مقولة (الكلام) في الفكر اللغوي القديم: دراسة في التفكير الأسلوبي عند النحاة واللغويين العرب
The term Language in Traditional Linguistic Thought: A Study of the Stylistic Thinking of Arabic Grammarians and Linguists
د. مصطفى منتوران ـ مختبر الترجمة وتكامل المعارف، جامعة القاضي عياض، مراكش، المغرب
MUSTAPHA MANTOURANE, Knowledge integration and Translation laboratory
Faculté des lettres et sciences humaines, Marrakech, morocco
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 58 الصفحة45 .
Abstaract:
The study attempts to approach the concept of “Language / Language of the Arabs” as a very recurrent term in the heritage works that established the linguistic and stylistic study of Arab culture. We have emphasized the justificatory function of Language and its many meanings, using heritage texts that have used this term in an argumentative use, especially in the study of similarities and coherence, existing between the language of the Koran and the Arabic Language. We thus adopted three traditional models that gave more importance to this justificative element (to the Arabic Language): Sîbawayh, Al Farraa and Ibn Qoutayba. The research revealed the link between the Arabic turns and the Language which constitutes one of the main entries to understand these turns and their semantic dimensions.
Keywords :speech ، Al-Faraa ، style ، Sibawayh ، Semantic
Le terme Langage dans la pensée linguistique traditionnelle : une étude de la pensée stylistique des grammairiens et linguistes arabes
Résumé :
L’étude tente d’aborder le concept de “Langage / Langage des Arabes” en tant que terme très récurent dans les ouvrages du patrimoine qui ont établi l’étude linguistique et stylistique de la culture arabe. Nous avons mis l’accent sur la fonction justificative du Langage et ses multiples significations, en faisant appel à des textes patrimoniaux qui ont employé ce terme dans un emploi argumentatif, en particulier dans l’étude des similitudes et de la cohérence, existants entre la langue du Coran et le Langage des Arabes. Nous avons ainsi adopté trois modèles traditionnels qui ont accordé plus d’importance à cet élément justificatif (aux Langage des Arabes) : Sîbawayh, Al Farraa et Ibn Qoutayba. La recherche a révélé le lien existant entre les tournures arabes et le Langage qui constitue une des principales entrées pour comprendre ces tournures et leurs dimensions sémantiques.
ملخص البحث
حاول البحث مقاربة مفهوم (الكلام/ كلام العرب) باعتباره مقولة ترددت في الكتب التراثية المؤسسة للدرس اللساني والأسلوبي في الثقافة العربية، وقد ركزنا على الوظيفة الاستدلالية لمقولة الكلام ودلالاتها المتعددة، من خلال استدعاء نصوص تراثية وظفت مقولة الكلام توظيفا حجاجيا خاصة فيما يتعلق برصد أوجه التشابه والتساوق بين لغة القرآن الكريم وكلام العرب، واعتمدنا نماذج تراثية ثلاثة كانت شديد العناية بهذا العنصر الاستدلالي (كلام العرب) أولها سيبويه والفراء ثم ابن قتيبة، وقد انتهى بنا البحث الى الكشف عن علاقة أساليب العربية بمقولة الكلام التي هي أحد المداخل الأساسية لفهم الأساليب العربية مفهومها وأبعادها الدلالية.
الكلمات المفاتيح: الكلام-الفراء-الأسلوب-سيبويه-الدلالة
توطئة
احتفت لغويات التراث العربي في باب الاستدلال اللساني بمقولة (الكلام) وعّد الكلام العربي الطبيعي نموذجا أصيلا تقاس به كافة الأنساق الكلامية التي تولّدت بعد، ولا غرو أن احتلت هذه المقولة مرتبة الصدارة في الفضاء الاستدلالي لكبار النحاة واللغويين الأوائل الذين كان لهم قصب السبق في تفكيك أنساق العربية، والإبانة عن الأساليب العربية بمختلق أشكالها، وتجلت قوة هذا الآلية الاستدلالية مع أولى محاولات التفسير المستند للصناعة النحوية وعلوم العربية، فاحتاج بذلك المفسر لتوجيه الدلالة القرآنية توجيها صناعيا، فلم يكن له بد من أن يستدعي نصوص العربية الفطرية شعرها ونثرها، ويقابلها بنصوص الكتاب المنزل بلسان العرب ومذاهبهم وأساليبهم الكلامية، يقول سيبويه: “ولكن العباد إنما كُلموا بكلامهم، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون”.[1]
من رحم هذا التقابل اللساني بين لغة القرآن وكلام العرب ولدت حركة علمية مستفيضة، كان من نتائجها الاحتفاء بكلام العرب جمعا وتحقيقا ورواية ثم مدارسة وتحليلا، وفي خضم هذا الحراك العلمي تجمعت ثروة معجمية وأسلوبية هائلة اصطلح على تسميتها بـ (كلام العرب) وهي تسمية تختزل تراثا لسانيا امتد لقرون. فما فحوى هذه المقولة؟ وما مظاهر الاحتجاج بها؟ وكيف أضحت ركنا استدلاليا مركزيا في الدرس اللغوي والأسلوبي؟ انطلاقا من هذه الأسئلة الإشكالية سنعمد إلى مقاربة فهم عام لمقولة (الكلام) والبحث في صلتها بأساليب العربية، وفق خطة نظرية تطبيقية، وقد جعل البحث وُكده نماذج من كتب التراث التي اهتمت بدراسة ظواهر اللغة وأنساقها، وفي مقدمتها كتاب سيبويه، ومعاني القرآن للفراء ثم تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة.
أولا: مقولة (الكلام)بين سيبويه والفراء: نحو مقاربة مفهوم (الأساليب)
- مقولة (الكلام) في الكتاب
في مستهل سياق حضاري وثقافي صبغ الثقافة الإسلامية بصبغة التأسيس العلمي لعلوم اللسان العربي يطالعنا كتاب سيبويه “الذي توقف على أساليب اللغة العربية، وظواهرها المختلفة، فتحدث في كثير من الظواهر الراجعة إلى أصول اللغة واستخداماتها التي تشكل تعارضا مع الأصل”[2]، فالأساليب في الكتاب تظهر في سياق التحليل والتفسير اللغوي وليست مبحثا نظريا تصوريا، ولكنها مبثوثة بكثرة في الكتاب وغيره من مصنفات القدامى، وهي تحتاج إلى دقة النظر والتأمل فيها[3].
وقد اعتبر أبو حازم مقولة (الكلام) -التي ترددت بكثرة في الكتاب-مدخلا من شأنه أن يقارب مفهوم الأساليب عند سيبويه، يقول:” ولست أزعم أن مفهوم الكلام في الكتاب مرادف لمفهوم الأساليب. لكني أحسبه – في استعمالات معينة كثيرة –أحد المداخل اللفظية المجدية في استبانة الأساليب: حدّها وحقلها المعرفي”[4].
والمراد بالكلام هاهنا كلام العرب ولغتهم التي يتخاطبون بها، والتي نزل القرآن الكريم مساوقا وموافقا لنظامها. ولا شك أن الأساليب بهذه المقاربة تكتسي طابع العموم، إذ تطلق ويراد بها مختلف المكونات اللغوية، وقد وصفت لغة القرآن بكل عناصرها-في السياق نفسه-بأنها “أفصح أساليب العربية على الإطلاق”[5].
- مقولة (الكلام) عند الفراء: دلالاتها ووظائفها التأويلية
تعد مقولة (الكلام) من المقولات المتحكمة في آليات التأويل الموظفة في منهج الفراء التأويلي، سيما وأنها تغطي مساحة واسعة من الفضاء الاستدلالي في معاني القرآن، فكلام العرب ينتصب ركنا أساسيا يستقي منه الفراء حججه وأدلته التفسيرية، وربما استند إليه كأحد المقاييس المعتمدة في توجيه القراءات، قال الفراء-في معرض ذكر الوجوه القرائية لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾[6] “عن علي رحمه الله أنه قرأ «لتُروّن الجحيم، ثم لتَرَونَّها»، بضم التاء الأولى، وفتح الثانية. والأول أشبه بكلام العرب، لأنه تغليظ، فلا ينبغي أن يختلف لفظه.”[7]. يقصد بالأول قراءة عامة قراء الأمصار وهي فتح التاء من الحرفين.
وقدد تتبعنا دلالات(الكلام)عند الفراء فوجدناه يستعملها استعمالات متعددة ومختلفة، نورد منها ما يلي:
- دلالة (الكلام) على مطلق لغة العرب
يستعمِل الفراء مقولة (الكلام) للدلالة على مطلق لغة العرب، ومن ذلك قوله: “لا يكون في الكلام أن تقول: والله قُمْ، ولا أن تقول: والله لا تقم”[8]، إذ ليس من لغة العرب أن تجاب الأيمان بالأمر أو النهي لأن اليمين إخبار، والكلام بهذا المعنى – عند الفراء-مراتب:
فمنه ما هو “كلام عربي حسن“[9]، منه “أحسن الكلام”، قال الفراء:” وأحسن الكلام أن تجعل جواب يفعل بمثلها، وفَعَلَ بمثلها؛ كقولك: إن تَتْجُرْ تَربَحْ، أحسنُ من أن تقول: إن تَتْجُرْ ربِحْت”[10].
ومنه “الفصيح من الكلام” قال الفراء: ” العرب لا تُدخل على يفعَل إذا كان في معنى فلانٍ ألِفاً ولاماً. يقولون: هذا يَسَع، وهذا يَعْمر، وهذا يزيد. فهكذا الفصيح من الكلام“[11]، ومنه ” أجود الكلام”[12]. وبهذا يقر الفراء بأن اللسان العربي مراتب في الفصاحة والحسن، فبقدر ما يكون المتكلم محتذيا سنن العرب وأساليبها بقدر ما يرتقي في معراج الفصاحة وحسن البيان.
- دلالة (الكلام) على ما يقابل الشعر من الكلام المنثور
صرح الفراء بهذا المدلول ووظف الكلام بهذا المعنى في سياق التعرض للضرورات الشعرية الواردة في شواهده، كتسويغ جمع صيغة منتهى الجموع في الشعر خاصة، قال الفراء:” ألا ترى أنك لا تقول: دراهمات، ولا دنانيرات، ولا مساجدات. وربما اضطر إليه الشاعر فجمعه. وليس يوجد في الكلام ما يجوز في الشعر”[13]، وقال في موضع آخر: “وذلك أن الشعر له قوافٍ يقيمها الزيادة والنقصان، فيحتمل ما لا يحتمله الكلام”[14]. وهو في هذا يسلك مسلك سيبويه في تخصيص الشعر بخصائص يحتملها لطبيعته الإيقاعية، ثم لا تسوغ في الكلام العادي لانتفاء الاضطرار الموسيقي في الكلام العادي، وقد خصص سيبويه بابا في كتابه لهذه المسألة ترجم بـ (هذا باب ما يحتمل الشعر) وفي أوله يكشف عن هذا التقابل بين الكلام المنثور، وبين الشعر، في مبحث الممنوع من الصرف يقول: “اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف”[15].
- دلالة (الكلام) على مكونات السليقة اللغوية.
ويشمل هذا المدلول كل العناصر والمكونات اللغوية التي تتشكل منها العربية الطبيعية، من ظواهر صوتية، وأبنية ومعاني ألفاظ، وتراكيب. وقد مثلت هذه الملكة الفطرية النموذج الذي يقيس عليه الفراء مختلف الأنساق اللغوية. وسنتتبع إطلاق مقولة الكلام في معاني الفراء على مختلف مكونات اللغة وعناصرها:
- ففي باب الأصوات ذكر الفراء أن كلام العرب جرى بإدغام الثاء في التاء الساكنة، وعلى هذا الاستعمال الصوتي الفطري قاس وجه الإدغام في قوله جل شأنه:﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ﴾[16]،
- وفي باب التصريف، استدل الفراء بالنسق الطبيعي المسموع عن العرب لتخريج التغاير الصرفي الحاصل في الفعلين (وصّى) و(أوصى) في لغة القران، فخلص إلى الاستعمال الصرفي العربي جار على جواز الوجهين، فقال:” في مصاحف أهل المدينة (وأوصى) وكلاهما صواب كثير في الكلام”[17].
- وفي باب الألفاظ المعجمية يتخذ الفراء من مقولة الكلام/ كلام العرب، حجة استدلالية يمتح منها مدلول الكلمات القرآنية، فحين تستوقف الفراء بعضُ الألفاظ القرآنية المشكلة دلاليا فإنه يستدعي معجم الذاكرة العربية، الذي يُعد مُكونا من مكونات الكلام، وهذا الإجراء دأْبُ الفراء وعادتُه، فلا تكاد تخلو صفحة من صفحات كتابه من الاستدلال بكلام العرب على شرح ألفاظ القرآن وتفسيرها، فمن ذلك قوله:” والعِضُون في كلام العرب: السِّحْر بعينه. ويقال: عضَّوه أي فرّقوه كما تُعَضَّى الشّاة والجَزُور”[18].
- وفي باب التراكيب يعمد الفراء إلى توثيق الأساليب التركيبية وفق كلام العرب، ويحتل هذا النمط من الاستدلال موقعا مركزيا في البحث الدلالي عند الفراء، ذلك أن التركيب يضم كل الوحدات اللغوية التي تنشأ عنها المعاني القرآنية التي ينشدها الفراء. ولا بأس أن نمثل بنموذج واحد لهذا النمط الاستدلالي، وهو تعليق الفراء على قوله تعالى:﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ﴾[19] بقوله: الكلام العربي هكذا بالباء، وربما طرحت العرب الباء فقالوا: اعتصمت بك و اعتصمتك”[20].
هذه مجمل الدلالات التي تفصح عنها مقولة الكلام في (معاني القرآن) للفراء، ولا شك أن دلالة الكلام على الاستعمالات الفطرية للغة العرب هي الأقرب إلى مفهوم (الأساليب العربية) فهي تشمل جميع طرائق العرب في التعبير بدءا بنظام الأصوات وانتهاء بالتراكيب النحوية.
وما من شك أن الدرس الأسلوبي المعاصر يأخذ كل هذه العناصر وغيرها حين يدرس مكونات اللغة وبنياتها الأسلوبية، فالأسلوب ” ليس معطى مباشرا، إنه موسيقى بالصوت، ورسم بالكلمة، وإيحاء بالعبارة، وصورة يبينها النص، وهو شيء غير ذلك أيضا”[21].
ثانيا: الأساليب في الدراسات القرآنية: نماذج تطبيقية وتأصيلات نظرية
يمكن اعتبار مقولة (الكلام) بمثابة الجذر اللغوي الذي انبثق عنه مصطلح (الأساليب) في الفكر اللغوي بعد أن تردد مصطلح آخر في التراث اللغوي يضارع مصطلح الأساليب، أعني (مذاهب العربية) وتتجلى هذه المقاربة المفهومية من خلال تتبع المحاولات الأولى التي اهتمت بتفكيك البنية الأسلوبية للنص القرآني أواخر القرن الثاني ومستهل القرن الثالث الهجري، وقد مثل حقل معاني القرآن بيئة معرفية عني فيها بممارسة الأساليب والتفكير فيها بشكل جلي، نظرا لطبيعة المنهج التحليلي، والدراسة التطبيقية التي ميّزت كتب (معاني القرآن)، يقول سامي عبابنة: “وتكاد تكون الصورة أوضح مع أولئك النفر من اللغويين الذين بحثوا في لغة القرآن وأسلوبه، كالفراء والأخفش في معاني القرآن وأبي عبيدة.”[22] وسنعمد في هذا المحور إلى رصد مشيرات وقرائن تعيننا على مقاربة مفهوم الأساليب العربية في الدراسات القرآنية من خلال نموذجين تراثيين هما: الفراء وابن قتيبة.
- ممارسة الأساليب: نماذج تطبيقية في معاني القرآن
إن أقرب العبارات في الدلالة على فحوى (أساليب العربية)، والتي صرح بذكرها أبو زكريا الفراء؛ هي مقولة (مذاهب العربية)، وقد وردت كلمة (مذاهب) عند الفراء مضافة إلى العرب تارة، وإلى العربية تارة، وإلى الكلام تارة أخرى[23]، يقول الفراء- في معرض الرد على من قال إن (الطاعة) في قوله تعالى:﴿ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ [24] مرفوعةٌ على إضمار الواو- : ” ويقال أيضا: (وذُكِر فيها القِتالُ) و (طاعةٌ) فأضمر الواو، وليس ذلك عندنا من مذاهب العرب“[25]، وفي موضعين اثنين تردّدت كلمة (مذاهب) للدلالة على معنى مُشْكِل؛ ففي الأول أشكل المعنى بسبب حذف الجواب من تركيب الاستفهام، وفي هذا يقول الفراء:” فإن قال قائل: فأين جواب (أمّن هو) فقد تبين في الكلام أنه مضمر(…)ومن لم يعرف مذاهب العرب ويتبيّن له المعنى في هذا وشِبْهه لم يكتفِ ولم يشتف”[26]. فظهر من كلامه أن مذاهب العرب يراد بها وجوه الافتنان في القول بما يتناسب وسعة العربية، من حذف ما يتبين المعنى بتركه، ويحسن الكلام بالاستغناء عنه.
وفي موضع ثانٍ وردت عبارة (مذاهب العربية) للدلالة على استعمالٍ يشكِّل تعارضا مع الأصل في وضع اللفظ إزاء معناه، وذلك باستعمال اللفظ الواحد لإفادة معنيين متضادين، ومنه قول” الرجل الذي قد اجترم إليك: لئن أتيتني لأُثيبنّك ثوابك، معناه: لأعاقبنّك، وربما أنكره من لا يعرف مذاهب العربية“[27]، فدل هذا على أن استعمال الإثابة لمعنى العقاب مذهب تسلكه العرب في كلامها، لكنه استعمال غير مألوف، لذا فإنه قد يخفى على من لم يخبر مذاهب العرب، وتصرفها في الكلام.
- مصطلح (الأساليب): مدلوله وبداية تداوله في التراث اللغوي
جاء التصريح بلفظ(الأساليب) أول الأمر عند ابن قتيبة(276ه) مقرونا -في نص واحد-بمقولة ـ (مذاهب العرب) فكأني بابن قتيبة يعد ذهن القارئ ويأخذه على مهل لتلقي مصطلح جديد غير مألوف في الدرس اللغوي هو مصطلح (الأساليب) الذي سيستنسخ كل المقولات السابقة المعهودة في التراث، ثم يعبر عن مدلولاتها بشكل غير مسبوق، وسيكتب له التداول والذيوع على نطاق واسع، وقد ظهر هذا السبق الاصطلاحي في قول ابن قتيبة: “وإنما يعرف فضل القرآن من كثُر نظره، واتسع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات”[28]. ولم يكن يقصد ابن قتيبة بالأساليب هاهنا التراكيب وحسب، إذ لا يكفي لفهم القرآن أن نقتصر على مكون واحد من مكونات الكلام، لأن القرآن أُنزل-كما يقول الشاطبي (790هـ): ” على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها”[29].
وبمقدور متأمّل مضامين (تأويل مُشْكِل القرآن) لابن قتيبة وموضوعاته أن يلحظ مدى اتّساع مفهوم الأساليب عنده، فقد عرض لمختلف الظواهر اللغوية التركيبية التي تشكل تعارضا مع الأصل، كالحذف، والقلب، والتقديم والتأخير، وظواهر الحمل على المعنى، وغير ذلك مما يسميه (المجازات) أو(المذاهب)[30]، ويدخل أيضا ضمن مكونات هذين المصطلحين ما فُطِر عليه العرب من طريقة ترصيف الأصوات وسبكها، فإن للعرب في ذلك مذاهب وطرائق فطرية تحتذى، يقول ابن قتيبة – في طعنه المشهور على قراءة حمزة بن حبيب الزيات(127هـ) – : “هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، بإفراطه في المد والهمز والإشباع، وإفْحاشه في الإضجاع والإدغام”[31]، فدل بهذا على أن للعرب مذاهب صوتية، يقاس عليها غيرها من الأنساق الصوتية.
وقد عرض ابن قتيبة في آخر كتابه لتفسير الألفاظ المشتركة، وبيّن أن من مذاهب العرب إطلاق اللفظ الواحد على المعاني المختلفة، ومثّل لذلك من ألفاظ القرآن بأربعة وأربعين لفظا[32]، وعطف على هذا بمذاهب العرب في استعمال الأدوات وحروف المعاني[33]. وعلى فهم هذه المذاهب كلِّها والخبرة بها يتوقف معرفة فضل القرآن الكريم.
بعد هذا يمكننا القول: إن الأساليب عند ابن قتيبة يراد بها مجموع الإطلاقات والاستعمالات الفطرية التي نزل القرآن الكريم وفقها، وهو ما يُعبّر عنه اختصارا بـ (كلام العرب)، ومن ثمّ ذهب أحد الدارسين إلى أن مفهوم الأسلوب عند ابن قتيبة «رديف لكلام العرب.”[34]
كان المأمّ من التعريج على مفهوم الأساليب عند ابن قتيبة أن نعْبُر من خلاله إلى مقاربة فحوى (أساليب العربية) عند الفراء، وعلاقتها بمقولة (الكلام) ولم يكن اختيارنا لابن قتيبة ضربا من المجازفة والاعتباط، وإنما توخينا فيه النموذج الأنسب لمنهج الفراء والأقرب إليه، من حيث السياق الزماني والفكري الذي جمع العالمِين، وكذا بالنظر إلى علاقة القرابة التي تجمع بين حقلي (معاني القرآن) و(مشكل القرآن)، فقد خرج مشكل القرآن من رحِمِ علم معاني القرآن، ليستقل فيما بعد عِلْما قائما بذاته، ثم إن آثار الفراء بادية على منهج ابن قتيبة في المشكل، في كثير من المسائل والقضايا، وإن كان شديد النزعة إلى خلافه.
فهذه عوامل منهجية دفعتنا إلى بناء فهمٍ للأساليب في ممارسة الفراء التحليلية قريبٍ مما هو عليه عند ابن قتيبة، وإن كنّا على بيّنة من أن الأساليب عند الفراء تطغى عليها الصناعة النحوية، وتصطبغ في كثير من الأحيان بصبغة الإشكال وخفاء المعنى، وتجدر الإشارة هنا إلى أن إطلاق الأسلوب على الاستعمالات اللغوية الخارجة عن المألوف قد ساد عند كبار المنظرين الغربيين في الدراسات الأسلوبية، وفي هذا يقول سامي عبابنة:” لقد درج كثير من الدارسين على تعريف الأسلوب بأنه انحراف، ومن هؤلاء: ماروزو، وسبيتزر، وبيير قيرو ، وهو- أي الأسلوب- يُرى هنا كخارج عن القانون، كما يقول رولان بارت ، وهو لحن مبرر عند تودوروف، ويعرفه ريفاتير بكونه انزياحا عن النمط التعبيري المتواضع عليه”[35].
خاتمة
كانت هذه محاولة للبحث في جدور الدرس الأسلوبي في التراث العربي انطلاقا من مقولة (الكلام) التي تحكمت في منهج أقوى النماذج التحليلية التي استهدفت تفكيك نسق العربية وإبراز مكوناتها، ونقل هذه الممارسة إلى النص القرآني من خلال دراسة مكوناته اللسانية، هكذا انتصبت مقولة الكلام ركنا أساسا ومدخلا أوليا لاستيعاب أساليب العربية، التي أفضى بنا البحث إلى تأويل مدلولها بـمجمل الإطلاقات اللغوية الفطرية، والاستعمالات الإدراكية الذهنية التي ورد بها كلام العرب، أي: مكونات اللغة الفطرية التي نزل القرآن الكريم مساوقا لنظام أصواتها، وموافقا لأبنية ألفاظها، وطريقة نظم كلماتها وتراكيبها، وما يعنون بذلك كله.
بيبليوغرافيا
- القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
- الأسلوبية وتحليل الخطاب، منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، ط1، 2002م.
- تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة عبد الله بن مسلم، شرح ونشر، السيد أحمد صقر، ط2، 1973م.
- تغاير الأسلوب في القراءات القرآنية وأثره في اختلاف المعنى، خير الدين سيّب، دار الغوثاني للدراسات القرآنية، دمشق، ط1، 2009م.
- التفكير الأسلوبي، رؤية معاصرة في التراث النقدي والبلاغي في ضوء علم الأسلوب الحديث، سامي محمد عبابنة، جدارا للكتاب العالمي، عمان، الأردن، ط1، 2007م.
- قطوف من القرآن الكريم وأساليب العرب، دراسة نحوية تطبيقية، فؤاد علي مخيمر، مطبعة الحسين الإسلامية، مصر، ط1، 1989م.
- الكتاب، سيبويه، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1988م.
- مدخل إلى علم الأسلوب، شكري عياد، المشروع للطباعة والتكسير، ط2، 1992م.
- معاني القرآن، أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، تحقيق يوسف نجاتي ومحمد علي النجار وعبد الفتاح شلبي، عالم الكتب، بيروت، ط3، 1983م.
- الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط1، 1997م.
- النحو والتفسير، أصول نظرية ونماذج تطبيقية، مصطفى أبو حازم، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط،1. 2015م.
- نظرية النحو القرآني نشأتها وتطورها، ومقوماتها الأساسية، أحمد مكي الأنصاري، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدّة، ط1، 1405هـ.
[1] – الكتاب: 1/331.
[2] – التفكير الأسلوبي، سامي عبابنة، ص: 29.
[3] – ينظر، قطوف من القرآن الكريم وأساليب العرب، دراسة نحوية تطبيقية، فؤاد علي مخيمر، ص: 57.
[4] – النحو والتفسير، أصول نظرية ونماذج تطبيقية، ص: 276.
[5] – ترددت هذه العبارة في كتب الدارسين، وقد نسبها مكي الأنصاري للفراء من غير تحديد مصدرها في كتب الفراء. تنظر الصفحة الأولى من كتابه؛ نظرية النحو القرآني، تحت عنوان: (أقوال أخرى تعجبني). والصفحة: 39، من المرجع نفسه.
[6] – سورة التكاثر: 6-7
[7] – معاني القرآن: 3/288.
[8] – معاني القرآن: 1/53.
[9] – نفسه:3/86.
[10] – معاني القرآن: 2/276.
[11] – معاني القرآن: 2/408.
[12] – معاني القرآن: 3/55.
[13] – نفسه: 1/428.
[14] – نفسه: 3/118.
[15] – الكتاب: 1/26.
[16] – سورة البقرة: 258، وينظر، معاني القرآن، الفراء: 1/172.
[17] – نفسه: 1/80.
[18] – معاني القرآن: 2/92.
[19]– سورة آل عمران: 103
[20] – معاني القرآن:1/228.
[21] – الأسلوبية وتحليل الخطاب، منذر عياشي: 85-86.
[22] – التفكير الأسلوبي، سامي عبابنة: 30.
[23] – ينظر، معاني القرآن: 1/94. 1/239. 2/362. 2/417.
[24] – سورة محمد، 22.
[25] – معاني القرآن، الفراء: 1/94.
[26] – نفسه: 2/417.
[27] – نفسه: 1/239.
[28] – تأويل مشكل القرآن: 12.
[29] – الموافقات: 2/103.
[30] – ينظر، تأويل مشكل القرآن: 20-21.
[31] – تأويل مشكل القرآن: 20.
[32] – ينظر، المصدر نفسه، (باب اللفظ الواحد للمعاني المختلفة): 439.
[33] – نفسه: 518.
[34] – تغاير الأسلوب في القراءات القرآنية، وأثره في اختلاف المعنى، خير الدين سيّب:20.
[35] – التفكير الأسلوبي: 19-20.