd al-Qaher al-Jarjani (471), al-Suhaili (581) ) and al-Rida al-Din al-Istrabadi (686 ) )And others designed to evaluate the Arabic linguistic theory, which was the basis for most of what Siboyeh and his elders, especially Khalil ibn Ahmad al-Farahidi, and what left the creators of our scientists in the early ages and how to continue these efforts now; In comparison with the principles on which modern linguistics, especially structuralism and transformational syntax, were founded.
We are exposed to the concept of rectitude, door, example, departure separation, origin and branch, word and verb. This theory is based on a number of basic concepts and principles of language analysis, which are no less important than the concepts created by Western linguistics.
keywords: Theory, Alkhaliliat, modern, word, example word, conversion, Arabic grammar, origin and branch.
- بعض المفاهيم الأساسية للنظرية الخليلية الحديثة:
نتعرض إلى مفهوم الاستقامة والباب، و المثال، والانفصال و الابتداء، و الأصل والفرع، و اللفظة و العامل.
وترتكز هذه النظرية على عدد من المفاهيم، والمبادئ الأساسية لتحليل اللغة والتي لا تقل أهمية عن المفاهيم التي أحدثتها اللسانيات الغربية وأهمها:
1-1 الاستقامة:
يقول سيبويه في أول كتابه “فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب، فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتك أمس، وسآتيك غدا.وأما المحال فأن تنقض أول كلامك بآخره، فتقول : أتيتك غدا، وسآتيك أمس. وأما المستقيم الكذب فأن تضع اللفظ في غير موضعه، نحو قولك: قد زيدا رأيت، وكي زيد يأتيك، وأشباه هذا. وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر”[1].
فباستقامة اللفظ تقوم النظرية النحوية العربية ويميز سيبويه في تقسيمه الكلام بين السلامة الخاصة باللفظ، المستقيم الحسن، والمستقيم المحال، والتي حللها الحاج صالح بهذه الكيفية:
- مستقيم حسن = سليم في القياس والاستعمال
- مستقيم قبيح = غير لحن ولكنه خارج عن القياس وقليل
- محال = قد يكون سليما في القياس والاستعمال ولكن غير سليم من حيث المعنى”[2]
فالجملتان سآتيك أمس وسآتيك غدا تتناسب مع القواعد التركيبية التي تحكم العلاقة بين الفعل أتى الماضي، وظرف الزمان الدال على الزمن الماضي أمس، هذا عن المستقيم الحسن، ويتضمن المستقيم القبيح الجملتين (قد زيدا رأيت، وكي زيد سآتيك) لأن القياس على ما اطرد في كلام العرب يقتضي أن يرد بعد (قد، وكي) الفعل لا الاسم؛ وذلك لأن “من الحروف حروفا لا يذكر بعدها إلا الفعل، ولا يكون الذي يليها غيره، مظهرا أو مضمرا فما لا يليه الفعل إلا مظهرا: قد، وسوف، ولما، ونحوهن فإن اضطر شاعر فقدم الاسم، وقد أوقع الفعل على شيء من سببه لم يكن حد الإعراب إلا النصب”[3].
فورود الاسم بعد هذه الحروف في (المستقيم القبيح) لا يخرجهما من باب الاستقامة لكونهما ارتبطتا بكلام العرب في الشعر لا في النثر، ولم تطرد قاعدة ورود الاسم بعد الحرفين (قد، وكي) في منثور كلام العرب، وإنما أوردته الضرورة الشعرية.
في حين يخرج المحال عن المعنى الحقيقي الذي وضع له في الأصل فصح بذلك لفظه، واستحال معناه وإذا خرج اللفظ عن المعنى الموضوع له في الأصل كما في المجاز فتعنى البلاغة بنقل المعاني من أصلها الوضعي إلى معنى آخر.
ولعل هذا دليل على أن النظرية الخليلية الحديثة تفصل بين التركيب والدلالة على أساس أن مجالهما علمان مختلفان، فالأول منها يعنى بقواعد انتظام اللفظ أو الألفاظ؛ أي علم النحو، ويعنى الثاني بالمعنى الدلالي الذي يمكن أن يأتي وفق هذه القواعد، وهو علم البلاغة.
ولعل اعتماد عبد الرحمن الحاج صالح على مقولة سيبويه في تبيان دلالة الاستقامة في اللفظ كمفهوم أول تقوم عليه النظرية الخليلية الحديثة إلى أنه يشير إلى أن النظرية النحوية العربية قائمة على أساس استقامة الكلام لفظا، فما أورده سيبويه من أقسام الكلام كله يندرج ضمن المستقيم لفظا، بغض النظر عن حسنه أو قبحه أو استحالته؛ حين اعتبر الكلام المستقيم:”الكذب كلاما مستقيما قبل أن يكون كذبا… نستدل من ذلك أن سيبويه قد أقام في مجال تحليل اللغة، فاصلا واضحا من الدلالة والنحو، واعتبر أن الدلالة لا تدخل في استقامة الكلام”[4].
1-2 المثال:
ذهب عبد الرحمن الحاج صالح إلى أن مفهوم المثال لا مقابل له في اللسانيات الغربية، فالمثال* أو البناء أو الحد أو الزنة و هو: “حد إجرائي تتحدد به العناصر اللغوية لأنه ترسم فيه جميع العمليات التي بها يتولد العنصر اللغوي في واقع الخطاب”[5].
و مفهوم المثال في النظرية الخليلية الحديثة، هو :”مجموعة من المواضيع الاعتبارية مرتبة ترتيبا معينا يدخل في بعضها، وقد تخلو منها العناصر الأصلية وما فوقها”[6]. هو مفهوم منطقي رياضي محض ينطبق على مستويات اللغة في أدناها مستوى الكلمة، و في أعلاها مستوى التراكيب. والمثال في مستوى الكلمة هو “مجموع الحروف الأصلية و الزائدة مع حركاتها و سكناتها كل في موضعه و هو البناء أو وزن الكلمة ( مثال الكلمة)؛ وذلك على نحو كتب، وكاتب، ومكتوب، و استنتج، واستخرج…فلكل كلمة من هذه الكلمات مثال يحكم بناءها؛ أي عدد هذه الحروف مع حركاتها و سكناتها مع مراعاة الحروف الأصلية و الزائدة فيها؛ لأن هذه الزوائد ثابتة بالنسبة للمثال، أما المتغير فهو الأصل نحو الميم: في (مكتب)،والألف والسين في استخرج و استنتج.
والمثل الذي يحكم بناء هذه الكلمات: (كتب)، و (كاتب)، و (مكتب)، و (استنتج) و (استخرج)، تكون لـ (فعل)، و (فاعل)، و (مفعل)، و (استفعل). و ما يأتي مرتبا على ترتيب هذه الحروف يندرج تحت هذه الأبنية أو المثل.
و عدد مثل الكلمة محصور في العربية وفق ما أجازته العرب في: “أوزانها و أبنيتها (الاسم المفرد و الفعل المفرد) فقال النحاة بأنها تبلغ ألفا وثلاثمائة مثال، و قد أحصى منها سيبويه ثلاثمائة تقريبا و هي أشهرها”[7]. ومن هذه الأوزان ما هو سماعي، ومنها ما هو قياسي.
أما المثال في مستوى اللفظة فهو: “مجموع الكلم الأصلية و الزائدة مع مراعاة دخول هذه الزوائد و عدم دخولها (العلامة العدمية)، كل في موضعه. و هو مثال اللفظة اسمية كانت أم فعلية”[8] .
و يذهب الحاج صالح إلى أن هناك :”مثالا واحدا للاسم، و ثلاثة مثل للفعل”[9]، ومثال كل منها النواة زائد عدد المواضع التي يمكن أن تتوفر عليها.
وأما المثال في المستوى التركيبي فيتضمن: “موضع العامل (ع) يدخل فيه الابتداء والنواسخ، والفعل، والناسخ، وغير الناسخ، وموضع المعمول الأول (م 1) ويدخل فيه المبتدأ أو الفاعل أو ما يقوم مقامهما، وهي النواة، وتلحق بهذه النواة مواضع للعناصر المخصصة (خ) الحال، والتمييز والمفاعيل الأخرى، ويرمز إلى هذه العناصر بالصيغة الآتية:
[(ع←م1)≠ م2] ≠ خ”[10]
وتوضح هذه الصيغة أن المثال في مستوى التراكيب، يتكون من العامل ومعموليه (اللفظين المبنيين)، والعلاقة التي: “تجمع بينهما هي علاقة بناء لا وصل وبالتالي حذف إحدى اللفظتين المبني أو المبني عليه، يؤدي حتما إلى زوال البناء أو زوال التركيب”[11].
وما يميز مثال المستوى التركيبي عن مثال المستويات الأخرى التي تأتي تحته الكلمة واللفظة هو “أن العناصر الداخلة في اللفظة والداخلة في الكلمة لا يمكن أن يحصل فيها تقديم وتأخير، أما المستوى الأعلى فيمكن ذلك في بعض الأوضاع لكن بشروط معينة”[12].
وذلك لأن الترتيب في مثال الكلمة أو اللفظة ثابت ملازم لمجرى واحد، ولا يجوز التقديم أو التأخير في ما بين وحداته، أما مثال المستوى التركيبي فإن وحداته لها إمكانية تغيير في المواضع، حسب ما تجيزه اللغة العربية من قواعد التقديم والتأخير، فتخضع بذلك هذه المواضع لترتيب مخالف، وفقا لمقتضيات المقام، كأن يتقدم المعمول الثاني على عامله لكن بشروط (أن يكون العامل مشتقا لا جامدا) نحو قولك: منطلقا كان زيد.
و للفظة اسمية كانت أم فعلية أيضا “مثال” و هو كما ورد عن الحاج صالح:” مجموع الكلم الأصلية و الزائدة مع مراعاة دخول هذا الزوائد و عدم دخولها( العلامة العدمية كل في موضعه)”[13]
فالمثال هو بنية تندرج فيها وحدات عدة، و يوجد في جميع مستويات اللغة التي تدل على معنى ففي المستوى اللفظي نجد اللفظة الاسمية و الفعلية.
1-3 مفهوم الباب:
ينطبق مفهوم الباب في النظرية الخليلية الحديثة على ما تجمعه بنية واحدة.وفي مستوى التراكيب ذكر الحاج صالح أن سيبويه سمى أنواعا منها “أبوابا” مثل قوله في باب “حسبك به”[14] و باب “لقيا و حمدا”[15].
وقصد سيبويه من الفصول التي قسم بها كتابه هذا المعنى في قوله:” هذا باب ما جرى من الأمر و النهي فيه بأسماء مضافة”[16].
ويعرفه الحاج صالح بأنه:” مجموعة من العناصر تنتمي إلى فئة أو صنف وتجمعها بنية واحدة”[17] و كونها مجموعة بالمعنى المنطقي الرياضي لا مجرد جنس بالمعنى الأرسطي، الذي لا يشبه مفهوم الباب في المعنى العربي إلا من حيث كونه صنفا له بل صفة مميزة :” إلا أن القدر المشترك بين أفراد الباب الواحد ليس مجرد صفة، بل بنية تحصل و تكتشف في نفس الوقت يحمل كل فرد على الآخرين لتتراءى فيها هذه البنية، فهذه العملية ليست تجريدا بسيطا يؤدي إلى كشف فئة بسيطة هي الجنس بل عملية منطقية رياضية تسمى قديما حمل الشيء أو إجراءه عليه أو اعتبار شيء بشيء “[18] على حد تعبير الحاج صالح؛ ذلك أن النحو العربي لا يكتفي بعملية الاشتمال، بل يتجاوزها بإجراء الشيء على الشيء أو حمل العنصر على الآخر، وهو لا يكتفي بالجنس والفصل الذي عرف عن أصحاب النزعة الأرسطية، وبهذا يتضح أن التصنيف بالباب عند النحاة أعم وأشمل من التصنيف بالجنس والفصل؛ لأن التصنيف بالباب لا يكون إلا إذا تحقق بين البنى اللغوية تكافؤ تام، و ليس مجرد صفة واحدة تجمعهما في جنس واحد أو فصيلة واحدة، ويوضح هذا بالمثال الآتي: فالوحدات التي يجمعها باب (فعل) ليس عدد الحروف وحدها، وإنما التكافؤ الحاصل بين حروفها من حيث الكيف والكم، وينطبق مفهوم الباب في النحو على:” إن وأخواتها”، و”ظن وأخواتها”، والتي يتفرد كل منها باب خاص لاشتراكها مع أخواتها في نفس العمل، أو تكافؤها في العمل بالنسبة لما يرد بعدها من الأسماء، أو الأبنية.
وهذا ما يسمى في الرياضيات حديثا تطبيق مجموعة على مجموعة أخرى تؤدي إلى إظهار بنية تشترك فيها جميع عناصرها و يمكن التمثيل لهذه البنية بالرسم الذي قدمه الحاج صالح .
م ك ت ب |
فهذه فئة اسم المكان أي باب مَفْعَل (مثاله مَفْعَل) تكافؤ← فئة+ ترتيب (أو نظم)= فئة اسم مكان- أي باب مفعل و مثاله مَفْعَل.
ففي مثال مفعل حسب الحاج صالح توجد متغيرات هي الحروف الأصول (الفاء و العين و اللام)، أما الثوابت فهي الحركات و السكنات و الزوائد فـ: المثال يحصل بتركيب عمليتين: “عملية تجريدية تؤدي إلى فئة تسلط عليها هي نفسها عملية أخرى ترتيبية فيحصل بناء معين مشترك يسمى مثالا”[20].
1-4 مفهوم الأصل و الفرع:
استعمل سيبويه كلمتي الأصل و الفرع في قوله: “لأن الأسماء كلها أصول التذكير”[21].
و عرف الحاج صالح الأصل بقوله:” ما يبنى عليه و لم يبن على غيره وهو ما يستقل بنفسه – أي يمكن أن يوجد في الكلام وحده – و لا يحتاج إلى علامة ليتمايز عن فروعه فله العلامة العدمية* “[22] « marque zéro » فهو عنصر ثابت مستمر لا يمكن أن ينحل أو يتجزأ إلى أصغر و إلا زال بناؤه و فقد معناه، و من بين خصائصه:
- خال من كل زيادة إيجابية أو سلبية.
- يتعلق وجوده بمفهوم آخر يدعى الفرع.
- ينتمي إلى جميع المستويات.
مثال: المذكر أصل للمؤنث كذلك النكرة أصل للمعرفة.
و أما الفرع عند النحاة العرب هو:” الأصل مع زيادة إيجابية أو سلبية”.[23]
و يحدده الحاج صالح بالعبارات التالية:” و الفرع هو الأصل مع زيادة مع شيء من التحويل”[24].
و قد يمكن القول مما سبق أن الأصل هو العنصر الثابت المستمر، له العلامة العدمية يرمز له بالرمز صفر(0… الأصل) فعدم الزيادة أو غياب الزوائد أو العلامات هي دائما الميزة الأساسية للأصل.
و هذا ما جعل سيبويه يعبر عن مفهوم الأصل أحيانا بعبارة الأول:” فالأفعال أثقل من الأسماء، لأن الأسماء هي الأولى “و اعلم أن النكرة أخف عليهم من المعرفة و هي أشد تمكنا، لأن النكرة أول، ثم يدخل عليها ما تعرف به …. و اعلم أن الواحد أشد تمكنا من الجمع، لأن الواحد الأول، و اعلم أن المذكر أخف عليهم من المؤنث لأن المذكر أول و هو أشد تمكنا، و إنما يخرج التأنيث التذكير”[25]. أما:” أصالة الاسم فلأنه يمكن أن يظهر وحده في الكلام، أما الفعل و الحرف فلا يظهران أبدا إلا مع الاسم أو مع كليهما معا … أن كل كيان لغوي إما أصل يبنى عليه غيره أو فرع يبنى على أصل أو أصول”[26].
و التحويل يحصل إما بالانتقال من الأصل إلى الفرع فيكون التحويل طرديا، و إما برد الفروع إلى الأصل فيكون التحويل عكسيا: “تحويل يخضع لنظام من القواعد و التفريع و بالتالي له مقابل و هي الحركة العكسية للتفريع، فكل كيان لغوي بالنسبة للنحاة العرب إما أصل يبنى على غيره أو أصل يبنى على أصل أو أصول”[27].
و الأمر أن الأصل هو الذي يكون خاليا من العلامات و الزيادات و الفرع هو الأصل مع زيادة أي مع شيء من التحويل، كلما أضفنا علامة أو زائدة من الزوائد فرعنا عن الأصل وحدة جديدة، و لعل نوام تشومسكي في النظرية التوليدية التحويلية أشار إلى أن التحويل في هذه النظرية يقتصر على نوع واحد و هو الذي يربط بين البنية السطحية و العميقة للجملة ( التحويل في النظرية التوليدية التحويلية)، و هذا ليس إلا نوعا من التحويل في النظرية العربية و “هو التحويل التقديري فكل كلام يحتمل أكثر من معنى – في أصل الوضع- فإن النحاة يقدرون لكل معنى لفظا و هذا يحصل خاصة عندما يحاولون تفسير الكثير من الأبنية الملبسة أو التي وقع فيها حذف أو التي لم تأت على البناء المتوقع أي بناء نظائرها”[28]. و يشمل هذا المفهوم في النحو العربي الأصيل جميع المستويات اللغوية فللكلمة أصول و فروع ، و للفظة أيضا أصول و فروع، و كذلك مستوى التراكيب.
1-5 مفهوم الانفصال و الابتداء:
” الانفصال ليس بعده شيء، و الابتداء ليس قبله شيء و بهما يتحدد الكلام الأدبي، و معنى ذلك أن كل وحدة لغوية قابلة للانفصال عما قبلهاأو ما بعدها من الوحدات، و كل وحدة يمكن الابتداء أو الوقوف عليها حسب موقعها من الكلام و هناك أضاف ثلاثة في اللسان العربي:
– وحدات يبتدأ بها فتنفصل عما قبلها و لا يوقف عليها مثل(إلى).
– وحدات لا يبتدأ بها و يوقف عليها، أي أنها تنفصل عما بعدها مثل الضمير المتصل بالاسم أو الفعل.
– وحدات يبتدأ بها فتنفصل عما قبلها و يوقف عليها فهي منفصلة عما بعدها مثل عبارة سعيد في جواب سؤال: من دخل؟”[29]
و الأمر أن النحاة العرب الأولين اتبعوا طريقة علمية موضوعية في تحليل الكلام مستغلين مبدأ الانفصال و الابتداء و هما صفتان يتحدد بهما الكلام العربي، و هذا ما يصفونه بأنه: ” ما ينفصل و ما يبتدأ”[30]
و يرى الحاج صالح بأن صفتي الانفصال و الابتداء تمكنان الباحث من: ” استكشاف الحدود الحقيقية التي تحصل في الكلام و بهذا ينطلق الباحث من اللفظ أولا و لا يحتاج إلى أن يفترض أي افتراض كما يفعله التوليديون و غيرهم عندما ينطلقون من الجملة قبل تحديدها … هذا المنطق هو في نفس الوقت وحدة لفظية لا يحددها إلا ما يرجع فقط إلى اللفظ وهو الانفصال و الابتداء و وحدة إفادية لأنها يمكن أن تكون جملة مفيدة و على هذا فهي تحتل مكانا يتقاطع فيه اللفظ مع المعنى أو البنية بالإفادة”[31]
و هنا يتعرض الموضوع إلى مقياس التمكن، و الذي يعني أن القطعة يمكن أن تحتمل عددا من الزيادات يمينا و يسارا على صورة التعاقب، و يعتبر هذا الاسم المظهر في العربية أكثر الكلمات تمكنا، يقول الخليل بلسان تلميذه:” إنه لا يكون اسم مظهر على حرف أبدا لأن المظهر يسكت عنده و ليس قبله شيء و لا يلحق به شيء”.[32]
” و الذي يسكت عنده و ليس قبله شيء هو الاسم الذي ينفصل و يبتدأ”.[33]
و منه نستطيع القول إن النحاة العرب الأولين انطلقوا من أقل ما يمكن أن ينطق به من الكلام المفيد والمقصود، و منطلقهم من كل ما ينفصل و يبتدأ، و قد يكون بذلك الأصل لأشياء أخرى تتفرع عليه؛ أي أن ينطلق من أقل ما ينطق به مما ينفصل و يبتدأ (الاسم) و كل شيء يتفرع عليه و لا يمكن لما في داخله أن ينفرد فهو بمنزلته، و سمى سيبويه هذه النواة بالاسم المفرد أو ما بمنزلة الاسم المفرد و ترجمها الحاج صالح بـ: lexie؛ أي اللفظة. و يوضح هذا الحاج الصالح بقوله:” هو أن يمكن بالنسبة إلى قطعة من الكلام أن ينطق بها منفردة لا يسبقها و لا يأتي بعدها شيء مثل” زيد” أو ” أنا” أو “كتاب” في الإجابة عن الأسئلة، من هذا؟ و من خرج؟ و ما هذا؟ فالمنطلق منه هو أنه يبني تحديده على مفهوم واحد هو” الانفراد” و الجدير بالملاحظة هو أن هذا المفهوم يوجد في مكان واحد يتقاطع فيه الكلام كلفظ و الكلام كخطاب فهو لفظ مسموع له بنية و كلام مفيد لمعنى فيصح أن ينطلق منه كمفهوم واضح معقول و مدرك حسيا “[34].
و قد نستطيع القول إن مثل هذه القطعة “كتاب” على حد تعبير الحاج صالح يمكن أن تكون كلاما مفيدا في الإجابة عن الأسئلة ما هذا مثلا، و هذه القطعة من الكلام المفيد التي لا يمكن أن تنحل إلى أكثر من هذا بعملية الوقف تكون منطلقا للحد الإجرائي الذي سيحدد به الاسم، و كذا الفعل وما يدخل عليهما بكيفية صورية، أي دون اللجوء إلى المعنى أو شيء آخر غير اللفظ الدال، و هذه القطعة هي في الوقت نفسه وحدة لفظية لا يحددها إلا ما يرجع فقط إلى اللفظ و هو الانفصال و الابتداء، و لابد: “من الملاحظة أن هذا المنطلق هو في نفس الوقت وحدة لفظية ( unité sémiologique) لا يحددها إلا ما يرجع إلى اللفظ وهو الانفصال والابتداء، ووحدة افادية لأنها يمكن أن تكون جملة مفيدة ( فقد اكتشف في الكلام الحقيقي) و على هذا فهي تحتل مكانا يتقاطع فيه اللفظ مع المعنى أو البنية بالإفادة”[35]. و هذه القطعة هي وحدة لفظية في الوقت نفسه لا يحددها إلا ما يرجع فقط إلى اللفظ و هو الانفصال و الابتداء، و وحدة إفادية لأنها يمكن أن تكون جملة مفيدة ونمثل لهذه القطعة على سبيل المثال بكتاب.
و يختبرون هذه القطعة بحملها على قطع أخرى مثل: ≠ كتاب≠ و≠ بالكتاب≠ و≠ كتاب كبير≠ التي هي مكافئة لها (= بمنزلتها) من حيث الانفصال و الابتداء(=الانفراد) بإلحاقها ما يسمونه بالزوائد، و هي أداة التعريف و حرف الجر على اليمين و الإعراب و التنوين أو المضاف إليه و أخيرا الصفة. و هناك مقياس آخر و هو “التمكن” الذي يعني أن القطعة يمكن أن تحتمل عددا من الزيادات يمينا و يسارا على صورة التعاقب. و عند تطبيق هذين المقياسين نستطيع أن نضع حدودا إجرائية للفعل والاسم مبنية على مبدأ الأصالة والفرعية. و في هذا التحديد الإجرائي يراعي المحوران الأفقي أو التركيبي؛ أي ( محور الإدراج) الذي توصل فيه العناصر اللغوية بعضها ببعض. و المحور العمودي أو الاستبدالي؛ أي (محور التصريف) الذي تتفرع فيه الوحدات اللغوية من أصل لا زيادة فيه إلى فرع تكثر فيه الزيادات:” إذ كل شيء مما هو بنية يتحدد بموضعه في داخل الحد الإجرائي أي بإحداثيات تبنى على المحور الأفقي الذي يقع فيه التركيب بالزيادة و المحور العمودي الذي هو التحويل و التصريف أي الانتقال من الأصل إلى الفروع”.[36]
1-6 مفهوما الموضع والعلامة العدمية: “الموضع هو المكان الذي تظهر فيه بعض العناصر اللغوية في مفهوم المثال أو الحد الذي ينطبق على كل مستويات اللغة و هو ناتج عن التحديد الإجرائي، فكل عنصر يتحدد بحمل المجموعة التي يظهر فيها على مجموعات أخرى من جنسها فيظهر بذلك مكانه في داخل المثال أو البنية الجامعة لهذه المجموعات و ليس مكانا ثابتا بالضرورة بالنسبة لمدرج الكلام. فهو الحيز الذي يمكن أن يشغله عنصر معين في البنية و يمكن أن ينعدم هذا العنصر تماما”[37].
وخلو الموضع من العنصر له ما يشبهه و هو ما يسميه الحاج صالح بالعلامة العدمية و هي التي:” تختفي في موضع لمقابلتها لعلامة ظاهرة في موضع آخر و ذلك كجميع العلامات التي تميز الفروع عن أصولها ( المفرد و المذكر لها علامات غير ظاهرة بالنسبة للجمع، و المثنى، و المؤنث، و المصغر) و كذلك هو الأمر بالنسبة للعامل فإن العامل الذي ليس له لفظ ظاهر هو الابتداء”[38] ثم إن الموضوع:” لا يلتبس بما يمكن أن يكون فيه فالموضوع باق كجزء من البنية إذا ما خلا مما يدخل فيه”[39] و قد يكون الموضع فارغا لأن الموضع شيء و ما يحتوي عليه شيء آخر و عملية الزيادة هي التي تحدد المواضع التي يمكن أن تظهر فيه هذه الزوائد مثلا: سيارة، السيارة، في السيارة، …
و منه نقول إن الموضع هو الحيز الذي يمكن أن يشغله عنصر معين في البنية و يمكن أن ينعدم كذلك، و قد يكون الموضع موقعا أو موضعا اعتباريا، و قد يكون خاليا ففي مثال اللفظة ” بكتاب” موضع أداة التعريف موجود في الاعتبار بين الباء و كتاب إذ قد تظهر فيه أداة التعريف” الـ” عند الاقتضاء.
1-7 مفهوم اللفظة والعامل:
لم يخلط النحاة العرب الأولون عند تحليلهم للغة بين البنية الصورية النحوية للفظ و بين آليات الإفادة و المفاهيم الراجعة إلى المعاني وحدها، و رأوا من الضروري أن ينطلقوا في تحليل اللغة من اللفظ وحده دون اللجوء إلى المعنى المقصود و الأمر فيما يبدو أن النحاة العرب الأولون قدموا دراسة اللفظ على دراسة المعنى لأن المعنى يفهم من اللفظ. و ميز العرب بين اللفظ و المعنى يقول سيبويه في أول كتابه:” فمنه؛ أي الكلام… قد زيدا رأيت”[40].
و انطلق النحاة العرب الأوائل في تحليليهم للغة من مستوى اللفظة* ( la lexie) و هو: “المستوى الذي تتحدد فيه الوحدة اللفظية و الوحدة الإعلامية (أو الإفادية)”[41]. و ما يمكن قوله أن هذا المنطلق هو وحدة لفظية (unité sémiologique) لا يحددها إلا ما يرجع فقط إلى اللفظ، و وحدة إفادية (unité communicationnelle)لأنها يمكن أن تكون جملة مفيدة.
و قد نستطيع القول إن النحاة العرب الأولين لم ينطلقوا من مستوى الوحدة الصورية و لا مستوى الكلمة، و لا مستوى الجملة بل من مستوى اللفظة و هو:” المستوى المركزي باعتبارها أصغر وحدة في الكلام يمكن أن يبدأ و ينفصل و لا تقبل التجزئة”[42].
قائمة المراجع
- سيبويه: الكتاب، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1988، ج1
- عبد الرحمن الحاج صالح ” بحوث ودراسات في اللسانيات العربية”، منشورات المجمع للغة العربية، موفم للنشر، الجزائر، 2007. ج1.
- حسام البهنساوي: أهمية الربط بين التفكير اللغوي عند العرب ونظريات البحث اللغوي الحديث، مكتبة الثقافة الدينية ، القاهرة، د ط، 1994،
- فتيحة بن عمار: دراسة تحليلية تقويمية لأنواع التمارين النحوية للسنة السادسة من التعليم الأساسي واقتراح أنماط جديدة بناء على النظرية الخليلية الحديثة، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في اللسانيات التعليمية، المدرسة العليا للأساتذة، الجزائر، 2003،
- صالح بلعيد: اللغة العربية العلمية، دار هومة للطباعة و النشر و التوزيع الجزائر، طبع في 2004.
– سيبويه: الكتاب، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1988، ج1، ص 25-26.[1]
[2] – عبد الرحمن الحاج صالح ” بحوث ودراسات في اللسانيات العربية”، ج1، منشورات المجمع للغة العربية، موفم للنشر، الجزائر، 2007. ص 218
– سيبويه: الكتاب، ج1، ص 98.[3]
[4] – حسام البهنساوي: أهمية الربط بين التفكير اللغوي عند العرب ونظريات البحث اللغوي الحديث، مكتبة الثقافة الدينية ، القاهرة، د ط، 1994، ص 51.
* ترجم الحاج صالح المثال بـ « schème générateur » لأنه تتفرع عليه الفروع.
[5]– عبد الرحمن الحاج صالح ” بحوث ودراسات في اللسانيات العربية”، ج1، ص 319.
[7] – المرجع نفسه ج 2، ص 17.
[9] – المرجع نفسه، ج 2، ص 17.
[11] – فتيحة بن عمار: دراسة تحليلية تقويمية لأنواع التمارين النحوية للسنة السادسة من التعليم الأساسي واقتراح أنماط جديدة بناء على النظرية الخليلية الحديثة، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في اللسانيات التعليمية، المدرسة العليا للأساتذة، الجزائر، 2003، ص 189.
عبد الرحمن الحاج صالح: بحوث و دراسات في اللسانيات العربية، ج 1، ص 15.[12]
– سيبويه: الكتاب، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، 1991، ج1، ص .300[14]
[15]– المصدر نفسه: ج 1، ص 186
[16] المصدر نفسه: ج 1، ص 128.
– عبد الرحمن الحاج صالح: بحوث و دراسات في اللسانيات العربية، ج 1،, ص 318.[17]
عبد الرحمن الحاج صالح: بحوث و دراسات في اللسانيات العربية، ج 1،, ص 318.-[19]
-[21] سيبويه : الكتاب، ج 1، ص 22.
* تعرف في الدراسات اللسانية الغربية الحديثة بالتعرية من العوامل اللفظية ويرمز لها بالرمز Ø على حد تعبير اللسانيات marque zéro ومفهوم العلامة العدمية في النحو العربي على معنى ثبوته في اللفظ.
[22]– عبد الرحمن الحاج صالح: بحوث ودراسات في اللسانيات العربية، ج1 ، ص 217.
– صالح بلعيد: اللغة العربية العلمية, ص 109-110.[23]
عبد الرحمن الحاج صالح: بحوث و دراسات في اللسانيات العربية، ج 1، ص 127.-[24]
– سيبويه: الكتاب، ص 20-22.[25]
– عبد الرحمن الحاج صالح : بحوث و دراسات في اللسانيات العربية، ج 1، ص 321.[26]
عبد الرحمن الحاج صالح : بحوث و دراسات في اللسانيات العربية، ج 1، ص 216.-[28]
صالح بلعيد: اللغة العربية العلمية، ص 110.-[29]
[30]– سيبويه: الكتاب، ج 1، ص 96.
عبد الرحمن الحاج صالح : بحوث و دراسات في اللسانيات العربية، ج 1، ص 219.-[31]
– سيبويه: الكتاب، ج 2، ص 69.[32]
-[34] عبد الرحمن الحاج صالح: بحوث و دراسات في اللسانيات العربية، ج 2، ص 82-83.
– عبد الرحمن الحاج صالح: بحوث و دراسات في اللسانيات العربية، ج 1، ص 219.[35]
-[38] المرجع نفسه، ج 1، ص 222.
– عبد الرحمن الحاج صالح: بحوث و دراسات في اللسانيات العربية ج1، ص ن.[39]
[40] – سيبويه: الكتاب، ج 1، ص 01-02.
مصطلح اقترحه ووضعه الحاج صالح في مقابل اللفظة*
– عبد الرحمن الحاج صالح : بحوث و دراسات في اللسانيات العربية، ج 1، ص 326 [41]
صالح بلعيد: اللغة العربية العلمية، دار هومة للطباعة و النشر و التوزيع الجزائر، طبع في 2004. ص 111.-[42]